اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٨٤

فأما الكسر فهو صفة على «فعل» وفعله : «فعل» بكسر العين أيضا كفعله (١) ؛ يقال : نحس فهو نحس ، كفرح ، فهو فرح ، وأشر فهو أشر ، ومعناه نكدات مشئومات ذات نحوس (٢).

وأمال اللّيث (٣) عن الكسائيّ ألفه لأجل الكسرة (٤) ، ولكنه غير مشهور عنه حتى نسبه الدّانيّ للوهم وأما قراءة الإسكان فتحتمل ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون مخفف من «فعل» في القراءة المتقدمة وفيه توافق القراءتين.

الثاني : أنه مصدر وصف به كرجل عدل (٥) ، إلا أنّ هذا يضعفه الجمع ، فإن الفصيح في المصدر الموصوف (به) (٦) أن يوحّد وكأنّ المسوّغ للجمع اختلاف أنواعه في الأصل.

الثالث : أنه صفة مستقلة على «فعل» بسكون العين ولكن أهل التصريف لم يذكروا في الصفة الجائية من «فعل» بكسر العين إلا أوزانا محصورة ليس فيها «فعل» بالسكون فذكروا : فرح فهو فرح وحور فهو أحور ، وشبع فهو شبعان ، وسلم فهو سالم ، وبلي فهو بال (٧). وفي معنى «نحسات» قولان :

أحدهما : أنها من الشّؤم ، قال السدي أي مشائيم من النحس المعروف.

والثاني : أنها من شدة البرد (٨) وأنشدوا على الأول قول الشاعر :

٤٣٦٠ ـ يومين غيمين ويوما نحسا(٩)

نجمين سعدين ونجما نحسا (١٠)

__________________

(١) كذا في أوفي ب كفعلة بتاء التأنيث ، وكلاهما خطأ والمقصود كاسمه أو وصفه.

(٢) قاله الإمام البغوي في معالم التنزيل ٦ / ١٠٨.

(٣) هو الليث بن خالد أبو الحارث البغدادي ، ثقة ، معروف حاذق ضابط ، عرض على الكسائيّ ، وهو من جملة أصحابه ، وروى الحروف عن حمزة بن القاسم الأحول ، وعن اليزيدي وروى القراءة عنه عرضا وسماعا سلمة بن عاصم صاحب الفراء وغيره ، انظر غاية النهاية ٢ / ٣٤.

(٤) في ب للكسر بالتذكير وانظر إبراز المعاني ٦٧٤.

(٥) في الكشاف : قريء بكسر الحاء وسكونها ونحس نحسا نقيض سعد سعدا ، وهو نحس وأما نحس فهو مخفف نحس أو صفة على فعل كضخم وشبهه الكشاف ٣ / ٤٤٩ ، الدر المصون ٤ / ٧٢٦.

(٦) زيادة لا بد منها حتى يتأتى المعنى المؤدي إليه.

(٧) انظر في هذا الدر المصون لشهاب الدين السمين ٤ / ٧٢٦ و ٧٢٧ وبالمعنى من كلام البحر المحيط لأبي حيان ٧ / ٤٩٠ قال : وتتبعت ما ذكره التصريفيون مما جاء صفة من فعل اللازم ، فلم يذكروا فيه «فعلا» بسكون العين قالوا يأتي على أفعل كحور فهو أحور ، وعلى فعلان كشبع فهو شبعان ، وقد يجيء على فاعل كسلم فهو سالم وبلي فهو بال.

(٨) انظر البحر المحيط ٧ / ٤٩١ والبغوي ٦ / ١٠٨ ، والقرطبي ١٥ / ٣٤٨.

(٩) الأصح شمسا وهذه الرواية التي نراها أعلى رواية أ.

(١٠) من الرجز ولم أعرف قائله ، ويروى عجزه :

نجمين بالسعد ونجما نحسا

١٢١

وعلى المعنى الثاني :

٤٣٦١ ـ كأنّ سلافة عرضت لنحس

يحيل شفيفها الماء الزّلالا (١)

ومنه :

٤٣٦٢ ـ قد أغتدي قبل طلوع الشّمس

للصّيد في يوم قليل النّحس (٢)

وقيل : يريد به في هذا البيت الغبار ، أي قليل الغبار. وقد قيل بذلك في الآية إنها ذات غبار. و «نحسات» نعت لأيّام ، والجمع بالألف والتاء مطّرد في صفة ما لا يعقل كأيّام معدودات (٣) كما تقدم تحقيقه في البقرة (اللهمّ يسّر) (٤).

فصل

الصّرصر : العاصفة التي تصرصر في هبوبها. روي عن عبد الله بن عبّاس (٥) ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال : الرّياح ثمان ، أربع منها عذاب وهي العاصف ، والصرصر ، والعقيم ، والعاصفة ، وأربع منها رحمة ، وهي : الناشرات ، والمبشّرات ، والمرسلات ، والذّاريات. وعن ابن عباس (٦) رضي الله عنهما : أن الله تعالى ما أرسل على عباده من الريح إلا قدر خاتمي. قال الضحاك : أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين ، وتوالت الرياح عليهم من غير مطر (٧).

فصل

استدلّ الأحكاميّون من المنجّمين بهذه الآية على أن بعض الأيام يكون نحسا وبعضها سعدا وأجاب المتكلمون بأن المراد بهذه النحسات أي ذات غبار وتراب ثائر ، لا يكاد يبصر فيه ولا يتصرّف فيه ، وقالوا أيضا : معنى كون هذه الأيام نحسات أن الله أهلكهم فيها. وأجاب الأحكاميون بأن الأحكام (٨) في وضع اللغة هي المشئومات لأن

__________________

ـ وهو في التفاؤل والتشاؤم بالنجوم على العادة العربية القديمة. والشاهد : استعمال النحس ضد السعد صفة على فعل بإسكان العين. وانظر المذكر والمؤنث لابن الأنباري ٣٠١ والدر المصون ٤ / ٧٣٧ ومعاني الفراء ٢ / ٧٣.

(١) من الوافر لابن أحمر ، ويحيل : يصب الماء في الحلق ، وهو يصف خمرا بأنها تعرضت لبرد. والشاهد باستعمال نحس بمعنى البرد الشديد ، وانظر اللسان «نحس» ٤٣٦٧ ، والبحر المحيط ٧ / ٤٩١ ، والدر المصون ٤ / ٧٢٧ والطبري ٢٤ / ٦٧.

(٢) شاهده في النحس الذي هو بمعنى الغبار ، وهو من الرجز مجهول قائله ، انظر البحر المحيط ٧ / ٤٩١ والنوادر لأبي زيد ٣٤٥ ، والدر المصون ٤ / ٧٢٧ ولسان العرب «نحس» ٤٣٦٧.

(٣) من البقرة ٢٠٣ وانظر اللباب ميكروفيلم.

(٤) زيادة من أالأصل.

(٥) روى الرازي أنه حديث لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس لابن عبّاس.

(٦) الرازي ٢٧ / ١١٢.

(٧) معالم التنزيل للبغوي ٦ / ١٠٨.

(٨) الأصح كما في ب والرازي النحسات لا الأحكام.

١٢٢

النحس مقابلة السعد ، والهواء الكدر يقابله (١) الصافي. وأيضا فإنه تعالى أخبر عن إيقاع ذلك العذاب في تلك الأيام النحسات ، فوجب أن (٢) كون تلك الأيام نحسة مغايرا لذلك العذاب الذي وقع فيها.

قوله : (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي عذاب الهوان والذل مقابل لذلك الاستكبار (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى) أشد إهانة (وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) أي لا يكون لهم ناصر يدفع عنهم ذلك الخزي (٣).

قوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ) الجمهور على رفعه ، ممنوع الصرف. والأعمش وابن وثّاب مصروفا (٤) ، وكذلك كل ما في القرآن (٥) إلا قوله : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ) [الإسراء : ٥٩] ، قالوا لأن الرسم ثمود بغير ألف. وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق والأعمش ـ في رواية ـ ثمودا منصوبا مصروفا (٦). والحسن وابن هرمز وعاصم أيضا منصوبا غير منصرف (٧).

