اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٨٤

قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) هنا أقام ظاهرين مقام مضمرين ، إذ الأصل قالوا لها أي للآيات ولكنه أبرزهما ظاهرين لأجل الوصفين المذكورين. واللام في للحق للصلة.

فصل

لما تكلم في تقرير التوحيد ، ونفي الأضداد ، والأنداد تكلم في النبوّة وبين أن محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كلما عرض عليهم نوعا من أنواع المعجزات قالوا : هذا سحر أي يسمون القرآن سحرا.

قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أم للإنكار والتعجب كأنه قيل : دع هذا واسمع القول المنكر العجيب ثم بين باطلان شبهتهم فقال : «قل» يا محمد (إِنِ افْتَرَيْتُهُ) على سبيل الفرض ، فإن الله يعاملني بعقوبة باطلان ذلك الافتراء ، وأنتم لا تقدرون على دفعه فكيف أقدر على هذه الفرية؟ يعني لعقابه ، وهو المراد بقوله : (فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي لا تقدرون أن تردوا عني عذابه ، وإن عذبني الله على افترائي ، فكيف أفتري على الله من أجلكم؟! ونظيره : (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) [المائدة : ١٧١] (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [المائدة : ٤١]. ثم قال : (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) أي الله أعلم بما يخوضون فيه من التكذيب بالقرآن ، والقول فيه بأنه سحر. (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي القرآن جاء من عنده فيشهد لي بالصدق ويشهد لكم بالكذب (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) لمن رجع عن الكفر وتاب. قال الزجاج : هذا دعاء إلى التوبة ، ومعناه غفور لمن تاب منكم رحيم به (١).

قوله تعالى : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ)(١٢)

قوله تعالى : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ ...) لما حكى طعنهم في كون القرآن معجزا بقولهم : إنه يختلقه من عند نفسه ثم ينسبه إلى كلام الله تعالى على سبيل الفرية حكى

__________________

(١) قال : «معناه أنه من أتى من الكبائر العظام ما أتيتم به من الافتراء على الله جل وعز وعلا ثم تاب فإن الله غفور رحيم» انظر معاني القرآن ٤ / ٤٣٩.

٣٨١

عنهم شبهة أخرى وهي أنهم كانوا يقترحون عليه معجزات عجيبة ، ويطالبونه بأن يخبرهم عن المغيبات ، فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ)(١).

قوله : «بدعا» فيه وجهان :

أحدهما : أنه على حذف مضاف تقديره : ذا بدع ، قاله أبو البقاء : وهذا على أن يكون البدع مصدرا (٢).

والثاني : أن البدع نفسه صفة على فعل (٣) بمعنى بديع كالخفّ والخفيف ؛ والبدع والبديع ما لم ير له مثل ، وهو من الابتداع وهو الاختراع. أنشد قطرب :

٤٤٥١ ـ فما أنا بدع من حوادث تعتري

رجالا عرت من بعد بؤس وأسعد (٤)

قال البغوي ـ (رحمه‌الله) ـ : (البدع) (٥) مثل نصف ونصيف ، وجمع البدع أبداع (٦). وقرأ عكرمة وأبو حيوة وابن أبي عبلة : بدع ـ بفتح (٧) الدال ـ جمع بدعة ، أي ما كنت ذا بدع. وجوز الزمخشري أن يكون صفة على فعل ، كدين قيم ، ولحم زيم (٨). قال أبو حيان : ولم يثبت سيبويه صفة على «فعل» إلّا قوما عدى (٩). وقد استدرك عليه لحم زيم. أي متفرق. وهو صحيح. وأما قيم فمقصور من قيام ، ولولا ذلك لصحت عينه كما صحت في حول وعوض وأما قول العرب : مكان سوى ، وماء روى (١٠) ، ورجل رضى ، وماء صرى (١١) ، وسبي طيب (١٢) ، فمتأولة عند التصريفيين (١٣). قال شهاب

__________________

(١) قاله الرازي في التفسير الكبير ٢٨ / ٧.

(٢) التبيان ١١٥٤.

(٣) قاله أيضا أبو البقاء فهو بالمعنى من التبيان المرجع السابق.

(٤) من الطويل لعديّ بن زيد. وقد روي روايات متعددة ففي القرطبي ١٦ / ١٨٥ : فلا أنا ... من بعد بؤس بأسعد ، كما روي : فلست بمن يخشى حوادث تعتري ... رجالا فبادوا بعد بؤس وأسعد.

والشاهد : قوله بدع بمعنى الشيء الذي لم ير من قبل. انظر البحر ٨ / ٥٦ ومجمع البيان ٩ / ٢٦ والقرطبي ١٦ / ١٨٥ والطبري ٢٦ / ٥.

(٥) ما بين الأقواس زيادة من أ.

(٦) معالم التنزيل للبغويّ.

(٧) وهي قراءة شاذة ذكرها الزمخشري في الكشّاف ٣ / ٥١٧ والقرطبي في الجامع ١٦ / ١٨٥.

(٨) الكشاف المرجع السابق.

(٩) قال : «ويكون فعلا فيهما (أي في الأسماء والصفات) فالأسماء نحو : الضّلع ، والعوض ، والصّغر ، والعنب ، ولا نعلمه جاء صفة إلا في حرف من المعتل يوصف به الجماع وذلك قولهم : قوم عدى.

ولم يكسر على عدى واحد ولكنه بمنزلة السّفر والرّكب». الكتاب ٤ / ٢٤٤.

(١٠) أي كثير.

(١١) قال في اللسان : الصّرى والصّرى الماء الذي طال استنقاعه. وقال أبو عمرو : إذا طال مكثه وتغيره وقد صري الماء بالكسر وقد ضبطه محققو ابن منظور : صرى.

(١٢) ضبطت في اللسان طيّب بالتشديد.

(١٣) البحر ٨ / ٥٦ هذا وقد نقل السيوطي في المزهر ٢ / ٥٠ قال ابن قتيبة : وقال غيره : قد جاء مكانا ـ

٣٨٢

الدين : تأويلها إما بالمصدرية أو القصر ، كقيم في قيام. وقرأ أبو حيوة أيضا ومجاهد بدع بفتح الباء وكسر الدال ، وهو وصف كحذر (١).

فصل

البدع والبديع من كل شيء المبدأ ، والبدعة ما اخترع ما لم يكن موجودا قبله (٢). قال المفسرون معناه إني لست بأول مرسل ، قد بعث قبلي كثير من الأنبياء فكيف تنكرون نبوّتي؟! وكيف تنكرون إخباري بأني رسول الله؟! وقيل : إنهم طلبوا منه معجزة عظيمة وإخبارا عن الغيوب فقال : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) والمعنى أن الإتيان بهذه المعجزات القاهرة والأخبار عن الغيوب ليس في وسع البشر ، وأما جنس الرسل فأنا واحد منهم ، فإذا لم يقدروا على ما تريدونه فيكف أقدر عليه؟! وقيل : إنهم كانوا يعيبونه بأنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، وبأنه فقير ، وأن أتباعه فقراء فقال : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ). وهم كلهم على هذه الصفة (٣) فهذه الأشياء لا تقدح في نبوّتي كما لا تقدح في نبوّتهم (٤).

قوله : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي) العامة على نيابة المفعول. وابن أبي عبلة وزيد بن علي مبنيا للفاعل (٥) ، أي الله تعالى. والظاهر أن (ما) في قوله : «ما يفعل» استفهامية مرفوعة بالابتداء ، وما بعدها الخبر ، وهي معلقه «لأدري» عن العمل ، فتكون سادّة مسدّ مفعوليها (٦). وجوّز الزمخشري أن تكون موصولة منصوبة (٧) ، يعني أنها متعدية لواحد ، أي لا أعرف الذي يفعله الله.

