حقيقة الاعتقاد بالامام المهدي المنتظر

احمد حسين يعقوب

حقيقة الاعتقاد بالامام المهدي المنتظر

المؤلف:

احمد حسين يعقوب


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

وكتابنا « الهاشميون في الشريعة والتاريخ » ص ٢٢٥ يشتمل على عشرات المراجع والمثير للدهشة أنه لم يرو راو قط أن أحداً من المنافقين على الإطلاق قد عارض أي خليفة ، أو امتنع عن بيعة أي خليفة ، أو تلكأ عن نصرة أي خليفة من الخلفاء الذين حكموا الأمة عبر التاريخ ، والوحيد الذي عارضه المنافقون وامتنعوا عن بيعته هو علي بن أبي طالب ، وهكذا فعلوا مع ابنه السبط الإمام الحسن!! أتحدى أي عالم على وجه الأرض أن ينقض هذه الحقيقة!! بل الأعظم من ذلك أنه بعد موت النبي اختفت المخاوف من ظاهرة النفاق ، واندمح المنافقون في المجتمع اندماجاً تاماً!! ووقفوا بكل قواهم مع دولة الخلافة ، ومارسوا حياتهم بحرية ، وأصبح الولاء للدولة هو المعيار لتمييز الحق من الباطل ، فمن يوالي دولة الخلافة فهو على الحق ، أو مستور الحال بغض النظر عن إيمانه أو نفاقه! ومن يعارضها فهو على الباطل ، وشاق لعصا الطاعة ، ومفرق للجماعة ، ودمه حلال للخليفة!!

٣ ـ الذين في قلوبهم مرض : وهم غير الفئة المنافقة ، ويمكن أن نسميهم بأصحاب المصالح ، أو ضعاف الإيمان ، وقد وصفهم القرآن الكريم وصفاً دقيقاً ، وقد ساهمت هذه الفئة في نقض عرى الإسلام.

٤ ـ الذين في قلوبهم زيغ : وهم فئة رابعة متميزة عن غيرها من الفئات ، وهؤلاء يفرون من الوضوح إلى الغموض ، ومن الحق إلى الباطل ، وهم التاركون للنص الآخذون بالرأي حرصاً على مصلحة الإسلام والمسلمين!!!

٥ ـ أصحاب التخشع الكاذب : فئة يتظاهر أفرادها بالورع ، والتقي والدين ، وهم كاذبون ولهم القدرة على خداع كل الناس ، وأبرز مثال على هذه الفئة ابن ذي الثدية ، فقد خدع أبا بكر ، وخدع عمر رضي الله عنهما ، وتصور أنه خاشع تقي فكلف رسول الله أبا بكر ليقتله فلم يفعل تقديراً لخشوعه ، ثم كلف الرسول عمر فلم يفعل ، لأنه قد اغتر بخشوعه ، فأمر الرسول علياً بقتله فلم يجده ، وأخبر الرسول. أن هذا المتخشع الكاذب مارق ، وأن علياً سيقتله ذات يوم وقتله علي بالنهروان بالفعل ، [ راجع البداية والنهاية لابن كثير ج‍ ٧ ص ٢٩٩ ، ومجمع الزوائد ج‍ ٦ ص ٢٢٧ ]. وقد ساهمت هذه الفئة بنقض عرى الإسلام ، وقد كشف

٢١

الله ورسوله حقيقة هذه الفئة ، كما كشف حقيقة غيرها من الفئات التي ستقود. وتتبنى عملياً عملية نقض عرى الإسلام.

البيان اليقيني وإقامة

الحجة على الجميع

من خلال الترابط والتكامل بين القرآن وبيان النبي لهذا القرآن ، وبمتابعة من الوحي الإلهي الذي لم يتوقف ، بيّن الترتيبات الإلهية لمرحلة ما بعد موت النبي ، وأثبت بالدليل القاطع ، بأن هذه الترتيبات محكمة ، وأنها صنع الله ، وهي الهدى بعينه ، وهي الصراط المستقيم نفسه.

ونجح النبي نجاحاً منقطع النظير في وصف الطريق التي سيسلكها المسلمون بعد وفاته ، وكشف مخاطرها ومنعطفاتها ، وتحديد الأعداء تحديداً دقيقاً ، وبيان طريق النجاة من كل خطر ، والمنهج الفرد لهزيمة الشيطان وأوليائه. وهكذا وضع الله ورسوله تحت تصرف طلاب المهدي التصوّر اليقيني ، لما هو كائن ولما ينبغي أن يكون ، فقامت الحجة على الجميع ، فمن يترك الطريق القويم لا يتركها بشبهة ، أو بعذر لأنه لا شبهه مع اليقين ، إنما يتركها منحرفاً متعمداً مع سبق الإصرار.

المفاجأت الكبري

بعد أن وضع النبي تحت تصرف المسلمين التصوّر اليقيني لما هو كائن ، ولما ينبغي أن يكون ، وبعد أن رسم لهم مخططاً للطريق التي سيسلكونها بعد وفاته ، مرض كما أخبرهم من قبل ، وأعلن أنه سيموت في مرضه ، وأنه سيلخص لهم الموقف خطياً ، فيؤمنهم ضد الضلالة والانحراف تأميناً شاملاً ، وضرب موعدًا لكتابة توجيهاته النهائية ، وما جلس النبي مع خلّص أصحابه ، وفي الوقت الذي همّ بكتابة توجيهاته النهائية فوجئ النبي وخلص من أصحابه ، بجمع كبير من بطون قريش يدخل حجرة النبي دون استئذان ، ويجلسون دون دعوى متجاهلين بالكامل وجود النبي ، ولم يثن هذا التصرف النبي عما أراد ، فقال النبي لخلّص أصحابه : « قربوا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً » ، فتجاهل

٢٢

جمع بطون قريش وجود النبي ، وتجاهلوا ما قاله ، ووجهوا كلامهم للخلّص من أصحابه قائلين : « إن النبي قد غلبه الوجع ، حسبنا كتاب الله » أن النبي يهجر حسبنا كتاب الله استفهموه! إنه يهجر!!! القرآن وحده يكفينا ولا حاجة لوصية الرسول!!!

