عبدالواحد بن علي أبوالطيّب اللغوي
المحقق: محمّد أبوالفضل إبراهيم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
ISBN: 9953-432-58-9
الصفحات: ١٢٨
بسم الله الرّحمن الرحيم
مقدمة
الطبعة الثانية
هذا الكتاب على صغر حجمه ، وقلة أوراقه ، نادر في فنه بالغ الإفادة في موضوعه ، لم يكد يخرج من عالم المخطوطات إلى عالم المطبوعات للمرة الأولى ، حتى تلقّاه العلماء والباحثون بهشاشة واطمئنان ، وتناولوه قراءة وبحثا ، في قبول وارتياح ، وذلك لما اشتمل عليه من مادة أصيلة ، وحقائق تاريخية ، ونصوص نادرة ، حول النحويين واللغويين ورواة اللغة والشعر ، منذ ظهور الإسلام في القرن الأول إلى نهاية القرن الرابع ، في الكوفة والبصرة وبغداد ومكة والمدينة ، أشهر عواصم اللغة والأدب في هذا العصر ، وهي الحقبة التي وضعت فيها أصول النحو وجمعت اللغة ، وصنعت المعاجم ، ودوّن الشعر ، وحول ذلك يتجه اهتمام الباحثين ومؤرخي الآداب العربية.
وقد فرغت نسخه من الأسواق منذ سنوات ، وتعذّر اقناؤها على الباحثين ، وأخذوا يلحّون في العمل على إعادة طبعه. ولما هيّأ الله الأمور وتيسّرت الأسباب ، أعدت النظر في تحقيقه ، وأصلحت ما كان في الطبعة الأولى من خطأ ، كما عارضت نصوصه على ما يقابلها في كتاب طبقات النحويين والغويين لمحمد بن الحسن الزبيدي ونزهة الألباء للكمال عبد الرحمن بن محمد الأنباري ، وإنباه الرواة للقفطي ، وبغية الوعاة للسيوطي ، والمختصر من المقتبس للمرزباني ، وهي الكتب التي كسرت تراجمها على النحويين واللغويين. ثم أعدت النظر في تحرير حواشيه ، وتخريج شواهده ، كما أعدت النظر في تنظيم فهارسه.
وأسأل الله أن يعمّ نفعه ، ويوفّق من أعان على إخراجه وإعادة طبعه ، وأن يجزيه من الله خير الجزاء.
والله الهادي إلى أقوم طريق.
|
محمد أبو الفضل إبراهيم ربيع الثاني سنة ١٣٩٤ ه مايو سنة ١٩٧٤ م |
مقدمة
الطبعة الأولى
حينما كنت معنيّا بتحقيق كتاب إنباه الرواة على أنباه النحاة ، للوزير جمال الدين عليّ بن يوسف القفطي كان من أكبر همّي أن أرجع إلى الكتب التي استمد منها المؤلف مادة كتابه ، أو التي شاركته في موضوعه ، لتكون عونا على تحقيق الكتاب ، وتحرير نصوصه ، وإيضاح مبهمه ، وكشف غامضه ، ومقفل مسائله. فكان مما وقع لي كتابان نادران ، لمؤلفين جليلين ، هما كتاب طبقات النحويين واللغويين لأبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي الأندلسي ، وكتاب مراتب النحويين لأبي الطيّب اللغوي ، فوجدت فيهما من جمال التصنيف ، وحسن الأداء ، وغزارة المادة ، ما رغّب إليّ أن أقوم بتحقيقهما ونشرهما ، وخاصة فإنهما يعدان من المصادر الأصيلة الأولى لمن ترجم لأعلام اللغة والنحو والأدب. وعنهما نقل ياقوت والقفطي والصفدي والسيوطي وغيرهم.
وقد تم لي والحمد لله تحقيق كتاب الزبيدي ونشره (١) ؛ وهذا هو كتاب أبي الطيّب اللغوي.