فصل

في تفسير الآية وجهان :

أحدهما : أن يحمل ذلك على أحوال الدنيا. والثاني : أن يحمل ذلك على أحوال الآخرة. أما الأول ففيه وجوه :

__________________

ـ سوى ، قال المرزوقي في شرح الفصيح : وزادوا عليه دين قيم ، ولحم زيم أي متفرق وماء روى أي كثير انظر المزهر ٢ / ٥٠.

(١) قراءة شاذة نقلها أبو حيان في البحر ٨ / ٥٦.

(٢) اللسان بدع ٢٢٩.

(٣) في ب فكلهم كانوا على هذه السنة.

(٤) الرازي ٢٨ / ٧.

(٥) قراءة شاذة غير متواترة لم ينسبها صاحب الكشاف ٣ / ٥١٧ ونسبها أبو حيان في البحر إلى هذين المذكورين. البحر ٨ / ٥٧.

(٦) البحر المحيط المرجع السابق.

(٧) قال : و «ما» في ما يفعل يجوز أن تكون موصولة منصوبة وأن تكون استفهامية مرفوعة. الكشاف ٣ / ٥١٧.

٣٨٣

الأول : معناه لا أدري ما يصير إليه أمري وأمركم ، ومن الغالب منّا ومن المغلوب؟ (١).

الثاني : قال ابن عباس ـ في رواية الكلبي ـ : لما اشتد البلاء بأصحاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بمكة رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء فقصها على الصحابة فاستبشروا بذلك ورأوا أن ذلك فرج ممّا هم فيه من أذى المشركين. ثم إنّهم مكثوا برهة من الدهر لا يرون أثر ذلك فقالوا : يا رسول الله : ما رأينا الذي قلت ، متى نهاجر إلى الأرض التي رأيتها في المنام؟ فسكت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأنزل الله تعالى : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) وهو شيء رأيته في المنام وأنا لا أتبع إلا ما يوحيه الله إليّ.

الثالث : قال الضحاك : لا أدري ما تؤمرون به ، ولا ما أومر به من التكاليف ، والشرائع ، ولا من الابتلاء والامتحان وإنما أنذركم بما أعلمني الله به من أحوال الآخرة من الثواب والعقاب ، ثم أخبر تعالى أنه يظهر دينه على الأديان فقال : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [الفتح : ٢٨] وقال في أمته : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال : ٣٣] فأخبره الله ما يصنع (٢) به وبأمته قاله السدي.

الرابع : كأنه يقول : ما أدري ما يفعل بي في الدنيا ، أموت أو أقتل ، كما قتل الأنبياء قبلي ولا أدري ما يفعل بكم أيها المكذّبون أترمون بالحجارة من السماء أو يخسف بكم أو يفعل بكم ما يفعل بسائر الأمم ، وأما من حمل الآية على أحوال الآخرة فروى عن ابن عباس أنه قال : لما نزلت هذه الآية فرح المشركون والمنافقون واليهود وقالوا : كيف نتبع نبيا لا يدري ما يفعل به ربّه فأنزل الله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) إلى قوله : (وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) [الفتح : ١ ـ ٥] فقالت الصحابة : هنيئا لك يا نبي الله ، قد علمنا ما يفعل بك فما يفعل بنا؟ فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [الفتح : ٥] الآية وأنزل : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) [الأحزاب : ٤٧] فبين الله ما يفعل به وبهم ، وهذا قول أنس وقتادة والحسن وعكرمة. وقالوا : إنما قال هذا قبل أن يخبر بغفران ذنبه وإنما أخبر بغفران ذنبه عام الحديبية فنسخ ذلك قال ابن الخطيب : وأكثر المحققين استبعدوا هذا القول لوجهين :

الأول : أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا بدّ وأن يعلم من نفسه كونه نبيّا ، ومتى علم كونه نبيا ، علم أنه لا يصدر عنه الكبائر وأنه مغفور له ، وإذا كان كذلك امتنع كونه شاكّا في أنه هل هو مغفور له أم لا؟.

__________________

(١) وهو رأي الحسن رضي الله عنه.

(٢) في ب بما يصنع.

٣٨٤

الثاني : أن الأنبياء أرفع حالا من الأولياء وقد قال في حق هؤلاء : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأحقاف : ١٣] فكيف يعقل أن يبقى الرسول الذي هو رئيس الأنبياء وقدوة الأولياء شاكّا في أنه هل هو من المغفور لهم؟ فثبت ضعف هذا القول (١).

قوله : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) العامة على بناء «يوحى» للمفعول ، وقرأ ابن عمر (٢) بكسر الحاء على البناء للفاعل وهو الله تعالى. والمعنى (٣) إنّي لا أقول قولا ولا أعمل عملا إلّا بمقتضى الوحي. واحتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا : النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما قال قولا ولا عمل عملا إلّا بالنص الذي أوحاه الله (إليه) (٤) فوجب أن يكون حالنا كذلك. ثم قال الله تعالى : (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) لأنهم كانوا يطالبونه بالمعجزات العجيبة ، وبالإخبار عن الغيوب فقال : قل ما أنا إلا نذير مبين والقادر على تلك الأعمال الخارجة عن قدرة (البشر والعالم بتلك الغيوب ليس إلّا الله تعالى) (٥) ..

قوله : (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) مفعولا «أرأيتم» محذوفان تقديره أرأيتم حالكم إن كان كذا لستم ظالمين؟ وجواب الشرط أيضا محذوف تقديره : فقد ظلمتم. ولهذا أتى بفعل الشرط (٦) ماضيا. وقدره الزمخشري : ألستم ظالمين (٧)؟ ورد عليه أبو حيان بأنه لو كان كذلك لوجبت الفاء ، لأن الجملة الاستفهامية متى وقعت جوابا للشرط لزمت الفاء. ثم إن كانت أداة الاستفهام همزة فقدمت على الفاء نحو : إن تزرنا أفلا نكرمك؟ وإن كانت غيرها تقدمت الفاء عليها نحو : إن تزرنا فهل ترى إلّا خيرا (٨)؟.

قال شهاب الدين : والزمخشري ذكر أمرا تقديريا فسر به المعنى لا الإعراب (٩). وقال ابن عطية و «أرأيتم» يحتمل أن تكون منبّهة ، فهي لفظ موضوع للسؤال ، لا يقتضي مفعولا. ويحتمل أن تكون الجملة كان وما عملت سادّة مسدّ مفعوليها (١٠). قال أبو حيان : وهذا خلاف ما قرّروه النحاة (١١) ، وقد تقدم تحقيق ما قرّره. وقيل : جواب الشرط هو قوله : (فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ)(١٢). وقيل : هو محذوف تقديره فمن المحقّ منا

__________________

(١) وانظر تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٨ / ٧ و ٨ وانظر في هذا كله أيضا تفسير القرطبي ١٦ / ١٨٦ و ١٨٧ وتفسير البحر المحيط ٨ / ٥٦ و ٥٧.

(٢) كذا في النسختين وفي البحر : ابن عمير بينما لم تثبت نسبة في القرطبي والكشاف انظر البحر والقرطبي السابقين والكشاف ٣ / ٥١٨.

(٣) الرازي السابق.

(٤) زيادة من أ.

(٥) الرازي السابق.

(٦) قاله أبو حيان في البحر المحيط ٨ / ٥٧.

(٧) الكشاف ٣ / ٥١٧ و ٥١٨.

