تراث الشيعة الفقهي والأصولي - ج ١

مهدي المهريزي ومحمد حسين الدرايتي

تراث الشيعة الفقهي والأصولي - ج ١

المؤلف:

مهدي المهريزي ومحمد حسين الدرايتي


الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-21-8
الصفحات: ٦٣٢

١٨. سبيل الرشاد في ردّ فرقة البروتستاني من المسيح ؛ لإبراهيم بن أحمد بن حسين بن خليل.

١٩. عقد الدرر في أخبار المنتظر ؛ للشافعي.

٢٠. فرحة الغرىّ بصرحة الغرى ؛ لأحمد بن موسى بن طاوس الحلّي ، كتبه وقابله وصحّحه سنة ١٣١١ ق.

٢١. فرق الشيعة ؛ للنوبختي ، فرغ عنه في يوم الخامس من جمادى الاخرى من سنة ١٣١٢ ق بالنجف.

٢٢. الفهرست ؛ للشيخ الطوسي رحمه‌الله.

٢٣. قصيدة السردابيّة ؛ للسيّد جعفر الدارابي البروجردي.

٢٤. كامل الزيارات ؛ لابن قولويه رحمه‌الله ، فرغ عن كتابته سنة ١٣٠٢ ق في النجف الأشرف.

٢٥. كتاب في الإمامة ؛ لخواجه نصير الدين الطوسي.

٢٦. كشف الريبة في أحكام الغيبة ؛ للشهيد الثاني رحمه‌الله ، كتبه سنة ١٣٠٧ ق.

٢٧. المزار ؛ للشيخ المفيد رحمه‌الله ، فرغ عن كتابته سنة ١٣١١ ق في النجف الأشرف.

٢٨. مسائل الأشعثيّات أو الجعفريّات ؛ عن أحد أعلام الشيعة في القرن الرابع. فرغ من استنساخه يوم النوروز من سنة ١٣٠٤ ق.

٢٩. مقتضب الأثر في الأئمّة الاثنى عشر عليهم‌السلام ؛ لأبي عبد الله أحمد بن محمّد بن العيّاش.

٣٠. المناقب ؛ للخوارزمي ، فرغ عنه في أربعين سنة ١٣٠٩ ق في كربلاء.

٣١. منظومة البلد الأمين ( في الاصول ) ؛ للسيّد جعفر الدارابي البروجردي.

٣٢. منية اللبيب في شرح التهذيب ( في الاصول ) ؛ لبهاء الدين ابن أعرج.

٥٨١

٣٣. نتائج الأفكار في بيان حكم المقيمين في الأسفار ؛ للشهيد الثاني رحمه‌الله ، فرغ عنه ١٤ ربيع الأوّل سنة ١٣٠٧ ق.

٣٤. النكت في مقدّمات الاصول ؛ للشيخ المفيد رحمه‌الله ، كتبه سنة ١٣١٢ ق من نسخة قديمة بخطّ أحمد بن حسين بن العودي الحلّي من القرن الثامن.

٣٥. اليقين ؛ لعليّ بن طاوس رحمه‌الله.

الخاتمة

وفي خاتمة هذا التمهيد نشكر الله ونحمده على توفيقه ونصرته إيّانا في تصحيح هذه الباقية الوزينة ، رغم الصعوبات التي أشرنا إليها سابقا ، ونعتقد بأنّ الحكم في جودة التحقيق والتصحيح أمر متروك للقارئ ، ولا تثبت بالادّعاء فقط ، ولعمري إنّ المحقّق يكون لأنواع النقود خاضعا خاشعا.

ثمّ لا بدّ أن أشكر من أخي المعظّم المحقّق حجّة الإسلام الشيخ محمّد حسين الدرايتي ومساعديه الذين يسعون جدّا في إحياء هذا التراث الإسلاميّ في مكتبة الفقه ، جعله الله وإيّاي في عباده الذين يجاهدون في سبيل الله ، مخلصين له الدين ، والله على كلّ شيء قدير ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

٥٨٢

٥٨٣

٥٨٤

التسامح في أدلّة السنن

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد له ، والصلاة على نبيّه وآله.