والكتابان وإن كانا متفقين في الموضوع والغاية ؛ إلا أنهما يختلفان شريعة ومنهجا ؛ فكتاب الزبيدي بناه على الطبقات والمدارس ، وعني فيه بذكر الموالد والوفيات ، وحشاه بمختلف الأخبار والطرف والحكايات ؛ عن النحويين واللغويين ، في صدر الإسلام ، ثم من تلاهم ، إلى شيخه أبي عبد الله الرياحي الأندلسي المتوفى سنة ٣٥٨. وكتاب أبي الطيب أقامه على ذكر مراتب العلماء ، ومنازلهم من العلم ، وحظهم في الرواية ، وعقد الصلة بين الشيوخ والتلاميذ ؛ منذ ظهور اللحن ووضع النحو ، ثم ظهور مدرستي البصرة والكوفة إلى أن انتهى العلم فيهما ثم انتقل إلى بغداد ؛ فهو يذكر أبا الأسود الدؤليّ وتلاميذه ، وأبا عمرو بن العلاء
__________________
(١) طبع في مطبعة السعادة سنة ١٩٥٤ م. ثم في دار المعارف سنة ١٩٧٤.
والخليل بن أحمد ومن أخذ عنهما ؛ وهكذا ؛ وسبيله فيما أورد السند والرواية.
ومؤلف كتاب مراتب النحويين هو عبد الواحد بن عليّ أبو الطيّب اللغوي ، ولد في عسكر مكرم ـ وهي بلدة مشهورة في نواحي خوزستان ؛ نشأ فيها كثير من الفضلاء والعلماء ؛ ومنها العسكريان : أبو أحمد صاحب كتاب شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف ، وأبو هلال صاحب كتابي الصناعتين وجمهرة الأمثال ؛ وإلى علمائها كانت تشد الرحال ، ويقصدون من شتى الجهات ـ ونشأ فيها ؛ وحذق النحو واللغة ، ثم رحل إلى بغداد ؛ فأخذ عن أسنادها ، وروى عن أثباتها ؛ وكان ممن روى عنهم محمد بن يحيى الصولي وأبو عمر الزاهد ؛ أخذ عنه كتاب الفصيح لثعلب ، وإصلاح المنطق لابن السكيت ، والنوادر لأبي عمرو الشيبانيّ وغيرها ، وفيها ألف بعض كتبه ؛ منها كتاب الإتباع ؛ الذي أعجب به البغداديون ؛ وتداولوه فيما بينهم.
وكانت مدينة حلب في القرن الرابع من أزهر الحواضر الإسلامية ؛ وأحفلها بالعلماء والشعراء والأدباء ؛ وكان أميرها سيف الدولة من أعظم ملوك العرب شأنا ، وأعلاهم في العلوم والآداب كعبا ، وأوسعهم في المكرمات باعا ؛ فاجتذب إلى حلب أعيان الأدب واللغة والشعر ؛ كالمتنبي والوأواء والنامي والرفاء وابن خالويه والفارابي وكشاجم ؛ فكان منهم أبو الطيّب اللغوي ، وهناك ازدهر علمه ، وبان فضله ، وفيها أيضا قامت الخصومة بينه وبين ابن خالويه ، وذكت المنافسة ، ولكنه كان صاحب السبق والتقدم.
قال ابن القارح : «حدثني أبو عليّ الصقلي بدمشق قال : كنت في مجلس ابن خالويه إذ وردت عليه من سيف الدولة مسائل تتعلق باللغة ، فاضطرب لها ، ودخل خزانته ، وأخرج منها كتب اللغة وفرّقها على أصحابه يفتشونها ليجيب عنها ، وتركته وذهبت إلى أبي الطيّب اللغوي وهو جالس ، وقد وردت عليه المسائل بعينها وبيده قلم الحمرة ؛ فأجاب به ولم يغيّره ؛ قدرة على الجواب (١)».
