اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٨٤

قوله : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ) قرأ العامة يدعون بياء الغيبة ، والضمير للموصول. والسّلميّ وابن وثّاب بتاء الخطاب (١). والأسود بن يزيد (٢) بتشديد الدال ، ونقل عنه القراءة مع ذلك بالياء والتاء (٣).

وقوله : (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ) فيه قولان :

أحدهما : أنه متصل ، والمعنى إلا من شهد بالحقّ ، كعزير ، والملائكة فإنهم يملكون الشفاعة بتمليك الله إياهم لها (٤) وقيل : هو منقطع بمعنى أن هؤلاء لا يشفعون إلا فيمن شهد بالحق أي لكن من شهد بالحق يشفع فيه هؤلاء كذا قدروه (٥). وهذا التقدير يجوز فيه أن يكون الاستثناء متصلا على حذف المفعول تقديره : ولا يملك الّذين يدعون من دونه الشّفاعة في أحد إلّا فيمن شهد (٦).

فصل

ذكر المفسرون قولين في الآية :

أحدهما : أن الذين يدعون من دونه الملائكة وعيسى ، وعزير ، لا يشفعون إلا لمن شهد بالحق.

الثاني : روي أن النضر بن الحارث ونفرا معه قالوا : إن كان ما يقوله محمد حقا فنحن نتولى الملائكة فهم أحق بالشفاعة من محمّد ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والمعنى لا يقدر هؤلاء أن يشفعوا لأحد.

ثم استثنى فقال : إلّا من شهد بالحق أي الملائكة وعيسى وعزير ، فإنهم يشفعون. فعلى الأول : تكون «من» في محل جر ، وعلى الثاني تكون «من» في محل رفع. والمراد بشهادة الحق قول : لا إله إلا الله كلمة التوحيد (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم (٧).

قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ ...) الآية ظن قوم أن هذه الآية

__________________

(١) شاذة غير متواترة ابن خالويه ١٣٦.

(٢) ابن قيس بن يزيد أبو عمرو النخعي الكوفي الإمام الجليل. قرأ على عبد الله بن مسعود ، وروى عن الخلفاء الأربعة وقرأ عليه النخعي مات سنة ٧٥ ه‍. انظر غاية النهاية ١ / ١٧١.

(٣) البحر ٨ / ٢٩ وابن خالويه ١٣٦.

(٤) ذكره الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٩٨ ونقله عنه أبو حيان في البحر ٨ / ٢٩.

(٥) هذا التقدير نقله أبو حيان عن مجاهد وغيره انظر البحر المحيط المرجع السابق ، والكشاف ٣ / ٤٩٨ والقرطبي ١٦ / ١٢٢.

(٦) قاله أيضا أبو حيان في بحره المرجع السابق ، وانظر في هذا كله الدر المصون للسمين ٤ / ٨٠٦.

(٧) وانظر تفسير الرازي ٢٢ / ٢٣٢ و ٢٣٣ والقرطبي ١٦ / ١٢٢.

٣٠١

وأمثالها في القرآن تدل على أن القوم مضطرون إلى الاعتراف بوجود الإله قال الجبائي : وهذا لا يصح لأن قوم فرعون قالوا : لا إله (لهم) (١) غيره. وقوم إبراهيم قالوا : إنّا لفي شكّ ممّا تدعوننا إليه (مريب) (٢).

وأجيب : بأنا لا نسلم أن قوم فرعون كانوا منكرين لوجود الإله ، بدليل قوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل : ١٤] وقال موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) [الإسراء : ١٠٢] على قراءة من فتح التاء من «علمت» (٣) وهذا يدل على أن فرعون كان عارفا بالله. وأما قول قوم إبراهيم ـ (عليه الصلاة (٤) والسلام) ـ : «وإنّا (لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) فهو مصروف إلى إثبات القيامة ، وإثبات التكليف ، وإثبات النبوة (٥).

قوله : (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي لم يكذبون على الله فيقولون : إنّ الله أمرنا بعبادة الأصنام(٦)؟

قوله تعالى : (وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) قراءة حمزة وعاصم بالجر (٧) ، والباقون بالنصب فأما الجر فعلى وجهين :

أحدهما : أنه عطف على «الساعة» أي عنده علم قيله ، أي قول محمد ، أو عيسى (٨) والقول والقال والقيل بمعنى واحد. جاءت المصادر على هذه الأوزان.

والثاني : أن الواو للقسم ، والجواب إما محذوف ، تقديره : لتنصرنّ أو لأفعلنّ بهم ما أريد وإما مذكور ، وهو قوله : إنّ هؤلاء لا يؤمنون. ذكره الزمخشري (٩). وأما قراءة النصب ففيها ثمانية أوجه :

أحدها : أنه منصوب على محل «الساعة» كأنه قيل : إنه يعلم الساعة ويعلم قيله كذا(١٠).

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) زيادة من ب.

(٣) حفص عن عاصم وهي متواترة.

(٤) زيادة من أ.

(٥) انظر الرازي ٢٧ / ٣٣٣.

(٦) الرازي السابق.

(٧) من متواتر القراءات انظر الكشف لمكي ٢ / ٢٦١ والحجة في القراءات السبع لابن خالويه ٣٢٣ والسبعة ٥٨٩ ومعاني الفراء ٣ / ٣٨.

(٨) الكشف المرجع السابق وانظر أيضا معاني الفراء ٣ / ٣٨ والمحتسب ٢ / ٢٥٨ والبيان ٢ / ٢٥٦ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٤٢١.

(٩) الدر المصون ٤ / ٨٠٨ ولم أجد هذا بلفظه للزمخشري في الكشاف على ما سيأتي بعد ، بل جعله الزمخشري على لفظ الساعة أو على تقدير حرف الجر كما سيأتي وانظر هذا الوجه وما قبله في التبيان ١١٤٣.

(١٠) التبيان المرجع السابق والبيان ٢ / ٣٥٥ ومعاني القرآن للزجاج ٤ / ٤٢١ والبحر المحيط ٨ / ٣٣ ، والكشاف ٣ / ٤٩٨.

٣٠٢

الثاني : أنه معطوف على (سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) (أي لا يعلم (١) سرّهم) ولا يعلم (٢) قيله.

الثالث : عطف على مفعول «يكتبون» المحذوف ، أي يكتبون ذلك ، ويكتبون قيله كذا أيضا (٣).

الرابع : أنه معطوف على مفعول يعلمون المحذوف ، أي يعلمون (٤) ذلك (ويعلمون) (٥) قيله (٦).

الخامس : أنه مصدر أي قال قيله (٧).

السادس : أن ينتصب بإضمار فعل ، أي الله يعلم قيل رسوله (٨). وهو محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

السابع : أن ينتصب على محلّ «بالحقّ» ، أي شهد بالحقّ وبقيله (٩).

الثامن : أن ينتصب على حذف القسم (١٠) ، كقوله : «فذاك أمانة الله الثّريد» (١١).

وقرأ الأعرج وأبو قلابة (١٢) ، ومجاهد والحسن ، بالرفع (١٣) ، وفيه أوجه : الرفع ، عطفا على (عِلْمُ السَّاعَةِ) ، بتقدير مضاف ، أي وعنده علم قيله ، ثم حذف ، وأقيم هذا مقامه(١٤).

الثاني : أنه مرفوع بالابتداء ، والجملة من قوله : «يا ربّ» إلى آخره (١٥) هو الخبر.