احتج الخلّص من أصحاب النبي على هذا التصرف المستغرب ، واصطدموا مع جمع البطون ، وعلت الأصوات بين أصحاب النبي الخلًص القلة ، وبين الكثرة من بطون قريش ، وتنازعوا ، فأطلّت النسوة من وراء الستر ، وقلن : ألا تسمعون رسول الله يقول : قرّبوا يكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده؟ فنهرهن أحد الصحابة قائلاً لهن : « إنكن صويحبات يوسف » هنا تكلم النبي فقال : « إنهن خير منكم » ما أنا فيه خير مما تدعونني إليه ، قوموا فلا ينبغي عندي تنازع!! وهكذا صرف النبي النظر عن كتابه توجيهاته الخطية ، إذ لو أصر النبي على الكتابة لأصرت بطون قريش في ما بعد على أن الكتابة قد صدرت عن النبي وهو يهجر حاشاه ، مع ما يستتبع ذلك من خطر ماحق على دين نفسه ، وهكذا نجحت بطوتن قريس ومن لف لفها يإخراج النبي من التأثير على سير الأحداث بلحظات حاسمة ، وحرقت الأمة والعالم من الاستفادة من توجيهات النبي النهائية الخطية. وما ذكرناه حقائق رواها البخاري في صحيحه في ست روايات ، ورواها مسلم في صحيحه والنووي في شرحه على صحيح مسلم وابن القيم الجوزي في تذكرة الخواص ، وأبو حامد الغزالي في سر العالمين ، وكشف ما في الدارين ، ولا خلاف إطلاقاً بين المسلمين على صحة وحقيقة هذه الوقائع ، وهكذا صدمت بطون قريش خاطر النبي الشريف ، وقصموا ظهر الإسلام بالفعل. وتلك حادثة فريدة من نوعها في التارنخ السياسي إسلامي ، فما من خليفة على الإطلاق إلا وقد مرض قبل موته ، واشتد به الوجع أكثر مما اشتد الوجع برسول الله. وما من خليفة على الإطلاق إلا وقد كتب توجيهاته النهائية أثناء مرضه ، وقبل موته ، ولم يصدف على الاطلاق أن قال أحد لأي خليفة من الخلفاء أنت تهجر ، أو أن الوجع قد اشتد بك ، وأنه لا حاجة لنا بوصيتك ، ولا بتوجيهاتك لأن القرآن عندنا وهو يكفينا ويغنينا عنك!!. بل على العكس فقد كانت وصايا الخلفاء وهم على هذه الحالة تنفذ كأنها وحي إلهي

٢٣

تنزلت به الملائكة علناً ، وعلى رؤوس الأشهاد!!! وبعض الخلفاء وهو مشرف على الموت أوحى لقتل كل من لا يلتزم حرفياً بتوجيهاته النهائية التي أصدرها ، وهو مريض على فراش الموت ، ومع هذا نفذت تلك التوجيهات بدقة متناهية.

حلقة من مخطط

وخطوة على طريق

لم تكن مواجهة بطون قريش للنبي في الحجرة المقدسة وقولهم له « أنت تهجر ، والقرآن يغنينا عنك ، ولا حاجة لنا بوصيتك » وليدة لحظتها إنما كانت الحلقة قبل الإخيرة من مخطط أعدّ له بدقة ، ونفّذ خطوة بعد خطوة. كانت بطون قريش ومن لف لفها تُريد أن تبقى من الدين والنبوة فقط ، ما هو ضروري لبقاء الملك الذي تمخضت عنه النبوة وما لا يتعارض مع هذا الملك ، تريد في النهاية الاستيلاء على هذا الملك بالقوة والقهر والتغلب ، وأن تنسف كافة تعاليم الدين وترتيباته التي تتعارض مع أهدافها تلك. لقد أدركت هذه الجبهة خطورة البيان النبوي ، وقدرة النبي على إيصال ما يريد إلى قلوب سامعيه ، وأدركت إحكام الترتيبات الإلهية لذلك ، وأثناء حياة النبي وصحته كانت بطون قريش تشكك بكل ما قاله النبي ، وتصد عن كتابه أحاديث النبي. قال عبد الله بن عمرو بن العاص : « كنت اكتب كل شيء سمعته من رسول الله ... فنهتني قريش وقالت : الرسول بشر يتكلم في الغضب والرضى ... [ راجع سنن أبي داود ج‍ ٢ ص ١٢٦ ، وسنن الدارمي ج‍ ١ ص ١٢٥ ومسند أحمد بن حنبل ج‍ ٢ ص ١٦٢ و ٢٠٧ و ٢١٦ والمستدرك للحاکم ج‍ ١ ص ١٠٥ و ١٠٦ وجامع بيان العلم لابن عبد البر ] ، وكانت بطون قريش تشيع بأن الرسول يفقد السيطرة على أعصابه ، فيسب ويشتم ويلعن من لا يستحق ذلك ، [ راجع صحيح البخاري ، مسلم كتاب الدعوات باب قول النبي من « من آذيته » ، وصحيح كتاب البر والصلة ، باب من لعنه النبي ] ، وأن النبي قد سُحر وأنه يُخيل إليه أنه قد فعل الشيء وما فعله .. [ راجع صحيح البخاري ، بدء الخلق ، باب صفة إبليس وجنوده ، وصحيح مسلم باب السحر ] .. إلي آخره من تلك الأراجيف والأكاذيب التي لا أساس لها من الصحة ، واساس لها من الصحة ، ولما أدركت البطون الطامعة بالملك فشل إشاعاتها ، واستبطأت أجل النبي صممت على

٢٤

قتله ، وشرعت في جريمتها في غزوة تبوك ، ولكن الله حمى نبيه ؛ كل ذلك يجري تحت خيمة الإسلام التي استظلت بها الفئة الطامعة بالملك ، فجاء يوم الرزيّة كما يسميه ابن عباس ، وهو يوم المواجهة في الحجرة المقدسة ليكشف الأسرار ، وليظهر حقيقة توجهات البطون الحاقدة على بني هاشم.

