حقيقة الاعتقاد بالامام المهدي المنتظر

احمد حسين يعقوب

حقيقة الاعتقاد بالامام المهدي المنتظر

المؤلف:

احمد حسين يعقوب


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

التاريخيين ، وبقوة الدفع النبوي ، وبالآلية التي أوجدها النبي ، وبالجيش الذي أسسه النبي قد فتحوا مشارق الأرض ومغاربها ، إلا أنه لم يرو راو قط أن أحداً من الخلفاء قد أمّر أحداً من آل محمد أو من أهل بيته ، أو أحداً ممن يواليهم ، بل على العكس كان الخلفاء يختارون الأمراء والعمال والولاة من الكارهين لآل محمد والحاقدين عليهم ، أو ممن كانوا لا يرون لآل محمد أي فضل أو تميز عن الناس. ولم تكتف زعامة قريش بذلك إنما حاولت أن تضرب آل محمد ببعضهم وأن توقع بينهم كما فعلت عندما وعدت العباس ببعض الأمر لتتمكن من الانفراد بعلي بن أبي طالب ، وإبطال حجته ، وحاولت أن تفتت وحدة البطن الهاشمي ، ولكن محاولاتها فشلت في البدايه ونجحت فيما بعد!!

ورصت زعامة البطون ، وقادت بنفسها حملة كبرى هدفها طرد وتقتيل وتشريد وإذلال آل محمد ، فهددت علياً بالقتل ، وشرعت بحرق بيت فاطمه على من فيه وفيه ابناء الرسول الحسن والحسين ، وحرمتهم من ميراث النبي وتركته وصادرت ممتلكاتهم ، ثم سمت الحسن ، ثم قتلت الحسين ، وأبادت أهل بيت النبوة ، وتجاهلت ومعها الأكثرية الساحقة من المسلمين نداءات النبي التي لم تتوقف ، ووصاياه المتلاحقة : « اتقوا الله في أهل بيتي » ، وقد عبر الإمام زين العابدين عن هذا الهول بقوله : « لو أن رسول الله قد حرض المسلمين علينا ما زادوا على ما فعلوا .. ».

وهكذا تم استبعاد أهل بيت النبوة ، وحرمانهم ، والتنكيل بهم وإذلالهم ، ومعاقبة أوليائهم ، فقد مر على المسلمين حين من الدهر كان فيه حب آل محمد أو موالاتهم من جرائم الخيانة العظمى التي عقوبتها القتل وهدم الدار ، والحرمان من العطاء ، والتجريد من كافة الحقوق المدينة ، بحيث لا تقبل وشهادة من يحب آل محمد ، [ راجع كتاب الأحداث للمدائني برواية ابن أبي الحديد في شرح النهج ج‍ ٣ ص ٥٩٥ تحقيق حسن تميم ].

فإذا عرفت أن أهل بيت النبوة هم أحد الثقلين بالنص الشرعي ، وأن الهدى لن يدرك إلا بالتمسك بهما : « كتاب الله وعترة النبي أهل بيته » تكتشف بيسر بأن كافة عرى الإسلام قد حلّت بالفعل ، وأن الذين حكموا بأسم الإسلام كانوا يصيبون

٤١

من الإسلام المقاتل ، ويجردونه من كل مضامينه ، ويهدمون كل أركانه ، ولا يبقون منه إلا الشكليات اللازمة للمحافظة على الملك!!!

والمدهش بالفعل ، أن أهل بيت النبوة قد استغاثوا فلم يُغثهم أحد ، واستنصروا فلم ينصرهم أحد ، وشرعت السلطة بحرق بيت فاطمة على من فيه وفيه ابنا الرسول ، وحرمت السلطة أهل البيت من ميراث النبي ، ومن تركته ، وجردتهم من ممتلكاتهم. ومع هذا لم يُنكر على السلطة مُنكر ، ولم يأمرها أحد بمعروف ، ولم ينهها عن منكر ، والمدهش أيضاً أن تجنّد السلطة مائة ألف مقاتل لقتال الحسين ومن معه ، وهم لا يزيدون عن مائة رجل ومع هذا لم ينكر عليها منكر ، ولم يأمرها أحد بمعروف أو ينهها عن منكر ، وبعد أن قتل كل من كان مع الحسين وبقي وحيداً شن جيش الخلافة هجوماً شاملاً على رجل واحد!! ولهم غاية محددة وهي قتله ، والتمثيل به ، ومع هذا لم ينكر على الخليفة أو جيشه منكر ، ولم يُؤمروا بمعروف أو يُنهوا عن منكر!! وهذا ما لم يحدث حتى في مجتمع الفراعنة!!! وهكذا حدث ما أخبر به الرسول ، وحذر منه. ولاقى أهل بيته القتل والتشريد والتطريد واقترف هذه الجرائم زعماء القوم الذين سمعوا النبي وهو يخبر بما كان ، وما هو كائن ، ويحذر ، وشاهدوه وهو يبكي على ما يفعل القوم بأهل بيته من بعده ، وبعد موت النبي تذكرت زعامة القوم تحذيرات النبي ، واستذكرت دموعه الشريفة ، ولكن تلك الزعامة ارتكبت جرائمها مع سبق الترصد والإصرار ، وهي نفس الجرائم التي حذرها النبي منها.

٣ ـ غربة الإسلام والايمان

بعد أن حُلت عرى الإسلام كلها بدءاً من الحكم وانتهاء بالصلاة ، أصبح الإسلام الحقيقي الذي جاء به محمد غريباً على المجتمع ، إذا لم يبق من الإسلام إلا الشكليات الضرورية لبقاء الملك ، والسيطرة على البلاد المفتوحة باسمه ، والمسلمون المؤمنون الحقيقيون الذي بنيت دولة النبي على أكتافهم صاروا فئة قليلة معزولة غريبة غربة تامة عن مجتمع دولة الخلافة ، لأن هذه الفئة تمسكت بالقرآن ووالت أهل بيت النبوة ، كما أُمرت وشكلت مع أهل بيت النبوة الشيعة المؤمنة التي تحمل إرث الأنبياء والتي عاشت معزولة طوال التاريخ البشري ،

٤٢

فأفراد هذه الفئة المؤمنة هم الذين وقفوا مع النبي في لحظات شدته ، وهم الذين نهلوا علوم النبوة يوماً بيوم ، وطبقوها فصلاً فصلاً ، حتى صاروا هم أساتذة المجتمع وينابيع الدين النقية ، ولما استولت بطون قريش بالقوة والتغلب عل منصب الخلافة واكتشفت أن هذه الجماعة المؤمنة موالية لله ولرسوله ولأهل بيت النبوة ، وأن ولاءها الثلاثي هذا لن يتجزأ لأن هذا الولاء بعرفها هو الدين الحقيقي ، عندئذ أدركت دولة الخلافة خطورة هذه الفئة فنقمت عليها ، وعزلتها تماماً كما عزلت أهل بيت النبوة ، واعتبرت أفرادها غرباء متطرفين ، واعتبرت تعاليمهم خطراً على وحدة الدولة ، ووحدة الأمة ، وحذرت دولة الخلافة افراد تلك الفئة بأنهم إن لم يلتزموا بالطاعة ، وإعلان الولاء للدولة ، ستُسند لهم تهمة مفارقة الجماعة ، وشق عصا الطاعة ، وتفريق الأمة الواحدة وهي جرائم عقوبتها الموت ، وكان واضحاً لأفراد تلك الفئة المؤمنة ، بأن العامة ينتظرون إشاره دولة الخلافة لقتل كافة أفراد هذه الفئة ، وسبي ذراريهم ، ونهب أموالهم ، لأن العامة لا مطمع فعلي لها إلا المال ورضى الخليفة الغالب طمعاً بما في يديه ، وتلك حقيقة فلن يكون لأي فرد من أفراد هذه الفئة المؤمنة أهمية أعظم من علي بن أبي طالب ، أو من فاطمة بنت محمد ، أو من سادات بني هاشم ، وقد سمع الجميع ما حل بهم ، وما آلت إليه أحوالهم من الذل والهوان والعزلة!!