وقد ذكر أبو العلاء المعرّي (٢) أنه كان يتعاطى شيئا من النظم ؛ وله شيء منه في كتاب المراتب ؛ ولكنه نظم ضعيف.
وظل في حلب إلى أن كانت ليلة الثلاثاء لثمان بقين من ذي القعدة سنة
__________________
(١) رسالة ابن القارح ٢٨.
(٢) رسالة الغفران ٥١٢.
إحدى وخمسين وثلاثمائة دخل الدمستق حلب ، وأخذ منها خلقا من النساء والأطفال ، وقتل معظم الرجال ولم يسلم منه إلا من اعتصم بالقلعة من العلويين والهاشميين والكتاب وأرباب الأموال (١). فكان أبو الطيب فيمن قتل مع أبيه في تلك المحنة ؛ ولعلّها هي التي ذهبت بمعظم آثاره وأخباره.
وكما ضاعت معظم أخباره ، ضاع كثير من مؤلفاته أيضا ، قال أبو العلاء : «ولا شك أنه قد ضاع كثير من كتبه وتصنيفاته ؛ لأن الروم قتلوه وأباه في فتح حلب». إلا أن الزمان قد أبقى منها ما يأتي :
١ ـ كتاب شجر الدّر ، سلك فيه مسلك شيخه أبي عمر الزاهد في كتاب المداخل ؛ ومنه نسخ مخطوطة في دار الكتب المصرية ومكتبة الأزهر (٢).
٢ ـ كتاب الفرق ؛ ذكره المعري في رسالة الغفران ؛ وقال : «قد أكثر فيه وأسهب» ، وعنه نقل السيوطي في المزهر (٣).
٣ ـ كتاب الإتباع ، قال أبو العلاء : «وله كتاب في الإتباع صغير على حروف المعجم ، في أيدي البغداديين» ، وذكره السيوطي في بغية الوعاة.
٤ ـ كتاب الإبدال ؛ ذكره السيوطي والصفدي في الوافي بالوفيات ؛ وقال أبو العلاء : «قد نحافيه نحو كتاب يعقوب في القلب».
٥ ـ كتاب الأضداد ؛ ذكره المرتضى الزبيدي في مقدمة تاج العروس.
٦ ـ المثنى ؛ ذكره الأستاذ عز الدين التنوخي في مقاله (٤) ، وقال : «ومما أغفلوه من مصنفاته كتاب المثنى ، وهو عندي ولله الحمد ؛ لطيف يشتمل على نوعين : الإتباع والتغليب ... ولا أدري : أكتاب الإتباع مما ألفه أبو الطيب مستقلا أم هو ما اشتمل عليه المثنى».
٧ ـ كتاب مراتب النحويين ؛ وهو الذي نقدمه للقراء.
وأصل هذا الكتاب نسخة نادرة في دار الكتب المصرية برقم ١٤٢٥ تاريخ تيمور ؛ تقع في ١٦٤ صفحة ؛ كتبها عيسى بن أبي بكر بن محمد الحميدي ؛ ثم
__________________
(١) زبدة الطلب : ١ / ١٣٧.
(٢) يقوم بتحقيقه الأستاذ محمد عبد الجواد.
(٣) المزهر ج ١ / ٤٥٤ وما بعدها (طبعة عيسى الحلبي).
(٤) مجلة المجمع العلمي العربي الجزء الثاني ، المجلد التاسع والعشرون.
قوبلت على أصل صحيح ، عليه حواش لابن نوبخت ، وفي آخرها خط الشيخ محمد بن المخلطة المالكي وتاريخه ٨٦١ ، وخط الشيخ محمد عبد العزيز الشافعي. وقد سقط من هذه النسخة ورقة بعد ص ١٥٨.