فأما الصرف وعدمه فقد تقدم توجيههما في «هود» (٨). وأما الرفع فعلى الابتداء والجملة بعده الخبر ، وهو متعيّن عند الجمهور (٩) لأن «أمّا» لا يليها إلا المبتدأ ، فلا يجوز فيما بعدها الاشتغال إلا في قليل كهذه القراءة (١٠) ، وإذا قدرت الفعل الناصب فقدّره بعد

__________________

(١) في ب مقابلة.

(٢) في الرازي فوجب أن يكون كون تلك الأيام نحسة مغايرا لذلك العذاب .. الخ وانظر الرازي المرجع السابق.

(٣) قاله الرازي بتغيير طفيف في العبارة في تفسيره ٢٧ / ١١٣.

(٤) من القراءات الأربع فوق العشر المتواترة ذكرها صاحب الإتحاف ٣٨٠ وانظر أيضا معاني القرآن للفراء ٣ / ١٤ ، ومختصر ابن خالويه ١٣٣ ، والبحر المحيط ٧ / ٤٩١ ، والكشاف ٣ / ٤٤٩ وبدون نسبة الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٨٣ وهي من الشواذ.

(٥) من لفظ ثمود.

(٦) لم تعز في الكشاف ٣ / ٤٤٩ ونسبها أبو حيان في البحر ٧ / ٤٩١ إلى عاصم وما هو أعلى موافق لما في الدر المصون ٤ / ٨٢٨.

(٧) ذكرها في الشواذ ابن خالويه في المختصر ١٣٣ بالإضافة إلى الكشاف المرجع السابق ولم أجدها في المتواتر عن عاصم.

(٨) عند الآية ٦٨ منها : «أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ» وكذلك الآيات ٦١ و ٩٥ منها أيضا ومفاد ما ذكر : أن هود لا يجوز صرفه لأنه مطلق على قبيلة فيكون ممنوعا للعلمية والتأنيث ، ويجوز أن يصرف لأنه على ثلاثة أحرف علم أعجمي أوسطه ساكن كنوح.

(٩) قال الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٨٣ : والاختيار رفع ثمود على الابتداء والخبر ، وهذا مذهب جميع النحويين اختيار الرفع ، وكلهم يجيز النصب وقال الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٤٩ : «والرفع أفصح لوقوعه بعد حرف الابتداء» بينما قال سيبويه في الكتاب : «لأن أما وإذا من حروف الابتداء ، يصرفان الكلام إلى الابتداء» الكتاب ١ / ٩٥. ففهم من كلام سيبويه تعيين رفع ما بعد «أما» بخلاف قولي الزجاج والزمخشري السابقين.

(١٠) وهو الموافق أيضا لما في الكتاب قال : إلا أن يوقع بعدها فعل ، نحو : «أمّا زيدا فضربت» الكتاب المرجع السابق ، وكهذه الآية التي معنا.

١٢٣

الاسم المنصوب أي وأما ثمود هديناهم فهديناهم. قالوا : لأنها لا يليها الأفعال (١).

فصل

قال الزمخشري : وقرىء : بضم الثّاء (٢). قال مجاهد : هديناهم : دعوناهم. وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : بيّنّا لهم سبيل الهدى ، وقيل : دللناهم على طرق الخير والشر ، كقوله (هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) [الإنسان : ٣] (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) أي فاختاروا الكفر على الإيمان.

وذكر الزمخشري في تفسير الهدى في قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] : أن الهدى عبارة عن الدلالة الموصلة إلى البغية (٣) ، وهذه الآية تبطل قوله لأنها تدل على أن الهدى قد حصل مع أن الإفضاء إلى البغية لم يحصل (٤). (انتهى) (٥).

فصل

قالت المعتزلة : دلت هذه الآية على أن الله تعالى ينصب الدلائل ويزيح الأعذار إلا أن الإيمان إنما يحصل من العبد ، لأن قوله تعالى : «فهديناهم» يدل على أنه تعالى نصب لهم الدلائل ، وقوله (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) يدل على أنهم من عند أنفسهم أتوا بذلك العمى ، وهذا يدل على أن الكفر والإيمان يحصلان من العبد.

والجواب من وجهين :

الأول : أنه إنما صدر عنهم ذلك العمى لأنهم أحبوا تحصيله ، فلما وقع في قلوبهم هذه المحبة دون محبة ضده ، فإن حصل هذا الترجيح لا لمرجّح فهو باطل وإن كان لمرجّح فإن كان المرجّح هو العبد عاد الطلب ، وإن كان المرجح هو الله فقد حصل المطلوب.

الثاني : أنه تعالى قال : (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) ومن المعلوم بالضرورة أن أحدا لا يحب العمى والجهل مع العلم بكونه (٦) عمى وجهلا بل ما يظنّ (٧) في ذلك العمى والجهل بكونه (٨) تبصرة وعلما مما يرغب فيه فإقدامه على اختياره (٩) على ذلك الجهل الثاني إن كان باختياره لزم التسلسل وهو محال ، فلا بد من انتهاء تلك الجهالات إلى

__________________

(١) انظر هذا بتفصيل في المغني ٥٨ قال : ويجب تقدير العامل بعد الفاء وقبل ما دخلت عليه لأن «أمّا» نائبة عن الفعل ، فكأنها فعل ، والفعل لا يلي الفعل.

(٢) الكشاف ٣ / ٤٤٩.

(٣) الكشاف ١ / ١١٦.

(٤) الرازي ٢٧ / ١١٣.

(٥) زيادة من ب.

(٦) كذا في الرازي وفي النسختين : لكونه باللام.

(٧) في الرازي ما لم يظن.

(٨) في ب والرازي : كونه دون الباء.

(٩) في الرازي : فإقدامه على اختيار ذلك الجهل.

١٢٤

جهل يحصل فيه لا باختياره وهو المطلوب (١).

قول : (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) وصاعقة العذاب أي المهلكة والعذاب الهون أي ذي الهون ، أي الهوان وهو الذي يهينهم (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من شركهم وتكذيبهم صالحا.

ثم قال : (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) يعني يتقون الأعمال التي كانوا يأتون بها عاد وثمود.

فإن قيل : كيف يجوز للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن ينذر قومه مثل صاعقة عاد وثمود مع العلم بأن ذلك لا يقع في أمة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد صرح الله تعالى بذلك في قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣] وجاء في الحديث الصحيح أن الله رفع عن هذه الأمة أنواع العذاب؟!.

فالجواب : أنهم لما عرفوا كونهم مشاركين لعاد وثمود في استحقاق مثل تلك الصاعقة وأن السبب الموجب للعذاب واحد ربما يكون العذاب النازل بهم من جنس ذلك وإن كان أقل درجة ، وهذا القدر يكفي في التخويف (٢).

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ) الآية لما بين كيفية عقوبة أولئك الكفار في الدنيا أردفه ببيان كيفية عقوبتهم في الآخرة ليحصل تمام الاعتبار في الزجر والتحذير ، فقال (وَيَوْمَ يُحْشَرُ). في العامل في هذا الظرف وجهان :

أحدهما : محذوف دل عليه ما بعده من قوله (فَهُمْ يُوزَعُونَ) تقديره : يساق (٣) الناس يوم يحشر (٤) وقدره أبو البقاء يمنعون يوم يحشر (٥).

الثاني : أنه منصوب باذكر ، أي اذكر يوم (٦). وقرأ نافع «نحشر» بنون العظمة وضم الشين «أعداء» نصبا أي نحشر نحن ، والباقون بياء الغيبة مضمومة والشين مفتوحة على ما لم يسم فاعله و «أعداء» رفعا لقيامه مقام الفاعل (٧).

ووجه الأول أنه معطوف على «ونجّينا» فيحسن أن يكون على وفقه في اللفظ (يقويه) (٨) وقوله (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ) [مريم : ٨٥] ، (وَحَشَرْناهُمْ) [الكهف : ٤٧].