لذلك من الأفضل لأفراد هذه الفئة أن يتجاهلوا تاريخهم الحافل بالأمجاد ، وعلاقتهم الحميمة الخاصة بالنبي ، وأن يتبالهوا ، فيقوموا بدور التلاميذ الذين يسمعون الأستاذه!!!

صحيح أن الأمراء طلقاء لا يفهمون من الدين شيئاً ، وأن أفراد الفئة المؤمنة هم العلماء ، وكان ينبغي أن يكون أفراد الفئة المؤمنة هم الأمراء ، والأساتذة ، الذين يفيضون علومهم على الجميع ، لكن الخليفة الغالب قد قرر الاستعانة بقوة « الطلقاء » وإثم الطلقاء على أنفسهم كما قال عمر بن الخطاب ، فأصبح الطلقاء أمراء ومن حق الأمير أن يطاع وأن يوجه ويقود المأمورين!! وكان بيد دولة الخلافة وأركانها آلية الحكم الخاصة ، فمن يعصي الخليفة الغالب الذي يتربع عملياً على ملك الدنيا ونفوذها ، يتصرف به على الوجه الذي يريد بلا رقيب ولا حسيب ،

٤٣

ويطيع علياً بن أبي طالب المؤمن الذي لا يملك شروي نقير ، ومن يعصي معاوية بن أبي سفيان وإلى الشام المتصرف بخيراتها تصرف المالك بملكه ، ويطيع عمار بن ياسر ، وأبا ذر الغفاري ، أو المقداد بن عمرو ، الفقراء المغضوب عليهم من دولة الخلافة. صحيح أن معاوية بن أبي سفيان مثلاًً طليق وابن طليق ، وأحد أبرز قادة معسكر الشرك الذي قاوم وحارب رسول الله وبكل قواه حتى أُحيط به فاضطر مكرهاً للاستسلام والاسلام ، وصحيح أيضاً أن معاوية لا يعرف شيئاً من الإسلام لأنه حديث العهد ، ولا قدرة له على تعريف أهل البلاد المفتوحة بالإسلام ، وصحيح أيضاً بأن عمار وأبا ذر والمقداد من أعمدة الإسلام ومن رواده المؤسسين وبُناته ومن علمائه ، لكن هذا تاريخ ، ومثاليات ، بعيدة عن إمكانية التطبيق فالواقع المفروض والوحيد الذي يجب أن يُطاع ، والمعلم الديني ، وان عمار والمقداد وأبا ذر وأمثالهم مأمورين ومتعلمين ، ويجب أن يرهفوا أسماعهم لمعاوية العالم الديني ، وأن يتعودوا على طاعة معاوية الأمير!! وإن لم يفعلوا ذلك فهم عصاة أو مشاغبون يهددون الأمن ووحدة الامة!! والقانون الاسلامي يطبق على الجميع لا فرق بين عربي وعجمي ، ولا سابق بالايمان ولا طليق ، تلك هي الآلية القانونية التي أوجدتها دولة الخلافة!!!

وقد يخطر ببال عمار مثلاً ، وكما حدث بالفعل حسب رواية ابن الأثير في تاريخه أن يقدم احتجاجاً خطياً إلى الخليفة الرمز يشكو له من أمور لا يمكن تبريرها ، حتى وفق آلية الدولة ، عندئذٍ يأمر الخليفة بعض أعونه الطلقاء فيضربوا عمار بن ياسر ، حتى يكسروا أضلاعه ، ويرموه أخوار أسوار قصر الخليفة ، لأنه تجرأ على ذكر مثل تلك الأمور ، وتجرأ على الشكوى ، وقد حدث هذا بالفعل كما روي ابن الأثير وغيره ، وقد يخطر ببال أبي ذر أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ، ويحذر من مظاهر البذخ وسوء العاقبة ، فيفسر عمل أبي ذر هذا بأنه « إفساد في الأرض » وإفساد للناس ، فقد كتب معاوية إلى الخليفة ، بأن أبا ذر في طريقه لإفساد الشام وأهلها ، عندئذ يأمر الخليفة بنفيه ، وينفي من مكان إلى مكان بالفعل خوفاً على أمة محمد من أن يفسدها صاحبه أبو ذر ، ويعيش الرجل مطارداً

٤٤

منفياً ، ويموت منفياً وحيداً!!! وقد تتولى دولة الخلافة قتل من لا تقوى على تدجينهم من المؤمنين السابقين ، وتسند تهمة القتل إلى الجن ، كما فعلت مع سعد بن عبادة سيد الخزرج ، فالرسالة الرسمية المصححة والمطلوب من المسلمين المؤمنين الصادقين أن يتناسوا بالكامل كل تاريخهم وعلومهم وعلاقتهم بالنبي ، وأن يغضّوا أبصارهم تماماً عما يجري ، وان يشهدوا بصمت عملية نقض عرى الإسلام كلها ، وأن يراقبوا عملية التغيير « الإسلامية الكبرى » فأن فعلوا ذلك نجوا ، ولن يتعرض لهم أحد ، ويمكن لكل واحد منهم أن يأخذ عطاءه السهري ، ولن يغضب الخليفة منه ، وليس من المستبعد أن يرضى الخليفة وأعوانه عليه!!!

هذه الآلية العجيبة عزلت الفئة المؤمنة عملياً ، وحيّدتها تحييداً تاماً عن التأثير على حركة الأحداث التي أدت لنقض عرى الإسلام كلها ، وبالتالي فقد أصبح الإسلام والايمان وكافة مضامينهما الحقيقية مفاهيم غريبة تماماً ، لا تنتمي لحركة الأحداث ، ولا تؤثر على الأحداث ، وهي عرضة للتبديل والتحوير والتغيير ، لأن هذه المضامين وفي أحسن الظروف مجرد اجتهادات ، لا تقدم ولا تؤخر ، ولا تقيد الخليفة ، فرسول الله مثلاً كان يوزع العطاء بين الناس بالسوية ، لا يفرق بين عربي وعجمي وأسود وأبيض ، لأن حاجات الناس الأساسية متشابهة ومضى الخليفة الأول على هذه السنّة ، ولما جاء الخليفة الثاني اكتشف بأنه ليس من العدل أن يأخذ العربي كالعجمي ، وأن يأخذ القرشي كغيره من العرب ، لذلك اجتهد فأوجد موازين خاصة ومراتب للناس ، وألغى فكرة التسوية بالعطاء ، وأعطى الناس حسب مراتبهم عنده حتى أنه لم يساو بالعطاء بين زوجات الرسول ، فلعائشة أم المؤمنين ، ولحفصة ابنته وأم المؤمنين درجة أعظم من أم سلمة مثلاً ، فكانت عائشة مثلاً تأخذ اثني عشر ألفاً ، وكان المئات من الناس لا يحصلون على معشار هذا المبلغ ، ونتيجة هذا الاجتهاد نشات الطبقية فوجدت فئة يملك كل واحد من أفرادها الملايين ، بل المليارات ، ووجدت الملايين من الناس التي لا تدرك رغيف العيش إلا بشق الأنفس!! واكتشف الخليفة بعد بضع سنين خطورة الآثار المدمرة لاجتهاده ، فصرح بأنه إن عاش العام المقبل سيرجع إلى سُنّة صاحبه ويوزع المال بالسوية ، كما كان يفعل الرسول وأبوبكر!!!. ولا يخفى على عاقل