وقد قمت بتحقيق هذا الكتاب على تلك النسخة ؛ وقابلتها بما نقله السيوطي عنه في المزهر ؛ وأكملت الناقص منه ؛ وأثبت فروق النسخ التي وردت في الحواشي ، ووضعت أرقام الصفحات على الجانبين ؛ كما رقّمها العلّامة أحمد تيمور ووضعت له عنوانات ميزتها بعلامات الزيادة وألحقت به الفهارس المفصّلة.
وأرجو من الله تباركت آلاؤه أن يجعله عملا نافعا مقبولا ؛ وهو ولي التوفيق.
الجمعة ١٦ المحرم سنة ١٣٧٥ ه.
|
٢ سبتمبر سنة ١٩٥٥ م. محمد أبو الفضل إبراهيم |
بسم الله الرّحمن الرّحيم
صلّى الله على محمد
أمتعني الله ببقائك ، وحسن الدفاع عن حوبائك ، ووفّقك في دينك ورأيك ، وجعلك لكل خير سببا ، ورزقك إليه مذهبا.
إن اختلاف همم النفوس بحسب اختلافها في الفضل ، ومناسبتها للعلم على قدر مناسبتها للعقل ، والنفس النفيسة تتأذى بفقد العلم ، أكثر مما يتأذّى الجسم بعدم الطّعم.
وإنك ـ أعزك الله ـ شكوت إليّ دفعة بعد أخرى ، وثانية بعد أولى ، شدة تفاوت ما يصل إلى سمعك وقلبك من كلام أهل العصبية ، في المفاضلة بين أهل العربية ، وادّعاء كل قوم تقدّم من ينتمون إليه ، ويعتمدون في تأدبهم عليه ، وهم لا يدرون عمّن روى ، ولا من روى عنه ، ومن أين أخذ علمه ، ولا من أخذ منه ؛ وقد غلب هذا على الجهال ، وفشا في الرّذال (١) ؛ حتى إن كثيرا من أهل دهرنا لا يفرقون بين أبي عبيدة وأبي عبيد ، وبين الشيء المنسوب إلى أبي سعيد الأصمعي أو أبي سعيد السكّري أو أبي سعيد الضرير. ويحكون المسألة عن الأحمر ؛ فلا يدرون أهو الأحمر البصريّ ، أو الأحمر الكوفيّ. ولا يصلون إلى العلم بمزية ما بين أبي عمرو بن العلاء وأبي عمرو الشيبانيّ ؛ ولا يفصلون بين أبي عمر عيسى بن عمر الثقفي ، وبين أبي عمر صالح بن إسحاق الجرمي. ويقولون : «قال الأخفش» ، ولا يفرقون بين أبي الخطّاب الأخفش وأبي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش البصريّين وبين أبي الحسن عليّ بن المبارك الأخفش الكوفي (٢) ، وأبي الحسن عليّ بن سليمان الأخفش بالأمس صاحب محمد بن يزيد وأحمد بن يحيى ، وحتى يظنّ قوم أن القاسم بن سلام البغدادي ومحمد بن سلام الجمحيّ صاحب الطبقات أخوان.
ولقد رأيت نسخة من كتاب «الغريب المصنّف» على ترجمته : «تأليف أبي عبيد القاسم بن سلّام الجمحي» ، وليس أبو عبيد بجمحيّ ولا عربيّ ؛ وإنما
__________________
(١) الرذال : جمع رذيل وأرذل ورذال أيضا ؛ وهو الدون الخسيس.
(٢) في الحاشية عن ابن أبي الحجاج «يحقق هذا الذي ذكره ؛ فهو الأحمر لا الأخفش ؛ أعني علي بن المبارك». والصواب ما ذكره ابن أبي الحجاج ، وانظر بغية الوعاة ٢ / ١٥٨.
الجمحي محمد بن سلّام مؤلف كتاب «طبقات الشعراء» ، وأبو عبيد في طبقة من أخذ عنه .. إلى غير هذا مما لا يفيدك ذكره علما.