الثالث : أنه مبتدأ وخبره محذوف ، تقديره : وقيله كيت وكيت مسموع أو متقبل (١٦).

الرابع : أنه مبتدأ أو صلة القسم ، كقولهم : أيمن الله ، ولعمر الله ، فيكون خبره

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) قاله في التبيان السابق ، ومعاني القرآن للفراء ٣ / ٣٨.

(٣) البيان ٢ / ٣٥٥ وأبو حيان في البحر ٨ / ٣٠.

(٤) في ب يعلم.

(٥) سقط من ب.

(٦) نقله أبو حيان في بحره وقال وهو قول لا يكاد يعقل.

(٧) التبيان ١١٤٣ والكشاف ٣ / ٤٩٨ والفراء ٣ / ٣٨ ونسب إلى الأخفش ولم أجده في المعاني له.

(٨) نقله أبو حيان في البحر ٨ / ٣٠ ولم ينسبه إلى أحد.

(٩) قاله في الدر المصون ٤ / ٨٠٧ وهو ضعيف للفصل بين المتعاطفين ولتقدير تكلف حرف البحر.

(١٠) وهو اختيار الزمخشري كما سيجيء الآن ، وانظر المرجع السابق.

(١١) سبق ما فيه.

(١٢) محمد بن أحمد بن أبي دارة ، أبو قلاية ، مقرىء معروف ، روى القراءة عن الحسن بن داود وجعفر ابن حميد ، وعنه منصور بن أحمد العراقي وانظر غاية النهاية ٢ / ٦٢ ، ٦٣.

(١٣) قراءة شاذة ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٣٦ وابن جني في المحتسب ٢ / ٢٥٨ والفراء في معاني القرآن ٣ / ٣٠.

(١٤) البيان ٢ / ٣٥٥ و ٣٥٦ والمحتسب ٢ / ٢٥٨.

(١٥) ذكره في التبيان ١١٤٣.

(١٦) البيان ٢ / ٣٥٦.

٣٠٣

محذوفا ، والجواب كما تقدم. ذكره الزمخشري (١) أيضا. واختار القراءة بالنصب (٢) جماعة. قال النحاس : القراءة البينة بالنصب من جهتين :

أحدهما : أن التفرقة بين المنصوب ، وما عطف عليه مغتفرة ، بخلافها بين المخفوض وما عطف عليه.

والثانية : تفسير أهل التأويل بمعنى النصب (٣). كأنه يريد ما قال أبو عبيدة قال : إنما هي في التفسير أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم ولا نسمع قيله يا رب (٤).

ولم يرتض الزمخشري من الأوجه المتقدمة شيئا. وإنما اختار أن يكون قسما في القراءات الثلاث (٥). وتقدم تحقيقها.

وقرأ أبو قلابة : يا ربّ (٦) بفتح الباء ، على قلب الياء ألفا ، ثم حذفها مجتزئا عنها بالفتحة كقوله :

٤٤٢٣ ـ .........

بلهف ولا بليت ........... (٧)

والأخفش يطردها (٨).

قال ابن الخطيب ـ بعد أن حكى قول الزمخشري ـ : وأقول : الذي ذكره الزمخشري متكلف أيضا وها هنا إظمار ، امتلأ القرآن منه ، وهو إضمار اذكر ، والتقدير في قراءة النصب : واذكر قيله يا رب ، وفي قراءة الجر : واذكر وقت قيله يا رب ، وإذا وجب التزام إضمار ما جرت العادة في القرآن بالتزامه ، فالتزام إضماره أولى من غيره (٩). وعن ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) (١٠) ـ أنه قال في تفسير قوله : (وَقِيلِهِ يا رَبِّ) المراد : وقيل يا ربّ. والهاء زائدة(١١).

__________________

(١) الكشاف ٣ / ٣٩٨.

(٢) كالزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٢١ ونقله عنه موافقا النحاس كما سيأتي الآن.

(٣) إعراب القرآن ٤ / ١٢٣.

(٤) قال في المجاز ٢ / ٢٠٧ نصبه في قول أبي عمرو علي «نسمع سرّهم ونجواهم وقيله ونسمع قيله».

(٥) قال : «وأقوى من ذلك وأوجه أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه». الكشاف ٣ / ٤٩٩.

(٦) البحر المحيط ٨ / ٣٠.

(٧) جزء من بيت من الوافر ، مجهول قائله وهو بتمامه :

فلست بمدرك ما فات منّي

 ... ولا لو انّي

ويروى : ولست بالواو. والمعنى أن الحسرة والندامة لا يجدي على ما فات والشاهد : بلهف وبليت والأصل يا لهفي ويا ليتني فحذف حرف النداء ثم قلب الياء «ياء المتكلم» ألفا ثم حذف الألف اجتزاء بالفتحة عنها. وانظر الأشموني ٣ / ١٥٥ والخصائص ٣ / ١٣٥ والمحتسب ١ / ٢٧٧ و ٣٢٣ والدر المصون ٤ / ٨٠٨.

(٨) انظر معاني الأحفش ٧٢ / ٧٣.

(٩) بالمعنى قليلا من الفخر الرازي ٢٧ / ٢٣٤.

(١٠) سقط من ب.

(١١) المرجع السابق.

٣٠٤

فصل (١)

القيل مصدر ، كالقول ، ومنه الحديث : «أنه نهى عن قيل وقال». وحكى اللّيث عن العرب تقول : كثر فيه القيل والقال. وروى شمر عن أبي زيد يقال : ما أحسن قيلك ، وقولك ، ومقالتك ، ومقالك (٢). والضمير في «وقيله» لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والمعنى يعلم قول محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ شاكيا إلى ربه ، يا ربّ إن هؤلاء قوم لا يؤمنون لما عرف إصرارهم ، وهذا قريب مما حكى الله عن نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال : (رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) [نوح : ٢١] ثم قال : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) أي أعرض عنهم (٣) ، (وَقُلْ سَلامٌ) قال سيبويه : معناه المتاركة ، كقوله تعالى : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) [القصص : ٥٥] ثم قال : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) والمراد به التهديد (٤).

قوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) قرأ نافع وابن عامر بتاء الخطاب التفاتا ، والباقون بياء الغيبة نظرا لما تقدّم (٥).

فصل

قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما (٦) ـ) قوله : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ) منسوخ (بآية) (٧) السّيف (٨).

قال ابن الخطيب : وعندي التزام النسخ في مثل هذه المواضع مشكل ؛ لأن الأمر لا يفيد الفعل إلا مرة واحدة فسقطت دلالة اللفظ ، فأيّ حاجة إلى التزام النسخ ، وأيضا فاللفظ المطلق قد يقيّد بحسب العرف ، وإذا كان كذلك ، فلا حاجة فيه إلى التزام النسخ. والله أعلم بالصواب(٩).

روى أبو أمامة عن أبيّ بن كعب ـ (رضي الله عنهم (١٠) ـ) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الزّخرف كان ممّن يقال له يوم القيامة : «يا عبادي (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) ادخلوا الجنّة بغير حساب» (١١). (انتهى) (١٢).

__________________

(١) هذا الفصل كله ساقط من نسخة ب.

(٢) انظر اللسان قول ٣٧٧٩.

(٣) قاله ابن قتيبة في غريب القرآن ٤٠١.

(٤) نقله الرازي عن سيبويه في تفسيره ٢٧ / ٢٣٤ ولم أستطع العثور عليه في الكتاب لسيبويه.