٤٥

بأن التسوية بالعطاء هي حكم شرعي صرح به النبي ، وطبقه خلال حياته المباركة ، ومن الطبيعي أن هذا الحکم امر الهي ، لأن الرسول يتبع ويطبّق ما يوحى اليه من ربه!! ومع هذا يتصرف الخليفة بهذا الحكم تصرف المجتهد الخبير الذي يتصور أن اجتهاده يمكن أن يكون أقرب للعدل ، مما أمر الله به وطبقه رسوله. ويموت الخليفة العادل والناس على اجتهاده ، وجاء اللاحقون فجعلوا اجتهاد الخليفة سنّة نافذة ، غير قابلة للتغيير!! لماذا! بحجة أنها قد جرت أمام الصحابة فلم ينكر عليه منكر!! أما سنّة النبي فلم يسأل عنها أحد ، ولم يطالب بإعادتها أحد!! وعلي هذا فقس ما تشاء من الأحكام والقواعد والمفاهيم الإسلامية وعرى الإسلام التي حلت كلها.

وهكذا صار الإسلام ، والايمان وكافة مضامينهما ومفاهيمهما غريبة تماماً.هذا على مستوى الدين.

أما على مستوى المسلمين المخلصين والمؤمنين الصادقين ، فقد صاروا غرباء أيضاً عن المجتمع ، فهم كفئة جاءت من مجتمع آخر ، وسكنت في المجتمع الجديد ، واضطرت مكرهة أن تلتزم بقواعد وتوجهات المجتمع الجديد الذي استضافها ، لقد عزلتهم دولة الخلافة عن الأكثرية المسلمة عزلاً تاماً ، وشككت بولائهم لأمير المؤمنين ولدولته ، وحرّمت عليهم تولي الوظائف العامة لأنهم غرباء ، وحرمت عليهم أن يكتبوا أو يرووا أو يحدثوا الناس بما سمعوه أو رأوه من رسول الله ، باعتبارهم فئة تهدف إلى شق عصا الطاعة وتفريق الأمة المسلمة الواحدة!!!

فصارت الفئة المسلمة غريبة تماماً عن المجتمع ويدها مشلولة وقدرتها محدودة على تغيير ما يجري في المجتمع.

لقد انقلبت الدنيا رأساً على عقب ، فأعداء الله الذين قاوموا الرسول وحاربوه بكل وسائل الحرب ، حتى أحيط بهم فاضطروا مكرهين للاستسلام وإعلان الإسلام صاروا قادة المجتمع وأمراؤه وخزنة أمواله وأساتذته ، أما أولياء الله الذين وقفوا مع النبي في عسره ويسره ، وحاربوا أعداءه وتلقوا وفهموا تعاليم الإسلام ، فقد صاروا غرباء ، محكومين ، واضطروا أن يدخلوا الصفوف الابتدائية ، ويتتلمذوا على يد

٤٦

الذين يجهلون الإسلام ، والذين حاربوه بالأمس!!! وأن يقفوا في طوابير طويلة ليأخذوا ما تجود به أنفس الأمراء الجدد الذين كانوا أعداء لله بالأمس!!

إنها غربة الإسلام والايمان ، وغربة المسلمين المخلصين والمؤمنين الصادقين ، تلك الغربة التي أخبر عنها النبي ، وحذر منها قبل وقوعها بقوله : « إن الإيمان بدأ غريباً وسيعود کما بدأ ، فطوبي للغرباء ... « وبدأ الإسلام غريباً ثم يعود غريباً كما بدأ ... ». [ راجع معجم أحاديث المهدي ج‍ ١ ص ٧١ ـ ٧٧ تجد العشرات من مراجع هذين الحديثين الشريفين كصحيح مسلم ، وابن ماجة ، والترمذي ، ومسند أحمد ، وابن أبي شيبة ، والبزار وغيرهم ].

لقد عاشت الفئة القليلة المؤمنة غربة كغربة الفئة المؤمنة التي عاشت في المجتمعات التي سبقت عصر النبوة المحمدية. فمارست عباداتها سراً ، ودعت لأمر الله سراً ، وكتمت إيمانها ، وانتظرت فرج الله لأن قيادة المجتمع قد كانت لها ، وخرجت من يدها بالقوة والتغلب وبالكثرة ، حيث جرت الأكثرية خلف مصالحها العاجلة ، والفرق أن الفئة المؤمنة التي صارت غريبة بعد موت الرسول ، صارت تعرف هدفها ، وتعرف الوسيلة لتحقيق هذا الهدف ، لذلك تجمعت حول أهل بيت النبوة ووالتهم كما أُمرت ، ونهلت منهم علوم الإسلام ، وأخذت تدعو إلى الله ودينه سرأ وتنمو يوماً بعد يوم ، وهدفها هداية الأكثرية الساحقة إلى الطريق القويم لتتحصن الأمة ضد الانحراف والمنحرفين ، وعودة الحق والأمر إلى أهله الشرعيين ، وإعادة حكم الله الحقيقي إلى الأرض.

٤ ـ أئمة الضلالة وأعوانهم

لغة وشرعاً يطلق مصطلح الإمام على رئيس الأمة وهاديها ومرجعها ـ أي أمة ـ وتعني الإمامة الرئاسة العامة والمرجعية معاً ، وهي إما أن تكون إمامة برّ وشرعية ، كإمامة أبراهيم والأئمة من بعده ، وإمامة محمد والأئمة الشرعيين من ولده تقود إلى الصراط المستقيم ، وإما أن تكون إمامة فاجرة وغير شرعية سندها القوة والتغلب ، كإمامة فرعون وغيره من أئمة الكفر تقود إلى دار البوار ، وقد فصلنا كل ما يتعلق بهذين المصطلحين في كتابنا : « الإمامة والولاية » فارجع إليه إن شئت.

٤٧

وما يعنينا أن رسول الله عندما لخص الموقف لأمته ، وأخبرها بما هو كائن ، وما سيكون ، وحذرها من مغبة معصية توجيهاته وأوامره وطاعة أعداء الله وأعداء رسوله توقف طويلاً عند أئمة الضلالة ، الذين سيأتون من بعده ، واعتبرهم ألد الأعداء ، وأعظم الأخطار التي تتهدد الأمة الإسلامية من بعده لأنهم هم الذين سيبدأون بحل عرى الإسلام ، وأول عروة سيحلونها هي نظام الحكم ، ثم يستعينون بالسلطة والنفوذ فيحلون ما تبقى من عرى الإسلام ، حتى لا تبقى فيه ولا عروة واحدة دون حل ، وأن هؤلاء الأمة لن يُبقوا من الإسلام إلا رسمه ، ومن القرآن إلا اسمه ، ومن الدين إلا أشكاله ومظاهره الخارجية لغاية محدودة ، وهي المحافظة على ملك النبوة الذي توقف عنده النبي ، وحذر منه وكرر التحذير ، فقال مرة : « لست أخاف على أمتي جوعاً يقتلهم ، ولا عدواً يجتاحهم ، ولكني أخاف على امتي قبيحهم ، وتصدقوا کذبهم ... [ راجع الطبراني في الکبير ج‍ ٢٢ ص ٣٦٢ ح ٩١٠ وص ٣٧٣ و ٩٣٤ ، والفردوس ج‍ ٢ ص ٣١٧ ح ٣٤٣٧ ، والجامع الصغير ج‍ ٢ ص ٤٩ ح ٤٦٨٠ ، وكنز العمال ج‍ ٦ ص ٦٧ ح ١٤٨٧٦ ، وفيض القدير ج‍ ٤ ص ١٠١ ح ٤٦٨٠ ، والمعجم ج‍ ١ ص ٢٩ ـ ٣٠ ].