(٨) البحر المحيط المرجع السابق.

(٩) الدر المصون ٥ / ٤.

(١٠) نقله عنه أبو حيان في البحر ٨ / ٥٧.

(١١) المرجع السابق.

(١٢) ذكره أبو حيان ولم ينسبه.

٣٨٥

والمبطل؟ (١) وقيل : «فمن أضل» (٢). قال ابن الخطيب : جواب الشرط محذوف ، والتقدير أن يقال : إن كان هذا الكتاب من عند الله ثمّ كفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على صحته ثم استكبرتم لكنتم من الخاسرين. ثم حذف هذا الجواب. ونظيره قوله : «إن أحسنت إليك وأسأت إليّ وأقبلت إليك (٣) وأعرضت عني فقد ظلمتني» وكذا ههنا التقدير أخبروني إن ثبت أن القرآن من عند الله بسبب عجز الخلق عن معارضته ثم كفرتم به وجعل أيضا شاهده (٤) أعلم بني إسرائيل بكونه معجزا من عند الله فلو استكبرتم وكفرتم ألستم أضل الناس وأظلمهم؟ واعلم أن جواب الشرط محذوف في بعض الآيات كما في هذه الآية وكما في قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) [الرعد : ١٣] وقد يذكر كما في قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُ) وقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) [القصص : ٧١].

فصل

معنى الآية أخبروني ماذا تقولون «إن كان» ـ يعني القرآن ـ «من عند الله وكفرتم به» أيها المشركون (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ). المثل صلة يعني عليه أي على أنه من عند الله فآمن يعني الشاهد «واستكبرتم» عن الإيمان به. واختلفوا في هذا الشاهد فقال قتادة والضحاك وأكثر المفسرين : هو عبد الله بن سلام شهد نبوة المصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فآمن (٥) به ، واستكبر اليهود ، فلم يؤمنوا كما روى أنس ـ (رضي الله عنه (٦)) ـ قال : سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأتاه وهو يخترف في أرض ، فنظر إلى وجهه ، فعلم أنه ليس وجه كذّاب ، وتأمله فتحقق أنه النبي المنتظر فقال له : إني سائلك عن ثلاثة لا يعلمهنّ إلّا نبي ، ما أوّل أشراط السّاعة؟ وما أوّل طعام أهل الجنّة؟ وما ينزع (٧) الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أخبرني بهن جبريل آنفا قال : جبريل قال : نعم قال : ذاك عدوّ اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) [البقرة : ٩٧]. أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت ، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعه وإن سبق ماء المرأة نزعته فقال : أشهد أنك رسول الله حقا. ثم قال يا رسول الله : إن اليهود قوم بهت ، وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم

__________________

(١) السابق.

(٢) ذكره أبو حيّان عن الحسن رضي الله عنه.

(٣) في الرازي : عليك.

(٤) وفيه : وجعل شهادة.

(٥) في ب وأمر به.

(٦) زيادة من أ.

(٧) في ب الوالد تحريف.

٣٨٦

عني بهتوني عندك ، فجاءت اليهود فقال لهم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : أيّ رجل عبد الله فيكم؟ فقالوا : خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيّدنا وأعلمنا وابن أعلمنا قال : أفرأيتم (إن أسلم) (١) عبد الله بن سلام؟ فقالوا : أعاذه الله من ذلك. فخرج إليهم عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقالوا : أشرّنا وابن شرّنا وانتقصوه فقال : هذا ما كنت أخاف منه يا رسول الله فقال سعد بن أبي وقّاص : ما كنا نقول ـ وفي رواية ما سمعت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام وفيه نزلت هذه الآية : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ). وقيل : الشاهد : هو موسى بن عمران ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ قال الشعبي : قال مسروق في هذه الآية : والله ما نزلت في عبد الله بن سلام ، لأن آل حم نزلت بمكة ، وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة قبل وفاة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعامين ، فكيف يمكن حمل هذه الآية المكية على واقعة حدثت في عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالمدينة؟! وإنما نزلت الآية في محاجّة كانت من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لقومه. وأجاب (٢) الكلبيّ بأن السورة مكية إلا هذه الآية فإنها مدنية وكانت الآية تنزل فيأمر (٣) رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يضعها في سورة كذا وكذا ، وهذه الآية نزلت بالمدينة وأنّ الله تعالى أمر رسوله بأن يضعها في السورة المكية في هذا الموضع المعين (٤). قال ابن الخطيب : ولقائل أن يقول : إن الحديث الذي رويتم عن عبد الله بن سلام مشكل ؛ لأن ظاهر الحديث يشعر بأنه لما سأل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن المسائل الثلاث ، فلما أجاب النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بذلك (٥) الجواب آمن (٦) عبد الله بن سلام لأجل أنّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ذكر تلك الجوابات وهذا بعيد من وجهين :

الأول : أن الإخبار عن أول أشراط الساعة وعن أول طعام يأكله أهل الجنة إخبار عن وقوع شيء من الممكنات ، وما هذا سبيله فإنه لا يعرف كون ذلك الخبر صدقا إلّا إذا عرف أولا كون المخبر صادقا ، فلو عرفنا صدق المخبر يكون ذلك الخبر (٧) صادقا لزم الدور. وهو محال.

الثاني : أنا نعلم بالضرورة أن الجوابات المذكورة عن هذه المسائل لا يبلغ العلم بها إلى حدّ الإعجاز ألبتة بل نقول : الجوابات الباهرة عن المسائل الصعبة لما لم يبلغ (٨) إلى حد الإعجاز.

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من أالأصل.

(٢) في ب فأجاب.

(٣) كذا في النسختين وهو تحريف من الناسخ والأصح فيؤمر للمفعول.

(٤) وانظر في هذا تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٨ / ٩ و ١٠ وانظر في هذا أيضا القرطبي ١٦ / ١٨٨ و ١٨٩ والكشاف للزمخشري ٣ / ٥١٨.

(٥) في ب بهذا الجواب وفي الرازي بتلك الجوابات.

(٦) كذا في النسختين وفي الرازي : من.

(٧) في ب المخبر.

(٨) في ب تبلغ وفي الرازي : لمّا لم يبلغ العلم بها.

٣٨٧

والجواب يحتمل أنه جاء في بعض كتب الأنبياء المتقدمين أن رسول آخر الزمان يسأل عن هذه المسائل وهو يجيب عنها بهذه الجوابات وكان عبد الله بن سلام عالما بهذا المعنى ولما سأل النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أجاب بتلك الأجوبة فلا حاجة بنا إلى أن نقول : العلم بهذه الجوابات معجزة والله أعلم(١).

وقيل : المراد بالشاهد التوراة (٢). ومثل القرآن هو التوراة فشهد موسى على التوراة ، ومحمد على الفرقان ، وكل واحد يصدّق الآخر ، لأن التوراة مشتملة على البشارة بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والقرآن مصدق التوراة ثم قال : (فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) فلم تؤمنوا (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وهذا تهديد. وهو قائم مقام الجواب المحذوف ، والتقدير قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به فإنكم لا تكونون مهتدين بل تكونون ضالّين.

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ ...) في سبب النزول وجوه :

الأول : أن كفار مكة قالوا : إن عامّة من يتبع محمدا الفقراء والأرذال مثل عمّار ، وصهيب ، وابن مسعود ولو كان هذا الدين خيرا ما سبقونا إليه هؤلاء (٣).

الثاني : قيل : لما أسلمت جهينة ومزينة ، وأسلم ، وغفار ، قالت بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع : لو كان هذا خيرا ما سبقنا إليه رعاة البهم (٤).