فلما اجتمع شكواك ما تشكّيته (١) إلى ما أرى الناس يتهافتون فيه خبط عشواء ، وصيد ظلماء ، ورأيتك إذا أجريت منه شيئا انتقرته (٢) ، وأسرعت إلى تعليقه وافترصته ؛ أشفقت من لبس يدخل عليك فيه ، أو سهو يحملك على باطل تحكيه ؛ وأعيذ إخواني بالله مما لا يسرّني في الأعداء ، ولا أفرح به في البعداء ، وذوي الشنآن والبغضاء. فرسمت لك في هذا الكتاب ما تقبح الغفلة عنه ، ولا يسع العقلاء جهله ، وجمعت ما خشيت من تفرّقه عليك ، وخفت أن يصعب إلقاؤه إليك. وأرجو ألا أقصّر عما يقنعك ، ولا أتعدى إلى تطويل لا ينفعك ، بإذن الله.
[و](٣) اعلم ـ علمت الخير وعملت به ـ أن أكثر (٤) آفات الناس الرؤساء الجهال ، والصدور الضلّال ، وهذه فتنة الناس على قديم الأيام وغابر الأزمان ، فكيف بعصرنا هذا ، وقد وصلنا إلى كدر الكدر ، وانتهينا إلى عكر العكر! وأخذ هذا العلم عمّن لا يعلم ولا يفقه ، ولا يحس ولا ينقه (٥) ، يفهّم الناس ما لا يفهم ، ويعلّمهم عند نفسه وهو لا يعلم ، يتقلّد كلّ علم ويدّعيه ، ويركب كلّ إفك ويحكيه ، يجهل ويرى نفسه عالما ، ويعيب من كان من العيب سالما.
يتعاطى كلّ شيء |
|
وهو لا يحسن شيّا |
فهو لا يزداد رشدا |
|
إنّما يزداد غيّا |
ثم لا يرضى بهذا حتى يعتقد أنه أعلم الناس ، ولا يمنعه ذلك حتى يظنّ أن كل من أخذ هذا العلم عنه لو حشروا لاحتاجوا إلى التعلم منه ، فهو بلاء على المتعلمين ووبال على المتأدبين ، إن روى كذب ، وإن سئل تذبذب ، وإن نوظر صخب ، وإن خولف شغب ، وإن قرّر عليه الكلام سبّ.
يصيب وما يدري ، ويخطي وما درى |
|
وكيف يكون النّوك إلا كذلكا! (٦) |
__________________
(١) تشكى : اشتكى.
(٢) حاشية الأصل : «خ ـ انتهزته».
(٣) تكملة من المزهر فيما نقله عن أبي الطيب.
(٤) خ : «أكبر».
(٥) ينقه : يفهم.
(٦) من أبيات لأبي الأسود الدؤلي ؛ وكان قد وجه رسولا إلى الحصين بن أبي الحر العنبري وإلى نعيم بن مسعود النهشلي ـ وكانا يليان بعض أعمال الخراج لزياد ـ وكتب معه إليهما ، وأراد
فالواحد من هؤلاء في طبقة من الجهل لا تدرك بالمقياس ولم يهتد إليها (١) الخليل حين طبّق الناس.
أخبرنا محمد بن يحيى بن العباس (٢) قال : حدّثنا أبو أحمد محمد بن موسى البربري (٣) قال : حدّثنا الزبير بن بكار (٤) قال : حدّثنا النضر بن شميل قال : سمعت الخليل يقول : من الناس من يدري أنه يدري فذاك عالم فاتّبعوه ، ومنهم من يدري ولا يدري أنه يدري فذاك ضالّ فأرشدوه ومنهم من لا يدري ويدري أنه لا يدري فذاك طالب فعلموه ، ومنهم من لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذاك جاهل فاحذروه.