ووصفهم النبي مرة أخرى فقال : « لا تقوم الساعة حتى يبعث الله أمراء كذبة ، ووزراء فجرة ، وأمناء خونة ، وقراء فسقة ... [ رواه البزار ، والهيثمي في مجمع الزوائد ج‍ ٥ ص ٢٣٣ ، والمعجم ج‍ ١ ص ٢٦ ].

وقد بين النبي الكريم أن أئمة الضلالة سيستغلون كل شيء لصالحهم ، فالعطاء الذي فرضته الشريعة للمساعدة على تأمين الحاجات الأساسية لأفراد المسلمين سيحوله أئمة الضلالة إلى رشوة!! بمعنى أن أئمة الضلالة لن يعطوا أي مسلم عطاءه إلا إذا بايعهم ، ورضي بجورهم وظلمهم وقبل بوجودهم ، لذلك أمر رسول الله المسلمين أن يأخذوا العطاء ما دام عطاء ، فإذا استغل أئمة الضلالة هذا العطاء فجعلوه رشوة للسكوت ، فلا ينبغي أن يأخذ المسلمون هذا العطاء ، ولكن الرسول قد أخبر الأمة بأنها ستأخذ العطاء ، بالرغم من أنه رشوة ، لأن الفقر

٤٨

والحاجة يمنع المسلمين من ترك العطاء. [ راجع الطبراني في الصغير ج‍ ١ ص ٢٦٤ ، وحلية الأولياء ج‍ ٥ ص ١٦٥ ـ ١٦٦ ، وتاريخ بغداد ج‍ ٣ ص ٣٩٨ ، ومعجم الأحاديث ج‍ ١ ص ٣١ ـ ٣٢ ]. وأخبر الرسول المسلمين بمداهنة القراء ، ونفاق العلماء وبعد أن أحكم أئمة الضلالة قبضتهم على الأمة ، وسلبوها أمرها من غير مشورة ، وبعد أن نقضوا عرى الإسلام كلها عروة عروة سخروا موارد الدولة وإمكانياتها ، وأمروا ولاتهم وعمالهم وعلماء السوء أن يكذبوا على رسول الله وأن يختلقوا أحاديث تروى بطريقة فنية توجب على المسلمين طاعة أئمة الضلالة ، لأن طاعتهم عبادة بوصفهم خلفاء للنبي ، وتحرم على المسلمين معصية أئمة الضلالة ، لأن معصية أئمة الضلالة معصية لله ، ومعصية الله معصية للرسول ، ومن عصى الله والرسول فقد برئت منه الذمة ، وأحل دمه حتى في الأشهر الحرم. وأحكم أئمة الضلالة وأعوانهم الطوق عندما حرّموا على أي مسلم أن يخرج عليهم مهما فعلوا. وسخر أئمة الضلالة کافة موارد الدولة وإمكانياتها لتعميم هذه الطاعة العمياء ، وأخلوها في مناهجهم التربوية والتعليمية ، ورووا الأحاديث الكثيرة عن رسول الله ، ومع الأيام والعادة والتكرار ، صارت هذه القناعة التي لا يقبلها عقل جزءاً من الدين نفسه.

قال أبو بكر الباقلاني القاضي المعروف في كتابه « التمهيد » باب ذكر ما يوجب خلع الإمام : « قال الجمهور من أهل الإثبات ، وأصحاب الحديث : لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه بغصب الأموال وضرب الأبشار وتناول النفوس المحرمة وتضييع الحقوق وتعطيل الحدود ولا يجب الخروج عليه ، بل يجب وعظه تخويفه ، فالأخبار متضافرة عن الرسول وعن الصحابة في وجوب طاعة الأئمة ».

وقال النووي في شروحه على صحيح مسلم بيان لزوم طاعة الأمراء ج‍ ١٢ ص ٢٢٩ من صحيح مسلم بشرح النووي ما يلي وبالحرف : « قال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين : لا ينعزل الإمام بالفسق والظلم وتعطيل الحدود ، ولا يخلع ، ولا يجوز الخروج عليه بذلك ، بل يجب وعظه وتخويفه ، وأما الخروج على الأئمة وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين ، وإن كانوا فسقة

٤٩

ظالمين »!!! أو أئمة مضلين ، إن أطاعوهم فتنوهم ، وإن عصوهم قتلوهم. [ راجع مجمع الزوائد ج‍ ٥ ص ٣٢٩ عن الطبراني ، والجامع الصغير ج‍ ٢ ص ٤٠٣ ح ٧٢٣٨ السيوطي عن الطبراني ، وكنز العمال ج‍ ٦ ص ٢٢ ح ١٤٦٧١ عن الطبراني ، وفيض القدير ج‍ ٥ ص ٢٦٤ ح ٧٢٣٨ عن الجامع الصغير ، ومعجم أحاديث الإمام المهدي ج‍ ١ ص ٣٥ ـ ٣٦ ]. لقد حذر الرسول كثيراً من الدجال ولكن أکد للمسلمين أن الأئمة المضلين أخطر من الدجال ، [ راجع نص الحديث بمسند الإمام أحمد ج‍ ١ ص ٩٨ وج‍ ٥ ص ١٤٥ ، وأبو يعلى ج‍ ١ ص ٣٥٩ عن ابن أبي شيبة ، والفردوس ج‍ ٣ ص ١٣١ ح ٤١٦٣ ، ومجمع الزوائد ، ج‍ ٥ ص ٢٣٨ ـ ٢٣٩ ، والجامع الصغير للسيوطي ج‍ ٢ ص ٢٠١ ، ح ٥٧٨٢ ، وكنز العمال ج‍ ١٠ ص ١٩١ ح ٢٩٠٠٨ ، وفيض القدير ج‍ ٤ ص ٤٠٧ ح ٥٧٨٢ عن الجامع الصغير ، ومعجم أحاديث الإمام المهدي ج‍ ١ ص ٣٣ ـ ٣٤ ]. ووثق الرسول أثناء تحذيره الصلة بين الأئمة المضلين وبين الدجال ، فقال : « إن طعام أمرائي بعدي مثل طعام الدجال ، إذا أكله الرجل ينقلب قلبه ». [ راجع مسند أحمد ج‍ ١ ص ٩٨ وج‍ ٥ ص ٤٥ ، وابن أبي شيبة ج‍ ١٤٢ ح ١٩٣٣٢ ]. وقد وصف رسول الله الأئمة المضلين فقال لأحد الصحابة : « أعاذك الله يا كعب بن عمرة من إمارة السفهاء. قال كعب : وما إمارة السفهاء؟ قال الرسول : أمراء يكونون بعدي لا بهدون بهديي ، ولا يستنون بسنتي ، فمن صدقهم بكذبهم ، وأعانهم على ظلمهم ، فأولئك ليسوا مني ولست منهم ، ولا يردون على الحوض ، ومن لم يصدقهم على كذبهم ، ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم وسيردون على الحوض ... [ راجع عبد الرزاق ج‍ ١١ ص ٣٤٥ ـ ٣٤٦ ح ٢٠٧١٩ ، ومسند أحمد ج‍ ٣ ص ٣٢١ عن عبدالرزاق وص ٣٢٩ وج‍ ٥ ص ١١ وج‍ ٦ ص ٣٩٥ ، والبزار عن حذيفة ، والنسائي ج‍ ٧ ص ١٦٠ ، والطبراني في الكبير ج‍ ٤ ص ٦٧ ح ٣١٢٧ وح ٣٦٢٨ ، والطبراني في الأوسط والحاكم ج‍ ١ ص ٧٨ ـ ٧٩ ، ومعجم أحاديث الإمام المهدي ج‍ ١ ص ٢٣ ـ ٢٥ ].