وحجة الثانية : أن قصة ثمود قد تمت وقوله : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ) ابتداء كلام آخر وأيضا

__________________

(١) انظر الرازي ٢٧ / ١١٣ و ١١٤.

(٢) الرازي المرجع السابق.

(٣) في ب ليساق.

(٤) بتوضيح لكلام أبي البقاء من الدر المصون للسمين ٤ / ٧٢٨.

(٥) انظر التبيان له ١١٢٥.

(٦) السمين السابق.

(٧) من القراءة المتواترة ، ذكرها صاحب الإتحاف ٣٨١ وصاحب السبعة ٥٧٦ وصاحب النشر ٢ / ٣٦٦ وابن خالويه في الحجة ٣١٧ وانظر الكشف لمكي ٢ / ٢٤٨.

(٨) ما بين القوسين زيادة من الرازي ولاستقامة الكلام فهي ساقطة من النسختين.

١٢٥

الحاشرون لهم هم المأمورون بقوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الصافات : ٢٢] وهم الملائكة ، وأيضا موافقة لقوله : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) وأيضا فتقدير القراءة الأولى ، أن الله تعالى قال : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ) فكان الأولى على هذا التقدير أن يقال : ويوم نحشر أعداءنا إلى النار. وكسر الأعرج شين «يحشر». ثم قال : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي يساقون ، ويدفعون إلى النار (١). وقال قتادة والسدي : يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا (٢). أي (٣) يوقف سوابقهم حتى يصل إليهم تواليهم.

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٢٣)

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا ما جاؤُها) «حتى» غاية ليحشر والمعنى حتى إذا جاءوا النار فيكون «ما» صلة (٤). وقيل : فيها فائدة زائدة وهي تأكيد أن عند مجيئهم لا بد وأن تحصل هذه الشهادة كقوله تعالى : (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) [يونس : ٥١] أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به (٥).

فصل

في كيفية تلك الشهادة ثلاثة أقوال :

الأول : أن الله تعالى يخلق الفهم والقدرة والنطق فتشهد كما يشهد الرجل على ما يعرفه.

والثاني : أنه تعالى يخلق في تلك الأعضاء الأصوات والحروف الدالة على تلك المعاني (٦).

الثالث : أن يظهر في تلك الأعضاء أحوال تدل على صدور تلك الأعمال من ذلك الإنسان وتلك الأمارات تسمى شهادات كما يقال : يشهد هذا العالم بتغيرات (٧) أحواله على حدوثه.

__________________

(١) قال بهذه التوجيهات بالإضافة لمراجع القراءات السابقة الرازي في التفسير الكبير ٢٧ / ١١٥.

(٢) البغوي ٦ / ١٠٩.

(٣) هذا التفسير قاله الرازي في مرجعه السابق.

(٤) أي زائدة.

(٥) نقله الرازي في التفسير الكبير ٢٧ / ١١٥ ، بالمعنى من كشاف الزمخشري ٣ / ٤٥٠.

(٦) قال الرازي : كما خلق الكلام في الشجرة.

(٧) في ب بتغييرات بمد الياء.

١٢٦

فصل

قال ابن الخطيب : والسبب في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر أن الحواسّ الخمس وهي السمع والبصر ، والشّمّ والذّوق واللمس ، وآلة اللمس هي الجلد ، فالله تعالى ذكر هاهنا ثلاثة أنواع من الحواس وهي السمع والبصر واللمس ، وأهمل ذكر نوعين ، وهما : الذوق والشم ، فالذوق داخل في اللّمس من بعض الوجوه ؛ لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان مماسّة لجرم (الطعام وكذلك الشم لا يتأتى حتى تصير جلدة الحنك مماسة لجرم) المشموم فكانا داخلين في جنس (١) اللّمس. وإذا عرف هذا فنقول : نقل عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال : المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج ، وهذا من باب الكنايات ، كما قال : (لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) [البقرة : ٢٣٥] وأراد النكاح وقال : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) [النساء : ٤٣] والمراد قضاء الحاجة ، وقال عليه الصلاة والسلام : «أوّل ما يتكلّم من الآدميّ فخذه وكفّه» (٢) وعلى هذا التقدير فتكون هذه الآية وعيدا شديدا في إتيان الزنا ؛ لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالفخذ. وقال مقاتل : تنطق جوارحهم بما كتمته الأنفس (٣) من عملهم.

قوله : (وَقالُوا) يعني الكفار الذين يحشرون إلى النار (لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) هذا من جواب الجلود ، ومعناه أن القادر على خلقكم وإنطاقكم في المرة الأولى حال كونكم في الدنيا ثم (على) (٤) خلقكم وإنطاقكم (٥) في المرة الثانية وهي حال القيامة والبعث كيف يستبعد منه إنطاق الجوارح والأعضاء (٦)؟!

قوله تعالى : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) أي تستخفون عند الإقدام على الأعمال القبيحة.

وقال مجاهد تتقون ، وقال قتادة : تظنون (٧). قوله (أَنْ يَشْهَدَ) يجوز فيه أوجه :

أحدها : من أن يشهد (٨).

الثاني : خيفة أن يشهد.

الثالث : لأجل أن يشهد وكلاهما بمعنى المفعول له (٩).

__________________

(١) في ب حيز وانظر الرازي بالمعنى ٢٧ / ١١٦ وما بين القوسين سقط من ب بسبب انتقال النظر.

(٢) انظر الرازي ٢٧ / ١١٧.

(٣) في البغوي : الألسن وكذلك الخازن وانظر البغوي والخازن ٦ / ١٠٩.

(٤) سقط من ب.

(٥) في ب وأنطقكم بالفعلية.

(٦) هذا قول الرازي في تفسيره المرجع السابق.

(٧) البغوي السابق والقرطبي ١٥ / ٣٥٢.

(٨) قاله العكبري في التبيان ١١٢٥ قال : لأن «تستتر» لا يتعدى بنفسه.

(٩) البحر المحيط ٧ / ٤٩٣ ، البغوي ٤ / ٧٢٩.

١٢٧

الرابع : عن أن يشهد أي ما كنتم تمتنعون (١) ولا يمكنكم الاختفاء عن أعضائكم والاستتار عنها.

الخامس : أنه ضمن معنى الظن (٢) وفيه بعد.

فصل

معنى الكلام أنهم كانوا يستترون عند الإقدام على الأعمال القبيحة ؛ لأن استتارهم ما كان لأجل قولهم من أن يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم لأنهم كانوا منكرين للبعث والقيامة ، وذلك الاستتار لأجل أنهم كانوا يظنون أن الله لا يعلم الأعمال التي يخفونها. روي عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : كنت مستترا بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر ثقفيان وقرشيّ أو قرشيان وثقفي كثير شحم بطونهم ، قليل فقه قلوبهم ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر : يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا ، وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا سمع إذا أخفينا. فذكرت ذلك لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأنزل الله (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ ...) الآية (٣). قيل: الثقفي عبد (٤) ياليل وختناه القرشيان ربيعة وصفوان بن أمية.

قوله : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ) فيه أوجه :

أحدها : أن «ذلكم» رفع بالابتداء و «ظنكم» خبره و (الَّذِي ظَنَنْتُمْ) نعته «وأرداكم» حال و «قد» معه مقدرة (٥) على رأي الجمهور خلافا للأخفش (٦) ، ومنع مكي الحالية للخلو من «قد» (٧) وهو ممنوع لما تقدم.

__________________

(١) هذا رأي ابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٣٩.

(٢) نقله السمين في الدر المصون ٤ / ٧٢٩ نقلا عن أبي حيان في بحره فقد قال في البحر : «وعبر قتادة عن تستترون بتظنون أي وما كنتم تظنون أن يشهدوا» المرجع السابق ٧ / ٤٩٣.

(٣) ذكره السيوطي في أسباب النزول ٢ / ١٤٩ وانظر أيضا معالم التنزيل للبغوي ٦ / ١٠٩ ولباب التأويل للإمام الخازن ٦ / ١٠٩ أيضا.