الثالث : قيل : إنّ أمة لعمر أسلمت وكان عمر يضربها ويقول : لولا أنّي فترت لزدتك ضربا فكان كفار قريش يقولون : لو كان ما يدعونا إليه محمد خيرا ما سبقنا إليه (٥).

الرابع : قيل : كان اليهود يقولون هذا الكلام حين أسلم عبد الله بن سلام (٦) وأصحابه.

قوله : (لِلَّذِينَ آمَنُوا) يجوز أن تكون لام الصلة ، أي لأجلهم ، يعني أن الكفار قالوا : لأجل إيمان الذين آمنوا (٧) ، وأن تكون للتبليغ ولو جروا على مقتضى الخطاب لقالوا : ما سبقتمونا ولكنهم التفتوا فقالوا ما سبقونا (٨). والضمير في «كان» و «إليه» عائدان على القرآن ، أو ما جاء به الرسول أو الرسول.

__________________

(١) الرازي ٢٨ / ١٠.

(٢) القرطبي ١٦ / ١٨٨ وهو رأي مسروق. وانظر البحر المحيط أيضا ٨ / ٥٧ و ٥٨.

(٣) نقله صاحب الكشاف ٣ / ٥١٩.

(٤) حكي عن الكلبي والزّجاج وحكاه القشيري عن ابن عباس انظر القرطبي ١٦ / ١٩٠.

(٥) نقله الزمخشري في كشافه السابق.

(٦) وهو قول اكثر المفسرين فيما نقله القرطبي في مرجعه السابق.

(٧) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٥١٩.

(٨) الرازي ٢٨ / ١١.

٣٨٨

قوله : (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) العامل في «إذ» مقدر أي ظهر عنادهم (١) ، وتسبب عنه (قوله (٢)) «فسيقولون» ولا يعمل في «إذ» فسيقولون ، لتضاد الزمانين ، أعني المضيّ والاستقبال ولأجل الفاء أيضا (٣).

فصل

المعنى وإذ لم يهتدوا بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان فسيقولون هذا إفك قديم كما قالوا : أساطير الأوّلين (٤).

قوله (تعالى) (٥) : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) العامة على كسر ميم «من» حرف جر ، وهي مع مجرورها خبر مقدم. والجملة حالية ، أو خبر مستأنف وقرأ الكلبي بنصب الكتاب (٦) تقديره : وأنزل من قبله كتاب موسى وقرىء : ومن قبله بفتح الميم كتاب موسى بالنصب ، على أن «من» موصولة ، وهي مفعول أول لآتينا مقدّرا ، و (كِتابُ مُوسى) مفعوله الثاني أي وآتينا الذي قبله كتاب موسى (٧).

قوله : (إِماماً وَرَحْمَةً) حالان من (كِتابُ مُوسى)(٨). وقيل : منصوبان بمقدر أي أنزلناه إماما (٩) ولا حاجة إليه. وعلى كونهما حالين هما منصوبان بما نصب به «من قبل» من الاستقرار. وقال أبو عبيدة (١٠) : فيه إضمار أي جعلناه إماما ورحمة من الله لمن آمن به. ومعنى الآية : ومن قبل القرآن كتاب موسى يعني التوراة إماما يهتدى به ، ورحمة من الله وفي الكلام محذوف تقديره : وتقدمه كتاب موسى إماما ورحمة ولم يهتدوا به كما قال في الآية الأخرى(١١)(وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ).

قوله : (وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ) أي القرآن يصدّق الكتب التي قبله ، في أن محمدا رسول من عند الله.

__________________

(١) التبيان ١١٥٤.

(٢) زيادة من ب وانظر الرازي ٢٨ / ١١.

(٣) فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها وهو قول أبي حيان في البحر المحيط ٨ / ٥٩ بالمعنى.

(٤) الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي ١٦ / ١٩٠.

(٥) زيادة من ب.

(٦) البحر المحيط ٨ / ٥٩ وهي شاذة غير متواترة.

(٧) نسبها أبو حيان أيضا إلى الكلبي المرجع السابق ولم ينسبها الزمخشري فجعلها قراءة واحدة الكشاف ٣ / ٥١٩.

(٨) التبيان ١١٥٥.

(٩) البحر المحيط المرجع السابق ولم ينسب هذا الرأي لمعيّن.

(١٠) لم أجده في كتابه مجاز القرآن عند هذه الآية ولعله له في كتاب آخر ولا فرق بينه وبين الذي سبقه من التقدير.

(١١) في ب الأولى.

٣٨٩

قوله : «لسانا» حال من الضمير في «مصدّق» ويجوز أن يكون حالا من «كتاب» والعامل التنبيه (١) ، أو معنى الإشادة. و «عربيا» صفة ل «لسانا» وهو المسوغ لوقوع هذه الجامدة حالا ، وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولا به ناصبه (٢) «مصدق» وعلى هذا تكون الإشارة إلى غير القرآن ؛ لأن المراد باللسان العربي القرآن. وهو خلاف الظاهر. وقيل : هو على حذف مضاف ، أي مصدّق ذا لسان عربيّ (٣) وهو النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقيل : هو على إسقاط حرف الجر ، أي بلسان (٤) وهو ضعيف.

قوله : «لتنذر» متعلق بمصدّق ، و «بشرى» عطف على محلّه تقديره : للإنذار وللبشرى (٥). ولما اختلف العلة والمعلول وصل العامل إليه باللام ، وهذا فيمن قرأ بتاء الخطاب (٦). فأما من قرأ بياء الغيبة (٧) ـ وقد تقدم ذلك في يس ـ فإنّهما متّحدان. وقيل : بشرى عطف على لفظ «لتنذر» أي فيكون مجرورا فقط (٨). وقيل : هي مرفوعة على خبر ابتداء مضمر تقديره (٩) : هي بشرى. ونقل أبو حيان (١٠) وجه النصب عطفا على محل «لتنذر» عن الزمخشري (١١) وأبي البقاء ثم قال : «وهذا لا يصح على الصحيح من مذاهب النحويين ، لأنهم يشترطون في الحمل على المحل أن يكون بحقّ الأصالة. وأن يكون للموضع محرز (١٢). وهنا المحل ليس بحق الأصالة ؛ إذ الأصل في المفعول الجر (له) (١٣) ، والنصب ناشىء عنه ، لكنه لما كثر بالشروط المذكورة وصل إليه الفعل فنصبه» (١٤). انتهى.

قوله : الأصل في المفعول له الجر بالحرف ممنوع بدليل قول النحويين إنه ينصب

__________________

(١) يقصد الهاء من قوله : «وهذا» وانظر البحر المحيط ٨ / ٥٩ والتبيان ١١٥٥ والبيان ٢ / ٣٦٩ والحال في الحقيقة هو «عربيا» فيكون «لسانا» توطئة للحال أي تأكيدا. انظر القرطبي ١٦ / ١٩١ والبحر المرجع السابق.

(٢) أي هذا الكتاب يصدق لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. التبيان ١١٥٥.

(٣) نقله أبو حيان في بحره المرجع السابق.

(٤) السابق.

(٥) قاله صاحب التبيان في مرجعه السابق ١١٥٥.

(٦) وهم أبو رجاء والأعرج وشيبة ، وأبو جعفر ، ونافع ، وابن كثير ، وهي قراءة متواترة انظر السبعة ٥٩٦ والنشر تقريبه ١٧٣ ، وابن خالويه في حجته ٣٢٦.

(٧) باقي السبعة.

(٨) أي للإنذار والبشرى.