ولقد بلغني عن بعض من يختص بهذا العلم ويرويه ، ويزعم أنه يتقنه ويدريه ، أنه أسند (٥) شيئا فقال : «عن الفرّاء عن المازنيّ» ، فظن أن الفراء الذي كان هو بإزاء الأخفش كان يروي عن المازني!.
وحدّثت عن آخر أنه روى مناظرة جرت بين ابن الأعرابي والأصمعي ، وهما ما اجتمعا قط (٦) ، وابن الأعرابي بإزاء غلمان الأصمعي ، وإنما كان يرد
__________________
منهما أن يبراه ؛ ففعل ذلك نعيم بن مسعود ، ورمى الحصين بن أبي الحر بكتاب أبي الأسود وراء ظهره ؛ فعاد الرجل فأخبره ؛ فقال أبو الأسود للحصين :
حسبت كتابي إذ أتاك تعرّضا |
|
لسيبك لم يذهب رجائي هنالكا |
وخبّرني من كنت أرسلت أنّما |
|
أخذت كتابي معرضا بشمالكا |
نظرت إلى عنوانه فنبذته |
|
كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا |
نعيم بن مسعود أحقّ بما أتى |
|
وأنت بما تأتي حقيق بذالكا |
يصيب وما يدري ، ويخطي وما درى |
|
وكيف يكون النّوك إلّا كذلكا! |
(وانظر الأغاني ١٢ / ٣٠٧).
(١) خ : «إليه».
(٢) هو محمد بن يحيى بن عبد الله بن العباس بن محمد بن صول المعروف بأبي بكر الصولي ؛ شيخ المؤلف ، اشتهر بالرواية والحفظ ؛ ودوّن أخبار الوزراء والكتّاب والشعراء والرؤساء ؛ توفي سنة ٣٣٥. (وانظر إنباه الرواة ٣ / ٢٣٣ ـ ٢٣٦ ، وتاريخ بغداد ٣ / ٤٢٧ ـ ٤٣٢).
(٣) هو محمد بن محمد بن موسى بن حماد أبو أحمد المعروف بالبربري ؛ توفي سنة ٢٩٤. (وانظر تاريخ بغداد ٣ / ٢٤٣).
(٤) هو الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام صاحب كتاب نسب قريش. توفي سنة ٢٥٦. (اللباب ١ / ٤٩٦).
(٥) يقال : أسند الحديث إذا رفعه.
(٦) كذا ذكر في الأصل ، وفيه نظر ، فقد ذكر الزبيدي عن الفضل بن سعيد بن سلم أنه قال «كان ابن الأعرابي يؤدبنا في أيام أبي سعيد بن سلم ، فكان الأصمعي يأتينا مواصلا فيناظره ابن
عليه بعده ؛ وحريّ بمن عمي عن معرفة قوم أن يكون عن علومهم أعمى وأضلّ سبيلا.
[قال : فرسمت في هذا الكتاب ما يفتح القفلة ، ولا يسع العقلاء الجهل به](١).
__________________
الأعرابي فيرتجل ذلك ؛ وكان أعلم بالإعراب منه. وكان الأصمعي يفتر فيه ويغريه بالشعر ويسلكه مسلكه في جهة المعاني. فإذا وقع هذا الباب وبرئ من الإعراب التهمة فلم يغترف من بحره». وانظر الطبقات : ٢١٣.
(١) من المزهر ٢ / ٣٩٦.
أول ظهور
اللحن في الكلام
واعلم أنّ أول ما اختلّ من كلام العرب فأحوج إلى التعلّم الإعراب ، لأن اللّحن ظهر في كلام الموالي والمتعربين من عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ؛ فقد روينا أن رجلا لحن بحضرته فقال : «أرشدوا أخاكم. فقد ضلّ».
وقال أبو بكر رضي الله عنه : لأن أقرأ فأسقط أحبّ إليّ من أن أقرأ فألحن. فقد كان اللحن معروفا ؛ بل قد روينا من لفظ النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : «أنا من قريش ، ونشأت في بني سعد (١) ، فأنّى لي اللّحن!».
