عبدالواحد بن علي أبوالطيّب اللغوي
المحقق: محمّد أبوالفضل إبراهيم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
ISBN: 9953-432-58-9
الصفحات: ١٢٨
فقلت : ما «تغنّثك؟» فقال : ما تتعلق بك (١).
قال الرياشيّ : حدّثني الأخفش قال : كان سيبويه إذا وضع شيئا من كتابه عرضه عليّ وهو يرى أني أعلم به منه ، وكان أعلم مني ، وأنا اليوم أعلم منه (٢).
__________________
(١) في اللسان : أي ما تلزق بك ولا تنتسب إليك.
(٢) توفي الأخفش سنة ٢٢٥. (إنباه الرواة ٢ / ٤١).
ابن الكلبي
وأما ابن الكلبيّ فإنه كان أعلم الناس بالنسب ، وكان ينقص عن هؤلاء الذين ذكرنا في اللغة والنحو ، وكان أقدم منهم. وهو هشام بن محمد بن السائب بن بشر ، وهو كثير الرواية على غمز فيه.
أخبرنا جعفر بن محمد قال : أخبرنا محمد بن الحسن الأزديّ قال : قلت لأبي حاتم : تقول : غمد سيفه وأغمده. قال : لا يقال إلا بالألف ، قلت : فيم سمّي غامدا (١) أبو هذه القبيلة؟ قال : من قولهم : غمدت الركيّة إذا كثر ماؤها. قلت : فإنّ ابن الكلبيّ يقول في كتاب النّسب : إنه أصلح بين قوم من عشيرته وتغمّد ما كان بينهم ، أي ستره وغطّاه ، وقال :
تغمّدت شرا كان بين عشيرتي |
|
فأسماني القيل الحضوريّ غامدا (٢) |
فقال : ابن الكلبيّ أعلم ، أي أنه لا يعرف الغريب.
قال الأزديّ : وأنشدنا الرياشيّ بيتا ، عجزه. و «السيف مغمود» ، فذكرته لأبي حاتم فقال : أنشدت الأصمعيّ هذا البيت ؛ فقال : هذا الشعر مصنوع ، وقد رأيت صانعه.
قال أبو الطّيّب اللغويّ : وأما أبو زيد وأبو عبيدة وغيرهما من العلماء فإنهم قالوا : غمدت السيف وأغمدته لغتان فصيحتان. والأوّل قول الأصمعيّ. فأما اشتقاق «غامد» فيمكن أن يكون كما زعم ابن الكلبي ؛ من غمدت السيف وغيره ، وكلّ شيء غطّيته وسترته بشيء وأغشيته إياه ، غمدته وأغمدته وغمّدته ، قال العجّاج :
تغمّد الأعداء جورا مردسا (٣)
__________________
(١) غامد : حي من اليمن ؛ قال الشاعر :
ألا هل أتاها على نأيها |
|
بما فضحت قومها غامد |
(٢) البيت في اللسان (غمد). والحضور قبيلة في اليمن ، وضبطها ابن نوبخت بضم الحاء.
(٣) ديوانه ٣٣ وروايته : «يعمد الأجواز» ، وهو أيضا في اللسان (ردس) ، والمردس : الحجر يرمى به.
أي تغشّيهم إياه ؛ ومنه قولهم : اللهمّ تغمّدنا منك برحمة. ويمكن أن يكون غامدا «فاعل» من قولهم : غمدت الركية ، إذا كثر ماؤها ، ويقال : غمدت الركيّة ، إذا اندفق ماؤها ، ويمكن أن يكون من قولهم : ماء غامد وهو الآجن الذي عليه كالدّواية (١) من الدّمن والبعر ، قال الشاعر :
وماء كلون الورس لون جمامه |
|
عليه القطا يعتاده غامد ومد (٢) |
ويمكن أن يكون من قولهم : ليلة غامدة إذا كانت مظلمة شديدة الظّلمة ، قال الراجز :
يوم عكيك يعصر الجلودا |
|
يترك حمران الرجال سودا (٣) |
وليلة غامدة غمودا |
|
سوداء تغشي النّجم والفرقودا |
ويمكن أن يكون من قولهم : غمد العرفط يغمد غمودا ، وذلك إذا مضت له اثنتان وعشرون ليلة بعد أن يمطر ويجري الماء تحت أصوله وتستوفر خصلته ورقا ، حتى لا يرى شوكها. وخصلته عود فيه شوك.