(٤) هو عبد بن ياليل بن ناشب بن غيرة الليثي من بني سعد بن ليث شهد بدرا وتوفي في آخر خلافة عمر وكان شيخا كبيرا انظر أسد الغابة ٣ / ٣٣٤.

(٥) ذكر هذا الإعراب أبو البقاء العكبري في التبيان ١١٢٥.

(٦) مع الكوفيين فإنهم لن يشترطوا وجود «قد» مع الفعل الماضي الواقع حالا فحجتهم أن كل ما جاز أن يقع صفة للنكرة ، نحو مررت برجل قاعد جاز أن يكون حالا من المعرفة مثل : مررت بالرجل قاعدا والفعل الماضي يقع وصفا للنكرة نحو : مررت برجل قعد فينبغي أن يقع حالا للمعرفة نحو : مررت بالرجل قعد. وقد ذكر هذه القضية ابن الأنباري في الإنصاف المسألة رقم ٣٢ (٢٥٢ و ٢٥٨) وانظر أيضا الهمع ١ / ٢٤٧ ، ورأي الأخفش قد وافق عليه أبو حيان من المتأخرين قال في الهمع : قال أبو حيان : والصحيح جواز وقوع الماضي حالا بدون قد ولا يحتاج إلى تقدير.

(٧) قال في المشكل ٢ / ٢٧٢ وقال الفراء «أرداكم» حال والماضي لا يحسن أن يكون حالا عند البصريين إلا على إضمار «قد».

١٢٨

والثاني : أن يكون «ظنّكم» بدلا ، والموصول خبره ، و «أرداكم» حال أيضا.

الثالث : أن يكون الموصول خبرا ثانيا.

الرابع : أن يكون «ظنكم» بدلا أو بيانا ، والموصول هو الخبر ، و «أرداكم» خبر ثان(١).

الخامس : أن يكون ظنكم والموصول والجملة من «أرداكم» أخبارا (٢) إلا أن أبا حيان ردّ على الزمخشري قوله : «وظنّكم وأرداكم» خبران قال : لأن قوله : «وذلكم» إشارة إلى ظنهم السابق فيصير التقدير : وظنكم بربكم أنه لا يعلم ظنكم بربكم (٣) فاستفيد من الخبر ما استفيد من المبتدأ وهو لا يجوز وهذا نظير ما منعه النحاة من قولك : سيّد الجارية مالكها.

وقد منع ابن عطية كون «أرداكم» حالا ، لعدم وجود «قد» (٤). وتقدّم الخلاف في ذلك.

فصل

قال المفسرون : وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أي ظنكم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون أرداكم أهلككم. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : طرحكم في النار (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٥) وهذا نص صريح في أن من ظن أنه يخرج شيء من المعلومات عن علم الله فإنه يكون من الهالكين الخاسرين (٦).

قال المحققون : الظن قسمان :

أحدهما : حسن ، والآخر : فاسد. فالحسن أن يظن بالله عزوجل الرحمة والفضل والإحسان ، قال عليه الصلاة والسلام حكاية عن الله عزوجل : «أنا عند ظنّ عبدي بي» (٧). وقال عليه الصلاة والسلام : «لا يموتنّ أحدكم إلّا وهو حسن الظّنّ بالله» (٨).

والظن القبيح أن يظن أنه تعالى أنه يعزب (٩) عن علمه بعض الأحوال. وقال قتادة :

__________________

(١) وهذه الأوجه الأربعة قال بها العكبري في التبيان ١١٢٥ وبتوضيح من الدر المصون للسمين ٤ / ٧٢٩ وانظر الكشاف ٣ / ٤٥١ والبيان لابن الأنباري ٢ / ٣٣٩.

(٢) متعددة لمبتدأ واحد وهو «وذلكم» قال بذلك السمين في الدر ٤ / ٧٢٩ ، والزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٥٣.

(٣) في البحر : قيصير التقدير وظنكم بأن ربكم لا يعلم ظنكم بربكم والمؤلف مشى في نقله عن أبي حيان من الدر المصون للشهاب السمين ٤ / ٧٢٩ ، وانظر البحر ٧ / ٤٩٣.

(٤) المرجع السابق.

(٥) معالم التنزيل للبغوي ٦ / ١٠٩.

(٦) نقله الرازي ٢٧ / ١١٧.

(٧) نقله البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه البخاري ٤ / ٢٧٨٨.

(٨) لم أعثر عليه إلا في تفسير الإمام الرازي ٢٧ / ١١٧ فقد نقله بدون سند إلى راويه عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٩) أي يغيب.

١٢٩

والظن نوعان : منجي (١) ومردي فالمنجي قوله : (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) [الحاقة : ٠٢] وقوله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة : ٤٦] والمردي هو قوله (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ.)

قوله تعالى : (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ)(٢٧)

قوله تعالى : (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أي سكن لهم ، يعني إن أمسكوا عن الاستغاثة لفرج ينتظرونه لم يجدوا ذلك وتكون النار مثوى لهم أي مقاما لهم (٢).

قوله : (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) العامة على فتح الياء من «يستعتبوا» وكسر التاء الثانية مبنيا للفاعل (فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) بكسر التاء اسم الفاعل ومعناه وإن طلبوا العتبى وهي الرضا فما هم ممن يعطاها. والمعتب الذي قبل عتابه وأجيب إلى ما سأل ، يقال: أعتبني فلان ، أي أرضاني بعد إسخاطه إيّاي ، واستعتبته طلبت منه أن يعتب أي يرضى. وقيل : المعنى وإن طلبوا زوال ما يعتبون فيه فما هم من المجابين إلى إزالة العتب. وأصل العتب المكان النّائي بنازله ، ومنه قيل لأسكفّة (٣) الباب والمرقاة : عتبة ، ويعبر بالعتب عن الغلظة التي يجدها الإنسان في صدره على صاحبه ، وعتبت فلانا أبرزت له الغلظة ، وأعتبته أزلت عتباه كأشكيته وقيل : حملته على العتب (٤).

وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد : وإن يستعتبوا مبنيا للمفعول (٥) فما هم من المعتبين اسم فاعل بمعنى إن يطلب منهم أن يرضوا فما هم فاعلون ذلك ، لأنهم فارقوا دار التكليف (٦) ، وقيل : معناه أن يطلب ما لا يعتبون عليه فما هم ممّن (٧) يريد العتبى وقال أبو ذؤيب :

٤٣٦٣ ـ أمن المنون وريبه تتوجّع

والدّهر ليس بمعتب من يجزع (٨)

__________________

(١) كذا رسمها الناسخ في نسخ اللباب والأصح لغويا منج ومرد.

(٢) قاله الرازي في مرجعه السابق.

(٣) وهي السفلى وانظر معالم التنزيل للإمام البغوي ٦ / ١١٠ ، واللسان لابن منظور عتب ٢ / ٢٧٩٣.

(٤) المرجع السابق وص ٢٧٩٢ منه.

(٥) قراءة شاذة ذكرها أبو الفتح ابن جنّي في المحتسب ٢ / ٢٤٥ وابن خالويه في المختصر ١٣٣.

(٦) بالمعنى من الكشاف ٣ / ٤٥١ وانظر البحر المحيط ٧ / ٤٩٤.

(٧) قاله أبو البقاء في التبيان ١١٢٦.

(٨) من تمام الكامل له يرثي أولاده وهو يخاطب نفسه على العادة القديمة ، والمنون : الموت والجوع وهو ـ

١٣٠

قوله : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ) بعثنا لهم ووكلنا ، وقال مقاتل : هيّأناه (١). وقال الزجاج : سينالهم (٢) وأصل التقييض التيسير والتهيئة ، قيضته للداء هيأته له ويسّرته ، وهذان ثوبان قيّضان أي كل منهما مكافىء للآخر في الثمن. والمقايضة المعارضة ، وقوله (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً) [الزخرف : ٣٦] أي نسهل ونيسر ليستولي عليه استيلاء القيض على البيض (٣).