(٩) وهو اختيار الزجاج ورجّحه قال : «الأجود أن يكون «بشرى» في موضع رفع والمعنى وهو بشرى للمحسنين» معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٤١.

(١٠) في البحر ٨ / ٥٩.

(١١) الكشاف ٣ / ٥٢٠.

(١٢) أي طالب لذلك المحل.

(١٣) كذا في أوفي ب : إذ الأصل في المفعول له الجر ، وهو الصحيح الموافق لما في البحر لأبي حيان فضلا عن المعنى المقصود.

(١٤) بالمعنى قليلا من البحر المحيط ٨ / ٥٩ و ٦٠.

٣٩٠

بشروط (١) ذكروها ثم يقولون : ويجوز جره بلام فقولهم : ويجوز ظاهر في أنه فرع لا أصل. قال الزجاج ـ (رحمه‌الله (٢)) ـ : الأجوز أن يكون «وبشرى» في موضع رفع أي وهو بشرى. قال : و (لا) (٣) يجوز أن يكون في موضع نصب على معنى لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين (٤). وقوله للمحسنين متعلق ببشرى ، أو بمحذوف على أنّه صفة لها.

فصل

المراد بالذين ظلموا مشركو مكة ، والحاصل أن المقصود من إنزال هذا الكتاب إنذار المعرضين وبشارة المطيعين.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٤)

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) لما قرر دلائل التوحيد والنّبوة وذكر شبهات المنكرين وأجاب عنها ، ذكر بعد ذلك طريقة المحققين فقال : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) وقد تقدم تفسيره في سورة السجدة. والفرق بين الموضعين أن في سورة السجدة ذكر أن الملائكة ينزلون ويقولون : لا تخافوا ولا تحزنوا ، وههنا رفع الواسطة وذكر أنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ؛ فإذا جمعنا بين الآيتين حصل من مجموعهما أن الملائكة يتلقونهم بالبشارة من غير واسطة.

قوله : (فَلا خَوْفٌ) الفاء زائدة في خبر الموصول ، لما فيه من معنى الشرط. ولم تمنع «إنّ» من ذلك إبقاء معنى الابتداء بخلاف ليت ، ولعلّ ، وكأنّ.

قوله تعالى : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) قالت المعتزلة هذه الآية تدل على مسائل :

أولها : أن قوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) يفيد الحصر وأن أصحاب الجنة ليسوا إلا الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا وهذا يدل على أن صاحب الكبيرة قبل التوبة لا يدخل الجنة.

وثانيها : قوله (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) يدل على فساد قول من يقول : الثواب فضل لا جزاء.

__________________

(١) هذه الشروط أن يكون مصدرا خلافا ليونس ، معللا ، قيل : ومن أفعال الباطن وقد شرط المتأخرون والأعلم ، مشاركته لفعله وقتا وفاعلا ، كما شرط المبرد والرياشي تنكيره فإن فقد أي شرط من الشروط السابقة جرّ باللام ، أو من ، أو الباء ، قيل : أو في ، وهناك المزيد في همع السيوطي وغيره بتصرف من الهمع ١ / ١٩٤.

(٢) زيادة من أالأصل.

(٣) زيادة من النسختين ففي معاني القرآن له : «ويجوز أن يكون ... ويبشّر المحسنين بشرى». معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٤١.

(٤) ذكره العلامة الإمام الفخر الرازي ٢٨ / ١٢ و ١٣.

٣٩١

وثالثها : قوله : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) يدل على إثبات العمل للعبد.

ورابعها : يدل على أن العبد يستحق على الله جزاء عمله (١) وتقدم جواب ذلك.

قوله : «خالدين» منصوب على الحالية و «جزاء» منصوب إما بعامل مضمر ، أي يجزون جزاء (٢) أو بما تقدم ، لأن معنى أولئك أصحاب الجنة معنى جازيناهم بذلك.

قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ)(١٦)

قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) تقدم نظيره. قرأ الكوفيون : إحسانا (٣) ، وباقي السبعة «حسنا» بضمّ الحاء وسكون السين ، فالقراءة الأولى يكون «إحسانا» فيها منصوبا بفعل مقدر أي وصيناه أن يحسن إليهما إحسانا (٤) وقيل : بل هو مفعول به على تضمين وصينا معنى «ألزمنا» (٥) فيكون مفعولا ثانيا وقيل : بل هو منصوب على المفعول له ، أي وصّينا بهما إحسانا منا إليهما (٦). وقيل : هو منصوب على المصدر ، لأن معنى وصينا أحسنّا (٧) ، فهو مصدر صريح ، والمفعول الثاني هو المجرور بالباء. وقال ابن عطية : إنها تتعلق إما «بوصّينا» وإما «بإحسانا» (٨) وردّ عليه أبو حيان هذا الثاني بأنه مصدر مؤول فلا يتقدم معموله عليه ، ولأن «أحسن» لا يتعدى بالباء ، وإنما يتعدى باللام لا تقول : أحسن بزيد على معنى وصول الإحسان إليه (٩). ورد بعضهم هذا بقوله : (أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي) [يوسف : ١٠٠]. وقيل : هو بغير هذا المعنى. وقدر بعضهم : ووصينا الإنسان بوالديه ذا (١٠) إحسان ، يعني فيكون حالا. وأما «حسنا» فقيل

__________________

(١) وقد ذكر الرازي وجها خامسا وهو كون العبد مستحقا على الله تعالى وأعظم أنواع هذا النوع الإحسان إلى الوالدين. انظر هذا الوجه وما قبله من الأوجه في الرازي ٢٨ / ١٣ و ١٤.

(٢) التبيان ١١٥٥.

(٣) البحر المحيط ٨ / ٦٠ ، والقرطبي ١٦ / ١٩٢ ويقصد بالكوفيين : عاصما وحمزة والكسائي. وهي قراءة متواترة. انظر السبعة ٥٩٦.

(٤) البيان ٢ / ٣٦٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٦٠.

(٥) التّبيان ١١٥٦.

(٦) البحر المحيط السابق.

(٧) البحر المحيط ٨ / ٦٠ وهو بقية رأي ابن عطية الآتي فيما نقله عنه أبو حيان في مرجعه السابق.

(٨) السابق.

(٩) بالمعنى من البحر المحيط المرجع السابق.

(١٠) في البحر المحيط : إيصاء ذا إحسان أو ذا حسن. ولم يحدد من قال بتلك الآراء اللهم إلا ابن عطية السابق.

٣٩٢

فيها ما تقدم في «إحسان». وقرأ عيسى والسّلمي بفتحهما (١). وقد تقدم معنى القراءتين في البقرة (٢) وفي لقمان (٣). قال ابن الخطيب : حجة من قرأ إحسانا قوله تعالى في سورة بني إسرائيل: (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء : ٢٣] ومعناه أمر بأن يوصل إليهما إحسانا. وحجة القراءة الأخرى قوله تعالى في سورة العنكبوت : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) [العنكبوت : ٨] ولم يختلفوا فيه. والمراد أنا أمرناه بأن يوصل إليهما فعلا حسنا ، كما يقال : هذا الرجل علم وكرم (٤). قوله : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو بفتح الكاف (٥) ، والباقون بضمها ، وقيل : هما لغتان بمعنى واحد ، مثل الضّعف والضّعف ، والفقر والفقر ، ومن غير المصادر الدّفّ ، والدّفّ (٦) ، والشّهد والشّهد وقال الواحدي : الكره مصدر من كرهت الشيء أكرهه والكره الاسم كأنه الشيء المكروه ، قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢١٦] فهذا بالضم ، وقال : (تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) [النساء : ١٩] فهذا في موضع الحال ، وما كان مصدرا في (٧) موضع الحال فالفتح فيه أحسن. وقال أبو حاتم : الكره بالفتح لا يحسن ، لأنه بالفتح الغصب والغلبة (٨). ولا يلتفت لما قاله لتواتر هذه القراءة (٩). وانتصابهما إمّا على الحال من الفاعل أي ذات كره ، وإمّا على النعت لمصدر مقدر أي حملا كرها (١٠).