وأخبرنا أبو الفضل جعفر بن محمد قال : أخبرنا عليّ بن محمد الحنفيّ قال : أخبرنا أبو حاتم عن الأصمعيّ قال : كان يقال : إنّ ابن الكلبيّ يزرّف في حديثه ؛ أي يكذب فيه ويتزيّد ، يقال : زرّف في الحديث تزريفا إذا تزيّد (٤).
__________________
(١) الدواية : جليدة رقيقة تعلو اللبن.
(٢) الومد : شدة الحر.
(٣) يوم عكيك : شديد الحر.
(٤) توفي ابن الكلبي سنة ٢٠٤. (معجم الأدباء ١٩ / ٢٨٧).
علماء الكوفة
المفضّل بن محمد الضبي
وكان للكوفيّين بإزاء من ذكرنا من علماء البصرة المفضل بن محمد الضّبيّ ، وكان عالما بالشعر ، وهو أوثق من روى الشعر من الكوفيين ، ولم يكن أعلمهم باللّغة والنحو ، إنما كان يختصّ بالشعر. وقد روى عنه أبو زيد شعرا كثيرا ، وهو من ولد سالم بن أبيّ الضّبيّ.
أخبرنا جعفر بن محمد قال : أخبرنا إبراهيم بن حميد قال : أخبرنا أبو حاتم قال : كان أوثق من بالكوفة في الشعر المفضل الضّبيّ.
قال : وكان يقول : إني لا أحسن شيئا من الغريب ولا من المعاني ولا تفسير الشعر. وإنما كان يروي شعرا مجردا ، ولم يكن بالعالم بالنحو ، ولا كان يشدو منه شيئا (١).
__________________
(١) ذكر ابن الجزري في طبقات القراء ٢ / ٣٠٧ أنه توفي سنة ١٦٨ ، وذكر ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة أنه توفي سنة ١٧١ ؛ (وانظر مقدمة المفضليات ـ طبع المعارف).
خالد بن كلثوم
ثم كان خالد بن كلثوم ، صالح العلم بالشعر،وكان أوسع في العربية من المفضّل (١).
__________________
(١) ذكره الزبيدي في الطبقة الثانية من اللغويين الكوفيين. (الطبقات ٢١١).
حمّاد الراوية
وكان من أوسعهم رواية حمّاد الراوية ؛ وقد أخذ عنه أهل المصرين. وخلف الأحمر خاصة ؛ وروى عنه الأصمعيّ شيئا من الشعر.
أخبرنا جعفر بن محمد قال : أخبرنا محمد بن الحسن الأزديّ قال : أخبرنا أبو حاتم قال : قال الأصمعيّ : كلّ شيء في أيدينا من شعر امرئ القيس فهو عن حمّاد الراوية ؛ إلا نتفا سمعتها من الأعراب وأبي عمرو بن العلاء.
قال أبو الطّيّب : وحمّاد الراوية مع ذلك عند البصريين غير ثقة ولا مأمون ، أخبرنا جعفر بن محمد قال : أخبرنا إبراهيم بن حميد قال ، قال أبو حاتم : كان بالكوفة جماعة من رواة الشعر مثل حمّاد الراوية وغيره ، وكانوا يصنعون الشعر ويقتفون (١) المصنوع منه ، وينسبونه إلى غير أهله. قال : ولقد حدّثني سعيد بن هريم البرجميّ قال : حدّثني من أثق به أنه كان عند حمّاد حتى جاء أعرابيّ فأنشده قصيدة لم تعرف ولم يدر لمن هي ، فقال حمّاد : اكتبوها. فلما كتبوها وقام الأعرابي قال : لمن ترون أن نجعلها؟ فقالوا أقوالا : فقال حمّاد : اجعلوها لطرفة.