كانت جبهة الصد عن سبيل الله تشكل فريقاً حقيقياً ، حزباً منظماً ، رتب كل شيء ، واقتسم الملك والغنائم ، حتى قبل موت النبي ، وجاءت المواجهة في الحجرة المقدسة بمثابة استعراض للقوة ، ولإقناع أولياء النبي بأنه لا فائدة ترجى من المعارضة ، فإما أن يقبلوا بترتيبات البطون وما قبلته من الإسلام ، أو يواجهوا الموت ، ويتوقعوا عودة الشرك بعد التوحيد ، وهذا يفسر اضطرار بعض الصحابة الكرام لمجاراة هذا التيار الساحق. وكانت هذه الجبهة تضم بطون قريش التي قاومت النبي قبل الهجره ، وحاربته بعد الهجرة ، ثم اضطرت مكرهة للدخول في الإسلام ، وتضم المنافقين من أهل المدينة ، ومن حولها ؛ منافقون من أهل مكة ، وممن حولها من الأعراب بالإضافة إلى المرتزقة من الأعراب الذين لا همّ لهم إلا الكسب ، الذين ينتظرون من تدور عليه الدوائر ليأكلوه ، والقاسم المشترك بين هذه الفئات هي كراهيتهم لآل محمد ، وعدم قبولهم بأن يجمع الهاشميون النبوة والملك معاً!!! لأن في ذلك إجحاف بحق البطون!! فهل من العدل ـ برأي البطون ـ أن يجمع الهاشميون النبوة والملك ، وأن ينالوا الشرفين ، ويحوزوا الفخرين معاًً وتُحرم بقية البطون!! أليس محمد من قريش!! لماذا يرث سلطانه الهاشميون وحدهم!! ومن الذي يضمن للبطون أن الهاشميين لن يجحفوا عندما يؤول المُلك إليهم بعد وفاة النبي!! ثم إن الهاشميين قد وتروا بطون قريش أثناء حروبها مع النبي ، فما من بطن من بطون قريش إلا وقتل منه الهاشميون ، فهل تقبل بطون قريش رئاسة الذين قتلوا أبناءها ، ويتّموا أطفالها ورمّلوا نساءها!! إن من مصلحة الإسلام أن تتوحد بطون قريش خلفه ، ولن تتحفف هذه الوحدة إلا أذا استُبعِدَ الهاشميون عن الملك ، وسلمت قيادة المسلمين لبطون قريش ، ومن والاها من العرب خاصة وأن الجميع يتلفظون بالشهادتين والبواطن لله. أما الاحتجاج بالترتيبات التي أعلنها النبي في غدير خم ، فالنبي بشر والناس أعلم بشؤون

٢٥

دنياهم!!! وهكذا صارت الفتنة كوجوه البقر ، لا تدري أياً من أي ، وأصبح أولياء النبي أقلية يخافون مرة ثانية أن يتخطفهم الناس من حولهم. وقد وثقنا كل ذلك بكتابنا ؛ المواجهة.

وهكذا افترق الإسلام عن السلطان « مع أنهما توأمان لا يصلح واحد منهما إلا بصاحبه ، فالإسلام أس والسلطان حارس ، وما لا أس له يهدم ، وما لا حارس له ضائع ». [ رواه الديلمي ، راجع كنز العمال ج‍ ٦ ص ١ ]. ومع الأيام آلت الخلافة لمن لا مؤهل له ، إلا الغلبة وكثرة الأتباع ولمن لا يعرف من الدين إلا اسمه!!!

٢٦

الفصل الثاني :

بطون قريش وأنصارها يستولون عملياً

علي مقاليد الدولة الإسلامية

قبل فتح مكة كانت الفئة المؤمنة الصادقة أقلية وسط أغلبية ساحقة من المشركين والمنافقين والمرتزقة من الأعراب. وبعد فتح مكة ودخول العرب بالإسلام بقيت الفئة المؤمنة الصادقة أقلية أيضاً وسط أكثرية ساحقة من المنافقين والمرتزقة من الأعراب وحديثي الدخول بالإسلام الذين يجهلون تاريخه ورجاله. وفي الحالتين كان وجود النبي كقيادة إسلامية ، والتفاف الفئة المؤمنة الصادقة حوله الضمانة الوحيدة لنقاء الحكم الإسلامي وبقائه. وهنا يكمن سر تركيز النبي المكثف على من يخلفه. لقد أدركت بطون قريش هذه الناحية ، ورأت أن استغلالها هي الطريق الوحيد للوصول إلى الملك ، وفصل السلطان عن الإسلام ، لذلك استغلت هذه البطون سماحه الإسلام وعدالته ، وجمعت حولها كافة العناصر التي اشتركت بمقاومة النبي ومحاربته سابقاً ، وانصب هدفها على عزل الفئة المؤمنة عن المجتمع تهميشها تماماً ودس الوقيعة بين رموزها ، واستعمال الكثرة الساحقة ، كطريق فرد للاستيلاء على الدولة الإسلامية. والتفرد بالملك الذي تمخضت عنه النبوة!! وكمرحلة أولى رأت البطون أن تسند رئاسة الدولة لرموز إسلامية مقبولة ومعروفة « الخليفة الرمز » على أن تكون بطانته ، وقادة جنده وعمال ولايته وأهل الحل والعقد عنده ، وبعد أن تضرب جذور البطون في الأرض تُلغي فكرة الخليفة الرمز وتستولي علنا ورسمياً على كافة مقاليد الدولة الإسلامية ، وتفرض على الناس مناهجها التربوية والتعليمية وخلال هذه المدة تمنع رواية

٢٧

الحديث النبوي وكتابته ، حتى تطمُسَ كلّ ما يذكر الناس بالحقيقة وبالشرعية السياسية الإلهية. وسواء في عهد الخليفة الرمز ، أو عندما استولت البطون على مقاليد الدولة ، كانت الفئة المؤمنة مهمشة تماماً. وراجت قناعة بأن أفرادها لا يصلحون للقيادة ، وغير موالين لدولة البطون ومتحفزين لشق عصا الطاعة ، ومفارقة الجماعة!! ومن مصلحة الإسلام والمسلمين ، ومن دواعي استقرار الدولة أن تبقى هذه الفئة تحت الرقابة المباشرة للخليفة الرمز وبطانته ، وأن لا يتولى أفرادها أي مصلحة من المصالح العلمية ، بمعنى أن الفئة عملياً تحت الإقامة الجبرية ، فنادراً أن يأذن الخليفة لأحد من أفرادها بمغادرة العاصمة إلى الأقاليم البعيدة عن إشرافه المباشر. ولأن الخليفة عادل فقد كان يغدق على الشخصيات البارزة من أفراد هذه الفئة المؤمنة الأموال من بيت مال المسلمين تأليفاً لقلوبها ، واتقاء لخطرها وطمعاً باستقرار الدولة ، حتى صارت تلك الشخصيات من أصحاب الملايين في مجتمع أكثريته الساحقة جائعة ومحتاجة!!.

المعايير الجديدة لتعبئة الوظائف العامة

عندما نجح التحالف الذي قادته بطون قريش ، بالاستيلاء على مقاليد الدولة اختفت المعايير التي كانت سائدة في زمن الرسول ، فلم يعد منها البلاء في سبيل الله ، ولا السابقة في الإسلام ، ولا العلم ، ولا الإخلاص لله ولرسوله ، وحلت محلها معايير جديدة أهمها ؛ موالاة دولة البطون ، وإرضاء رموزها والأكثرية الساحقة ، والقدرة على تنفيذ سياسة الدولة وبرامجها التربوية والتعليمية ، ومعاداة أعداء الدولة ، من قيمتهم ، بحيث لا يتقي لهم شأن ولا ذكر ، وإرغام أنوفهم لتبقي دوماً في التراب!