وأمّا الكلام في « التسامح في أدلّة السنن » ، الذي ذهب إليه جمع كثير من أصحابنا ، فلا بأس قبل إشباعه بتنقيح كونه من مسائل الفروع أو الاصول ؛ لاختلاف آثارهما.

[ قاعدة التسامح مسألة اصوليّة أم فقهيّة ؟ ]

فنقول : قد يرجّح كون المسألة اصوليّة بأنّ دليل التسامح ـ وهو الأخبار الآتية ـ يفيد اعتبار الخبر الضعيف وأشباهه في مقام إثبات الاستحباب ونحوه ، نظير ما يثبت أدلّة حجّيّة الخبر الصحيح مطلقا ؛ فإنّ كلّا يفيد جواز العمل بالخبر.

والإشكال إليه (١) : أنّ الوجوب في موارد كون الحكم إلزاميّا أمر ثابت بخصوصيّة المورد ، إلّا أنّ هذا الوجه يقتضي كونها من مبادئ المسائل الاصوليّة بناء على كون الموضوع : « الدليل الثابت اعتباره » ، (٢) دون أصل مسائل الفقه والاصول ، ويدخل في الاصول بناء على القول الآخر ، (٣) وكذا على القول بكون الدليل حقيقة هو قول المعصوم في المورد.

ويرجّح الاصوليّة أيضا بأنّها على ما يستفاد من التحديد بالعلم بالقواعد الممهّدة

__________________

(١) كذا ، والصحيح : عليه.

(٢) هذا ما ذهب إليه المتقدّمون من الاصوليّين في تعريف موضوع هذا العلم. انظر : الفصول ، ص ٧ ؛ قوانين الاصول ، ص ٩ ؛ كفاية الاصول ، ص ٨ ؛ فوائد الاصول ، ص ٢٨ ؛ لمحات الاصول ، ص ١٨ ؛ وغيرها.

(٣) راجع المصادر السالفة.

٥٨٥

لاستنباط الأحكام الشرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة ، (١) الظاهر في اختصاص ذلك الحكم بالفقيه بواسطة قدرته على الاستنباط ، وعدم تمكّن العامي منه بواسطة توقّفه على امور يجهلها (٢) المكلّف.

والمسائل الفقهيّة ما لا يختصّ بالفقيه بما هو فقيه ، بمعنى أنّه بعد ما حصّلت المسألة وبرهن عليها ، فإمّا أن يجوز العمل في مواردها لخصوص الفقيه ، فتكون اصوليّة ، وإلّا فهي قضيّة تشترك بينه والعامي ، وبعد إثبات جواز التسامح فهذه المسألة لا تنفع للعامي ؛ لتوقّف إعماله على فهم الدلالة ، وإحراز عدم وجود المعارض ، ونفي احتمال الحرمة ، ونحو ذلك. (٣)

وكذا مسألة البراءة والاحتياط ، وذلك لتوقّف إعمالها في الموارد على العلم بعدم وجود الدليل ، ونحو ذلك.

__________________

(١) هذا تعريف مشهور الاصوليّين عن علم الاصول ، وإن ناقش فيه أكثر المتأخّرين. انظر : قوانين الاصول ، ص ٥ ؛ هداية المسترشدين ، ص ٩٧ ؛ الفصول الغرويّة ، ص ٩ ؛ فرائد الاصول ، ج ٣ ، ص ١٧ ؛ كفاية الاصول ، ص ٩ ؛ وغيرها من المصادر الاصوليّة.

(٢) في النسخة : « يجهله » ، وهو سهو.

(٣) قال الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في رسالته في التسامح : « فالتحقيق في الفرق بينها هو أنّ المسألة الاصوليّة عبارة عن كلّ قاعدة يبتني عليها الفقه ، أعني معرفة الأحكام الكلّيّة الصادرة من الشارع ومهّدت لذلك ، فهي بعد إتقانها وفهمها عموما أو خصوصا مرجع للفقيه في الأحكام الفرعيّة الكلّيّة ، سواء بحث فيها عن حجّيّة شيء أم لا ، وكلّ قاعدة متعلّقة بالعمل ليست كذلك ، فهي فرعيّة ، سواء بحث فيها عن حجّيّة الشيء أم لا.