فصل

قال المفسرون : حملته أمّه مشقة على مشقة ، ووضعته بمشقّة وليس المراد ابتداء الحمل فإن ذلك لا يكون مشقة ، لقوله تعالى : (فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ

__________________

(١) أي فتح السين والخاء وهي من الشواذ ذكراها ابن جني في المحتسب ٢ / ٢٦٥ وأبو حيان في البحر ٨ / ٦٠.

(٢) من الآية ٢٤٥ «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ» وقوله أيضا : «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً» من الآية ٨٣.

(٣) الأصح الكهف ٨٦ والنمل ١١ والشورى ٢٣.

(٤) الرازي ٢٨ / ١٤.

(٥) قراءة شاذة ذكراها أبو حيان في البحر ٨ / ٦٠ وهي قراءة شيبة والأعرج وأبي جعفر والحرميين أيضا.

(٦) الذي يضرب به النساء انظر اللسان دف ١٣٩٦.

(٧) في الرازي ناقلا عبارة الواحدي : أو في موضع الحال وانظر الرازي ٢٨ / ١٤.

(٨) ذكر القرطبي هذا الرأي ولم ينسبه لأحد انظر القرطبي ١٦ / ١٩٣ وذكر الفراء والكسائي والزجاج الفرق بينهما ولم يتعرضوا لأكثر من هذا. انظر معاني الزجاج ٤ / ٤٤٢ ، ومعاني الفراء ٢ / ٥٢ ، والقرطبي السابق وقد نقل رأي أبي حاتم أبو حيان في البحر ٨ / ٦٠.

(٩) هذا رد أبي حيان على رأي أبي حاتم.

(١٠) السابق.

٣٩٣

فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) [الأعراف : ١٨٩] فحينئذ حملته كرها ووضعته كرها يريد شدة الطلق.

فصل

دلت الآية على أن حق الأم أعظم لأنه تعالى قال : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) فذكرهما معا ، ثم خص الأمّ بالذكر فقال : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) وذلك يدل على أن حقها أعظم وأنّ وصول المشاقّ إليها بسبب الولد كثيرة والأخبار كثيرة في هذا الباب (١).

قوله : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ) أي مدة حمله. وقرأ العامة وفصاله مصدر «فاصل» كأن الأم فاصلته وهو فاصلها (٢). والجحدريّ والحسن وقتادة : وفصله (٣). قيل : والفصل والفصال بمعنى كالعظم والعظام والقطف والقطاف. ولو نصب «ثلاثين» على الظرف الواقع موقع الخبر جاز وهو الأصل ، هذا إذا لم نقدر مضافا فإن قدرناه ـ أي مدّة حمله ـ لم يجز ذلك وتعين الرفع لتصادق الخبر والمخبر عنه.

فصل

دلت الآية على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، لأنه لما كان مجموع مدة الحمل والرّضاع ثلاثون شهرا وقال تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) [البقرة : ٢٣٣] فإذا أسقطنا الحولين الكاملين وهي أربعة وعشرون شهرا من ثلاثين بقي مدة الحمل ستة أشهر. وروى عكرمة عن ابن عباس (رضي الله عنهما) (٤) قال : إذا حملت المرأة تسعة أشهر أرضعت واحدا وعشرين شهرا. وروي عن أبي بكر (الصديق (٥)) رضي الله عنه أنّ امرأة رفعت إليه وقد ولدت لستة أشهر فأمر برجمها. فقال عمر (٦) : لا رجم عليها وذكر الطريق المتقدمة. وعن عقمان نحوه وأنه يعم بذلك فقرأ ابن عباس عليه الآية. وأما مدة أكثر الحمل فليس في القرآن ما يدل عليه(٧).

قوله : (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) لا بد من جملة محذوفة ، تكون «حتّى» غاية لها ، أي عاش واستمرت حياته حتى إذا بلغ أشده (٨) ، قال ابن عباس ـ في رواية عطاء ـ الأشد ثماني عشرة سنة وقيل : نهاية قوته وغاية شبابه واستوائه ، وهو ما بين ثماني عشرة سنة

__________________

(١) انظر الرازي ٢٨ / ١٤ ومعاني الزجاج ٤ / ٤٤٢.

(٢) البحر ٨ / ٦١.

(٣) شاذة غير متواترة انظر المرجع السابق ، ومختصر ابن خالويه ١٣٩.

(٤) زيادة من أ.

(٥) زيادة من ب.

(٦) في القرطبي : عليّ.

(٧) انظر هذا في القرطبي ١٦ / ١٩٣ و ١٩٤ والرازي ٢٨ / ١٦ و ١٧.

(٨) البحر المحيط ٨ / ٦١.

٣٩٤

إلى أربعين سنة (١) ، فذلك قوله : (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) وقال السدي والضحاك : نزلت في سعد بن أبي وقاص ، وقد مضت القصّة. وقيل : نزلت في أبي بكر الصديق وأبيه أبي قحافة عثمان بن عمرو ، وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو. وقال علي بن أبي طالب : الآية في أبي بكر الصديق أسلم أبواه جميعا ، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أبواه غيره أوصاه الله بهما ولزم ذلك من بعده ، وكان أبو بكر صحب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو ابن ثماني عشرة سنة ، والنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ابن عشرين سنة في تجارته إلى الشام فلما بلغ أربعين سنة ، ونبّىء النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ آمن به ودعا ربه فقال : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ) بالهداية والإيمان (٢). وأكثر المفسرين على أن الأشد ثلاث وثلاثون سنة (٣).

فصل

قال ابن الخطيب : مراتب سن الحيوان ثلاثة ، لأن بدن الحيوان لا يتكون إلا برطوبة غريزية وحرارة غريزية ، والرطوبة الغريزية زائدة في أول العمر ، وناقصة في آخر العمر والانتقال من الزيادة إلى النقصان لا يعقل حصوله إلا إذا حصل الاستواء في وسط هاتين (٤) المدتين فثبت أن مدة العمر منقسمة إلى ثلاثة أقسام :

فأولها : أن تكون الرطوبة الغريزية زائدة على الحرارة الغريزية ، وحينئذ تكون الأعضاء عظيمة التمدد في ذواتها وزيادتها في الطول والعرض والعمق وهذا هو سن النّشوّ (والانتماء (٥)).

والثانية : وهي المرتبة المتوسطة أن تكون الرطوبة الغريزية وافية بحفظ الحرارة الغريزية من غير زيادة ولا نقصان ، وهذا هو سنّ الوقوف وهو سنّ الشباب.

والمرتبة الثالثة : أن تكون الرطوبة الغريزية ناقصة عن الوفاء بحفظ الحرارة الغريزية. ثم هذا النقصان على قسمين :

فالأول : هو النقصان الخفي وهو سن الكهولة. والثاني : هو النقصان الظاهر وهو سن الشّيخوخة (٦).

قوله : «أربعين» أي تمامها ، «فأربعين» مفعول به. قال المفسرون : لم يبعث نبيّ قطّ إلّا بعد أربعين سنة. قال ابن الخطيب : وهذا يشكل بعيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإنه

__________________

(١) الرازي السابق.

(٢) القرطبي السابق.