الاستعانة بالمنافقين والفاسقين والمرتزقة

قال ابن حجر في فتح الباري « والذي يظهر من سيرة عمر رضي الله عنه في أُّمرائه الذين كان يؤمرهم في البلاد أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط ، بل كان يضم إليه الذي عنده مزيد من المعرفة السياسية ، فلأجل ذلك استخلف معاوية

٢٨

والمغيرة بن شعبة ، وعمرو بن العاص مع وجود من هو أفضل منهم في أمر الدين والعلم ، [ راجع فتح الباري ، الأحكام ج‍ ١٣ ص ١٩٨ ].

قال حذيفة : « أمين سر رسول الله » لعمر بن الخطاب يوماً : « يا عمر إنك تستعين بالرجل الفاجر ». [ راجع كنز العمال ج‍ ٥ ص ٧٧ ] « والله يا عمر إنك تستعين من يخون وتقول ليس عليك شيء وعاملك يفعل كذا وكذا » [ راجع تاريخ الطبري ج‍ ٥ ص ٣١ ] ، وكان عمر يعلم أن الذين يستعين بهم ويستعملهم فجار أو منافقون أو منفقون أو خونه لله ولرسوله ولكنه كان يبرر استعماله لهم بالقول ، « نستعين بقوة المنافق ، وإثمه عليه » [ رواه ابن أبي شيبة والبيهقي ، راجع كنز العمال ج‍ ٤ ص ٦١٤ ] وهكذا صارت الاستعانة وتأمير الفاسقين والمنافقين والفجار طمعاً بقوتهم سُنّة ونظرية تتبناها دولة البطون وتنفذها بوفاء ، فأينما وجدت القوة ، تعني الالتزام بسياسة الدولة العامة ، والولاء لها ، وكراهية أعدائها ، وحرمان أُلئك الأعداء وأوليائهم من كافة الواظائف العامة ، والکارثة حقاً أن « أعداء » الدولة ومعارضيها سواء بالعلن أم بالسر هم أولياء النبي وقرابته الأدنون ، ومن قام الإسلام كله على أكتافهم!!

طواقم جديدة من الولاة

بعد أقل من شهرين على وفاة الرسول الأعظم تم عزل كافة العمال والولاة والأمراء الذين عينهم الرسول ، وقتل بعضهم شر قتلة ، كمالك بن نويرة ، ونجا أسامة بن زيد الذي عينه الرسول أميراً على جيش من العزل بأعجوبة!! وعينت الدولة طواقم جديدة من الولاة والأمراء بدلاً من الذين عينهم رسول الله ، واقتسمت بطون قريش الوظائف العامة ، وحصل البطن الأموي على نصيب الأسد ، لأن هذا البطن قد ساهم مساهمة فعالة بإقامة دولة البطون. وهذا البطن مشهور بعداوته للنبي وببغضه لآل النبي ، وحقده عليهم ، فالعرب كلهم بل العالم بأسره يعلم بأن أبا سفيان وأولاده خاصة ، والأمويين عامة هم الذين قادوا جبهة الشرك ضد رسول الله طوال فترة ال‍ ١٥ سنة التي سبقت الهجرة ، وأنهم هم الذين جيّشوا

٢٩

الجيوش وألبوا العرب على رسول الله وحاربوه بكل فنون القتال ، وعادوه بكل وسائل العداء حتى أحيط بهم عندما فتح الرسول مكة ، فاضطروا مكرهين للتلفظ بالشهادتين ، وکتموا إحباطهم وحقدهم على آل محمد ، لأنهم فئة موتورة ، فما من بيت من بيوت البطن الأموي إلا وأصاب الهاشميون منه مقتلاً ، وقد بيّن الرسول لأصحابه ، بأن الأمويين هم أکثر بطون قريش بغضاً لآل محمد ، وأنهم طامعون بملک النبوة لأنه رآهم ينزون علي منبره نزو القردة ، وطلب من الناس أن يعتزلوهم وأن يحذروا منهم ، وبعد وفاة النبي بفترة وجيزة ولت الدولة يزيد بن أبي سفيان قائداً عاماً لجيش الشام ، ولما مات يزيد عينت أخاه معاوية أميراً على الشام خلفاً لاخيه ، [ راجع البداية والنهاية ج‍ ٨ ص ١١٨ ، وتاريخ الطبري ج‍ ٥ ص ٦٩ ، والاستيعاب ج‍ ٣ ص ٥٩٦ وكنز العمال ج‍ ١٣ ص ٦٠٦ ] وأطلق عمر بن الخطاب يد معاوية في بلاد الشام ، وأعطاء الحرية الكاملة ليفعل ما يشاء ، وليتصرف على الوجه الذي يراه ، بلا رقيب ولا حسيب ، فقد قال عمر لمعاوية يوماً : « ... لا آمرك ولا أنهاك » ، [ راجع البداية والنهاية ج‍ ٨ ص ١٢٥ ، وتاريخ الطبري ج‍ ٦ ص ١٨٤ ] ، وكان عمر بؤطد له بين الناس فيقول عن معاوية : « إنه فتى قريش وابن سيدها » ، [ راجع البداية والنهاية ج‍ ٨ ص ١٢٥ ، والاستيعاب ج‍ ٨ ص ٣٩٧ ] ، وكان يقول للناس : « تذكرون كسرى وعندكم معاوية » ، [ راجع تاريخ الطبري ج‍ ٦ ص ١٨٤ ] ، وخاطب عمر أصحاب الشورى قائلاً : « إذا اختلفتم دخل عليكم معاوية بن أبي سفيان من الشام » ، [ راجع الطبقات الكبرى لابن سعد ج‍ ٥ ص ٥٣٥ ] وكان عمر يعرف أن معاوية يعد أهل الشام للخروج ، وأنه سيخرج ذات يوم ، فقد صرح عمر في يوم من الايام قائلاً : « يا أهل الشام استعدوا لأهل العراق ». [ راجع الدلائل لابن سعد ، وكنز العمال ج‍ ١٢ ص ٣٥٤ ]. ومع هذا لم يتعرض له عمر ، إنما تركه ليكمل استعداداته وعدته ويخرج في الوقت المناسب!! وكان وراء تأمير عمرو بن العاص ، فقد أعلن عمر أمام علية القوم قائلاً : « لا ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميراً ». [ راجع الإصابة ج‍ ٥ ص ٣ ] ، واستعان عمر بقوى الوليد بن عقبة ، مع أن الوليد فاسق بنص القرآن ، وكان يسكر علناً وصلى بالناس وهو سكران. [ راجع الإصابة

٣٠

ج‍ ٣ ص ٣٦٣ ]. واستعان عمر بعبد الله بن أبي سرح ، وكان من المقربين إليه ، [ راجع تاريخ الطبري ج‍ ٥ ص ٥٩ ، والبداية والنهاية ج‍ ٨ ص ٢١٤ ]. وعبد الله ابن أبي سرح هذا هو الذي افترى على الله الكذب ، وأباح الرسول دمه حتى لو تعلق بأستار الكعبة ، ثم أتمها عمر على بني أمية ، ووضع الأساس المتين لحكمهم يوم عهد عملياً بالخلافة لعثمان.