وقال أبو عثمان الجاحظ : ذكر الأصمعيّ وأبو عبيدة وأبو زيد عن يونس أنه قال : إني لأعجب كيف أخذ الناس عن حمّاد وهو يلحن ويكسر الشعر ، ويكذب ويصحّف!.
وهو حمّاد بن هرمز ، وكان هرمز بن سبي مكنف بن زيد الخيل ، وكان ديلميّا ، يكنى أبا ليلى.
قال أبو حاتم : قال الأصمعيّ : جالست حمّادا فلم أجد عنده إلا ثلاثمائة حرف ، ولم أرض روايته ، وكان قديما (٢).
__________________
(١) بخط ابن نوبخت : «ويقتنون».
(٢) ذكر ابن خلكان أنه توفي سنة ١٥٥.
أبو البلاد
وفي طبقته من الكوفيين أبو البلاد (١) ، وهو من أرواهم وأعلمهم ، وكان أعمى ، جيّد اللسان ، وكان مولى لعبد الله بن غطفان ، وكان في زمن جرير والفرزدق.
__________________
(١) ذكره الزبيدي في الطبقة الأولى من اللغويين الكوفيين. (الطبقات ٧٦).
ابن كناسة
ومحمد سهل
قال أبو حاتم : فأمّا مثل ابن كناسة ومحمد بن سهيل (١) فإنهما كانا يعرفان شعر الكميت والطّرمّاح ، وكانا مولّدين لا يحتج الأصمعيّ بشعرهما.
وكان ابن كناسة يكنى أبا يحيى ، وهو محمد بن عبد الأعلى بن كناسة ، من بني أسد ، صريح. وهو ابن أخت إبراهيم (٢) بن أدهم ، وله كتاب في النجوم على مذهب العرب ، وتوفي بالكوفة سنة سبع ومائتين.
قال الأصمعيّ : أخبرنا شعبة قال : قلت للطّرمّاح : أين نشأت؟ قال : بالسّواد ، والشعر بالكوفة أكثر وأجمع منه بالبصرة ، ولكنّ أكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله ، وذلك بيّن في دواوينهم.
__________________
(١) بخط ابن نوبخت : «سهل». ذكره ابن الجزري في طبقات القراء ٢ / ١٥١ ، وقال : «روى الحروف عن عاصم ، وروى عنه عليّ بن حمزة الكسائي».
(٢) هو إبراهيم بن أدهم بن منصور ؛ أحد الزهاد الأعلام. توفي سنة ١٦٠ ؛ (فوات الوفيات ١ / ٣).
أبو الحسن
عليّ بن حمزة الكسائي
وكان عالم أهل الكوفة وإمامهم غير مدافع فيهم أبو الحسن عليّ بن حمزة الكسائيّ ، إليه ينتهون بعلمهم ، وعليه يعوّلون في روايتهم.
أخبرنا عبد القدوس بن أحمد ومحمد بن عبد الواحد قال : أخبرنا ثعلب قال : أجمعوا على أن أكثر الناس كلّهم رواية وأوسعهم علما الكسائيّ ، وكان يقول : قلّما سمعت في شيء «فعلت» إلا وقد سمعت فيه «أفعلت».
قال أبو الطّيّب : وهذا الإجماع الذي ذكره ثعلب إجماع لا يدخل فيه أهل البصرة.
أخبرنا جعفر بن محمد قال : أخبرنا أحمد بن غياث النحويّ قال : أخبرنا أبو نصر الباهليّ قال : حمل الكسائيّ إلى أبي الحسن الأخفش خمسين دينارا ، وقرأ عليه كتاب سيبويه سرا.