ومن خواصّ المسألة الاصوليّة أنّها لا تنفع في العمل ما لم تنضمّ إليه صرف قوّة الاجتهاد واستعمال ملكته ، فلا تفيد المقلّد بخلاف المسائل الفروعيّة ؛ فإنّها إذا أتقنها المجتهد على الوجه الذي استنبطها من الأدلّة جاز إلقاؤها إلى المقلّد ليعمل بها » .

ثمّ قال بعد تبيين عنه : « إذا عرفت ما ذكرنا ظهر لك أنّ قاعدة التسامح مسألة اصوليّة ؛ لأنّها بعد إتقانها واستنباط ما هو مراد الشارع منها من غالب الأخبار المتقدّمة ، فهي شيء يرجع إليه المجتهد في استحباب الأفعال ، وليس ما ينفع المقلّد في شيء ؛ لأنّ العمل بها يحتاج إلى إعمال ملكة الاجتهاد ، وصرف القوّة القدسيّة في استنباط مدلول الخبر ، والفحص عن معارضه الراجح عليه ، أو المساوي له ، ونحو ذلك ... » .

رسائل فقهيّة ، ص ١٤٩.

٥٨٦

وذلك بخلاف قاعدة الضرر ونفي الحرج ؛ فإنّهما بعد إثباتهما من مأخذهما لا حاجة إلى استنباط في إعمالهما ، فتكونان من المسائل الفقهيّة التي يعمل بها المقلّد بعد ما أخذها من الفقيه على نحو الكلّيّة أو غيرها يفسّر الموارد (١) ، وذلك الاستصحاب في الأحكام الكلّيّة ، فلاحظ.

ويمكن الخدشة في الموردين : (٢)

أمّا الأوّل ، فبوضوح الفرق بين مفاد أدلّة التسامح وأدلّة اعتبار الأمارات ، وذلك لوضوح أنّ المستفاد من أدلّة الأمارات اعتبارها بعنوان كاشفيّتها عن الواقع ، والاتّكال إليها من تلك الجهة ، والحاصل وضوح كون الأمر في الأمارات لإحراز الأحكام الواقعيّة في مواردها ، وكون الاعتبار من أجل كاشفيّتها عنها ظنّا بخلاف ما نحن فيه ؛ فإنّ الظاهر من الأخبار ـ على ما ستعرفه ـ أنّ الثواب عطاء من الله لمجرّد العمل له ، وأن لا نظر فيها إلى مطابقة الأخبار للواقع وصدقها ؛ بدليل قوله : « وإن لم يكن الأمر كما بلغه » (٣) ونحوه.

فالحكم بإعطاء الثواب البالغ نظير الحكم المجعول في مورد الشكّ وأمثاله من الموضوعات المركّبة الملحوظة بعناوينها ، حيث لا نظر فيها إلى مطابقتها للواقع ، وإن كان الواقع أنّ الشارع لم يجعل للشاكّ إلّا ما هو أغلب مطابقة لحكمه الواقعي في موارد الشكّ ، بمقتضى مصلحة الأحكام الواقعيّة ؛ فإنّ مجرّد ذلك لا يقتضي كون الاستصحاب ـ مثلا ـ من أجل الأماريّة.

وبالجملة فله حينئذ أن يقول : فرق بيّن بين المقامين ، حيث إنّ الاعتبار في الأمارة من أجل الكاشفيّة ، فتكون جهة معتبرة بخلاف ما نحن فيه ، فلم يلحظ فيه الكاشفيّة ، والحكم بإعطاء الثواب حكم ثابت عن تفضّل ، مع قطع النظر عن المطابقة

__________________

(١) كذا قرأناه.

(٢) كذا قرأناه.

(٣) الإقبال ، ص ٥٥٦ ؛ مسكّن الفؤاد ، ص ٣٤ ؛ وسائل الشيعة ، ج ١ ، ص ٨٢ ، ح ١٩٠.