واستعان عمر بقوة أبي الأعور السلمي الذي شهد حنين مشركاً ، [ راجع الإصابة ج‍ ٢ ص ٥٤٠ ، وأسد الغابة ج‍ ٦ ص ٨٢ ]. وكان من أشد المبغضين لعلي بن أبي طالب ، وقد أمّره عمر ، وجعله على مقدمة جيش. [ راجع الإصابة ج‍ ٢ ص ٥٤١ ].

وأمر عمر يعلى بن منبه على بعض بلاد اليمن ، وكان من الحاقدين على علي بن أبي طالب ، فقد أعان الزبير بأربعماءة ألف عندما خرج على علي ، واشبرى لعائشة أم المؤمنين جملاً يقل له ( عسكر ) ، وجهز سبعين رجلاً من قريش لقتال علي بن أبي طالب. [ راجع الاستيعاب ج‍ ٣ ص ٦٦٢ ـ ٦٦٣ ].

واستعان عمر ببسر بن أرطأة ، وأياس بن صبيح ، وهو من أصحاب مسيلمة الكذاب ، أسلم وولاه عمر القضاء على البصرة ، [ راجع الاصابة ج‍ ١ ص ١٢٠ ]. واستعان عمر بطليحة بن خويلد الذي ادعى النبوة بعد النبي ، وقد أعجب عمر به ورضى عنه ، وكتب إلى أمرائه أن يشاوروه. [ راجع البداية والنهاية ج‍ ٧ ص ١٣٠ ]. وابن عدي الكلبي الرجل النصراني الذي تلفظ بالشهادتين ، وفوراً دعا له عمر برمح فولاه الإمارة ، قال عوف بن خارجة ، ما رأيت رجلاً لم يصلّ صلاة أمر على جماعة من المسلمين قبله ، [ راجه الإصابة ج‍ ١ ص ١١٦ ]. واستعمل عمر أبا زبيد على صدقات قومه وكان نصرانياً ، ولأنه قوى استعمله ، ولم يستعمل نصرانياً غيره. [ راجع الاستيعاب ج‍ ٤ ص ٨٠ ]. واستعان عمر بكعب الأحبار اليهودي الذي أسلم فصار من خلص الخليفة وأصفيائه ومرجعه وموضع أسراره ، والمجيب الموثوق على كل تساؤلاته ، وتولى كعب عملية القص في المساجد وصار القص سنّة. [ راجع الإصابة ج‍ ٣ ص ٣١٦ ] ، فكان كعب يقص ما يحلو له

٣١

في مسجد رسول الله ، في الوقت الذي منعت فيه دولة الخلافة كتابة ورواية أحاديث رسول الله نفسه!!

ولما مات عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت ولايات الدولة وأعمالها ووظائفها العامة غاصة بأصحاب « القوة » من الفاسقين والمنافقين ، وقد استخدمهم الخليفة ليستعين بقوتهم ، كما قال ونفاقهم وفسقهم على أنفسهم.

ولما آلت الخلافة إلى عثمان رضي الله عنه ، رفع شعار صلة الرحم ، بدلاً من القوة ، فعمر كان يبحث عن الأقوياء ليستعين بقوتهم ، أما عثمان فقد كان يبحث عن الأرحام ليصلها ، ومن نافذة الأرحام وبابها الواسع دخل الأمويون كلهم ، ودخل معهم أولياؤهم إلى ولايات الدولة وأعمالها ووظائفها ، فما من مصر من الأمصار ، وما من عمل من الأعمال ، إلا وواليه أموي ، أو موالٍ لبني أمية. وكان أول الداخلين من هذا الباب الحكم بن العاص ، طريد رسول الله وعدوه اللدود ، لعنه رسول الله وطرده وحرم عليه دخول المدينة ، ولما آلت الخلافة لعثمان أعاده للمدينة معززاً مكرماً ، ولما مات بنى على قبره فسطاطاً ، ومع الحكم دخل ابنه مروان. قالت عائشة أم المؤمنين لمروان : « أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله لعن أباك وأنت في صلبه ». قل الذهبي وابن عبد البر وغيرهما : « مروان أول من شق عصا المسلمين بلا شبهه ». [ راجع الإصابة ج‍ ١ ص ٦٩ ]. وكان مروان من أسباب قتل عثمان. [ راجع الإصابة ج‍ ٦ ص ١٥٧ ]. ومع أن مروان ملعون على لسان نبيه ، إلا أنه تولى الخلافة ، ولقب بأمير امير المؤمنين وتوارث أبناؤه ملك النبوة. وقد وصف مران بن الحكم وضع دولة الخلافة بآخر أيام عثمان ، وصفاً دقيقاً فقال لجموع الثوار الذين احتشدوا حول دار عثمان : « ما شأنكم قد اجتمعتم كأنكم قد جئتم لنهب ، شاهت الوجوه ، كل إنسان آخذ بإذن صاحبه إلا من أريد ، جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا ، اخرجوا عنا ، غب رأيكم ، ارجعوا إلى منازلكم ، فإنا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا ». [ راجع تاريخ الطبري ج‍ ٥ ص ١١٠ ].

والخلاصة أن دولة الخلافة تحولت إلى ملك أموي خالص ، وأن الأمويين قد غلبوا على كل شيء وأن الأكثرية الساحقة مع بني أمية طمعاًًً بما هم غالبون