وأخبرنا جعفر بن محمد بن الحسن قال : أخبرنا أبو الحسن الحنفيّ وإبراهيم بن حميد قالا : حدّثنا أبو حاتم قال : لم يكن لجميع الكوفيين عالم بالقرآن ولا كلام العرب ، ولو لا أن الكسائيّ دنا من الخلفاء فرفعوا من ذكره لم يكن شيئا ، وعلمه مختلط بلا حجج ولا علل ، إلا حكايات عن الأعراب مطروحة ، لأنه كان يلقّنهم ما يريد ، وهو على ذلك أعلم الكوفيين بالعربية والقرآن وهو قدوتهم ، وإليه يرجعون. وكان شخص مع الرشيد إلى الرّيّ في خرجته الأولى ؛ فمات هناك في السنة التي مات فيها محمد بن الحسن الفقيه ؛ وهي سنة تسع وثمانين ومائة.
التوّزي والحرمازي
والجرمي والزيادي والرّياشي
وأخذ الناس علم العرب عن هؤلاء الذين ذكرنا من علماء البصرة ؛ فكان ممّن برع فيهم أبو محمد عبد الله بن محمد التوّجيّ ـ ويقال : التوّزيّ (١) ـ وأبو عليّ الحرمازيّ (٢) ، وأبو عمر صالح بن إسحاق الجرميّ (٣).
وكانوا يأخذون عن أبي عبيدة وأبي زيد والأصمعي والأخفش ، وهؤلاء الثلاثة أكبر أصحابهم.
خبّرونا عن المبّرد قال : كان أبو عليّ الحرمازيّ في ناحية عمرو بن مسعدة ، فخرج عمرو إلى الشام ، فقال الحرمازيّ :
أقام بأرض الشام فاختلّ جانبي |
|
ومطلبه بالشام غير قريب |
ولا سيّما من مفلس حلف نقرس |
|
أما نقرس في مفلس بعجيب! |
وكان دون هؤلاء في السنّ أبو إسحاق إبراهيم الزيادي (٤) وأبو عثمان بكر بن محمد المازنيّ ، وأبو الفضل العباس بن الفرج الرياشيّ (٥) وأبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان السجستانيّ. وكان التوّجيّ أبلغ القوم في اللغة ، وأعلمهم بالنحو بعد الجرميّ والمازنيّ فيما حدّثنا به غير واحد عن المبّرد. قالوا : وكان أبو زيد أعلم من الأصمعيّ وأبي عبيدة بالنحو ، وكانا بعده يتقاربان.
قال أبو الطيّب : والذي ثبت عندنا عن علمائنا أن أبا عبيدة كان أعلم الثلاثة بالنحو ، ولم يكن في صاحبيه نقص ، إلا أنّ لهذا القول من المبّرد شيئا نحن ذاكروه.
__________________
(١) منسوب إلى توز ، ويقال فيها : توج ؛ من بلاد فارس. وتوفي التوزي سنة ٢٣٠ ؛ (إنباه الرواة ٢ / ١٢٦).
(٢) انظر ترجمته في الفهرست ص ٤٨.
(٣) توفي سنة ٢٢٥ ،) إنباه الرواة ٢ / ٨١).
(٤) هو إبراهيم بن سفيان الزيادي. ذكر ياقوت أن وفاته سنة ٢٤٩ ، (معجم الأدباء ١ / ١٥٨).
(٥) توفي سنة ٢٥٧ ؛ (إنباه الرواة ٢ / ٣٦٨).
أخبرنا جعفر بن محمد قال : أخبرنا أحمد بن غياث النحويّ قال : أخبرنا عن المازنيّ أنه قال : كلّ ما في كتاب سيبويه من قوله : «أخبرني الثقة» ، و «سمعت من أثق به» فهو عن أبي زيد.
أخبرنا محمد بن يحيى قال : أخبرنا المبّرد قال : حدّثنا المازنيّ قال : كنا عند أبي عبيدة يوما وعنده الرياشيّ يسأله عن أبيات في كتاب سيبويه ، وهو يجيبه ، ثم فطن فقال : أتسألني عن أبيات في كتاب الخوزيّ! لا أجيبك.