٥٨٧

وعدمها ، فهو أجر عمل خاصّ بعنوانه الظاهري ، ولم يثبت فيه ملاحظة وجود الواقع والمطابقة للأحكام الواقعيّة ، والفوز بالأخذ بها ، وإن كان الداعي إلى جعل ذلك الحكم القطعي حادثة (١) الأحكام الواقعيّة حتّى المقدور ، وعدم الوقوع في خلافها وفوات مصالحها ؛ فإنّ مجرّد ذلك لا يقتضي بملاحظة الأمارة في الخبر الضعيف حتّى يكون إثبات جواز التسامح مثل إثبات حجّيّة سائر الأمارات ، فتكون مسألة اصوليّة.

وأمّا الثاني ، فبأنّ المدار في فقهيّة المسألة على اشتراك حكم بعد ثبوتها ، وحصولها من أدلّتها بين عامّة المكلّفين ، وعدم اختصاص ذلك الحكم في مقام بالفقيه بما هو فقيه والمستنبط ، ولا شكّ أنّ البراءة المستفادة من أدلّتها كذلك ؛ فإنّ نفي الحرج أو ثبوت الرخصة ممّا لا يختصّ بالفقيه كما لا يخفى ، وإن كان الفقيه هو المشخّص لموارد ذلك بملاحظة الأدلّة ، وعدم معرفة وجود ما يفيد حكم المورد ، فإنّ ذلك من مبادئ إعمال الحكم وإحراز موضوعه ، وإنّما لا يقدر المقلّد على ذلك ؛ لقصور باعه (٢) عن فهم الأدلّة وملاحظة الدلالة.

والحاصل أنّ البراءة نفس مدلول تلك الأدلّة ، وهو الذي يلقيه الفقيه إلى العامي بعد تشخيص مورده ، لا أنّ أخبار البراءة تقتضي شيئا يكون مقتضاه في مورد فقد النصّ ـ مثلا ـ خلوّ الواقعة عن الحكم ، حتّى يكون مضمون تلك الأخبار ممّا يعمله الفقيه في استنباط الأحكام الفرعيّة في الموارد الجزئيّة ، وأخبار البراءة في ثبوت مفادها بأنفسها لعامّة المكلّفين من غير توسيط شيء آخر ، مشاركة لأخبار الوضوء والصلاة وغيرهما ، ولا فرق بينهما من وجه إلّا بسعة مورد تلك الأخبار ، وعدم الاختصاص بباب دون [ باب ] ، ومن ذلك حال أدلّة نفي الحرج ونفي الضرر وأمثالهما ، ولعلّه واضح إن شاء الله.

__________________

(١) كذا.

(٢) الباع : السعة والتوسّع. انظر : لسان العرب ، ج ٨ ، ص ٢٢ ( بوع ) .

٥٨٨

ويوضحه أيضا أنّ الحكم في المسألة الاصوليّة لا بدّ أن يكون من عوارض الأدلّة وأحوالها المحتاجة إليها في مقام استنباط الأحكام الواقعيّة الثابتة لأفعال المكلّفين ، ومن الواضح أنّ مفاد أخبار البراءة وإخوتها كالحكمين والاستصحاب وأضرابها ليس من أحوال الأدلّة المستعملة في الاستنباطات حتّى يحكم باصوليّتها ، بل مفادها نفس ما يثبت لأفعال المكلّفين.

ثمّ إنّه بعد ذلك كلّه ربّما يرجّح كون مسألة التسامح في أدلّة السنن في المسائل الاصوليّة ، ويوجّه بأنّ الأخبار الآتية وإن لم تدلّ على حجّيّة الأخبار المشتملة على بيان المستحبّات ، وكونها ذاتا كاشفة عن الامور الواقعيّة ، ومرآة مثل سائر الأدلّة ، إلّا أنّها لا يتمّ دلالتها إلّا بإمضاء الأحكام المشتملة عليها تلك الأخبار الضعيفة ، بمعنى أنّها لا بدّ أن تكون دالّة على التعبّد بترتيب الآثار الواقعيّة على تلك الأحكام ، كما يرشد إليه اعتبار ثبوت شيء من الخبر الضعيف.