وكتب كاتب لأبي موسى الأشعري إلى عمر : «من أبو موسى» ؛ فكتب إليه عمر : سلام عليك ، أما بعد فاضرب كاتبك سوطا واحدا ، وأخّر عطاءه سنة.
وكان عليّ بن المديني (٢) لا يغير الحديث وإن كان لحنا ؛ إلا أن يكون من لفظ النبي صلّى الله عليه وسلّم ، فكأنه يجوّز اللّحن على من سواه.
__________________
(١) هم بنو سعد بن بكر بن هوازن ؛ أظآر النبي عليه السّلام ، واسترضع عندهم ، وكان حاضنه منهم الحارث بن عبد العزى بن رفاعة ، ومرضعه زوجه حليمة بنت عبد الله بن الحارث.
(وانظر جهرة الأنساب لابن حزم ٣٥٣).
(٢) هو علي بن عبد الله بن جعفر المديني ؛ بصري ، وأصله من المدينة ، أصدر في الحديث مصنفات كثيرة لم يسبق إلى معظمها ؛ وتوفي سنة ٢٣٤ (تهذيب التهذيب).
أبو الأسود الدؤلي
ثم كان أوّل من رسم للناس النحو أبو الأسود الدؤلي فيما حدّثنا به أبو الفضل جعفر بن محمد بن بابتويه قال : حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن حميد (١) قال : أخبرنا أبو حاتم السجستانيّ ، وأخبرنا أبو بكر محمد بن يحيى قال : حدّثنا محمد بن يزيد النحويّ قال : حدّثنا أبو عمر الجرمي ، عن الخليل ، قالوا : وكان أبو الأسود أخذ ذلك عن أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام لأنه سمع لحنا ، فقال لأبي الأسود : اجعل للناس حروفا ـ وأشار له إلى الرّفع والنّصب والجرّ ـ فكان أبو الأسود ضنينا بما أخذه من ذلك عن أمير المؤمنين عليه السّلام.
وقد اختلف في اسم أبي الأسود ؛ حدّثنا جعفر بن محمد قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال : حدّثنا عمر بن شبّة أبو زيد (٢) قال : اسم أبي الأسود عمرو بن سفيان بن ظالم.
وحدّثنا عبد القدوس بن أحمد التستريّ قال : حدّثنا محمد بن يزيد قال : سمعت عمرو بن بحر الجاحظ يقول : اسم أبي الأسود ظالم بن عمرو بن سفيان.
وأخبرنا جعفر بن محمد قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن عبد العزيز قال : حدّثنا أبو زيد عمر بن شبّة قال : أخبرنا الأصمعي أنه سمع عيسى بن عمر يقول : هو أبو الأسود الدؤلي ـ بفتح الهمزة ـ منسوب إلى الدّئل ، بكسر الهمزة ـ وإنما فتحوها للنسبة ، كما نسبوا إلى تغلب تغلبيّ ، وإلى يثرب يثربيّ. قال : والدّئل : أبو قبيلة من كنانة ، سمّي باسم دابّة يقال لها : الدّئل ، بين ابن عرس والثعلب.
__________________
(١) هو إبراهيم بن حميد الكلابزي النحوي البصري ؛ ذكره الزبيدي في الطبقات ص ٢٠١ ، القفطي في الإنباه ١ / ١٨٥ ، والسيوطي في البغية ١ / ٤٣٢ باسم : «إبراهيم بن محمد الكلابزي» ، توفي سنة ٣١٦. وفي الأنساب للسمعاني واللباب لابن الأثير : «إبراهيم بن حميد».
(٢) هو عمر بن شبّة بن عبيدة النميري أبو زيد البصري ، الحافظ الأخباري ، توفي سنة ٢٠٢.
(تهذيب التهذيب ٧ / ٤٦٠).