٣٢

عليه وأنه لم يبق من الإسلام السياسي إلا لقب الخليفة « أمير المؤمنين » ، وأن الولايات والأعمال والوظائف العامة بالكامل مع بني أمية من جميع الوجوه ، بمعنى أن الدولة بكل مؤسساتها قد أصبحت تحت سيطرة الذين عادوا رسوا الله وحاربوه بالأمس ، وأن الفئة المؤمنة مهشمة بالكامل ، وأقلية ، وليس لها من أمر الدولة شيء. ولو تولى الخلافة بعد عثمان أي رجل في الدنيا غير علي بن أبي طالب لما استطاع أن يصمد بمثل هذه الظروف أكثر من ساعة من الزمان ، لأن الملك الأموي ، وسلطان المنافقين والفاسقين ، قد توطّد وضربت جذوره في الأرض وفي النفوس والمصالح طوال عهود الخلفاء الثلاثة ، ووفقاً للمعايير التي عممتها الدولة ، فلا فرق بين أي صحابي من السابقين في الإيمان ، ومن أهل البلاء وبين أبي سفيان ، أو الحكم بن العاص ، فهم بدون تفصيلات صحابة ، لانهم شاهدوا النبي ، وكلهم عدول والتفاضل بينهم في الآخرة ، وليس في الدنيا ، والأهم من ذلك هو اعتقاد الاكثرية ، بأن أبا سفيان والحكم بن العاص أصلح لامارة الناس من أصحاب السابقة ، ومن أهل البلاء في سبيل الله ، ممن قامت الدولة النبوية على أكتافهم وبسواعدهم ، أما أهل بيت النبوة ، فقد تم التعتيم رسمياً على كل فضائلهم ولا يجرؤ أحد على ذكرهم بخير ، وهم في أحسن الظروف صحابة مثلهم مثلٍ أبي سفيان ، ومروان بن الحكم ، ومعاوية بل إن هؤلاء وأمثالهم أعظم شاناً عند الأكثرية والأولى بالطاعة من أهل بيت النبوة لأن وسائل إعلام الدولة الرسمية نفخت الثلاثة وأمثالهم وأعطتهم أحجاماً أسطورية ليست لهم في الحق والحقيقة ، بينما تجاهلت وسائل إعلام الدولة التاريخية أهل بيت النبوة ، وعتمت على صورهم ، وسخرت الدولة كافة مواردها لإبراز أهل بيت النبوة بصورة النكرات!!! واستقرت تلك الأوهام التي خلقتها وسائل الإعلام ، وإمكانيات دولة الخلافة في قلوب الأكثرية الساحقة من أبناء الأمة لأن تلك الأوهام كانت بمثابة القناعات الرسمية التي تبنتها دولة البطون ، وعلى منوالها سارت عهود الخلافة التاريخية.

وباختصار شديد فإن أهل بيت النبوة ، وأولياء النبي وهم علماء الإسلام وأساتذته الذين قامت دعوة الإسلام ودولة النبوة على أكتافهم ، قد أُخروا بالقوة ،

٣٣

وصاروا رعايا ومحكومين ، لا تقدم مواقفهم ولا تؤخر مع إجماع أغلبية ساحقة ، أما الذين قاوموا النبي والنبوة قبل الهجرة وحاربوا النبي بعد الهجرة ، وجهلوا أحكام الدين فقد غلبوا بعد وفاة النبي ، وتسلموا بالقوة أو بالعهد والتسلل مقاليد الدولة ، فصاروا هم السادة والحكام والأساتذة وأصحاب الكلمة المسموعة ، لأن بيدهم النفوذ والجاه والمال والسلطة ، ومؤهلهم الوحيد هو القوة. تلك حقيقة لا يماري فيها إلا جاهل ، أو متجاهل أو عابد هواه.

وتحقق ما حذر منه النبي

وتفكك الإسلام وحلت كافة عراه!!!

بيّّنا بأن رسول الله وقبل أن ينتقل إلى جوار ربه ، حذر المسلمين وبأنهم إن لم يلتزموا بما أمرهم به ، فإن الإسلام سيتفكك ، وستحل عراه عروة بعد عروة ، فكلما انقضت عروة تثبت الناس بالتي تليها ، وأن أول عرى الإسلام نقضاً الحكم ، وآخرها نقضاً الصلاة. [ رواه أحمد وابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، راجع كنز العمال ج‍ ١ ص ٢٣٨ ].

وكرر النبي التحذير في مناسبات متعددة ، وأطلعهم على ما هو كائن وبالتصوير الحي البطيء ، وأحيط الجميع علماً بما حذر منه الرسول ، وقامت الحجة على الجميع. ولخص الرسول الموقف للجميع ، وأكد هذا التلخيص بكل وسائل التأكيد ، وبيّنه وبكل طرق البيان ، وحذر المسلمين بأنهم لن ينجوا ولن يهتدوا ، ولن يتجنبوا الضلالة من بعده ، إلا إذا تمسكوا بالثقلين كتاب الله ، وعترة النبي أهل بيته.

ثم بعد ذلك مرض النبي ، وكان ما كان ، فما أن مرض النبي حتى تنكرت له الأكثرية الساحقة رغبة أو رهبة ، وقالوا له وجهاً لوجه : « أنت تهجر!! والقرآن وحده يكفينا ، ولسنا بحاجة لوصيتك »!! بل والأعظم من ذلك أن هذه الأكثرية بعد أن استولت على مقاليد الحكم منعت رواية وكتابة احاديث رسول الله منعاً باتاً ، ورفعت شعار « حسبنا كتاب الله »!! وصارت رواية أحاديث الرسول من الجرائم الكبرى التي يستحق مرتكبها القتل ، فكان حذيفة يقول : « لو كنت على شاطىء

٣٤

نهر ، وقد مددت يدي لأغترف فحدثتكم بكل ما أعلم ما وصلت يدي إلى فمي حتى أُقتل ». [ راجع كنز العمال ج‍ ٣ ص ٣٤٥ نقلاً عن ابن عساكر ] وروى البخاري في صحيحه [ كناب العلم ج‍ ١ ص ٣٤ ] عن أبي هريرة أنه قد قال : « حفظت من رسول الله وعائين ، فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قُطع هذا البلعوم »!! وقال : « اني لأحدث احاديثاً لو تكلمت بها في زمن عمر أو عند عمر لشجّ رأسي ». [ راجع البداية لابن كثير ج‍ ٨ ص ١٠٧ ] وفي عهد عمر بن الخطاب عزم اُُبي بن كعب أن يتكلم في الذي لم يتكلم به وفاة الرسول فقال : « لأقولن قولاً لا أبالي أَستحييتموني عليه أو قتلتموني ». [ راجع ابن سعد ، الطبقات الکبرى ج‍ ٣ ص ٥٠١ والحاكم باختصار ج‍ ٢ ص ٣٢٩ وج‍ ٣ ص ٣٠٣ ]. ووعد أن يكشف الحقائق أمام الناس يوم الجمعة ، وترقب الناس ذلك اليوم الذي يكشف فيه الحقائق ما سمعه من رسول الله ، ولكن في يوم الأي يكشف فيه أبي بن كعب ما سمعه من رسول الله ، ولكن في يوم الأربعاء مات الصحابي العظيم الذي وعد بكشف الحقائق قال قيس بن عباد : رأيت الناس يموجون ، فقلت : ما الخبر؟ فقالوا : مات سيد المسلمين أبي بن كعب ، فقلت : ستر الله على المسلمين حيث لم يقم لشيخ ذلك المقام ». [ راجع المسترشد لابن جرير الطبري ص ٢٨ ومعالم الفتن لسعيد أيوب ج‍ ١ ص ٢٥٧ ].