وتوضيحه أنّ الخبر الضعيف ـ مثلا ـ يدلّ على نفس الحكم ، ولكن بواسطة ضعفها ، وعدم حجّيّتها ، وعدم كونها أمارة شرعيّة لا يثبت ذلك الاستحباب في مرحلة الظاهر للمكلّف ، ولا يتنجّز عليه ، وإن كان ثابتا في واقعة ، ثمّ بعد ورود أخبار التسامح يثبت ذلك المنبأ به في الخبر الضعيف في حقّ المكلّف نظير ما في سائر الأدلّة ؛ فإنّها مع قطع النظر عن حجّيّتها إنّما تدلّ على ذات الحكم وثبوته في الواقع ، بحيث ينجّز على المكلّف أنّما يأتي من قبل دليل حجّيّة تلك الأدلّة ، فكما لا ينفع أصل وجود الخبر في ثبوته للمكلّف ، فكذا دليل التسامح ؛ فإنّه قبل بلوغ شيء لا يدلّ على ثبوت الحكم في حقّه.

والحاصل أنّ تلك الأخبار وإن لم تدلّ على حجّيّة الأخبار الضعيفة ـ مثلا ـ ليكون مفادها الحجّيّة والاعتبار ، وتكون من المسائل الاصوليّة الواضحة ، إلّا أنّها تدلّ على التعبّد بترتيب [ الأحكام ] آثار الواقع على ما اشتملت عليه الأخبار والعمل عليه ، وهذا ـ كما لا يخفى ـ ليس من الأحكام الشرعيّة الفرعيّة الثابتة لأفعال المكلّفين ، حتّى تكون

٥٨٩

من الأحكام الفقهيّة المشتركة بين الفقه وغيره ، فتخرج عنها ، وتكون من الاصوليّة.

هذا غاية توضيح ما سمعناه ، (١) وهو لا يخلو عن نظر ؛ لأنّ تلك الأخبار ـ كما تعرفها ـ لا تدلّ على لزوم الأخذ بأحكام الأخبار الضعيفة ، والتعبّد بترتيب أثر [ الأحكام ] الواقعيّة من العمل ؛ فإنّ العمل من الامور الملحوظة في الموضوع الخارجة عن الحكم ، والتعبّد لو كان إنّما هو في الحكم المستفاد من أخبار التسامح دون موضوعها والامور الملحوظة فيه.

فإن قلت : إنّ ملاحظة مدلول ألفاظ الروايات وإن كان يقتضي ذلك ، إلّا أنّ استحباب العمل بتلك المستحبّات لدرك الثواب الموعود في تلك الأخبار لا يثبت إلّا بعد التعبّد بالعمل بهذا الوجه.

والحاصل أنّه لا بدّ أن يحصل من أخبار التسامح : يستحبّ العمل بما بلغكم ؛ اعملوا بما بلغكم ، والله يعطيكم ثوابه ، وإلّا لم يتجه التمسّك بها في مقام العمل بتلك الأخبار ، وتمنع استفادته ، فلا يكون العمل بترتيب أثر الواقع على مضامين تلك الروايات.

قلت : فرق بيّن بين العمل بعد الاطّلاع على أخبار التسامح وامتثال حكمها الثابت منها وبين العمل بالأخبار الضعيفة مع قطع النظر عنها وأمثالها وملاحظة مجرّد درك الثواب الموعود في الخبر الضعيف ، وليس العمل بترتيب آثار [ الأحكام ] الواقعيّة في

__________________

(١) في حاشية النسخة : « وتوضيح المقال أنّ المستفاد من الروايات هو ثبوت الثواب بفضل من الله وعدمه في أخبار التسامح لإتيان ما وصل إلينا كونه ذا ثواب من الخبر ، وثبوت الثواب الموعود هو الحكم المستفاد من تلك الروايات ، والتعبّد إنّما هو نيّة ، وهذا الحكم إنّما هو للإتيان بتلك الأفعال.