والقيض في الأصل قشر البيض الأعلى (٤). قال الجوهري (٥) : ويقال : قايضت الرجل مقايضة أي عاوضته بمتاع ، وهما قيضان كما يقال : بيعان. وقيّض الله فلانا لفلان أي جاء به ومنه قوله تعالى : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ)(٦) والمراد بالقرناء النظراء من الشياطين حتى أضلوهم (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من أمر الدنيا حتى آثروه على الآخرة (وَما خَلْفَهُمْ) من أمر الآخرة فدعوهم إلى التكذيب وإنكار البعث (٧).

وقال الزجاج : زينوا (لهم (٨) ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنّه لا بعث ولا جنة ولا نار ، وما خلفهم من أمر الدنيا وأن الدنيا قديمة ، ولا صانع إلا الطبائع والأفلاك (٩). وقيل (١٠) : ما بين أيديهم أعمالهم التي يعملونها وما خلفهم ما يعزمون (١١) أن يعملوه. وقال ابن زيد : ما بين أيديهم ما مضى من أعمالهم الخبيثة (وما بقي من أعمالهم الخسيسة) (١٢)).

فصل

دلت هذه الآية على أنه تعالى يريد الكفر من الكافر ؛ لأنه تعالى قيّض لهم قرناء

__________________

ـ جمع منيّة والمعتب اسم فاعل من أعتب أي الذي يزيل سبب العتب. والشاهد : في معتب وهي بمعنى إزالة العتب أي سببه وانظر ديوان المفضليات ٥٨٠ ، وديوان الهذليين ١ / ١ ، والسبع الطوال لابن الأنباري أبي بكر ٤٦٠ والبحر المحيط ٧ / ٤٩٤ والكشاف ٤ / ٢٥ ، واللسان منن ٤٢٧٧ وشرح شواهد الكشاف ٤٢٥.

(١) انظر معالم البغوي ٦ / ١١٠.

(٢) نقله في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٨٤.

(٣) انظر اللسان قيض ٣٧٩٥ وغريب القرآن ٣٨٩.

(٤) اللسان المرجع السابق.

(٥) هو إسماعيل بن حماد الجوهري الإمام أبو نصر الفارابيّ كان من أعاجيب الزمان ذكاء وفطنة وعلما ، إماما في اللغة والأدب ومن فرسان الكلام والأصول من مؤلفاته : «الصحاح» المشهور اختلف في وفاته فقيل سنة ٤٠٠. وقيل : ٣٩٣ ه‍ البغية ١ / ٤٤٦.

(٦) انظر الصحاح له قيض.

(٧) قال بهذه المعاني البغوي ٦ / ١١٠.

(٨) ما بين القوسين الكبيرين بتقديم وتأخير وتداخل لما بعده من الكلام في نسخة ب.

(٩) قول الزجاج في معاني القرآن ٤ / ٣٨٤ زينوا لهم أعمالهم التي يعملونها ويشاهدونها وما خلفهم وما يعزمون أن يعملوه.

(١٠) نقله الرازي وهو رأي الزجاج كما رأينا.

(١١) في الرازي وما زعموا أنهم يعملونه.

(١٢) تكملة لرأي ابن زيد عن الرازي ٢٧ / ١١٩.

١٣١

فزينوا لهم الباطل ، وهذا يدل على أنه تعالى أراد منهم الكفر. وأجاب الجبّائيّ بأن قال : لو أراد المعاصي لكانوا بفعلها (١) مطيعين ؛ لأن الفاعل لما يريده منه غيره يجب أن يكون مطيعا له. وأجاب ابن الخطيب : بأنه لو كان من فعل ما أراده غيره مطيعا له لوجب أن يكون الله مطيعا لعباده إذا فعل ما أرادوه (٢) فهذا إلزام الشيء على نفسه وإن أردت غيره فلا بد من بيانه حتى ينظر فيه هل يصح أم لا (٣).

قوله : «في أمم» نصب على الحال من الضمير في «عليهم» والمعنى كائنين في جملة أمم ، وهذا كقوله (شعرا) (٤) :

٤٣٦٤ ـ إن تك عن أحسن الصّنيعة مأ

فوكا ففي آخرين قد أفكوا (٥)

أي في جملة قوم آخرين. وقيل : في بمعنى «مع» (٦).

فصل

احتجّ أهل السنة بأنه تعالى أخبر أن هؤلاء حق عليهم القول فلو لم يكونوا كفارا لانقلب هذا الخبر الحق باطلا ، وهذا العلم جهلا ، وهذا الخبر الصدق كذبا ، وكل ذلك محال ، ومستلزم المحال محال فثبت أن صدور الإيمان وعدم صدور الكفر عنهم محال.

قوله (تعالى) (٧) : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ...) الآية اعلم أن الكلام ابتداء من قوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) إلى قوله : (إِنَّنا عامِلُونَ).

وأجاب الله تعالى عن تلك الشبهة (٨) واتصل الكلام إلى هذا الموضع ، ثم إنه تعالى حكى عنهم شبهة أخرى فقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) العامة على فتح الغين وهي تحتمل وجهين :

أحدهما : أن تكون من «لغي» بالكسر يلغى ، وفيها معنيان :

أحدهما : من ألغى إذا تكلم باللغو وهو ما لا فائدة فيه (٩).

__________________

(١) في ب يفعلونها.

(٢) في ب أراده.

(٣) نقله الرازي في تفسيره ٢٧ / ١١٩.

(٤) زيادة من ب.

(٥) من المنسرح لعروة بن أذينة ، ويروى : «إن تك عن أفضل المروءة».

والمأفوك : المصروف عن الحق وهو يخاطب إنسانا قد عزف عن صنع الخير ، قائلا إنك لست الوحيد في ذلك فغيرك كثير ممن لا يلتفتون إلى هذا الأشياء الحسنة. وشاهده : «ففي آخرين» حيث تعلق الجار والمجرور بحال محذوف أي فأنت كائنا أو مستقرا في جملة قوم آخرين. وانظر المحتسب ٢ / ١٦١ و ٢٦٧ والبحر المحيط ٧ / ٤٩٣ وإصلاح المنطق ٢٣ ، ولسان العرب أفك ٩٧ والكشاف ٢ / ٤٥٢ ، والدر المصون ٤ / ٧٣٠ والقرطبي ١٥ / ٣٥٥ وديوانه ٣٤٣.

(٦) نقله أبو حيان في البحر المرجع السابق ولم يرتضه.

(٧) زيادة من أ.

(٨) في ب الشبه.

(٩) لسان العرب لغا ٤٠٤٩.

١٣٢

والثاني : أنه من لغى بكذا أي رمى به فتكون «في» بمعنى الباء أي ارموا به وانبذوه (١).

والثاني من الوجهين الأولين : أن يكون من «لغا» بالفتح أيضا حكاه الأخفش ، وكان قياسه الضم كغزا يغزو ، ولكنه فتح لأجل حرف الحلق (٢). وقرأ قتادة وأبو حيوة وأبو السمال والزعفراني وابن أبي إسحاق وعيسى بضم الغين ، من لغا بالفتح يلغو كدعا يدعو (٣) ، وفي الحديث : «فقد لغوت» (٤). وهذا موافق لقراءة غير الجمهور.

فصل

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : يعني الغطوا فيه ، كان بعضهم يوصي بعضا : إذا رأيتم محمدا يقرأ فعارضوه بالرجز والشعر واللغو.

قال مجاهد : والغوا فيه بالمكاء (٥) والصّفير. وقال الضحاك : أكثروا الكلام فيختلط عليه ما يقول ؛ وقال السّدي صيحوا في وجهه. (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) على قراءته (٦) ، وهذا جهل (٧) منهم لأنهم في الحال أقروا بأنهم مشتغلين باللغو والباطل من العمل والله تعالى ينصر محمدا بفضله ولما ذكر الله تعالى هددهم بالعذاب الشديد وقال (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً) وهذا تهديد شديد ؛ لأن لفظ الذوق إنما بذكر في القدر القليل الذي يؤتى به لأجل التجربة ، ثم إنه تعالى ذكر أن ذلك الذوق عذاب شديد ، فإن كان القليل منه عذابا شديدا فكيف يكون حال الكثير منه؟! ثم قال : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) قال أكثر العلماء (٨) : المراد بالأسوأ أي أقبح أعمالهم وهو الشرك. وقال الحسن : المراد منه أنه لا يجازيهم على محاسن أعمالهم لأنهم أحبطوها بالكفر فضاعت أعمالهم الحسنة ، ولم يبق معهم إلا الأعمال القبيحة فلا جرم لم يحصلوا إلا على السيئات.