ووصفهم النبي مرة أخرى فقال : « ستكون عليكم أئمة يملكون أرزاقكم

٥٠

يحدثونكم فيكذبونكم ، ويعملون ويسيئون العمل ، لا يرضون منكم حتى تحسنوا إن أئمة الضلالة وأعوانهم في منتهى الدهاء والخبث ، كما أخبر الرسول إنهم شياطين حقيقيون ، سخروا كافة إمكانات الدولة ومواردها للتحريف والتبديل والخلط. لقد « جيروا » أو ظهروا لهم كما بجير وتظهر قسائم الشيكات كافة الحقوق التي رتبها الله للرسول وللأئمة الشرعيين من بعده ، فصار إمام الضلالة يتمتع بنفس حقوق الطاعة والامتيازات التي يتمتع بها الرسول والأئمة الشرعيين الذين اختارهم الله وأعّدهم لقيادة الأمة من بعده!! وانطلى خبث أئمة الضلالة على العوام!! فهل يعقل أن يحذر رسول الله من أئمة الضلالة ، وأن يخبر المسلمين بأن أئمة الضلالة سينقضون عرى الإسلام كلها وأنهم سينتهكون كل محرم ، ويشردون ويطردون ويقتلون آل محمد وأهل بيت النبوة ، وسيذلون المسلمين ، ومع هذا يأمر الرسول بمكافأتهم على جرائمهم العظمى ، فيعتبر طاعتهم كطاعته عبادة وواجبة ، ومعصيتهم كمعصيتهم محرمة توجب العقوبة!!! ثم يحرّم الخروج عليهم مهما فعلوا ويتركهم يتنفعون بظلمهم وفسقهم ومعاصيهم وإذلالهم للأمة والجلوس على رأسها!! فاي مجنون في الدنيا يصدق ذلك!!! وأي عقل يقره ، وأي دين يأمر به!!!

ولكن ولأن أئمة الضلالة هم الحكام المالكون للسلطة والجاه والنفوذ والمتصرفون بشؤون الأمة تصرف المالك فقد اختلقوا هم وأعوانهم على الرسول ، ووضعوا هذه الاختلاقات في مناهجهم التربوية والتعليمية ، وفرضوا هذه المناهج على المسلمين ، وأوجبوا عليهم التدين بها بالإكراه ، وتناقلتها أجيال المسلمين ، وروجت لها وسائل إعلام الدولة ، وبحكم العادة والتكرار وبدعم متواصل من أئمة الضلالة وأعوانهم صارت العامة ، الأكثرية الساحقة من الأمة ، تعتقد بصواب هذا الاعتقاد ، وتتعبد به ، ولم يجرؤ الخاصة على الاعتراض تلك معالم وشواهد وشواخص تكشف أئمة الضلالة وأعوانهم الذين نقضوا مجتمعين ومنفردين عرى الإسلام كلها ، وأوردها الأمة موارد الردى وقدموا الدين بغير صورته الحقيقة ، فحالوا بينه وبين الانتشار ، وبين الأمم وبين الاستفادة من نوره المبين.

٥١

التناقض الصارخ بين الدين والواقع

وبين المظاهر والحقائق

١ ـ على صعيد الإمامة أو رئاسة الدولة : لقد أعدّ الله سبحانه وتعالى رسوله محمداً وأهله للنبوة والإمامة أو الرئاسة العامة للمسلمين واختاره لهذه المراتب لأنه الأفهم والأنقى والأقرب إلى الله ، والأقدر على القيادة في تلك المرحلة ، وتلك مواصفات ومؤهلات لا يعلمها علم اليقين إلا الله ، وكلها مؤهلات ضرورية لتكون القدوة المثالية ، وليتمكن من قيادة الأمة وفض ما يشجر بينها من مشكلات وفق الحكم الإلهي. ومن المفترض بعد وفاة النبي أن تنتقل الأمامة والرئاسة العامة لمن أعدّه الله ورسوله واختاره لهذه المهمة ليتابع طريق النبوة ويتم ما لم يتحقق من برامجها!! هذا هو التنظير الديني للرئاسة ، وهذا هو حكم الدين. أما على صعيد الواقع فالأمر مختلف جداً فأبرز مؤهلات الذبين خلفوا النبي برئاسة الدوله طوال التاريخ السياسي الاسلامي هو التغلب والقهر فأي شخص يغلب على الأمر أو الخلافة يتقلدها ويتنعم هو والذين أوصلوه لهذا المنصب بامتيازات الخلافة ، فالمتغلب شخص عادي من جميع الوجوه فلم يدّع أحد من الخلفاء التاريخيين أنه الأفضل أو الأعلم أو الأفهم أو الأتقي أو الأقرب إلى الله ورسوله بل وصرح أول الخلفاء بما يلي : « إني قد وليت عليكم ولست بخيركم » ... فالخليفة الأول صادق في ما يقول ، ويعترف صراحة وضمناً بأن بين المخاطبين المحكومين من هو خير منه ، ومن هو أفضل منه ، ومع هذا فقد ولي الخلافة رسمياً وأصبح خليفة النبي والقائم مقامة واقعياً وعلى الأمة أن تسلم بذلك شاءت أم أبت ، تبايعه راضية أو كارهة لأنه لا بد للجماعة المؤمنة من رئاسة. وهنا تقع المشكلات الکبرى فالسلطة الفعلية والأمر والنهي بيد الخليفة والقائم مقام النبي واقعياً أما الإمام الشرعي المؤهل والمختار إلهياً فهو مجرد مواطن عادي لا حول بيده ولا قوة ، ويمكن للخليفة بإشارة من يده أن يطيح برأس الإمام الشرعي قبل أن يرتد إليه طرفه. بهذه الحالة ، فإن الخليفة لا يعرف الحكم الشرعي ولا المقاصد الشرعية ، ولا برامج النبوة ، ولا معنى كل اية معرفة يقينية ، هو يعرف ولكن ظناً وتخميناً ، والخليفة ليس محيطاً بالبيان النبوي ولا معداً أصلاً ليكون