أخبرنا جعفر بن محمد قال : أخبرنا عسل بن ذكوان قال : أخبرونا عن الجرميّ قال : نظر أبو زيد في كتاب سيبويه فقال : قد أكثر هذا الغلام الحكاية ، إن كان سمع. فقلت له : قد روى عنك شيئا كثيرا ، فهل صدق فيه؟ قال : نعم. قلت : فصدّقه فيما روى عن غيرك.
وقد قيل : إن يونس كان صاحب هذه القصة.
قال المبّرد : وكان المازنيّ أحدّ من الجرميّ ، وكان الجرميّ أغوصهما.
فأخبرنا عبد القدوس بن أحمد قال : أخبرنا محمد بن يزيد قال : حدّثنا المازنيّ قال : قال لي الأخفش : أتلزم الأصمعيّ؟ قلت : ما أفارقه. قال : أتتعلّم منه النحو؟ قلت : لا ، ولكني أتعلّم منه المعاني واللغة والشعر. قال : ممّا ليس عندنا؟ قلت : نعم ، ممّا ليس عندك. قال : فسلني عن شيء منه. قلت ؛ أعن صعبه أو سهله؟ قال : عن سهله أولا ، قلت : ما يريد الشاعر بقوله :
أمن زينب ذي النار |
|
قبيل الصبح ما تخبو! |
إذا ما خمدت يلقى |
|
عليها المندل الرّطب |
ولم أعرب نصف البيت الأول. فقال الأخفش : «أمن زينب» ، أي «أمن نحو زينب». وقوله : «ذي النار» ، يريد صاحبة النار. قلت : ليس هذا كذا عنده ، وإنما يقول : «ذي النار» ، معناه هذه النار ؛ فقال الزمه ، فهذا أحسن.
أبو عثمان المازني
وكان المازنيّ من فضلاء الناس وعظمائهم ورواتهم وثقاتهم. وكان من أهل القرآن ، حدّثنا غير واحد عن المبّرد قال : حدّثنا المازنيّ قال : قرأت على يعقوب الحضرميّ القرآن ، فلما ختمت رمى إليّ بخاتمه ، وقال : خذه ، ليس لك مثل.
وكذلك فعل يعقوب بأبي حاتم ، أخبرنا جعفر بن محمد قال : حدّثنا عليّ بن شاذان عمّن حدّثه أن أبا حاتم ختم على يعقوب سبع ختمات ـ ويقال : خسما وعشرين ختمة ـ فأعطاه خاتمه ، وقال : أقرئ الناس.
وكان المازنيّ متخلّفا (١) رفيقا بمن يأخذ عنه ، إلا أنه كان في كلامه غموض ، فأخبرنا محمد بن يحيى قال : أخبرنا محمد بن يزيد قال : حدّثنا المازنيّ قال : قرأ عليّ رجل كتاب سيبويه في مدة طويلة ، فلما بلغ آخره قال لي : أمّا أنت فجزاك الله خيرا ؛ وأمّا أنا فما فهمت منه حرفا.
وأخبرني عليّ بن محمد الخداشيّ قال : بلغنا أن مغنيّة غنّت بحضرة الواثق :
أظليم إنّ مصابكم رجلا |
|
أهدى السّلام تحية ظلم (٢) |
فردّ عليها الواثق وقال : «إن مصابكم رجل». فأعادت «إن مصابكم رجلا» ، فأعاد الردّ عليها ؛ فقالت : لقّنني هذا أعلم أهل زمانه ، قال : ومن هو؟ قالت : المازنيّ. قال : عليّ به ، فأشخص إليه ، فلما مثل بين يديه قال : ما اسمك يا مازنيّ! قال : بكر يا أمير المؤمنين. قال : أحسنت ، قال : كيف تروي «أظليم إن مصابكم»؟ قال : «أظليم إن مصابكم رجلا» ، وتمّم البيت : فقال : وأين خبر «إنّ»؟
__________________
(١) في الأصل : «متحلفا» ، تصحيف.