(٥) من القراءة المتواترة انظر السبعة لابن مجاهد ٥٨٩ ، والإتحاف ٣٨٧.

(٦) زيادة من أ.

(٧) زيادة من ب.

(٨) وهو نفس قول قتادة فيما نقله القرطبي ١٦ / ١٢٤.

(٩) بالمعنى من تفسيره التفسير الكبير ٢٧ / ٢٣٥.

(١٠) زيادة من أ.

(١١) الكشاف ٣ / ٤٩٩ ومجمع البيان ٩ / ٥٩ ، والسراج المنير ٣ / ٥٧٨ ، والبيضاويّ ٢ / ٢٠٤.

(١٢) زيادة من ب.

٣٠٥

سورة الدخان

مكية (١) وهي تسع وخمسون آية (٢) ، وثلاثمائة وست وأربعون كلمة ، وألف وأربعمائة وواحد وثلاثون حرفا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ)(٩)

قوله تعالى : (حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) فيه احتمالان :

الأول : أن يكون التقدير : هذه حم والكتاب المبين ، كقولك : هذا زيد والله (٣).

الثاني : أن يكون التقدير : (و (٤)) حم والكتاب المبين إنّا أنزلناه ؛ فيكون في ذلك تقدير قسمين على شيء واحد (٥).

قوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) يجوز أن يكون جواب القسم ، وأن يكون اعتراضا ، والجواب قوله: (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ)(٦) واختاره ابن عطية (٧).

__________________

(١) باتفاق إلا قوله تعالى : «إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً».

(٢) وقيل : سبع وانظر القرطبي ١٦ / ١٢٥.

(٣) فيكون حم خبر المبتدأ محذوف قد قصد لفظه.

(٤) زيادة لا بدّ منها عن النسختين حتى يستقيم المعنى المراد من الرازي.

(٥) تفسير الرازي ٢٧ / ٢٣٦.

(٦) البحر المحيط ٨ / ٣٢ والدر المصون ٤ / ٨٠٩.

(٧) السابقين.

٣٠٦

وقيل : إنّا كنّا (منذرين) مستأنف ، أو جواب ثان من غير عاطف (١).

قوله : «يفرق» يجوز أن تكون مستأنفة ، وأن تكون صفة لليلة وما بينهما اعتراض (٢).

قال الزمخشري : فإن قلت : (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) (فِيها يُفْرَقُ) ما موقع هاتين الجملتين؟.

قلت : هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان ، فسر بهما جواب القسم الذي هو : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) كأنه قيل : أنزلناه ؛ لأن من شأننا الإنذار والتحذير ، وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصا لأن إنزال القرآن من الأمور الحكيمة ، وهذه الليلة يفرق فيها كل أمر حكيم (٣).

وقرأ الحسن ، والأعرج والأعمش : يفرق بفتح الياء ، وضمّ الراء «كلّ» بالنصب ، أي يفرق الله كلّ أمر (٤). وزيد بن علي : نفرق ـ بنون العظمة ـ «كلّ» بالنصب (كذا) نقله الزمخشري (٥). ونقل عنه الأهوازي (٦) بفتح الياء وكسر الراء كلّ بالنصب (٧) حكيم بالرفع على أنه فاعل يفرق. وعن الحسن والأعمش أيضا يفرّق كالعامة ، إلا أنه بالتشديد (٨).

فصل

استدلوا بهذه الآية على حدوث القرآن من وجوه :

الأول : أن قوله حم تقديره : هذه حم يعني هذا شيء مؤلّف من هذه الحروف والمؤلف من الحروف المتعاقبة محدث.

الثاني : أنه ثبت أن الحلف لا يصح بهذه الأشياء ، بل بإله هذه الأشياء فيكون التقدير : وربّ حم وربّ الكتاب المبين ، وكلّ ما كان مربوبا فهو محدث.

الثالث : أنه وصفه بكون «كتابا» ، والكتاب مشتق من الكتب ، وهو الجمع فمعناه أنه مجموع ، والمجموع محلّ تصرف الغير. وما كان كذلك فهو محدث.

__________________

(١) حكاه أبو البقاء في التبيان ١١٤ وانظر الدر المرجع السابق أيضا.

(٢) الدر المصون السابق.

(٣) الكشاف معنى ٣ / ٥٠٠.

(٤) شاذة غير متواترة انظر مختصر ابن خالويه ١٣٧ وشواذ القرآن ٢١٩.

(٥) الكشاف ٣ / ٥٠٠ ، وشواذ القرآن ٢١٨.

(٦) الحسن بن علي بن إبراهيم بن يزيد الأستاذ أبو علي الأهوازيّ صاحب المؤلفات شيخ القراء في عصره قرأ على إبراهيم بن أحمد الطبري ، ومحمد بن فيروز الكرخي وعليه أبو علي الحسن بن قاسم وأبو القاسم الهذلي مات سنة ٤٤٦ ه‍. انظر الغاية ١ / ٢٢٠ ، ٢٢٢.

(٧) البحر المحيط ٨ / ٣٣.

(٨) السابق والكشاف ٣ / ٥٠٠.

٣٠٧

الرابع : قوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) والمنزل محلّ تصرف الغير ، وما كان كذلك فهو محدث. قال ابن الخطيب : وقد ذكرنا أن جميع هذه الدلائل تدل على أن الشيء المركب من الحروب المتعاقبة ، والأصواب المتوالية محدث والعلم بذلك ضروري بديهيّ لا نزاع فيه ، إنما القديم شيء آخر سوى ما تركب من هذه الحروف والأصوات (١).

فصل

يجوز أن يكون المراد بالكتاب ههنا الكتب المتقدمة المنزلة على الأنبياء ، كما قال : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ) [الحديد : ٢٥] ويجوز أن يكون المراد به اللوح المحفوظ. قال الله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) [الرعد : ٣٩] وقال : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) ويجوز أن يكون المراد به القرآن ، وبهذا التقدير فقد أقسم بالقرآن على أنه أنزل في ليلة مباركة وهذا النوع من الكلام يدل على غاية تعظيم القرآن ، فقد يقول الرجل إذا أراد تعظيم الرجل (له (٢)) إليه حاجة : «أستشفع بك إليك ، وأقسم بحقّك عليك». وجاء في الحديث : «أعوذ برضاك من سخطك ، وبعفوك من عقوبتك وبك منك ، لا أحصي ثناء عليك» (٣).

قوله : «المبين» هو المشتمل على بيان ما بالناس من حاجة إليه في دينهم ودنياهم فوصفه بكونه مبينا وإذا (٤) كانت حقيقة الإبانة لله تعالى ، لأن الإبانة حصلت به ، كقوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) [النمل : ٧٦] وقوله : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف : ٣] وقوله : (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) [الروم : ٣٥] فوصفه بالتكلم ، إذ كان غاية في الإبانة ، فكأنه ذو لسان ينطق مبالغة.

فصل (٥)

قال قتادة وابن زيد وأكثر المفسرين : المراد بقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) هي ليلة القدر. وقال عكرمة وطائفة : إنها ليلة البراءة وهي ليلة النصف من شعبان. واحتج الأولون بوجوه:

الأول : قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر : ١] وقوله ههنا : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) فوجب أن تكون هي تلك الليلة المسماة بليلة القدر لئلا يلزم التناقض.

__________________

(١) انظر تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٧ / ٢٣٦ و ٢٣٧.