قوله تعالى : (ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا

__________________

(١) نقله أبو حيان في البحر عن أبي الفضل الرازي صاحب اللوامح ٧ / ٤٩٤ و ٤٩٥.

(٢) المرجع السابق. والذي في معاني الأخفش ٦٨٣ : وقال : والغوا فيه لأنها من لغوت يلغا مثل محوت يمحا ، وقال بعضهم : «وَالْغَوْا فِيهِ» وقال لغوت تلغو مثل محوت تمحو وبعض العرب يقول : لغي يلغى وهي قبيحة قليلة ولكن لغي بكذا وكذا أي : أغري به فهو يقوله ويصنعه.

(٣) من القراءة الشاذة غير المتواترة ، وذكرها أبو الفتح في المحتسب ٢ / ٢٤٦ وابن خالويه في المختصر ١٢٣.

(٤) أورده البخاري في صحيحه عن أبي هريرة باب الجمعة رقم ٣٦ وأورده أيضا أحمد في مسنده ٢ / ٢٤٤ و ٢٧٢ و ٢٨٠ و ٣٩٣ و ٣٩٦ و ٣٨٥ و ٥٣٢.

(٥) وهو عدم الاستماع والتهريج.

(٦) انظر معالم التنزيل للبغوي ٦ / ١١٠.

(٧) قاله الرازي ٢٧ / ١٢٠.

(٨) انظر القرطبي ١٥ / ٣٥٦.

١٣٣

يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ)(٣١)

قوله تعالى : «ذلك» فيه وجهان :

أحدهما : أنه مبتدا و «جزاء» خبره.

والثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف أي : الأمر ذل ك «وجزاء أعداء الله النّار» جملة مستقلة مبينة للجملة قبلها (١).

(قوله) (٢) : «النار» فيه ثلاثة أوجه (٣) :

أحدها : أنها بدل من «جزاء» وفيه نظر ؛ إذ البدل يحل محلّ المبدل منه فيصير التقدير ذلك النار (٤).

الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر (٥).

الثالث : أنه مبتدأ و (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) الخبر ، و «دار» يجوز ارتفاعها بالفاعليّة(٦) أو الابتداء (٧).

وقوله : (فِيها دارُ الْخُلْدِ) يقتضي أن يكون (دارُ الْخُلْدِ) غير النار ، وليس كذلك بل النار هي نفس دار الخلد. وأجيب عن ذلك : بأنه قد يجعل الشيء ظرفا لنفسه باعتبار متعلّقه على سبيل المبالغة ، لأن ذلك المتعلق صار مستقرا له ، وهو أبلغ من نسبة المتعلق إليه على سبيل الإخبار به عنه. ومثله قول الآخر :

٤٣٦٥ ـ .........

وفي الله إن لم تنصفوا حكم عدل (٨)

__________________

(١) أعرب السمين هذه الوجهين في الدر المصون ٤ / ٧٣١.

(٢) زيادة من ب.

(٣) قال بهذه الأوجه الثلاثة ابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٣٩ والعكبري في التبيان ١١٢٦.

(٤) فلا يصح المعنى المراد إذن.

(٥) قال الزمخشري في الكشاف بهذين الوجهين الأولين ولم يشر إلى الثالث.

(٦) فقد رفعت بالفاعلية لما تعلق به الجار والمجرور وهو «فيها» أي استقر لهم فيها دار الخلد.

(٧) والخبر هو «لهم» أو فيها.

(٨) من بحر الطويل لبشر بن صفوان الكلبي ، وهو عجز بيت صدره :

أفاءت بنو مروان ظلما دماءنا

 ..........

ويروى : أباحت بدل أفاءت ، وأفاءت من الفيء وهو ما يؤخذ من الأعداء. والشاهد : وفي الله ففي الكلام حذف أي وفي عدل الله حكم عدل ، فلا يعتقد أن الله ظرف لشيء إلا باعتبار المتعلق فجاء هنا ـ

١٣٤

وقوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب : ٢١] والرسول هو نفس الأسوة. كذا أجابوا (١). وفيه نظر ؛ إذ الظاهر وهو معنى صحيح منقول أن في النار دارا تسمى دار الخلد ، والنار محيطة بها (٢).

قوله : «جزاء» في نصبه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه منصوب بفعل مقدر ، وهو مصدر مؤكد ، أي يجزون جزاء.

الثاني : أن يكون منصوبا بالمصدر الذي قبله ، وهو جزاء أعداء الله. والمصدر ينصب بمثله كقوله (فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً) [الإسراء : ٦٣].

الثالث : أن ينتصب على أنه مصدر واقع موقع الحال و «بما» متعلق «بجزاء» الثاني إن لم يكن مؤكدا وبالأول إن كان (مؤكدا) (٣) و «بآياتنا» متعلق بيجحدون (٤).

فصل

لما قال : (لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) بين أن ذلك الأسوأ الذي جعل جزاء أعداء الله هو النار ، ثم قال : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) ، أي لهم في جملة النار دار معينة ، وهي دار العذاب الخلد ، (جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) أي يلغون في القراءة ، وسماه جحدا ؛ لأنهم لما علموا أن القرآن بالغ إلى حد الإعجاز خافوا من أنه لو سمعه الناس لآمنوا به فاستخرجوا (تلك) (٥) الطريقة الفاسدة وذلك يدل على أنهم علموا كونه معجزا وأنهم جحدوا حسدا (٦).

قال الزمخشري : «أي (٧) بما كانوا يلغون ، فذكر الجحود ؛ لأنه سبب اللّغو» انتهى.

يعني أنه من باب إقامة السبب مقام المسبّب ، وهو مجاز سائغ.

قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا ....) الآية تقدم الخلاف في «أرنا» (٨) وفي نون اللّذين وقال الخليل : إذا قلت : أرني ثوبك فمعناه بصّرنيه ، وبالسكون أعطنيه (٩).

__________________

ـ على سبيل المبالغة. وانظر الحماسة البصرية ٢ / ٣٦٧ ، والخصائص ٢ / ٤٧٥ ، والمحتسب ٢ / ٤٢ ، ١٠٦ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٢٥٤ ، والبحر المحيط ٧ / ٤٩٥ ، واللّسان والتاج «حكم» والبيان ١ / ١٢١ ، والدر المصون ٤ / ٧٣٢.

(١) انظر معاني القرآن للفراء ٣ / ١٧ ، والكشاف ٣ / ٤٥٢ والبحر المحيط ٣ / ٤٩٥.

(٢) لم أهتد فيما بحثت فيه عن قول يرشد إلى هذا.

(٣) زيادة لتوضيح السياق وتبيينه.

(٤) انظر التبيان لأبي البقاء ١١٢٦ والدر المصون ٤ / ٧٣٢.

(٥) سقطت من ب.

(٦) مع تغيير طفيف في العبارة من الرازي ٢٧ / ١٢٠.

(٧) في الكشاف جزاء بما كانوا يلغون ، وانظر الكشاف ٣ / ٤٥٢.

(٨) «وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا» [البقرة : ١٢٨] فقرأ ابن كثير في البقرة وفي فصلت بإسكان الراء وقرأ نافع وحمزة وعاصم والكسائيّ بكسر الراء وانظر السبعة لابن مجاهد ١٧٠ واللباب ١ / ٢٤٠ ب ميكروفيلم.

(٩) نقله عنه صاحب الكشاف ٢ / ٤٥٢ و ٤٥٣ والبحر المحيط ٧ / ٤٩٥.

١٣٥

فصل

لما بين أن الذي حملهم على الكفر الموجب للعقاب الشديد مجالسة قرناء السوء بيّن أن الكفار (عند الوقوع (١) في العذاب الشديد) في النار يقولون : (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) ومعناه أن الشيطان على نوعين جنّيّ وإنسيّ.

قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) [الأنعام : ١١٢] وقال : (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) [الناس : ٥ ـ ٦] وقيل (٢) : هما إبليس وقابيل بن آدم الذي قتل أخاه ؛ لأن الكفر سنة إبليس والقتل بغير حق سنة قابيل فهما سنا المعصية (٣). «و (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا) في النار (لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) قال مقاتل : يكونون أسفل منا في النار (٤). وقال الزجاج : ليكونا في الدرك الأسفل(٥). وقال بعض الحكماء : المراد باللّذين يضلّان الشهوة والغضب (٦) والمراد بجعلهما تحت أقدامهم كونهما مسخّرين للنفس مطيعين لها ، وأن لا يكونا مستوليين (٧) عليها قاهرين لها.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) الآية. لما ذكر الوعيد أردفه بذكر الوعد كما هو الغالب. واعلم أن «ثمّ» لتراخي الرتبة في الفضيلة (٨) سئل أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ عن الاستقامة فقال : أن لا تشرك بالله شيئا. وقال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ، ولا تروغ روغات الثّعلب. وقال عثمان ـ رضي الله عنه ـ أخلصوا العمل. وقال علي ـ رضي الله عنه ـ أدّوا الفرائض. وقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ استقاموا على أداء الفرائض. وقال الحسن ـ (رضي (٩) الله عنه) ـ استقاموا على أمر الله بطاعته واجتنبوا معصيته. وقال مجاهد وعكرمة استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله. وقال قتادة : كان الحسن إذا تلا هذه الآية قال : اللهمّ فارزقنا الاستقامة.

قوله : (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) قال ابن عباس ـ (رضي الله (١٠) عنهما) ـ عند الموت. وقال مقاتل وقتادة : إذا قاموا من قبورهم. وقال وكيع بن الجرّاح (١١) : البشرى

__________________

(١) زيادة من الرازي لتوضيح السياق الذي نقل منه أصلا.

(٢) وروي عن ابن عباس رضي الله عنه القرطبي ١٥ / ٣٥٧.

(٣) انظر الرازي ٢٧ / ١٢٠ والبغوي ٦ / ١١٠.

(٤) الرازي السابق.

(٥) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٨٥.

(٦) نقله الرازي عن بعض تلامذته المرجع السابق للرازي.

(٧) السابق أيضا.

(٨) قاله الزمخشري قال : «ثم لتراخي الاستقامة عن الإقرار في المرتبة».

(٩) سقط من ب.

(١٠) كذلك.

(١١) ابن مليح الرؤاسي الإمام الحافظ الثبت ، روى عنه محمد بن إسماعيل الحساني وسمع هشام بن عروة ـ

١٣٦

تكون في ثلاثة مواطن ، عند الموت وفي القبر وعند البعث (١).

قوله : «أن لا (تَخافُوا) يجوز في «أن» أن تكون المخففة ، أو المفسّرة (٢) ، أو الناصبة (٣) و «لا» ناهية على الوجهين الأولين ، ونافية على الثالث (٤). وقد تقدم ما في ذلك من الإشكال. فالتقدير بأن لا تخافوا أي بانتفاء الخوف. وقال أبو البقاء : التقدير : بأن لا تخافوا ، أو قائلين أن لا تخافوا فعلى الأول : هو حال ، أي نزلوا بقولهم : لا تخافوا. وعلى الثاني : الحال محذوفة (٥). قال شهاب الدين : يعني أن الباء المقدرة حالية ، فالحال غير محذوفة وعلى الثاني الحال هو القول المقدر وفيه تسامح ، وإلا فالحال محذوفة في الموضعين ، وكما قام المقول مقام الحال كذلك قام الجار مقامها (٦). وقرأ عبد الله «لا تخافوا» (٧) بإسقاط «أن» وذلك على إضمار القول ، أي : يقولون لا تخافوا.

فصل

«أن لا (تَخافُوا) من الموت. قال مجاهد : لا تخافون على ما تقدمون عليه من أمر الآخرة ولا تحزنوا على ما خلّفتم من أهل وولد ، فإنا نخلفكم في ذلك كله. وقال عطاء ابن أبي رباح : لا تخافوا ولا تحزنوا على ذنوبكم فإني أغفرها لكم (٨).

قوله : (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ).

فإن قيل : البشارة عبارة عن الخبر الأول بحصول المنافع ، فأما إذا أخبر الرجل بحصول المنفعة ثم أخبر ثانيا بحصولها كان الإخبار الثاني إخبارا ولا يكون بشارة ، والمؤمن قد يسمع بشارات الخير ، فإذا سمع المؤمن هذا الخبر من الملائكة وجب أن يكون هذا إخبارا ولا يكون بشارة ، فما السّبب في تسمية هذا الخبر بشارة؟

فالجواب : أن المؤمن قد يسمع بشارات الخير ، (فإذا (٩) سمع المؤمن هذا الخبر من الملائكة وجب أن يكون هذا إخبارا ولا يكون بشارة! قلنا : المؤمن يسمع أن من كان مؤمنا تقيّا) كان له الجنة أما إذا لم (يسمع) (١٠) ألبتة أنه من أهل الجنة فإذا سمع هذا

__________________

ـ وابن جريج وعنه أخذ ابن المبارك ، وأحمد وزهير بن حرب مات سنة ١٩٧ ه‍ ، انظر الطبقات للداودي ٢ / ٣٥٨ : ٣٦١.

(١) انظر هذه الأقوال في البغوي والخازن ٦ / ١١٠ و ١١١ وانظر القرطبي ١٥ / ٣٥٨ ففيه المزيد من الأقوال أيضا.

(٢) قال بذلك الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٥٣.

(٣ و ٤) الدر المصون ٤ / ٧٣٣ لتوضيح وتفصيل ما أفهمه كلام الزمخشري في المرجع السابق.

(٥) التبيان ١١٢٥ و ١١٢٦.

(٦) الدر المصون ٤ / ٧٣٣.

(٧) قراءة شاذة غير متواترة نقلها الكشاف ٣ / ٤٥٣ والفراء في معاني القرآن ٣ / ١٨.

(٨) انظر البغوي ٦ / ١١١.

(٩ و ١٠) بياض من النسخ وتكملة من الرازي المصدر لهذا الكلام.

١٣٧

الكلام من الملائكة كان إخبارا بنفع عظيم مع أنه هو الخبر الأول فكان ذلك بشارة.

واعلم أن هذا الكلام يدل على أن المؤمن عند الموت وفي القبر وعند البعث (لا) (١) يكون فازعا من الأهوال ومن الفزع الشديد (بل يكون (٢) آمن الصدر لأن قوله : «أن لا (تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) يفيد نفي الخوف ، والحزن على الإطلاق).

قوله تعالى : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) وهذا في مقابلة ما ذكره في وعيد الكفار حيث قال : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا). قال السدي : تقول الملائكة نحن الحفظة الذين كنا معكم في الدنيا (ونحن أولياؤكم في (٣) الدنيا) ونحن أولياؤكم في الآخرة أي لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة. (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) من الكرامات واللذات (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) أي تتمنون.

فإن قيل : هلى هذا التفسير لا فرق بين قوله : (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) و (لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) قال ابن الخطيب : والأقرب عندي أن قوله : (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) إشارة إلى الجنة الرّوحانيّة المذكورة في قوله : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ)(٤) [يونس : ١٠] الآية.

قوله تعالى : (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)(٣٥)

قوله : «نزلا» فيه أوجه :

أحدها : أنه منصوب على الحال من الموصول ، أو من عائده ، والمراد بالنزل الرزق المعدّ للنازل كأنه قيل ولكم فيها الذي تدعونه حال كونه معدّا.

الثاني (٥) : أنه حال من فاعل «تدّعون» أو من الضمير في «لكم» على أن يكون نزلا جمع نازل كصابر وصبر وشارف (٦) وشرف.

__________________

(١) ساقطة من النسختين وتكملة لا بد منها حتى يتأتى المعنى.

(٢) تكملة كسابقتها من الفخر الرازي لا بد منها وانظر الرازي ٢٧ / ١٢٢.