والخلاصة أن منع رواية وكتابة أحاديث الرسول قد تحوّل إلى قانون أساسي ، نافذ المفعول في كل أرجاء دولة الخلافة ، ولكن لا بأس برواية الأحاديث التي تمدح القائمين على الحكم ، وتضفي طابع الشرعية والمشروعية على تصرفاتها ، فرواية مثل هذه الأحاديث مباحة حتى وإن كانت مختلفة ، ورواة هذه الأحاديث من المقربين ، حتى وإن كانوا أعداء لله ولرسوله!!

وبمدة وجيزة ، حلت عرى الإسلام كلها عروة بعد عروة ، ولم يبق غير الصلاة ، وحُشر المؤمنون الذين كانوا يصلون على طريقة رسول الله ، وضُيق الخناق عليهم على اعتبار « أنهم شواذ » يخالفون جماعة المسلمين وإمامهم ، ويتفردون بصلاة تختلف عن صلاة الأمة!! قال حذيفة أمين سر رسول الله : « لقد ابتلينا حتى أن الرجل ليصلي وحده وهو خائف ». [ راجع صحيح البخاري ج‍ ١ ص ١٨٠ كتاب الجهاد والسير ]. وقال حذيفة أيضاً : « فابتلينا حتى جعل الرجل منا

٣٥

لا يصلي إلا سراً ». [ راجع صحيح مسلم ج‍ ٢ ص ١٧٩ ، ورواه أحمد في الفتح الرباني ج‍ ٢٣ ص ٤٠ ، وج‍ ٢ ص ٤٦٢ من معالم الفتن ]. وروي البخاري أن الزهري قد دخل على أنس بن مالك فوجده يبكي ، فقال له ما يبكيك؟ فقال أنس : لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة ، وهذه الصلاة قد ضيعت. [ راجع الفتح الرباني ج‍ ١ ص ٢٠٠ ]. وقال أنس بن مالك مرة أخرى : « لا أعرف شيئاً اليوم مما كنا عليه على عهد رسول الله!! فقلنا : فأين الصلاة؟ فقال أولم تضعوا بالصلاة ما قد علمتم؟ »! [ رواه أحمد والترمذي ، وحسنه وقال في الفتح الرباني ج‍ ١ ص ١٩٩ روى عن أنس من غير وجه ].

هذه شهادة حذيفة أمين سر رسول الله وتكتسب شهادته أهمية خاصة لانه أمين سر رسول الله بإجماع المسلمين ، ولأنه بقي على عهد رسول الله لم يُبدل ولم يتبدل ، ولم يرجع القهقرى على عقبيه ، تدعمها شهادة أنس بن مالك الذي وعى عملياً الصلاة بحكم خدمته للنبي ، وان أنس إلى جانب السلطة دائماً عايشها وتعايش معها ، ولم يثنه عن الولاء لهذه السلطة تبدلها ولا تغيرها ، وكان يسمع مسبته من رجالها بصبر بالغ.

فإذا ثبت بأن المخلصين من الصحابة كانوا يصلون سراً ، وهم في حالة خوف ، من غضب السلطة ، أو من غضب الجماهير الموالية لها ، وإذا كان أحد الذين خدموا الرسول فترة طويلة ، وشاهد رسول الله مئات المرات وهو يصلي عملياً يشهد ويقر ويعترف بأن الصلاة قد ضيعت بالفعل ونقضت من أصولها ، ففي هذا دليل قاطع على أن آخر عروة من عرى الإسلام ، وهي الصلاة قد حلت تماماً بشهادة شهود عيان عاصروا حكومة الرسول ، وحكومة الخلفاء الثلاثة ، وحكومة بني أمية ولا خلاف بين اثنين من المسلمين على أن رسول الله قد أخبر الأمة بما هو كائن ، مثلما أخبر الأمة بأن عرى الإسلام ستنقض عروة بعد عروة ، وأن نقض نظام الحكم هو أول عرى الإسلام نقضاً ، وأن نقض الصلاة هو آخر عرى الإسلام نقضاً ، ولا خلاف بين اثنين من المسلمين على أن رسول الله صادق فيما أخبر ، وأنه لم ينطق عن الهوى ـ على الأقل في هذه الأخبار ـ حتى نتجنب معارضة أولئك الذين يزعمون بأن محمداً بشر يتكلم في الغضب والرضى!! ثم إنه من المحال

٣٦

عقلاً أن يخبر الرسول الأمة بهذه الأخبار الخطيره على مسؤوليته ، وباجتهاد منه ، وبدون تفويض إلهي!! ومن الناحية الواقعية فقد تحقق ما أخبر به الرسول وحذر منه ، فلا أحد من أولياء الخلفاء ، ومن شيعة الخلافة التاريخية يمكنه أن يزعم بأن الإسلام كله قد بقي على حاله. أو ينكر بأن عرى الإسلام كلها لم تنقض. لقد بيّن الرسول ما هو كائن وما سيكون إشفاقاً ورحمة بالامة ، وقياماً بواجب البيان ، ولقد حذر وأنذر إقامه للحجة على المكذبين والمكابرين ، وإرشاداً للصادقين ليبقوا دائماً على الصراط المستقيم. وكان الرسول صادقاً في بيانه ورحمته ، وتحذيره وإنذاره ، وأنه لم يخبر بتلك الأخبار المستقبلية اجتهاداً منه كما كانوا يتصورون ، أو تحليلاً شخصياً ، إنما كانت تلك الأخبار الموثوقة ثمرة وحي الهي صدقه ما وقع في المستقبل ، لأن الله ورسوله لا يقولان إلا الحق والحقيقة.

٣٧

الفصل الثالث :

مظاهر نقض عرى الإسلام ووسائله

١ ـ استبعاد النبي!!

أول وأخطر مظاهر نقض عرى الإسلام هو مواجهة بطون قريش وزعامتها للنبي أثناء مرضه ، والحيلولة بين النبي وبين كتابه توجيهاته النهائية وتجاهلهم لوجوده تجاهلاً تاماً ، قولهم على مسمعه : إن النبي يهجر!! استفهموه إنه يهجر ، ولا حاجة لنا بكتابه ، حسبنا كتاب الله!!! [ راجع صحيح البخاري كتاب المرض باب قول المريض قوموا عني ج‍ ٧ ص ٩ وج‍ ٤ ص ٣١ وج‍ ١ ص ٣٧ ، وصحيح مسلم آخر كتاب الوصية ج‍ ١١ ص ٩٥ ، مسند أحمد بن حنبل ج‍ ٤ ص ٣٥٦ ح ٢٩٩٢ ، والكامل في التاريخ لابن الأثير ج‍ ٢ ص ٢٣٠ وكتابنا نظرية عداله الصحابة ص ٢٨٧ وما فوق ].