٥٢

خليفة وليس لديه علم يقيني لا بالماضي ولا بالحاضر ولا بالمستقبل لأنه أصلاً غير معد لهذه الأمور ، لقد جلس مجلساً ليس له وادعى أمراً فوق طاقته ، وعلى الخليفة أن يدير أمور الدولة ، فإذا رجع الخليفة للإمام الشرعي فإنه مضطر أن يرجع إليه في كل الأمور وفي ذلك حط من مقام الخليفة ، واعتراف ضمني بعدم أهليته للحكم ، واعتراف بأن الإمام الشرعي هو المؤهل الوحيد في زمانه لتولي الأمور. لكن الخليفة وأعوانه لن يستسلموا ولن يعترفوا بذلك فأول خطواتهم كانت تجاهل الإمام الشرعي تجاهلاً كاملاً والحط من مكانته ، والتعتيم الكامل على مؤهلاته. ثم تسيير شؤون الحكم بالرأي لا بالشرع ، فهم لا يعرفون الشرع ، ولكنهم يعرفون الرأي ، لذلك تركوا شرع الله الذي لا يعرفونه ولا يجيدون الحكم وفق أحكامه واجتهدوا أو اخترعوا أحكاماً من ارائهم الشخصية لحل المشكلات التي كانت تواجه الخلفاء ، وكان يصدف أن يُطرح سؤال على الخليفة أو تعرض عليه مشكلة والإمام الشرعي موجود فيجيب الإمام الشرعي ، ويقدم الحل للمشكلة أمام الخليفة الساكت فيتبنى الخليفة جواب الإمام أو الحكم الشرعي الذي أعلنه الإمام إذا كان هذا الجواب أو الحكم لا يتعارض مع نظام الخليفة أو يمس بوجوده ووجود أعوانه. وكثيراً ما كان العامة ينتقدون آراء الخليفة وأحكامه ، وكثيراً ما كان يصدر حكماً أو رأياً اليوم وينقضه غداً ليتبنى رأياً وحكماً آخر ، لانه لا يعرف الصواب على وجه اليقين ولا يعرف الأحكام الشرعية لذلك يبقى حبيس آرائه الشخصية واجتهاداته ليجد الحل أي حل لمشكلات الناس التي تعرض عليه.

والخلاصة أنه وحسب أحكام الدين فإن الإمام أو الرئيس من بعد النبي يتمتع بمؤهلات خاصة تجعله ملاذاً للناس بمميزاته وقدراته التي تؤهله للإجابة على كل سؤال مطروح في العالم جواباً شرعياً يقينياً ، وتجعله مثلاً أعلى وقدوة للمحكومين ولأبناء الجنس البشري تماماًً كما كان النبي إلا أن الإمام ليس نبياً ولا يوحى إليه إنما هو وارث لعلمي النبوة والكتاب ، ومسدد ، وموفق إلهياً لأنه المكلف بتنفيذ البرامج الإلهية لهداية العالم كله ، ولانه مكلف ببيان وتنفيذ الحكم الشرعي على صعيد الأمة الإسلامية. هذا هو الإمام القائم مقام النبي شرعاً وكما هو في الحق والحقيقة ، وقد وجد مثل هذا الرجل المؤهل دائماً ، ولكن أئمة الضلالة حالوا بينه ويين ممارسة حقه الشرعي بالإمامة.

٥٣

أما من الناحية الواقعية فالخليفة المتغلب الذي استولى على منصب الخلافة بالقوة والقهر والغلبة وكثرة الأتباع فليست له صفات ومؤهلات تميزه عن غيره من الناس ، فهو رجل عادي من جميع الوجوه ، ومؤهله الوحيد يكمن في القوة والتغلب ، حتى إذا ما استولى على منصب الخلافة سخر امكانياتها ومواردها لتجميل صورته ، واختلاق مميزات خاصة له واقناع الناس بالترغيب والترهيب أنه بالذات الشخص المناسب ليقوم مقام النبي وخلفائه.

والخليفة المتغلب يقر علناً بأنه ليس الأفضل ولا الأعلم ولا الأقرب لله ولرسوله ، وأنه مجرد شخص عادي ليست له مميزات خاصة ، ويقر أيضاً بأن الأفضل والأعلم والأقرب للرسول موجود بالفعل ويقر أعوانه بكل ذلك تبعاً لإقراره!!! ولكنهم يدعون بأن المسلمين قد قدموا المفضول وهو الخليفة على الأفضل وهو الإمام الشرعي لمصلحة قدروها في ذلک!!! والمقصود بالمسلمين هم الفئة التي جاءت بالخليفة المتغلب ودعمته حتى جعلته خليفة!! أما المسلمون الذين يعارضون هذا الخليفة فلا يعتد برأيهم ، ولا يقام له وزن لأنه يفرق الأمة بعد توحدها!!

٢ ـ الله سبحانه وتعالى شهد لأهل بيت النبوة بالطهارة ، واعتبرهم أحدا الثقلين الأكبر وأهل البيت هم الثقل الأصغر ، والهدى لا يدرك إلا بالثقلين معاً ، والضلالة لا يمكن تجنبها إلا بالثقلين معاً ، والأمة تشهد أن الهاشميين هم الذين احتضنوا النبي وحموه وحموا دعوته طوال مدة ال‍ ١٥ سنة التي سبقت الهجرة ، وأن بطون قريش مجتمعة قد حاصرت الهاشميين وقاطعتهم ولولا الهاشميين لقتلت بطون قريش رسول الله وبعد الهجرة وعندما جيشت بطون قريش الجيوش وحاربت الرسول كان الهاشميون هم أركان حرب الرسول وهم أول من قاتل ومنهم أول من قُتل وبقي الهاشميون إلى جانب الرسول حتى استسلمت بطون قريش واضطرت مكرهة أن تعلن إسلامها ، لهذه الأسباب مجتمعة ومنفردة ولإسباب تتعلق بحكمة الله وفضله جعل الله الصلاة على آل محمد ركناً من أركان الصلوات المفروضة على المسلمين ، وفرض مودتهم على الناس ، وفرض محبتهم. بعد موت النبي قالت بطون قريش أنها أولى بالنبي من آل محمد ومن

٥٤

أهل بيته ومن بني هاشم!!! وأن هذه البطون هي الوارثة الوحيدة لأموال النبي وسلطانه لأنه من قريش أما آل محمد وأهل بيته وبنو هاشم فليست لهم أية حقوق أو امتيازات خاصة ، ولا يجوز لهم أن يتولوا الخلافة لأن محمداً من بني هاشم وقد أخذ الهاشميون النبوة ولا ينبغي لهم يجمعوا مع النبوة الخلافة فينالوا الشرفين ، ويذهبوا بالفخرين ، ويحرموا بطون قريش كذلك لا يجوز للهاشميين عامة ولا لأهل بيت النبوة وآل محمد خاصة أن يتولوا الوظائف العامة لأنهم سيستغلون هذه الوظائف للوصول إلى منصب الخلافة ، وقد وثقنا ذلك في كتابينا : « نظرية عدالة الصحابة » والمواجهة مع رسول الله وآله وفوق ذلك وحتى لا يستغل آل محمد قرابتهم للنبي ، وحتى لا يستميلوا القلوب ويؤلفوها من حولهم قرر الخلفاء أن يبقوا آل محمد في حالة عوز وحالة تبعية اقتصادية تامة ، فحرموهم من تركة النبي ، وصادروا الإقطاعات التي أقطعها لهم النبي حال حياته ، وحرموهم من إرث النبي ، ومنعوهم سهم ذوي القربي المخصص لهم بآية محكمة ، وأعلن الخليفة الأول أنه على استعداد لتقديم المأكل والمشرب لآل محمد لا يزيدون عليه!!! وهكذا كان حصار الخلفاء لآل محمد رسول الله ولأهل بيته حصاراً محكماً وشاملاً لكل نواحي الحياة!!! ولم يكتف الخلفاء بذلك لأنهم اعتبروا وجود آل محمد وأهل بيته خطراً على منصب الخلافة وقنبلة موقوتة لا يدري الخلفاء متى تنفجر لذلك طردوهم وشردوهم وقتلوهم تقتيلاً ، وإن جادل القوم بآل محمد وأهل بيته فلن يجادلوا أبداً بأن علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء والحسن والحسين هم من آل محمد بل هم رأس وعماد آل محمد ، ومع هذا فقد هددوا علياً بالقتل إن لم يبايع ثم قتلوه ، وشرعوا بحرق بيت فاطمة بنت محمد على من فيه وفيه الحسن والحسين وذلك في اليوم الثاني لوفاة أبيها رسول الله ، وعندما كبر الحسن قتلوه بالسم. وبقي الحسين وحيداً يضم تحت جناحيه آل محمد ، ثم أخرجه الخلفاء ومن والاه من آل محمد ، وقادوهم إلى حمراء لا ظل فيها ولا ماء ، وحالوا بين آل محمد وبين ماء الفرات حتى لا يشربوا منه ويموتوا عطشاً ، ثم جهز الخليفة جيشاً قوامه مائة ألف مقاتل أو ثلاثين ألف مقاتل بأقل الروايات وشن هذا الجيش هجوماً ساحقاً على الحسين ومن معه من آل محمد وأحفاده وأبناء عمومته وتمكن الجيش من إبادة كل من