(٢) زيادة من أعن ب والرازي.

(٣) جزء من حديث طويل أخرجه البيهقي وضعفه عن عائشة انظر الدر المنثور ٧ / ٤٠٣ و ٤٠٤.

(٤) كذا في النسختين وفي الرازي وإن.

(٥) هذا الفصل كله سقط من ب.

٣٠٨

الثاني : قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة : ١٨٥] فقوله ههنا : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) [الدخان : ٣] فيجب أن تكون تلك الليلة المباركة في رمضان فثبت أنها ليلة القدر.

الثالث : قوله تعالى : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) [القدر:٤] وقال ههنا : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) وقال ههنا : (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) وقال في ليلة القدر : (سَلامٌ هِيَ) [القدر : ٥] ، وإذا تقاربت الأوصاف وجب القول بأن إحدى الليلتين هي الأخرى.

الرابع : نقل محمد بن جرير الطّبري في تفسيره عن قتادة أنه قال : نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان والتوراة لست ليال منه والزبور لثنتي عشرة ليلة مضت منه ، والإنجيل لثماني عشرة ليلة مضت منه ، والقرآن لأربع وعشرين مضت منه ، والليلة المباركة هي ليلة القدر.

الخامس : أن ليلة القدر إنما سميت بهذا الاسم لأن قدرها وشرفها عند الله عظيم ومعلوم أنه ليس قدرها وشرفها لسبب نفس الزمان ، لأن الزمان شيء واحد في الذات والصفات ، فيمتنع كون بعضه أشرف من بعض لذاته فثبت أن شرفه وقدره بسبب أنه حصل فيه أمور شريفة لها قدر عظيم ، ومن المعلوم أن منصب الدين أعظم من مناصب الدنيا ، وأعظم الأشياء وأشرفها منصبا في الدين هو القرآن ؛ لأنه ثبت به نبوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبه ظهر الفرق بين الحق والباطل كما قال تعالى في صفته : (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)(١) وبه ظهرت درجات أرباب السعادات ودركات أرباب الشقاوات فعلى هذا لا شيء إلا والقرآن أعظم قدرا ، وأعلى ذكرا ، وأعظم منصبا ، وحيث أطبقوا على أن ليلة القدر هي التي وقعت في رمضان علمنا أن القرآن إنما أنزل في تلك الليلة. واحتج الآخرون على أنها ليلة النصف من شعبان بأن لها أربعة أسماء : الليلة المباركة ، وليلة البراءة ، وليلة الصكّ ، وليلة الرحمة ، ولأنها مختصة بخمس خصال : الأولى : قال تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) والثانية : فضيلة العبادة فيها ، قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من صلّى في هذه اللّيلة أرسل الله تعالى إليه مائة ملك ، ثلاثون يبشرونه بالجنة ، وثلاثون يؤمّنونه من عذاب النار ، وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا وعشرة يدفعون عنه مكايد الشيطان. الثالثة : نزول الرحمة قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ «إنّ الله يرحم أمّتي في هذه اللّيلة بعدد شعر أغنام بني كلب» (٢). الرابعة : حصول المغفرة قال عليه الصلاة والسلام : «إنّ الله يغفر لجميع

__________________

(١) أخرجه التّرمذيّ بمعناه عن عائشة وانظر القرطبي ١٦ / ١٢٧ وانظر في هذا الكشاف ٣ / ٥٠٠ والرازي ٢٧ / ١٣٨.

(٢) لم أقف عليه أبدا.

٣٠٩

المسلمين في تلك الليلة إلا الكاهن ، والمشاحن ومدمن الخمر وعاقّ والديه والمصرّ على الزنا». الخامسة : أنه تعالى أعطى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في هذه الليلة تمام الشّفاعة وذلك أنه سأل في الليلة الثالثة عشر الشفاعة في أمته فأعطي الثّلث منها ثم سأل الليلة الرابعة عشر فأعطي الثّلثين ثم سأل ليلة الخامس عشر فأعطي جميع الشفاعة إلا من شرد عن الله شراد البعير ، نقله الزمخشري.

فصل

روي أن عطية الحروريّ (١) سأل ابن عباس (رضي الله عنهم) عن قوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) وقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) كيف يصح ذلك مع أن الله تعالى أنزل القرآن في جميع الأيام؟.

فقال ابن عباس : يا ابن الأسود لو هلكت أنا ووقع في نفسك هذا ، ولم تجد جوابه لهلكت ، نزل القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور في السماء الدنيا ، ثم نزل بعد ذلك في أنواع الوقائع حالا فحالا. قال قتادة وابن زيد : أنزل الله القرآن في ليلة القدر من أم الكتاب إلى السماء الدنيا ، ثم نزل به جبريل على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نجوما في عشرين سنة.

قوله : (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) يعني إن الحكمة في إنزال القرآن أن إنذار الخلق لا يتم إلا به.

قوله : «فيها» أي في الليلة المباركة «يفرق» يفصل (كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) محكم ومعناه ذو الحكمة ، وذلك لأن تخصيص الله تعالى كل واحد بحالة معينة من الأجل والرزق والسعادة والشقاوة يدل على حكمة بالغة لله عزوجل ، فلما دلت تلك الأقضية على حكمة فاعلها ، وصفت بكونها حكمة ، وهذا إسناد مجازيّ لأن الحكيم صفة صاحب الأمر على الحقيقة ، ووصف الأمر به مجاز. قال ابن عباس : يكتب في أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير ، والشر ، والأرزاق ، والآجال حتى الحجّاج يقال : يحجّ فلان ويحجّ فلان. وقال الحسن ومجاهد وقتادة : يبرم في ليلة القدر في شهر رمضان كل أجل ، وعمل ، وخلق ، ورزق ، وما يكون في تلك السنة. وقال عكرمة : هي ليلة النصف من شعبان يقوم فيها أمر السنة ، وتنسخ الأحياء من الأموات ، فلا يزاد فيهم ، ولا ينقص منهم أحد. قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتّى إنّ الرّجل لينكح ، ويولد له ، ولقد أخرج اسمه في الموتى» (٢). وعن ابن عباس ـ

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) أخرجه ابن زنجويه والدّيلميّ عن أبي هريرة ، وانظر فتح القدير ٤ / ٥٧٢.

٣١٠

(رضي الله عنهما (١)) ـ إن الله يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر وروي أن الله تعالى أنزل كل القرآن من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ، ووقع الفراغ في ليلة القدر ، وتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ، ونسخة الحروف إلى جبريل ، وكذلك الزّلازل ، والصواعق ، والخسف ، ونسخة الأعمال إلى إسرافيل صاحب سماء الدنيا ، وهو ملك عظيم ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت (٢).

قوله : «أمرا» فيه اثنا عشر (٣) وجها :

أحدها : أن ينتصب حالا من فاعل «أنزلناه» (٤).

الثاني : (أنه (٥)) حال من مفعوله أي أنزلناه آمرين ، أو مأمورا به (٦).

الثالث : أن يكون مفعولا له وناصبه إمّا «أنزلناه» وإما «منذرين» وإما «يفرق» (٧).

الرابع : أنه مصدر من معنى يفرق أي فرقا (٨).

الخامس : أنه مصدر «لأمرنا» محذوفا (٩).

السادس : أن يكون يفرق بمعنى يأمر (١٠). والفرق بين هذا وما تقدم أنك رددت في هذا بالعامل إلى المصدر ، وفيها تقدم بالعكس.