(٢) نسبه ابن خلكان ١ / ٩٣ ، والحريري في درة الغواص ص ٤٣ إلى العرجي ؛ وروايتهما «أظلوم إن مصابكم رجلا» ونسبه صاحب الخزانة (١ / ٢١٧) إلى الحارث بن خالد المخزومي.
قال : قوله : «ظلم» ، ومعنى «مصابكم» إصابتكم ، قال : صدقت ، من خلفت وراءك؟ قال : بنتا صغيرة. قال : فماذا قالت لك حين ودّعتها؟ قال : قول بنت الأعشى لأبيها :
فيا أبتا لا ترم عندنا |
|
فإنّا بخير إذا لم ترم (١) |
ترانا إذا أضمرتك البلا |
|
د نجفى ، ويقطع منا الرّحم |
قال : فماذا أجبتها؟ قال : بقول جرير :
ثقي بالله ليس له شريك |
|
ومن عند الخليفة بالنّجاح (٢) |
قال : أنجحت ؛ وأمر له بمال ولا بنته بما يصلحها وصرفه مكرّما.
وقد شجر بين محمد بن عبد الملك الزيات (٣) وأحمد بن أبي داود (٤) في هذا البيت الذي غلط فيه الواثق ، فقال محمد : «إن مصابكم رجلا». وقال أحمد : «مصابكم رجل». فسألا عنه يعقوب بن السكّيت ، فحكم لأحمد بن أبي داود ؛ عصبيّة لا جهلا.
فأخبرونا عن ثعلب قال : لقيت يعقوب فعاتبته في هذا عتابا ممضّا ، فقال لي : اسمع عذري ، جاءني رسول ابن أبي داود فمضيت إليه ، فلما رآني بشّ بي وقرّبني ورفعني ، وأحفى في المسألة عن أخباري ، ثم قال لي : يا أبا يوسف ، ما لي أرى الكسوة ناقصة؟ يا غلام ، دستا كاملا من كسوتي. قال : فأحضر ، ثم قال كيس فيه مائتا دينار. فأحضر. ثم قال لي : أراكب أنت؟ قلت : لا ، بل راجل. فقال : حماري الفلانيّ بسرجه ولجامه. فأحضر ، ثمّ قال : يسلّم الجميع إلى غلام أبي يوسف ؛ فشكرت له ذلك ، ثم قال لي : يا أبا يوسف : أنشدت هذا البيت :
أظليم إن مصابكم رجل
فقال الوزير : إنما هو «رجلا» بالنصب ؛ وقد تراضينا بك. فقلت : القول ما قلت. فخرجت من عنده فإذا رسول محمد بن عبد الملك. فقال :
__________________
(١) ديوانه ٣٣.
(٢) ديوانه ٣٦.
(٣) هو محمد بن عبد الملك بن أبان ، المعروف بابن الزيات ؛ كان وزير المعتصم ؛ وله شعر سائر جيد ؛ وديوان رسائل. توفي سنة ٢٣٣ (خلكان ٢ / ٥٤).
(٤) قاضي المعتصم : توفي سنة ٢٤٠ ، (ابن خلكان ١ / ٢٢).
أجب الوزير ، فلما دخلت بدرني وأنا واقف ، يا يعقوب ، أليس الرواية :
أظليم إن مصابكم رجلا
فقلت : لا ، بل «رجل». فقال : اغرب. قال يعقوب : فكيف كنت ترى لي أن أقول! (١).
__________________
(١) توفي المازني سنة ٢٤٨ ؛ (إنباه الرواة ١ / ٢٤٧).
أبو حاتم السجستاني
وكان أبو حاتم في نهاية الثقة والإتقان والنّهوض باللّغة والقرآن ، مع علم واسع بالإعراب أيضا ، أخذ ذلك عن الأخفش ، وبصره بالآثار وكتبه في نهاية الاستقصاء والحسن والبيان ، وتوفي سنة ثمان وأربعين. ويقال : في سنة أربع وخمسين ومائتين.