٥٥

حضر من آل محمد ، ولم يبق إلا الحسين ، وكان بإمكان جيش الخليفة أن يأسر الحسين لأنه رجل واحد ، ولكن هذا الجيش شن هجوماً شاملاً على ابن النبي وقتله سر قتلة وقطعه تقطيعاً ونهب رحلة ، وساق بنات النبي ، وبنات عمومته حفارى أسارى وبعد أن انتهت المعركة بانتصار جيش الخليفة ، صلوا الفرائض ولم ينسوا أبداً بأن يصلوا على محمد وآل محمد. هم نظرياً يصلون على محمد ويقتلون ابنه وأحفاده وأولاد عمومته!! وهم يصلون على آل محمد ويقتلونهم!! يصلون عليهم وبعد الانتهاء من الصلاة يستعدون لقتلهم ثم يقتلونهم ، وبعد الانتهاء من القتل يصلون عليهم وهم يعتقدون أنه لا تناقض بين صلاتهم على النبي وقتلهم لابنه وأحفاده ، ولا تناقض بين صلاتهم على آل النبي وقتلهم لأولئك الآل!! وقد وقع في هذا التناقض حتى الخلفاء الراشدون ، فقد أمر الخليفة الأول بحرق بيت فاطمة بنت الرسول على من فيه وفيه الحسن والحسين ابنا رسول الله ، وقاد السرية التي تولت مهمة الشروع بحرق بيت فاطمه ولي عهد الأول والذي أصبح الخليفة الثاني وجمع الحطب تحت إشرافه ، وأشعلت فيه النيران بأمره ، وسمع بأذنه فاطمه بنت الرسول وهي تنادي بأعلي صوتها : « يا أبتي يا رسول الله » ولم يرمش له جفن حتى حقق ما أراد تماماً ، بعد ذلك عاد ولي عهد الأول والخليفة الثاني ومعه أركان دولة الخلافة فصلوا على محمد وآل محمد ، مع أنهم قبل قد شرعوا بحرق بيت بنت الرسول عليها وعلى ابنيه الصغيرين وهم أحب الناس إليه وصفوة آل محمد!! واعتقد الخليفة وولي عهده وأركان دولته أنه لا تناقض يذكر بين أفعالهم وبين حبهم للنبي وصلاتهم على محمد وعلى آل محمد!!!

وقد تقضي مصلحة الخلفاء أو أوهام فيها مصلحة أن يسبوا ويشتموا ويلعنوا آل محمد ، ويلزموا كل فرد من رعاياهم أن يلعن الآل الكرام أو يلعن عميدهم ، وأن يقطعوا عطاء من يحبهم ، أو يحكما بالموت على من يوالهم كما فعل الخلفاء الأمويون ، وخلال هذه المحنة الرهيبة كان الخلفاء الأمويون وأتباعهم يصلون على النبي وآل النبي ، وكانوا يعتقدون أنه لا تناقض يذكر بين أفعالهم بآل محمد وصلاتهم على محمد وآله!!!

٥٦

٣ ـ المؤمنون الصادقون الذين والوا رسول الله ، وآله ، ورافقوا في عسره ويسره وبذلوا له ولدينه النفس والنفيس ، وجاهدوا في الله حق جهاده حتى نصرالله نبيّه ، وأعز دينه ، وقامت دولة النبوة على أكتافهم ، هؤلاء المؤمنون الصادقون قد استبعدوا تماماً بعد موت النبي ، وحرموا من تولى الوظائف العامة ، ومن نشر علوم النبوة ، وعزلوا عزلاً تاماً عند الناس وأصبحوا موضع شبهه ، وصاروا غرباء بالوطن الذي بنوه حجراً فوق حجر ، وأعداء بمقاييس الدولة الجديدة التي بنوا أساسها بالعرق والدم بحجة موالاتهم لآل محمد!!!

أما الذين قاوموا الرسول ، وعادوه قبل الهجرة ، وتامروا على قتله وحصروا الهاشميين وقاطعوهم ، ثم جندوا الجيوش وحاربوا النبي بعد الهجرة ، وقادوا جبهة الشرك ، ورموا النبي بكل سهم في كناناتهم حتى أحيط بهم فاستسلموا واضطروا مكرهين لاعلان إسلامهم ، واخفوا تركة الصراع الهائل والمرير والطويل الذي دار بينهم وبين رسول الله!

بعد موت النبي مباشرة صاروا هم أركان دولة الخلافة وهم الأمراء ، هم الأساتذة ، وهم أصحاب الأمر والنهي ، ومن بيدهم السلطة الفعلية يتصرفون بالجاه والأموال والنفوذ على الوجه الذي يريدون بلا حسيب ولا رقيب ، ويمكنون لانفسهم في الأرض تحت سمع وبصر الخليفة الغالب ، المغلوب على أمراه ، ولكنه لا يريد الاعتراف بالحقيقة ، كان كل واحد من قادة جبهة الشرك السابقين يتصرف بولايته تصرف المالك بملكه ، ويضع البرامج والمناهج التربوية والتعليمية التي يراها مناسبة ، لاحداث التبديل والتغيير ، بما يخدمه ويرغم أنوف خصومه وهم أهل بيت النبوة ، وقدامى محاربي الإسلام!! ورموزه وأعلامه الذين حرموا من تولى الوظائف العامة ، واستبعدوا بالكامل!!

وعندما سئل الخليفة الثاني عن هول ما جرى ، وعن سر استخدامه للمنافقين والفجار ، وتركه لأولياء الله ورسوله؟ قال : « إننا نستعين بقوتهم وإثمهم على أنفسهم وقد وثقنا ذلك!!! فالمنافقون والفجار هم العناصر الوحيدة التي تملك القوة والقادرة على إدارة ملك الخليفة!!! أما أهل بيت النبوة ، والسابقون في الإيمان وقدامى المحاربين الذين هزموا بطون قريش وركعوا العرب كلها فليست

٥٧

لديهم القوة لإدارة هذا الملك!!!