السابع : أنه حال من «كلّ» (١١). حكى أبو علي الفارسي عن (أبي (١٢)) الحسن أنه حمل قوله : «أمرا» على الحال ، وذو الحال (كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)(١٣).

الثامن : أنه حال من «أمر». وجاز ذلك ؛ لأنه وصف ؛ إلا أن فيه شيئين : مجيء الحال من المضاف إليه في (١٤) غير المواضع المذكورة. والثاني : أنها مؤكدة (١٥).

التاسع : أنه مصدر لأنزل ، أي (إنّا (١٦)) أنزلناه إنزالا ، قاله الأخفش (١٧).

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) وانظر في كل هذا تفسير الرازي ٢٧ / ٢٣٩ والقرطبي ١٦ / ١٢٦ ، ١٢٨.

(٣) في ب : فيها اثني عشر خطأ نحوي.

(٤) ذكره الزمخشري في الكشاف ٣ / ٥٠١.

(٥) سقط من ب.

(٦) البيان ٢ / ٣٥٧ والتبيان ١١٤٤ والكشاف ٣ / ٥٠١ ومشكل إعراب القرآن ٢ / ٢٨٧.

(٧) التبيان السابق.

(٨) البيان ٢ / ٣٥٧ وهو ظاهر قول الفراء ٣ / ٣٩ قال : أمرا منصوب بقوله : يفرق على معنى يفرق كل أمر فرقا.

(٩) التبيان ١١٤٤.

(١٠) ذكره السمين في الدر المصون ٤ / ٨١٠.

(١١) التبيان السابق.

(١٢) سقط من النسختين والأصح ما أثبت أعلى فهو الأخفش.

(١٣) معاني الأخفش ٦٩١.

(١٤) في ب من.

(١٥) نقله أبو حيان في البحر المحيط ٨ / ٣٣.

(١٦) سقط من ب.

(١٧) المعاني له ٦٩١.

٣١١

العاشر : أنه مصدر لكن بتأويل العامل فيه إلى معناه ، أي أمرنا به أمرا بسبب الإنزال ، كما قالوا ذلك في وجهي : (فِيها يُفْرَقُ) فرقا ، أو ينزل إنزالا (١).

الحادي عشر : أنه منصوب على الاختصاص ، قاله الزمخشري (٢). ولا يعني بذلك الاختصاص الاصطلاحي فإنه لا يكون نكرة.

الثاني عشر : أن يكون حالا من الضمير في «حكيم» (٣).

الثالث عشر (٤) : أن ينتصب مفعولا به بمنذرين (٥) ، كقوله : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً) [الكهف : ٢] ويكون المفعول الأول محذوفا أي منذرين الناس أمرا ، والحاصل أن انتصابه يرجع إلى أربعة أشياء : المفعول به والمفعول له ، والمصدرية ، والحالية ، وإنما التكثير بحسب المحالّ (٦). وقرأ زيد بن علي : أمر بالرفع (٧). قال الزمخشري : وهي تقوّي النصب على الاختصاص (٨).

قوله : (مِنْ عِنْدِنا) يجوز أن يتعلق «بيفرق» أي من جهتنا وهي لابتداء الغاية مجازا.

ويجوز أن تكون صفة لأمرا (٩).

قوله : (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) جواب ثالث ، أو مستأنف ، أو بدل من قوله : إنا كنا منذرين (١٠). قال ابن الخطيب : أي إنا فعلنا ذلك الإنذار لأجل أنّا كنّا مرسلين ، يعني الأنبياء(١١).

قوله : «رحمة» فيها خمسة أوجه :

الأول : المفعول له والعامل فيه : إما «أنزلناه» ، وإما «أمرا» ، وإما «يفرق» ، وإما(١٢) «منذرين».

الثاني : مصدر بفعل مقدرا ، أي رحمنا رحمة (١٣).

__________________

(١) التبيان ١١٤٤.

(٢) الكشاف ٣ / ٥٠٠.

(٣) ذكره أبو البقاء في التبيان ١١٤٤.

(٤) أتى به على الرغم من أنه أخبر أن الأوجه اثنا عشر فقط.

(٥) قاله أبو البقاء بادئا به انظر تبيانه ١١٤٤.

(٦) ولقد ذكر هذه الأوجه مجتمعة في كتابه السمين الحلبي في الدر المصون ٤ / ٨٠٩ و ٨١٠.

(٧) شواذ القرآن ٢١٩ ، والقرطبي ١٦ / ١٢٩ ، والكشاف ٣ / ٥٠١.

(٨) الكشاف المرجع السابق.

(٩) الدر المصون ٤ / ٨١٠ و ٨١١ والتبيان ١١٤٤ والكشاف ٣ / ٥٠١.

(١٠) الدر المصون السابق.

(١١) الرازي ٢٧ / ٢٤١.

(١٢) البيان ٢ / ٣٥٧ والتبيان ١١٤٤ و ١١٤٥ ، والدر المصون السابق واعراب النحاس ٤ / ٢٢٦.

(١٣) السابق وانظر السابقين عليه أيضا.

٣١٢

الثالث : مفعول بمرسلين (١).

الرابع : حال من ضمير «مرسلين» (٢) ، أي ذوي رحمة.

الخامس : أنها بدل من «أمرا» فيجيء فيها ما تقدم (٣) ، وتكثر الأوجه فيها حينئذ. و (مِنْ رَبِّكَ) يتعلق (٤)(٥) برحمة ، أو بمحذوف على أنها صفة. وفي : (مِنْ رَبِّكَ) التفات من المتكلم إلى الغيبة ولو جرى على منوال ما تقدم لقال : رحمة منّا (٦).

فصل

قال ابن عباس (رضي الله عنهم (٧)) : معنى رحمة من ربك أي رأفة مني بخلقي ، ونعمة عليهم بما بعثت (٨) إليهم من الرسل. وقال الزجاج : أنزلناه في ليلة مباركة (٩) ، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي إن تلك الرحمة كانت رحمة في الحقيقة ؛ لأن المحتاجين إما أن يذكروا حاجاتهم بألسنتهم أو لم يذكروها فإن ذكروها فهو سميع ، وإن لم يذكروها فهو تعالى عالم بها.

قول تعالى : (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قرأ الكوفيون بخفض «ربّ» والباقون برفعه(١٠). فالجر على البدل أو البيان ، أو النعت ، والرفع على إضمار مبتدأ ، أو على أنه مبتدأ خبره: (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)(١١).

فصل

المقصود من هذه الآية أن المنزّل إذا كان موصوفا بهذه الجلالة والكبرياء كان المنزّل ـ الذي هو القرآن ـ في غاية الشرف والرفعة. ثم قال : (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) قال أبو مسلم معناه : إن كنتم تطلبونه (١٢) وتريدونه فاعرفوا أن الأمر كما قلنا ؛ كقولهم : فلان منجد متهم ، أي يريد نجدا وتهامة (١٣). وقال الزمخشري : كانوا يقرون بأن (رب (١٤))

__________________

(١) إعراب القرآن السابق والبيان ٢ / ٣٥٧ ومشكل إعراب القرآن ٢ / ٢٨٨.

(٢) وهو رأي الفراء انظر المعاني ٣ / ٣٩.

(٣) رأي الأخفش نقله ابن الانباري عنه في البيان ٢ / ٣٥٧.

(٤) المرجع السابق.

(٥) في ب متعلق.