كانت هذه أول عروة وأخطر عروة تنقض من عرى الإسلام ، فقد تجاهلت زعامة بطون قريش وجود النبي ، وأعلنت وبكل صراحة ، أن القرآن يكفي ، ولا حاجة لما قاله النبي أو سيقوله!!

وقد مهدت زعامة بطون قريش لهذا الموقف المدمر ، فبثت سلسلة من الشائعات التي تنصب كلها على ضرورة عدم الوثوق بكل ما يقوله النبي ، لأنه بشر يتكلم في الغضب والرضى ، ودوره مقتصر على تلاوة القرآن وتبليغ الناس ، ما يوحى إليه من هذا القرآن فقط. وقد وثقنا ذلك في كتابنا « المواجهة » مع رسول الله وآله. وعندما تسلمت هذه الزعامة قيادة الأمة بعد وفاة النبي ترجمت أقوالها

٣٨

وشائعاتها وقناعاتها إلى قوانين ملزمة للرعية بالقوة الجبرية ، فمنعت رواية وكتابة الحديث النبوي ، وأحرقت المكتوب منه ، وصار من المعروف عند العامة والخاصة أن عقوبة من يروى أحاديث النبي المتعلقة بالأمور الأساسية عقوبته قطع البلعوم على حد تعبير أبي هريرة ، أو الاستحياء والقتل ، كما عبر عنهما أبي بن كعب رضي الله عنه.

وهكذا واعتباراً من اللحظة التي قعد فيها رسول الله على فراش المرض تم استبعاده بالكامل ، وجمدت كافة أوامره وتوجيهاته ، ولم ينفذ منها شيء ، وإن نفذت فقد جاء التنفيذ متأخراً وبالقدر الذي يخدم توجيهات زعامة بطون قريش ، وخير مثال على ذلك جيش أسامة ، أو بعث أسامة ، فالملك ملك النبوة ، وزعيم البطون رسمياً هو خليفة النبي ، والمتصرف بالملك الذي بناه النبي ، والأمة هي أمة النبي. ومع هذا فلا يجوز لأي فرد من أفراد الأمة أن يروى أو يكتب حديثاً عن النبي!!!

لأن رواية وكتابة أحاديث النبي تسبب الخلاف والاختلاف بين الناس ، كما ذكر ذلك الخليفة الأول في أول تصريح له حسب رواية الذهبي في تذكرة الحفاظ وبنفس التصريح أمر الخليفة رعاياه قائلاً : « فمن سألكم عن شيء فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله »!!! فعلى العموم ، الرسول شخصياً مستبعد « کما في حالة مرضه » ، وأحاديثه التي تضمنت توجيهاته مستبعدة من التأثير على الحركة الكلية للمجتمع ، إلا إذا كانت هذه تخدم الملك ، وتوجهاته الجديدة والقائمين عليه ، فعندئذٍ تعمم هذه الأحاديث وتعامل بقداسة ، وتروى وتبرز كأدلة قاطعة على شرعية نظام البطون!! يمكن لمن يشاء أن يروى ما يشاء من أشعار الجاهلية ، وخرافات الأقدميين ونجاسات الشرك ، ويمكن لفئة أن تقص القصص وأساطير بني إسرائيل في مسجد الرسول نفسه ، فلا خطر من ذلك على ألفة الأمة ووحدتها وانقيادها لزعامة البطون. ولكن لا يمكن حتى لأبي بن كعب أن يروى حديثاً عن النبي يمس واقع المجتمع أو مستقبله ، لأن مثل هذا الحديث يسبب الخلاف ، والاختلاف على حد تعبير الخليفة الأول وبهذه الحالة وأمثالها فالقرآن وحده يكفي!!!

٣٩

٢ ـ استبعاد آل محمد وأهل البيت والهاشميين ومن والاهم!!!

ومن مظاهر حل عرى الإسلام ان زعامة بطون قريش التي استولت على السلطة بعد وفاة النبي ، قد استبعدت آل محمد الذين يصلي عليهم المسلمون في صلاتهم ، كما استبعدت أهل بيت النبوة الذين شهد الله لهم بالطهارة ، ثم هم أبناء النبي ، ونساؤه ، وكنفسه كما هو ثابت بآية المباهلة ، وبعد يوم واحد من دفن النبي هددت زعامة البطون علي بن أبي طالب بالقتل ، وأحضرت الحطب وشرعت بحرق بيت فاطمة بنت الرسول على من فيه وفيه ، فاطمة والحسن والحسين سبط رسول الله ، وحرمتهم من إرثهم من النبي ومن تركته وصادرت كافة الإقطاعات التي أعطاها النبي لهم حال حياته ، وجردهم من كافة ممتلكاتهم ، ولأسباب إنسانية تعهد الخليفة الجديد بتقديم المأکل والمشرب لهم لا يزيد عن ذلك!! وصورت السلطة الجديدة أهل بيت النبوة بصورة الشاقين لعصا الطاعة المفارقين للجماعة ، فأذلتهم وعزلتهم عزلاً تاماً ، فتجنبهم الناس ، ونفروا منهم مع أن آل محمد وأهل بيته قد ورثوا علم النبوة كاملاً وعُزٍل الهاشميون وهم بطن النبي وتجنبهم الناس ، واتخذوا منهم موقفاً حذراً على ضوء موقف السلطة ، وأدعت بطون قريش أنها الأقرب للنبي لأن محمداً من قريش!!!

ويحذر بالذكر ، أن بطون قريش ال‍ ٢٣ وقفت وقفة رجل واحد ضد النبي ، فقاومته قبل الهجرة ، وحاربته بعد الهجرة ، ولم يقف مع النبي عملياً ولم يحمه من شرور بطون قريش إلا البطن الهاشمي ، وعندما أشعلت بطون قريش حربها الآثمة ضد النبي ، كان الهاشميون أول من قاتل وأول من قتل وبقوا إلى جانب النبي حتى انتقل إلى جوار ربه ، هناك مزقت بطون قريش سجلات بني هاشم الحافلة بالأمجاد والشرف وعزلتهم وعاملتهم معاملة العبيد والسوقة.

وأحكمت بطون قريش الحلقة عندما عاملت أولياء آل محمد وأهل بيت النبوة معاملة جائرة بجرم موالاتهم لأهل البيت ، وقولهم بأن آل محمد كما قد عرفوا من النبي أولى بسلطانه.

وخوفاً من هذه الدعوى استبعدت بطون قريش آل محمد ، وأهل بيته ، وبني هاشم ، ومن والاهم أو قال بمقالهم أو بمقالتهم أو تتلمذ على أيديهم. ومع أن الخلفاء

٤٠