أمثلة حية على هذا الانقلاب

لا خلاف بين اثنين بأن أبا سفيان وأولاده هم الذين قادوا جبهة الشرك وحروبها العدوانية ضد رسول الله وضد رسول الله وضد دينه الإسلام ، وأن أباسفيان واولاده قاوموا رسول الله بكل وسائل المقاومة ، وحاربوه بكل فنون القتال ، ويوم فتح مكة أحيط بهم ، فاستسلموا واضطروا لإعلان إسلامهم فصاروا طلقاء ، بعد موت النبي مباشرة تولى يزيد بن أبي سفيان قيادة الجيش الزاحف لفتح الشام ، ولما مات يزيد خلفه أخوه معاوية ، وترك معاوية والياً لبلاد الشام وهي أخطر ولايات دولة الخلافة مدة عشرين سنة يحكم كأنه ملك بلا رقيب ولا حسيب ويوطد لنفسه ، ثم أصبح خليفة ، لابنه يزيد ، وجاء بعده حفيده معاوية الثاني. فكان التوطيد لأعداء الله مكافأة سخية على عداوتهم وحربهم لرسول الله!!!

والحكم بن العاص كان من ألد أعداء رسول الله ، لعنه رسول الله. [ راجع مجمع الزوائد للهيثمي ج‍ ٥ ص ٢٤١ وقال رواه أحمد بن حنبل والبزار والطبراني ] وكان هذا معروفاً للعامة والخاصة. قال الهيثمي في مجمع الزوائد ج‍ ٥ ص ٢٤١ أن عبد الرحمن بن أبي بكر قال لمروان : « إن رسول الله لعن أباك ». وقال ابن عساكر [ راجع كنز العمال ج‍ ١١ ص ٣٥٨ والحاكم في مستدركه ج‍ ٤ ص ٤٨١ ] أن عبد الله بن الزبير قال وهو يطوف بالكعبة ، ورب هذا البيت الحرام والبلد الحرام أن الحكم بن العاص وولده ملعونين على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي الدر المنثور قال : أخرج ابن مردويه عن عائشة أنها قالت لمروان : « سمعت رسول الله يقول لأبيك وجدك أنكم الشجرة الملعونة في القرآن ». لقد نفاه رسول الله لأنه من المرجفين. ومع هذا آلت الخلافة لذرية هذا الملعون يتوارثونها بينهم ، مع أن رسول الله قد حذر المسلمين منه ومن ولده ، ومن جملة تحذيرات الرسول أنه قد قال : « إن هذا ، يعني الحكم ، سيخالف كتاب الله وسنة نبيه وسيخرج من صلبه فتن يبلغ دخانها السماء ، وبعضكم يومئذ شيعته » ، رواه الدار قطني [ راجع كنز العمال ج‍ ١١ ص ١٦٦ وابن عساكر ج‍ ١١ ص ٣٦ ،

٥٨

والطبراني ج‍ ١١ ص ١٦٧ ].

وقد تواترت الأنباء عن رسول الله التي تؤكد بأن أشد العرب بغضاً لرسول الله وآله هم بنو أمية ، ووقائع التاريخ تؤكد صحة هذه الأنباء فقد ساد الأمويون أعداء الله ، وقاد الهاشميون أولياء الله ، ونتيجة الحروب الطاحنة ، جرى القتل وتكونت الأحقاد الأموية. وربما لهذا السبب صار الأمويون بطانة الخلفاء الأول ثم أصبحوا خلفاء!! فكراهية آل محمد هي الوسيلة العملية للتقدم والوصول إلى السلطة ، وموالاة آل محمد هي معيار وسبب الغربة والعزلة!! إن هذا لأمر عجاب!!

هذا على مستوى الخلافة ، أما على مستوى ولايات الأعمال والأقاليم فنأخذ مثلاً عبد الله بن أبي سرح فهو الذي افترى على الله الكذب ، وهو عدو الله وعدو رسوله لقد أمر الرسول بقتله ولو تعلق بأستار الكعبة ، ويوم فتح مكة أمر الرسول بالبحث عنه وقتله ، فلجأ ابن أبي سرح إلي أخيه في الرضاعة عثمان بن عفان ، فغيبه عثمان وأخفاه ، وفي يوم من الأيام بعد الفتح بفترة جاء به عثمان إلى رسول الله فاستاء منه ، فصمت رسول الله طويلاً ، ثم قال نعم فلما انصرف عثمان قال النبي لمن حوله : ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه! فقال رجل فهلاّ أومأت إلى يا رسول الله؟ فقال النبي : إن النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة أعين. [ راجع ترجمة ابن أبي سرح في الاستيعاب لابن عبد البر ج‍ ٤ ص ٣٧٨ والأصابة لابن حجر ج‍ ٢ ص ٣٠٩ ، وأسد الغابة ج‍ ٣ ص ١٧٣ ]. وأصبح ابن أبي سرح طليقاً ومن المؤلفة قلوبهم ، الذين كان يعطي لهم سهم من الصدقات لأنهم منافقون وضعاف إيمان وحتى يصرفوا وبعد موت الرسول مباشرة صار عبدالله بن أبي سرح من أصفياء الخلفاء كما وثقنا ، ومن أهل الحل والعقد ، وأسندت إليه إمارة ولاية مصر وهي تاج الولايات الإسلامية ، ومرّ حين من الدهر كان فيه ابن أبي سرح الرجل الثالث في الدولة الإسلامية ، مع أنه الأظلم بنص القرآن ، ومفتر على الله بنص القرآن ومع أنه عدو لله ولرسوله!!

هذا هو فريق القيادة ، وهذه هي الكوادر الفنية التي حلت عرى الإسلام وأسست ورسمت معالم عصر ما بعد النبوة ، فوضعت مناهجها التربوية والتعليمية ، وفرضتها على المسلمين قرابة قرن من الزمان ، خلطوا خلاله الأوراق

٥٩

خلطاً عجيباً فبدّلوا وعدلوا ولم يبق من الإسلام إلا كتاب الله وأهل بيت النبوة ، لمواجهة برامج تربوية وتعليمية قد استقرت في النفوس ، فألغت دور كتاب الله وما وصل إلينا من السنة النبوية وعملت على تجميل أفعال تلك الكوادر ، وإضفاء طابع الشرعية والمشروعية على وقائع التاريخ ، لقد اختلط الحابل بالنابل فلا تدري أيا من أي!!! « فلم يبق من القرآن إلا رسمه ، ولا من الإسلام إلا اسمه ، يسمون به وهم أبعد الناس عنه ، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى ، فقهاء ذلك الزمان شر فقهاء تحت السماء منهم خرجت الفتنة وإليهم تعود ».

هذا هو وصف رسول الله لواقع الأمة بعد أن حلت عرى الإسلام كلها [ راجع ثواب الأعمال وعقابها ج‍ ٤ ص ٣٠١ ، وجامع الأخبار ص ١٢٩ فقره ٨٨ والبحار ج‍ ٥٢ ص ١٩٠ ، ومنتخب الأثر للرازي ص ٤٢٧ ف ٦ ب ٢ ومعجم الإمام المهدي ج‍ ١ ص ٤٤ ـ ٤٤ ] ، أنت أمام جاهلية حقيقية أكثر شراً من الجاهلية الأولى كما ذكر رسول الله. [ راجع معجم الإمام المهدي ج‍ ١ ص ٤٤ ].

وهكذا حدث كما أخبر به رسول الله ، واقترفت تلك الكوادر كافة ما حذر منه! فقال : قال الرسول يوماً لأصحابة : « إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء ، رواه مسلم وابن ماجة والطبراني. [ راجع كنز العمال ج‍ ٢ ص ١٧٧ ]. قال النووي : أي أن الإسلام بدأ في آحاد من الناس وقلة ، ثم انتشر وظهر ثم سيلحقه النقض والاخلال حتى لا يبقى إلا في قلة وآحاد أيضاً. [ راجع صحيح مسلم بشرح النووي ج‍ ٢ ص ١٧٧ ].

٦٠