(٦) الكشاف ٣ / ٥٠١.

(٧) سقط من ب.

(٨) في ب بعثت.

(٩) فسرها الزجاج بليلة القدر قال : «وقال المفسرون : في ليلة مباركة هي ليلة القدر» معاني القرآن وإعرابه ٤ / ١٢٣.

(١٠) السبعة ٥٩٢ وإبراز المعاني ٦٨٢ ، والإتحاف ٣٨٨ ، ومعاني الفراء ٣ / ٣٩ ، والكشف ٢ / ٢٦٤.

(١١) انظر هذه التوجيهات في الكشف المرجع السابق والبيان ٢ / ٣٥٨ ، والحجة لابن خالويه ٣٢٤.

(١٢) في الرازي : تطلبون اليقين وتريدونه.

(١٣) الرازي ٢٧ / ٢٤١.

(١٤) زيادة من النسختين.

٣١٣

السماوات والأرض ربّ خالق فقيل لهم : إن إرسالنا الرسل وإنزالنا الكتب رحمة من الربّ ثم قال(١): إن هذا الرب هو السميع العليم الذي أنتم مقرون به ، ومعترفون بأنه رب السماوات والأرض وما بينهما إن كان إقراركم عن علم ويقين ، كما تقول : هذا إنعام زيد الّذي تسامع الناس بكرمه إن (٢) بلغك حديثه وسمعت بصيته (٣). والمعنى إن كنتم موقنين بقوله. (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) ، وأن إقرارهم غير صادر عن علم ويقين ولا عن حد وحقيقه بل قول مخلوط بهزء ولعب(٤).

قوله تعالى : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ) العامة على الرفع ، بدلا أو بيانا أو نعتا لرب السماوات فيمن رفعه أو على أنه مبتدأ ، والخبر : لا إله إلا هو. أو خبر بعد خبر ، لقوله : إنه هو السميع أو خبر مبتدأ مضمر عند الجميع ، أعني قراء الجر والرفع ، أو فاعل لقوله : «يميت». وفي «يحيي» ضمير يرجع إلى ما قبله أي يحيي هو أي رب السماوات ، ويميت هو ، فأوقع الظاهر موقع المضمر. ويجوز أن يكون «يحيي ويميت» من التنازع يجوز أن ينسب الرفع إلى الأول أو الثاني ، نحو : يقوم ويقعد زيد. وهذا عنى أبو البقاء بقوله : على شريطة التفسير (٥). وقرأ ابن محيصن وابن أبي إسحاق وأبو حيوة والحسن بالجر (٦) ، على البدل أو البيان أو النعت لرب السماوات ، وهذا يوجب أن يكونوا يقرأون رب السماوات بالجر. والأنطاكي (٧) بالنصب على المدح.

قوله تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ)(١٦)

قوله تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ) «يوم» منصوب بارتقب على الظرف ، ومفعول الارتقاب محذوف لدلالة ما بعده عليه ، وهو قوله : هذا عذاب أليم ، أي ارتقب

__________________

(١) في الكشاف ثم قيل بالياء.

(٢) في ب أي.

(٣) كذا في النسختين وفي الكشاف : بقصته.

(٤) الكشاف ٣ / ٥٠١.

(٥) البحر المحيط لأبي حيان ٨ / ٣٣ والتبيان ١١٤٥ والدر المصون ٤ / ٨١١.

(٦) من القراآت الأربع فوق العشر المتواترة ، الإتحاف ٣٨٨ والبحر ٨ / ٣٣ ومختصر ابن خالويه ١٣٧ وانظر في هذه القراءة مع الإعراب أيضا تفسير الجامع للقرطبي ١٦ / ١٢٩.

(٧) هو أحمد بن جبير بن أحمد أبو جعفر الكوفي نزيل أنطاكية ، أخذ عرضا وسماعا عن الكسائي وغيره وقرأ عليه محمد بن العباس بن شعبة وغيره ، مات سنة ٢٥٨ ه‍. انظر غاية النهاية ١ / ٤٢ ، ٤٣ ، وذكرها أبو حيان في البحر ٨ / ٣٤ والسمين في الدر ٤ / ٨١١.

٣١٤

وعيد الله في ذلك اليوم. ويجوز أن يكون «يوم» هو المفعول المرتقب (١).

فصل

اختلفوا في هذا الدخان ، فروى الضحاك عن مسروق قال : بينما رجل يحدّث في كندة فقال يجيء دخان يوم القيامة فيأخذ بأسماعهم وأبصارهم ويأخذ المؤمن كهيئة الزكام ، ففزعنا فأتينا ابن مسعود ، وكان متكئا فغضب فجلس فقال : من علم فليقل ومن لم يعلم فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم : لا أعلم ، فإن الله تعالى قال لنبيه : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) [ص : ٨٦].

وإن قريشا لما استعصت عن الإسلام ، فدعا عليهم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : اللهم أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف ، فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها ، وأكلوا الميتة ، والعظام ، ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان ، فجاءه أبو سفيان فقال يا محمد : جئت كافرا بصلة الرحم ، وإن قومك قد هلكوا ، فادع الله فقرأ : «فارتقب يوم تأتي السّماء بدخان مبين» إلى قوله «عابدون» وهذا قول ابن عباس ومقاتل ومجاهد (٢) واختيار الفراء (٣) والزجاج (٤) وهو قول ابن مسعود (٥) ، وكان ينكر أن يكون الدخان إلا الذي أصابهم من شدة الجوع كالظّلمة على أبصارهم حتى كانوا كأنهم يرون دخانا. وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان في هذه الحالة وجهين :

الأول : أن في سنة القحط لعظم يبس الأرض بسبب انقطاع المطر يرتفع الغبار الكثير ، ويظلم الهواء وذلك يشبه الدخان ، ويقولون : كان بيننا أمر ارتفع له دخان ولهذا يقال للسنة المجدبة الغبراء.

الثاني : أن العرب يسمون الشيء الغالب بالدخان ، والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه أظلمات عيناه ، ويرى الدنيا كالمملوءة من الدخان (٦). وقيل : إنه دخان يظهر في العالم وهو إحدى علامات القيامة ، وهذا منقول عن علي بن أبي طالب ، وعن ابن عباس في المشهور (٧) عنه لما روى عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : أوّل الآيات الدّخان ، ونزول عيسى ابن مريم ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق النّاس إلى المحشر. قال

__________________

(١) الكشاف ٣ / ٥٠١ الثاني والأول رأي السمين في الدر ٤ / ٨١١.

(٢) وانظر الكشاف ٣ / ٥٠١ و ٥٠٢ والقرطبي ١٦ / ١٣٠ و ١٣١.

(٣) معاني القرآن له ٣ / ٣٩.

(٤) معاني القرآن وإعرابه له أيضا ٤ / ٤٢٤.

(٥) القرطبي السابق.

(٦) بتصرف من كتاب غريب القرآن له ٢ / ٤٠٢.

(٧) ذكره الرازي ولم ينسبه إلى من قال به. انظر الرازي ٢٧ / ٢٤٢ والكشاف ٣ / ٥٠٢.

٣١٥

حذيفة : يا رسول الله ، وما الدخان؟ فتلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الآية به وكان يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة ، أما المؤمن فيصيبه كالزّكمة. وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه ، وأذنيه ، ودبره. ويكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه النار قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «باكروا بالأعمال» ، وذكر منها طلوع الشمس من مغربها ، والدّخان والدابة ، رواه الحسن(١).