ورثاه الرياشيّ ، فأنشدنا حمدان بن الحسن الرافعيّ قال : أنشدنا سلمان بن الفضل بن البختكان ، قال : أنشدنا الرياشيّ لنفسه يرثي أبا حاتم :
بانت بشاشة أهل العلم والأدب |
|
مذبان سهل فأمسى غير مقترب |
يا سهل كنت ـ كما سمّيت ـ ذا خلق |
|
سهل بعيدا من الفحشاء والرّيب |
أمست ديارك بعد العلم موحشة |
|
إن تسأل العلم لم تنطق ولم تجب |
من للغريب وللقرآن يسأله |
|
إذا تعومي معناه ولم يصب! |
وكان في أبي حاتم دعابة ، فأخبرنا جعفر بن محمد ، قال : أخبرنا عليّ بن سهيل قال : حضر معنا مجلس أبي حاتم غلام من بني هاشم ، من آل جعفر بن سليمان ، أحسن الناس وجها ، فقال أبو حاتم :
نصبوا اللحم للبزا |
|
ة على ذروتي عدن |
ثمّ لاموا البزاة أن |
|
خلعوا فيهم الرّسن |
لو أرادوا عفافنا |
|
نقّبوا وجهه الحسن |
فقيل له في ذلك : فقال :
لا تظنّنّ بي فجورا فمايز |
|
كو فجور بحامل القرآن |
أنا عفّ الضمير غير مريب |
|
غير أني متيّم بالحسان |
وزعموا أنه كان يظهر العصبية مع أصحاب الحديث ، ويضمر القول بالعدل ؛ فأخبرنا جعفر بن محمد قال : أخبرنا الحنفيّ قال : كنا عند أبي حاتم ، فجاءه رجل من أصحاب الحديث ، فقال له : يا أبا حاتم ، إني سائلك عن ثلاث ، وجاعل جوابك على طبق أدور به على أصحاب الحديث. فقال : هات ، قال : ما معنى قول
الله جلّ وعزّ : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) [البقرة : ٣٤]؟ وما الإباء في كلام العرب؟ قال : القدرة على الشيء والتّرك له من غير عجز ، قال : وما معنى قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ، ٢٣]؟ هل يكون الناظر في كلام العرب بغير معنى الرائي؟ قال : نعم ، يكون بمعنى الانتظار ، أما سمعت قوله تعالى : (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) [البقرة : ٢٨٠].
قال : فأخبرني عن هذا الاسم : القدرية ، يلزمنا أم يلزمهم؟ قال : فأدلى رأسه وقال : بل يلزمنا ، ولكنّا نكابر ، كما أنّ من يبيع السّمك يقال له سمّاك.
وأخبرنا جعفر بن محمد قال : أخبرنا إبراهيم بن حميد قال : دخل رجل على أبي حاتم ، وعلى كتفه صبيّ ، فقال له : يا أبا حاتم ، ما تسمّي العرب الرجل إذا كان في فرد رجله خفّ وفي الأخرى نعل؟ قال : لا أدري ، قال : صدقت ، لأن فوق كلّ ذي علم عليم ؛ يقال له : مخفنعل يا غلام. فضحك أبو حاتم حتى شرق بريقه.
ابن أخي الأصمعيّ
وأحمد بن حاتم الباهلي
ودون هذه الطبقة التي ذكرنا جماعة ، منهم أبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله بن قريب (١) ، ابن أخي الأصمعيّ. وقد روى عن عمّه علما كثيرا ، وكان ربّما حكى عنه ما يجده في كتبه من غير أن يكون سمعه من لفظه.