(٣) وهو اختيار الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤٤٢. وهو رأي قتادة كما نقله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٥٢١.

(٤) في ب هذين.

(٥) زيادة من الرازي.

(٦) الرازي ٢٨ / ١٧.

٣٩٥

تعالى جعله نبيا من أول عمره إلا أنه يجب أن يقال : الأغلب أن ما جاء (ه) (١) الوحي إلا بعد الأربعين وهكذا كان الأمر في حق نبينا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) ـ.

قوله : «أوزعني» قال ابن عباس ـ (رضي الله (٣) عنهما) ـ معناه ألهمني (٤). قال الجوهري : أوزعته أغريته به ، فأوزع به فهو موزع به أي مغرى به ، واستوزعت الله فأوزعني أي استلهمته فألهمني (٥).

قوله : (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما (٦)) ـ : أجاب الله ـ عزوجل ـ دعاء أبي بكر ، فأعتق تسعة من المؤمنين يعذّبون في الله ، منهم بلال ، وعامر بن فهيرة ، فلم يرد شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه (٧). ودعا أيضا فقال : «فأصلح (لِي فِي ذُرِّيَّتِي) فأجاب الله تعالى فلم يكن له ولد (٨) إلا آمنوا جميعا. فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعا. فأدرك أبو قحافة النّبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وابنه أبو بكر ، وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر ، وابن عبد الرحمن أبو عتيق ، كلهم أدركوا النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة (٩).

قوله : (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أصلح يتعدى بنفسه لقوله : (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) [الأنبياء : ٩٠] وإنّما تعدى ب «في» لتضمنه معنى : الطف بي في ذريتي (١٠) أو لأنه جعل الذرية طرفا للاصلاح (١١) كقوله :

٤٤٥٢ ـ يخرج في عراقيها نصلّي (١٢)

والمعنى هب لي الصلاح في ذريتي ، وأوقعه فيهم.

قوله : (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) والمراد أن الدعاء لا يصح إلا مع التوبة ، ومع كونه من المسلمين (١٣).

قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ) قرأ الأخوان وحفص : نتقبّل بفتح النون مبنيا للفاعل ونصب «أحسن» على المفعول به ، وكذلك «نتجاوز» والباقون بنيابتهما للمفعول ،

__________________

(١) زيادة من «أ» والرازي.

(٢) الرازي السابق.

(٣) زيادة من أ.

(٤) الرازي السابق.

(٥) صحاح الجوهري وزع.

(٦) زيادة من أ.

(٧) القرطبي ١٦ / ١٩٥.

(٨) ولا والد ولا والدة كما قال ابن عباس انظر القرطبي المرجع السابق.

(٩) القرطبي السابق.

(١٠) قاله أبو حيان في البحر ٨ / ٦١.

(١١) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٥٢١.

(١٢) بحثت كثيرا في هذا الشّعر فلم أهتد إليه ، من حيث النسبة ومن حيث الصّدر والعجز ، وشاهده في ظرفية في.

(١٣) قاله الرازي في تفسيره ٢٨ / ٢١.

٣٩٦

ورفع «أحسن» لقيامه مقام الفاعل ، ومكان النون ياء مضمومة في الفعلين (١). والحسن والأعمش وعيسى بالياء من تحت ، والفاعل الله تعالى (٢).

فصل

ومعنى أولئك أي أهل هذا القول الذي تقدّم ذكره ، فمن يدعو بهذا الدعاء نتقبل عنهم ، والتقبل من الله هو إيجاب الثواب له على عمله. وقوله : (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) يعني أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا وكلها حسن.

فإن قيل : كيف قال : (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) والله يتقبّل الأحسن وما دونه؟!

فالجواب من وجهين :

الأول : المراد بالأحسن الحسن ، كقوله تعالى : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [الزمر : ٥٥] وكقولهم : النّاقص والأشجّ أعدلا بني مروان أي عادلا بني مروان.

الثاني : أنّ الحسن من الأعمال هو المباح الذي لا يتعلق به ثواب ، ولا عقاب ، والأحسن ما يغاير ذلك وهو المندوب أو الواجب (٣).

وقوله : (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) فلا يعاقبهم عليها.

قوله : (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) فيه أوجه :

أظهرها : أنه في محل الحال أي كائنين في جملة أصحاب الجنة كقولك : «أكرمني الأمير في أصحابه» أي في جملتهم (٤).

والثاني : أن «في» معناها «مع» (٥).

الثالث : أنها خبر ابتداء مضمر أي هم في أصحاب الجنّة (٦).

قوله : (وَعْدَ الصِّدْقِ) مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة لأن قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ) في معنى الوعد ، فيكون قوله : «نتقبّل ونتجاوز» وعدا من الله بالتقبل والتجاوز (٧) والمعنى (أنه (٨)) يعامل من صفته ما قدمناه بهذا الجزاء ، وذلك وعد من الله ، فبين أنه صدق لا شك فيه (٩).

__________________

(١) قراءة متواترة ذكرها صاحب السبعة ٥٩٧ والقارئون بالياء هم ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر ، وانظر الكشف لمكي أيضا ٢ / ٢٧٢.

(٢) قراءة شاذة ذكرها بدون نسبة الكشاف ٣ / ٥٢١ وابن خالويه في الشواذ ١٣٩ والبحر المحيط ٨ / ٦١.

(٣) وهو ما قال به الرازي في تفسيره ٢٨ / ٢١ و ٢٢.

(٤) البحر المحيط ٨ / ٦١ والكشاف ٣ / ٥٢٣.

(٥) البحر المحيط ٨ / ٦١.

(٦) قاله أبو البقاء في التبيان ١١٥٦.

(٧) قاله الرازي وأبو حيان في تفسيريهما الأول في التفسير الكبير ٢٨ / ٢٢ والثاني في البحر المحيط ٨ / ٦١.

(٨) زيادة للسياق.

(٩) الرازي السابق.

٣٩٧

قوله تعالى : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(١٩)

قوله تعالى : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) لما وصف الولد البارّ بوالديه ، وصف الولد العاقّ بوالديه ههنا. واعلم أنه قد تقدم الكلام على أفّ (١). و «لكما» بيان أي التأفيف لكما نحو : (هَيْتَ لَكَ) وهي كلمة كراهية. (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) من قبري حيا (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) ولم يبعث منهم أحد. قال ابن عباس ، والسدي ، ومجاهد : نزلت في عبد الله. وقيل : في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام ، وهو يأبى ، وهو قوله : أفّ لكما أحيوا لي عبد الله بن جدعان ، وعامر بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم عما تقولون. واحتجوا بهذا القول بأنه (لما (٢)) كاتب معاوية إلى ابن مروان بأن يبايع الناس ليزيد قال عبد الرحمن بن أبي بكر : لقد جئتم شيئا نكرا (٣) أتبايعون أبناءكم فقال (مروان) يا أيها الناس هو الذي قال الله فيه : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) والصحيح أنها نزلت في كل كافر عاقّ لوالديه. قاله الحسن وقتادة (٤). قال الزجاج : قول من قال : إنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه يبطله قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ) فأعلم الله تعالى أن هؤلاء قد حقت عليهم كلمة العذاب ، وعبد الرحمن مؤمن من أفاضل المؤمنين (٥) ، فلا يكون ممّن حقّت عليهم كلمة العذاب. قال ابن الخطيب : وهذا القول هو الصحيح فإن قالوا : روى أنه لما دعاه أبواه إلى الإسلام ، وأخبراه بالبعث بعد الموت قال : أتعدانني أن أخرج من القبر يعني أبعث (٦) بعد الموت (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) يعني الأمم الخالية ، فلم يرجعوا منهم عبد الله بن جدعان ، وفلان وفلان. فنقول : قوله : أولئك الذي حق عليهم القول المراد هؤلاء الذين ذكرهم عبد الرحمن من المشركين الذين ماتوا قبله هم الذين حق عليهم القول فالضمير عائد إلى المشار إليهم بقوله : (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) لا

__________________

(١) من قوله : «فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما» من الآية ٢٣ من الإسراء.