واحتج الأولون بأن الله تعالى حكى عنهم أنهم يقولون : ربنا اكشف عنّا العذاب إنا مؤمنون. فإذا حملناه على القحط الذي وقع في مكة استقام فإنه نقل أن الأمر لما اشتد على أهل مكة مشى إليه أبو سفيان فناشده الله والرّحم وواعده إن دعا لهم وأزال الله عنهم تلك البليّة أن يؤمنوا به ، فلما أزاله الله عنهم رجعوا إلى شركهم ، أما إذا حملناه على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة لم يصح ذلك ؛ لأن عند ظهور علامات القيامة لا يمكنهم أن يقولوا : ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون ، ولم يصح أيضا أن يقال لهم : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ)(٢).

فصل (٣)

ظاهر الحال أنه دخان يغشى الناس أي يشملهم وهو في محل جر صفة ثانية أي بدخان مبين (٤) غاش وقوله : (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) في محل نصب بالقول ، وذلك القول حال أي قائلين ذلك (٥). ويجوز أن لا يكون معمولا لقول ألبتة ، بل هو مجرد إخبار (٦). قال الجرجانيّ (٧) صاحب النظم : هذا إشارة إليه ، وإخبار عن دنوّه واقترابه كما يقال : هذا العدو فاستقبله ، والغرض منه التنبيه على القرب (٨).

قوله : (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ) إن أضمرنا القول هناك (فالتقدير (٩) : يقولون هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنّا العذاب ، وإن لم يضمر القول هناك) أضمرناه ههنا ، و «العذاب» على القول الثاني الدخان المهلك (١٠)(إِنَّا مُؤْمِنُونَ) أي بمحمد وبالقرآن والمراد منه الوعد بالإيمان إن كشف عنهم العذاب.

قوله : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) يجوز أن يكون «أنى» خبرا لذكرى ، و «لهم» تبيين ،

__________________

(١) الرازي المرجع السابق.

(٢) الرازي المرجع السابق.

(٣) هذا الفصل كله ساقط من نسخة ب.

(٣) هذا الفصل كله ساقط من نسخة ب.

(٤) وتلك على الصفة الأولى.

(٥) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٥٠٢.

(٦) هذا رأي السمين في الدر المصون ٤ / ٨١٢.

(٧) أبو علي الجرجاني وقد تقدم التعريف به.

(٨) ذكره عن الرازي ٢٧ / ٢٤٣.

(٩) ما بين القوسين سقط من ب وموجود في أوالرازي.

(١٠) وعلى القول الأول هو القحط الشديد. وانظر الرازي المرجع السابق.

٣١٦

ويجوز أن يكون «أنى» منصوبا على الظرف بالاستقرار في لهم ، فإن «لهم» وقع خبرا لذكرى(١).

قوله : (وَقَدْ جاءَهُمْ) حال من «لهم» والمعنى كيف يتعظون أي من أين لهم التذكرة والاتّعاظ وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل في وجوب الطاعة ، وهو (رَسُولٌ مُبِينٌ) ظاهر الصدق يعني محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وما ظهر عليه من المعجزات ، (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ) أعرضوا عنه ، ولم يلتفتوا إليه (وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) وذلك أن كفار مكة منهم من كان يقول : إن محمدا يتعلم هذه الكلمات من بعض الناس ، ولقولهم : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) [النحل : ١٠٣] وقوله : (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) [الفرقان : ٤] ومنهم من كان يقول : إنه مجنون ، والجن يلقون عليه هذه الكلمات حال ما يعرض له الغشي (٢). وقرأ زيد بن علي معلم بكسر اللام (٣) قوله : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً) أي عذاب الجوع : «قليلا» نعت لزمان ، أو المصدر محذوف(٤) أي كشفوا قليلا ، أو زمانا قليلا ، يعني يسيرا (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) أي كما نكشف العذاب عنكم تعودون في الحال إلى ما كنتم عليه من الشرك (٥).

قوله : (يَوْمَ نَبْطِشُ) قيل : هو بدل من (يَوْمَ تَأْتِي). وقيل : منصوب بإضمار اذكر. وقيل : ب «منتقمون». وقيل : بما دل عليه : «منتقمون» وهو ينتقم (٦). وردّ هذان بأن ما بعد «لا» لا يعمل فيما قبلها ، ولأنه لا يفسر إلا ما يصحّ أن يعمل (٧). وقرأ العامة بفتح نون «نبطش» وكسر الطاء أي نبطش بهم. وقرأ الحسن وأبو جعفر بضم الطاء وهي لغة في مضارع «بطش» (٨). والحسن أيضا ، وأبو رجاء وطلحة بضم النون وكسر الطاء (٩). وهو منقول من «أبطش» أي نبطش بهم الملائكة والبطشة على هذا يجوز أن تكون منصوبة بنبطش على حذف الزائد. نحو : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً)(١٠) [نوح : ١٧] وأن تنتصب

__________________

(١) التبيان ١١٤٥.

(٢) انظر الرازي ٢٧ / ٢٤٣ و ٢٤٤.

(٣) ذكر ذلك السمين في الدر المصون ٤ / ٨٠٢ بينما نسبها أبو حيان في البحر المحيط إلى زرّ بن حبيش انظر البحر ٨ / ٣٤.

(٤) كان من الأولى أن يعبر : نعت لزمان أو لمصدر محذوفين أي زمانا قليلا أو كشفا قليلا.

(٥) قاله الرازي في مرجعه السابق.

(٦) انظر التبيان ١١٤٦ والبيان ٢ / ٣٥٨.

(٧) قاله الزمخشري قال : «ولا يصح أن ينتصب بمنتقمون لأن أن تحجب عن ذلك» الكشاف ٢ / ٥٠٢.

(٨) مختصر ابن خالويه ١٣٧ وروي عنه أيضا : يبطش بالياء مبنيّا للمجهول.

(٩) الكشاف ٣ / ٥٠٢ وقد ذكر أيضا الكشاف القراءة السابقة وانظر تلك القراءة أيضا في المحتسب ٢ / ٢٦٠.

(١٠) فنباتا منصوب بأنبتكم وكان القياس : إنباتا لأنه مصدر فعل رباعي ولما كان نبت وأنبت واحدا جاز ، هذا قول وذهب آخرون إلى أنّ هذا المصدر منصوب بفعل محذوف وهو مذهب سيبويه ، والأول مذهب المبرد والسّيرافي انظر شرح المفصل لابن يعيش ١ / ١١٢.

٣١٧

بفعل مقدر أي نبطش بهم الملائكة ، فيبطشون البطشة (١). والبطش الأخذ بالشدة وأكثر ما يكون بوقع الضرب المتتابع ثم صار بحيث يشتمل في اتصال الآلام المتتابعة (٢).

فصل

في المراد بهذا اليوم قولان :

الأول : أنه يوم بدر ، وهو قول ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، ومقاتل ، وأبي العالية (وذلك) (٣) أن كفار مكة لما أزال الله تعالى عنهم القحط والجوع عادوا إلى التكذيب ، فانتقم الله منهم يوم بدر.

الثاني : أنه يوم القيامة. قال ابن الخطيب : وهذا القول أصح ؛ لأن يوم بدر ، لا يبلغ هذا المبلغ الذي يوصف بهذا الوصف العظيم ، ولأن الانتقام التام إنما يحصل يوم القيامة ، لقوله تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ)) (٤) [غافر : ١٧].

قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ)(٣٣)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ ...) لما بين أن كفار مكة يصرّون على كفرهم بين أن كثيرا من المتقدمين أيضا كانوا كذلك ، وبين حصول هذه الصفة في أكثر قوم فرعون.

قوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا) بالتشديد على المبالغة ، أو التكثير لكثرة (٥) متعلّقه (٦). (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ) يحتمل الاستئناف والحال (٧).

__________________

(١) مفهوم كلام أبي الفتح في المحتسب ٢ / ٢٦٠ والدر ٤ / ٨١٢.

(٢) اللسان بطش.

(٣) زيادة للسياق.

(٤) وهذا الفصل كله سقط من نسخة ب وانظره في الرازي ٢٧ / ٢٤٤ والقرطبي ١٦ / ١٣٤.

(٥) في ب كثرة بدون لام.

(٦) البحر المحيط ٨ / ٣٥. والكشاف ٣ / ٥٠٢.

(٧) قاله في الدر المصون ٤ / ٨١٣.

٣١٨

فصل

قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما (١)) ـ : ابتلينا (٢). وقال الزجاج : بلونا (٣) والمعنى : عاملناهم معاملة المختبر ببعث الرسول إليهم (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) أي موسى بن عمران.

قال الكلبي : كريم على ربه بمعنى أنه استحق على ربه أنواعا كثيرة من الإكرام.

قوله تعالى : (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) يجوز أن تكون المفسرة ، لتقدم ما هو بمعنى القول ، وأن تكون المخففة (٤) ، ومعناه (٥) : وجاءهم بأنّ الشأن والحديث : أدّوا إلي عباد الله ، وأن تكون الناصبة للمضارع وهي توصل بالأمر وفي جعلها مخففة إشكال تقدم ، وهو أن الخبر في هذا الباب لا يقع طلبا وعلى جعلها مصدرية تكون على حذف حرف الجر ، أي جاءهم بأن أدّوا و (عِبادَ اللهِ) يحتمل أن يكون مفعولا به وذلك أنه طلب منهم أن يؤدوا إليه بني إسرائيل ، بدليل قوله : (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) [الأعراف : ١٠٥] وأن يكون منادى ، والمفعول محذوف أي أعطوني الطاعة يا عباد الله (٦). وعلل بأنه رسول أمين قد ائتمنه الله على وحيه ورسالته.

قوله : (وَأَنْ لا تَعْلُوا) عطف على «أن» الأولى (٧) ، والمعنى لا تتكبّروا على الله بإهانة وحيه ورسوله (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) بحجة بينة يعرف بصحتها كلّ عاقل.

والعامة على كسر الهمزة من قوله (إِنِّي آتِيكُمْ) على الاستئناف. وقرىء (٨) بالفتح (٩) على تقدير اللام أي وأن لا تعلوا لأنّي آتيكم.

قوله : (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) وقوله : (إِنِّي عُذْتُ) مستأنف. وأدغم الذال في التاء أبو عمرو والأخوان (١٠). وقد مضى توجيهه في «طه» عند قوله : «فنبذتها» (١١).

فصل (١٢)

قيل : إنه لما قال : (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ ...) توعدوه بالقتل ، فقال : وإني

__________________

(١) زيادة من ب.

(٢) الرازي ٢٧ / ٢٤٥.

(٣) لم أجده في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٢٤ بل نقله عنه الرازي.

(٤) انظر البيان ٢ / ٣٥٨ والكشاف ٣ / ٥٠٢ و ٥٠٣.

(٥) في ب معناها بالتأنيث.

(٦) انظر في هذه التوجيهات الإعرابية الدر المصون ٤ / ٨١٣.

(٧) السابق.

(٨) في ب وقرأ مبنيّا للمعلوم.

(٩) بدون نسبة في البحر المحيط ٨ / ٣٥ وكذلك المرجع السابق.

(١٠) الإتحاف ٣٨٨.

(١١) من الآية ٩٧ منها. وانظر المرجع السابق.

(١٢) هذا الفصل بأكمله هو الآخر سقط من نسخة ب.

٣١٩

عذت بربي وربكم أن ترجمون أي تقتلوني ، وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن ترجموني بالقول وهو الشتم وتقولوا : هو ساحر. وقال قتادة : «ترجموني بالحجارة». وإن لم تؤمنوا لي أي تصدقوني ولم تؤمنوا بالله ، لأجل ما آتيتكم به من الحجة ، فاللام في «لي» لام الأجل «فاعتزلون» أي اتركوني ، لا معي ، ولا عليّ. وقال ابن عباس (رضي الله عنهما) : فاعتزلوا أذاي باليد واللسان (١).

قوله : «فدعا ربّه» الفاء في «فدعا» تدل على أنه متصل بمحذوف قبله ، وتأويله أنّهم كفروا ولم يؤمنوا فدعا موسى ربه بأن هؤلاء قوم مجرمون.

فإن قيل : الكفر أعظم حالا من الجرم فما السبب في أن جعل الكفار مجرمين حال ما أراد المبالغة في ذمهم؟.

فالجواب : أن الكافر قد يكون عدلا في دينه (وقد يكون (٢) فاسقا في دينه) والفاسق في دينه أخسّ الناس (٣).

قوله : «أنّ هؤلاء» العامة على الفتح ، بإضمار حرف الجر ، أي دعاه بأنّ هؤلاء. وابن أبي إسحاق وعيسى ، والحسن ، بالكسر (٤) ، على إضمار القول عند البصريين وعلى إجراء «دعى» مجرى القول عند الكوفيين (٥).

قوله : (فَأَسْرِ بِعِبادِي) قد تقدم قراءتا الوصل والقطع (٦). وقال الزمخشري فيه وجهان: إضمار القول بعد الفاء. أي فقال : أسر بعبادي ، أو جواب شرط مقدر كأنه قال : إن الأمر كما تقول فأسر بعبادي (٧). قال أبو حيان : وكثيرا ما يدعي حذف الشرط ، ولا يجوز إلا لدليل واضح كأن يتقدمه الأمر وما أشبهه (٨).

فصل

يقال : سرى ، وأسرى لغتان (٩) ، لما قال موسى : إنّ هؤلاء قوم مجرمون أجاب الله

__________________

(١) انظر في هذا الرازي ٢٧ / ٢٤٥ والقرطبي ١٦ / ١٣٥.

(٢) ما بين القوسين سقط من أالأصل فهو تكملة من ب والرازي على حدّ.

(٣) انظر تفسير الرازي ٢٧ / ٢٤٦.

(٤) مختصر ابن خالويه ١٣٧ وهي شاذة غير متواترة.

(٥) ذكر ذلك الفراء في معاني القرآن ٣ / ٤٠ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٥٠٣.

(٦) قراءة الوصل تنسب لنافع وابن كثير وأبي جعفر والقطع قراءة الباقين وعلى القراءتين يختلف ماضيا الفعلين ثلاثيا ورباعيا أيضا فالماضي سرى وأسرى.

(٧) الكشاف ٣ / ٥٠٣.

(٨) البحر المحيط ٨ / ٣٥ قال : في الكلام حذف أي فانتقم منهم فقال الله تعالى : «أسر بِعِبادِي».

(٩) بالهمزة لغة أهل الحجاز وجاء القرآن بهما جميعا والاسم من «سرى» السّرية والسّرى ، قال القرآن : ـ

٣٢٠