وأبو نصر أحمد بن حاتم الباهليّ (٢) ؛ وزعموا أنه كان ابن أخت الأصمعيّ وليس هذا بثبت ، رأيت جعفر بن محمد ينكره. وكان أثبت من عبد الرحمن وأسنّ وكان يضيّق على ابن الأعرابي مسكه (٣).
وقد أخذ عن الأصمعيّ وأبي عبيدة وأبي زيد ؛ وأقام ببغداد ، فربما حكى الشيء عن أبي عمرو الشيبانيّ.
وكان الأصمعيّ يمقت عبد الرحمن ويشنأه ، وفيه يقول :
نظر العين إلى ذا |
|
يكحل العين بداء |
ربّ قد أعطيتناه |
|
وهو من شرّ العطاء |
عاريا [يا] ربّ خذه |
|
بقميص ورداء (٤) |
وفيه يقول :
إنّ هذا الفتى يرى |
|
أنه ابن المهلّب |
أنت والله معجب |
|
ولنا غير معجب |
__________________
(١) ذكره الزبيدي في الطبقة الخامسة من اللغويين البصريين ، ولم يذكر تاريخ وفاته.
(٢) توفي سنة ٢٣١ ؛ (طبقات الزبيدي ١٩٨).
(٣) في الأصل : «مسله» وما أثبته من الحاشية. والمسك : الجلد.
(٤) في نسخة الأصل تحت هذا البيت : «... خذه بازار ورداء».
محمد بن يزيد المبرّد
ومن أخذ منه
وأخذ الناس العلم عن هؤلاء ، فأخذ النحو عن المازنيّ والجرميّ جماعة ، برع منهم أبو العباس محمد بن يزيد الثماليّ ، فلم يكن في وقته ولا بعده مثله ، ومات سنة اثنتين وثمانين ومائتين.
وعنه أخذ أبو إسحاق إبراهيم بن السريّ الزّجاج (١) ، وأبو بكر محمد بن السريّ السراج (٢) ، ومحمد بن عليّ بن إسماعيل مبرمان (٣) ، وأكابر من لقينا من الشيوخ ـ رحمهم الله.
وأخذ اللغة عنهما ـ أعني المازنيّ والجرميّ ـ وعن نظرائهما الذين قدّمنا ذكرهم جماعة ، فاختصّ بالتوجيّ أبو عثمان سعيد بن هارون الأشناندانيّ (٤) صاحب «المعاني».
__________________
(١) توفي الزجاج سنة ٣١٦ ، (إنباه الرواة ١ / ١٥٩).
(٢) توفي ابن السراج سنة ٣١٦ ، (إنباه الرواة ٣ / ١٤٥).
(٣) توفي مبرمان سنة ٣٢٦ ، (إنباه الرواة ٣ / ١٨٩).
(٤) ذكره الزبيدي في الطبقة السادسة من اللغويين البصريين ، (وانظر الطبقات ٢٠٠).
محمد بن الحسن بن دريد
وبرع من أصحاب أبي حاتم أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية بن حنتم الأزديّ ، من أزدعمان. فهو الذي انتهى إليه علم لغة البصريين ، وكان أحفظ الناس وأوسعهم علما ، وأقدرهم على شعر ؛ وما ازدحم العلم والشعر في صدر أحد ازدحامهما في صدر خلف الأحمر وأبي بكر بن دريد.
ومات سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة ، وهو ابن ثلاث وتسعين سنة : ويقال : ابن سبع وتسعين. وتصّدر في العلم ستين سنة ، وإن كانت السّنّ قعدت بنا عن لقائه ، فإنّا أخذنا عن أكابر من أخذ عنه وعن غيره ممّن لم يكن في العلم دونه ، ولا انتظر الناس بتقديمهم وفاته.
ابن ذكوان
وفي طبقته في السنّ والرواية أبو عليّ عسل بن ذكوان (١).
__________________
(١) عسل بن ذكوان ، من أهل عسكر مكرم ؛ ذكره ابن النديم ضمن وراقي المبرد ؛ ولم يذكر تاريخ وفاته ، (وانظر الفهرست ٦٠).