(٢) سقط من ب.

(٣) في الرازي : هرقلية وكذا هي في القرطبي ١٦ / ١٩٧ وأراد أن البيعة لأولاد الملوك سنة ملوك الروم ، وهرقل : اسم ملك الروم.

(٤) وانظر الرازي ٢٨ / ٢٣ والقرطبي المرجع السابق.

(٥) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٤٣ و ٤٤٤.

(٦) في ب البعث.

٣٩٨

إلى المشار إليه بقوله : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما). هذا جواب الكلبي في دفع ذلك الدليل ، وهو حسن. وأيضا روي أن مروان لما خاطب عبد الرحمن بن أبي بكر بذلك الكلام سمعت عائشة ـ رضي الله عنها ـ ذلك فغضبت وقالت : والله ما هو به ، ولكن الله كفّر (١) أباك وأنت في صلبه. وإذا ثبت ذلك كان المراد كلّ ولد اتصف بالصفات المذكورة. ولا حاجة إلى تخصيص اللفظ المطلق بشخص معين (٢).

قوله : «أتعدانني» العامة على نوني مكسورتين ، الأولى للرفع (٣) والثانية للوقاية وهشام بالإدغام (٤) ونافع في رواية بنون واحدة (٥). وهذه شبيهة بقوله : (تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ). وقرأ الحسن وشيبة وأبو جعفر وعبد الوارث عن أبي عمرو بفتح النون الأولى (٦) ، كأنهم فروا من توالي مثلين مكسورين (٧) بعدهما ياء. وقال أبو البقاء : وهي لغة شاذة في فتح نون (٨) الاثنين. قال شهاب الدين : إن عنى نون الاثنين في الأسماء نحو قوله :

٤٤٥٣ ـ على أحوذيّين استقلّت ...

 ..........(٩)

فليس هذا منه ، وإن عنى في الفعل فلم يثبت ذلك لغة ، وإنما الفتح هنا لما ذكرت.

قوله : (أَنْ أُخْرَجَ) هو الموعود (١٠) به ، فيجوز أن نقدر الباء قبل «أن» وأن لا نقدّرها (١١).

__________________

(١) في الرازي : لعن.

(٢) بالمعنى من الرازي ٢٨ / ٢٣.

(٣) وهي نون الأفعال الخمسة وهي حرف لا محل له من الإعراب.

(٤) قراءة شاذة نسبها ابن خالويه في المختصر ١٣٩ إلى الحسن وابن عامر في رواية هشام ولم تثبت في المتواتر عن ابن عامر ، وهي من الأربع فوق العشر انظر الإتحاف ٣٩٢.

(٥) كذا قال أبو حيان في البحر ٨ / ٦٢.

(٦) شاذة غير متواترة انظر ابن خالويه والبحر السابقين.

(٧) في ب مكسورتين.

(٨) التّبيان ١١٥٦ قال : «وحسنت هنا شيئا لكثرة الكسرات.

(٩) بعض بيت من الطويل وهو بتمامه :

 .......... عشيّة

فما هي إلّا لمحة وتغيب

وهو لحميد بن ثور ، والأحوذي بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة وفتح الواو وكسر الذال وتشديد الياء الخفيف في المشي وهو هنا يصف جناحي قطاة يصفهما لخفتهما. واستقل الطائر ارتفع في الهواء ، والعشية إما عشية ماء ، أو عشية معينة. والشاهد : فتح نون التثنية والقياس كسرها وهي لغة بني أسد. وليس بضرورة. وانظر الأشموني ١ / ٩٠ ، وابن يعيش ٤ / ١٣١ والتّصريح ١ / ٧٨.

(١٠) في ب الموجود تحريف.

(١١) بالمعنى من التبيان ١١٥٧.

٣٩٩

قوله : (وَقَدْ خَلَتِ) جملة حالية ، وكذلك (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) أي يسألان الله (١) ، واستغاث يتعدى بنفسه تارة ، وبالباء أخرى ، وإن كان ابن مالك زعم أنه متعدّ بنفسه ، وعاب قول النحاة : مستغاث به (٢) قال شهاب الدين : لكنه لم يرد في القرآن إلا متعديا بنفسه ، (كقوله) : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) [الأنفال : ٩] (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ) [القصص: ١٥] (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا) [الكهف : ٢٩]. قال ابن الخطيب : معناه يستغيثان الله من كفره وإنكاره ، فلما حذف الجار وصل للفعل ، ويجوز أن يقال : حذف الباء ، لأنه أريد بالاستغاثة الدعاء ، فحذف الجار ، لأنّ الدعاء لا يقتضيه (٣).

قوله : «ويلك» منصوب على المصدر (٤) بفعل ملاق له في المعنى دون الاشتقاق ، ومثله : ويحه (٥) وويسه (٦) ، وويته (٧). وإما على المفعول به بتقدير ألزمك الله ويلك (٨) ، وعلى كلا التقديرين الجملة معمولة لقول مضمر ، أي يقولان ويلك آمن ، (والقول في (٩) محل نصب على الحال أي يستغيثان الله قائلين ذلك ، والمعنى يقولان له ويلك آمن) وصدّق بالبعث ، وهو دعاء عليه بالثّبور والمراد الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقه الهلاك (١٠).

قوله : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) قرأ العامة بكسر إنّ ، استئنافا ، أو تعليلا ، وقرأ عمرو بن (١١) فائد والأعرج بفتحها على أنها معمولة «لآمن» على حذف الباء أي آمن بأن وعد الله حق بالبعث (١٢) «فيقول» لهما (ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي وجب عليهم العذاب (فِي أُمَمٍ) أي مع أمم. وقد تقدم (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ).

قوله : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما (١٣) ـ) يريد

__________________

(١) السابق.

(٢) البحر المحيط ٨ / ٦٢.

(٣) انظر الرازي ٢٨ / ٢٤ بالمعنى.

(٤) قاله النحاس في إعراب القرآن ٤ / ١٦٦ وذكره أيضا العكبري في التبيان ١١٥٧.

(٥) الويح كلمة تقال ـ رحمة ـ وكذلك هي كلمة ترحم وتوجع وقد يقال بمعنى المدح والعجب وهي منصوبة على المصدر ، وقد ترفع وتضاف ولا تضاف ، وقيل هي بمعنى الويل (اللسان ويح ٤٩٣٧).

(٦) وهي كلمة في موضع رأفة واستملاح كقولك للصبي : ويسه ما أصلحه والويح والويس بمنزلة الويل في المعنى. وويس له أي ويل وقيل : ويس تصغير وتحقير (اللسان المرجع السابق ٤٩٣٨ ويس).

(٧) لم أهتد لتلك الكلمة ولعل التاء إبدال من الحاء أو السّين.

(٨) التبيان المرجع السابق.

(٩) ما بين القوسين كله سقط من ب بسبب انتقال النظر.

(١٠) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٥٢٢.

(١١) سبقت ترجمته.

(١٢) قراءة شاذة ذكرها صاحب الكشاف ٣ / ٥٢٢ و ٥٢٣ والبحر المحيط ٨ / ٦٢.

(١٣) زيادة من أ.

٤٠٠