(٣) سقط من ب وهي بقية كلام السديّ المنقول في البغوي المرجع السابق.

(٤) وكلامه في التفسير الكبير ما يأتي : ما تشتهي أنفسكم إشارة إلى الجنّة الجثمانيّة وقوله : «وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ» إشارة إلى الجنّة الرّوحانيّة الرازي ٢٧ / ١٢٣.

(٥) قال بالوجه الأول أبو البقاء في التبيان ١١٢٧ وبهذا الوجه ابن الأنباري وأبو البقاء أيضا ومكي في المشكل ٢ / ٢٧٢ وانظر البيان ٢ / ٣٤٠.

(٦) هو المسن من الإبل اللسان شرف ٢٢٤٣.

١٣٨

والثالث : أنه مصدر مؤكد (١) ، وفيه نظر ، لأن المصدر «نزل» النزول لا النزل. وقيل : هو مصدر أنزل (٢).

قوله : (مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) يجوز أن يكون تعلقه بمحذوف على أنه (٣) صفة «لنزلا» وأن يتعلق بتدّعون (٤) أي تطلبونه من جهة غفور رحيم ، وأن يتعلق (٥) بما تعلق به الظرف في «لكم» من الاستقرار أي استقر لكم من جهة غفور رحيم.

قال أبو البقاء : فيكون حالا من ما (٦). قال شهاب الدين : وهذا البناء منه ليس بواضح بل هو متعلق بالاستقرار فضلة كسائر الفضلات ، وليس حالا من «ما» (٧).

قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ ...) الآية قال ابن سيرين والسّدّيّ : هو رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله وقال الحسن : هو المؤمن الذي أجاب الله في دعوته ، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه ، وعمل صالحا في إجابته وقال إنّني من المسلمين. وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ إن هذه الآية نزلت في المؤذّنين. وقال عكرمة : هو المؤذن. وقال أبو أمامة الباهليّ : وعمل صالحا : ركعتين بين الأذان والإقامة. وقال قيس بن أبي حازم : هو الصلاة بين الأذان والإقامة (٨).

قوله : (وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) العامة على إنني بنونين. وابن أبي عبلة وابن نوح (٩) بنون واحدة. قوله تعالى : (وَلَا السَّيِّئَةُ) في «لا» هذه وجهان :

أحدهما : أنها زائدة للتوكيد ، كقوله : (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) [فاطر : ٢١] وكقوله: (وَلَا الْمُسِيءُ) [غافر : ٥٨] ، لأن استوى لا يكتفي بواحد.

والثاني : أنها مؤسسة غير مؤكّدة (١٠) ؛ إذ المراد بالحسنة والسيئة الجنس ، أي لا تستوي الحسنات في أنفسها فإنها متفاوتة ، ولا تستوي السيئات أيضا ، فربّ واحدة أعظم من أخرى ، وهو مأخوذ من كلام الزمخشري (١١) ، وقال أبو حيان : «إن أخذت الحسنة والسيئة جنسا لم يكن زيادتها كزيادتها في الوجه الذي قبل هذا» (١٢). قال شهاب الدين : «فقد جعلها في المعنى الثاني زائدة ، وفيه نظر لما تقدم» (١٣).

__________________

(١) البيان المرجع السابق.

(٢) حكاه أبو حيان ولم ينسبه البحر المحيط ٧ / ٤٩٧.

(٣) البيان ٢ / ٣٤٠.

(٤ و ٥ و ٦) التبيان ١١٢٧.

(٧) الدر المصون : ٤ / ٧٣٣.

(٨) هذه الأقوال ذكرها القرطبي في الجامع ١٥ / ٣٦٠ والبغوي في معالم التنزيل ٦ / ١١١.

(٩) هو إبراهيم بن أحمد بن نوح الأصبهاني الفقيه روى القراءة عن أبي خالد النزندولانيّ عن قتيبة وروى عنه ابن شنبوذ. انظر غاية النهاية ١ / ٩ ، وهذه القراءة شاذة انظر البحر ٧ / ٤٩٧.

(١٠) انظر البحر المحيط ٧ / ٤٩٨ والكشاف ٣ / ٤٥٤ وقد قال بالوجهين أيضا الأخفش في معانيه ٢ / ٦٨٤ وقال بوجه الزيادة فقط الزجاج في معانيه أيضا ٤ / ٣٨٦.

(١١) بالمعنى من الكشاف ٣ / ٤٥٤ و ٤٥٥.

(١٢) البحر المحيط ٧ / ٤٩٨.

(١٣) الدر المصون ٤ / ٧٣٤.

١٣٩

فصل

قال المفسرون : المراد بالحسنة الصّبر ، وبالسيئة الغضب. وقيل : الحلم والجهل. وقيل : العفو والإساءة (١). قال ابن الخطيب : لما حكى الله تعالى عنهم قولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) وإصرارهم الشديد على دينهم ، وعدم التأثّر بدلائل محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم أطنب في الجواب عن شبهاتهم ثم رغّب محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أن لا يترك الدعوة إلى الله بقوله : «إنّ الّذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا فلهم الثواب العظيم» ، ثم ترقّى من تلك الدرجة إلى درجة أخرى ، وهي أن الدعوة إلى الله تعالى أعظم الدرجات ، ثم كأن سائلا (سأل (٢) ف) ـ قال : إن الدعوة إلى الله ، وإن كانت طاعة عظيمة ، إلا أنّ الصبر على سفاهة الكفّار شديدة ، فذكر الله تعالى ما يصلح لأن يكون دافعا لهذا الإشكال فقال : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ). والمراد بالحسنة دعوة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى الدين الحق ، والصبر على جهالة الكفار ، وترك الانتقام وترك الالتفات إليهم ؛ والمراد بالسيئة ما أظهروا من الجلافة في قولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) وقولهم : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) فكأنه قال : يا محمد فعلك حسنة ، وفعلهم سيئة ، ولا تستوي الحسنة (وَلَا)(٣)(السَّيِّئَةُ) أنت (٤) إذا أتيت بهذه الحسنة استوجبت التعظيم في الدنيا والثواب في الآخرة ، وهم بالضّدّ من ذلك ، فلا ينبغي أن يكون إقدامهم على تلك السيئة مانعا لك من الاشتغال بهذه الحسنة. ثم قال (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) يعني ادفع سفاهتهم وجهالتهم بالطريق التي هي أحسن الطّرق (٥). قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أمر بالصبر عند الغضب (٦) ، وبالحلم عند الجهل ، وبالعفو عند الإساءة. والمعنى أنك إذا صبرت على سوء أخلاقهم مرة بعد أخرى ولم تقابل سفاهتهم بالغضب استحيوا من تلك الأخلاق المذمومة وتركوا أفعالهم القبيحة ، وانقلبوا من العداوة إلى المحبة ، ومن البغضاء إلى المودّة فقال : (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ) يعني إذا فعلت ذلك خضع لك عدوك (كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) أي كالصديق القريب ، قال مقاتل بن حيّان : نزلت في أبي سفيان بن حرب ، وذلك لأنه لان للمسلمين بعد شدة عداوته بالمصاهرة التي حصلت بينه وبين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أسلم فصار وليّا بالإسلام وحميما بالقرابة (٧).

قوله : (كَأَنَّهُ وَلِيٌّ) في هذه الجملة التّشبيهيّة وجهان :

أحدهما : أنها في محل نصب على الحال ، والموصول مبتدأ ، و «إذا» التي (٨)

__________________

(١) البغوي ٦ / ١١٢.

(٢) زيادة من الرازي عن النسخ.

(٣) زيادة من أ.

(٤) في الرازي بمعنى أنك إذا أتيت.

(٥) انظر الرازي ٢٧ / ١٢٧.

(٦) البغوي ٦ / ١١٢.

(٧) السابق.

(٨) كذا في الدر المصون وفي النسختين «الذي» وكلا اللفظين صحيحان وقد أخذ المؤلف هذين الوجهين عن الدر المصون عن أبي البقاء العكبري في التبيان ١١٣٧.

١٤٠