فحاصله : من أتى بشيء منها فله الثواب الواصل إليه ، ويلزم استحباب الإتيان بتحقّق الثواب ، ويثبت الاستحباب من تلك الأخبار لتلك الأفعال ، فلا يكون مفاد أخبار التسامح قضيّة يعمل بها في الاستفادة عن تلك الأخبار الضعيفة ، ولا دالّة على التعبّد بالعمل بتلك الضعاف ، وترتيب آثار الواقع عليه ، ويكون مضمون الضعاف الواصل إلينا موضوع أخبار التسامح ، وممّا يثبت حكمها عند وجوده ، فبلوغ الثواب على عمل بالنسبة إلى ثبوت الحكم المذكور فيها ، مثل السفر بالنسبة إلى وجوب القصر في الصلاة ، أو الاستيلاء بالصلاة فيه بالنسبة إليه » .

٥٩٠

الثاني ، وبتلك الملاحظة ، والثواب الموعود في أخبار التسامح ليس على امتثال نفس تلك الأخبار بالضرورة ، فلاحظ.

والحاصل أنّ أخبار التسامح لا تثبت التعبّد بترتيب آثار [ الأحكام ] الواقعيّة على مضمون تلك الأخبار ، وإنّما هو وعد ثواب على فرض العمل ، ويثبت الاستحباب بعد تحقّق الثواب بذلك الوعد ، ويصحّ الأخذ به على وجه الواقعيّة لمطلوبيّته ، وهذا غير محلّ البحث ، فلاحظ.

ولو سلّم ثبوت تعبّد في العمل واستفادته من أخبار التسامح ، فهو أيضا لا يوجب كون المسألة اصوليّة.

[ الأخبار التي يستدلّ بها في قاعدة التسامح ]

وإذا عرفت ذلك ، فالذي يستدلّ عليه للحكم أخبار نوردها متروكة الأسناد ؛ للاستغناء عن ملاحظتها بالكثرة واشتهار الحكم رواية وفتوى بين الخاصّة ، (١) ورواية بين العامّة أيضا. (٢)

[ ١. ] فعن صفوان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « من بلغه شيء من الثواب على شيء (٣) من الخير (٤) ، فعمل به ، (٥) كان له أجر ذلك وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله » . (٦)

__________________

(١) وقد عبّر الشيخ الأنصاري رحمه‌الله عن هذه الأخبار بالمستفيضة التي لا يبعد دعوى تواترها معنى. انظر :

رسائل فقهيّة ، ص ١٤٢.

(٢) انظر على سبيل المثال ما نقل ابن فهد الحلّي رحمه‌الله في كتاب عدّة الداعي ، ص ٩ من طريق العامّة ، عن عبد الرحمن بن الحلوان ، مرفوعا إلى جابر بن عبد الله الأنصاري ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث قال : « من بلغه عن الله فضيلة ، فأخذها ، وعمل بما فيها إيمانا بالله ورجاء ثوابه ، أعطاه الله تعالى ذلك وإن لم يكن كذلك » .

وراجع أيضا : تاريخ بغداد ، ج ٨ ، ص ٢٩٦.

(٣) في الإقبال والعدّة : ـ « من الثواب على شيء » .

(٤) في الثواب : « خير » .

(٥) في الثواب والوسائل والبحار : « فعمله » بدل « فعمل به » .

(٦) رواه الشيخ الصدوق رحمه‌الله في الثواب عن أبيه ، عن عليّ بن موسى ، عن أحمد بن محمّد ، عن عليّ بن الحكم ،

٥٩١

[ ٢. ] وعن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله [ عليه‌السلام ] : « من بلغه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء من الثواب ، فعمله ، كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله [ صلى‌الله‌عليه‌وآله ] لم يقله » . (١)

[ ٣. ] وعن محمّد بن مروان ، عنه [ عليه‌السلام ] : « من بلغه عن النبيّ [ صلى‌الله‌عليه‌وآله ] شيء من (٢) الثواب ، ففعل ذلك طلب قول النبيّ [ صلى‌الله‌عليه‌وآله ] ، كان له ذلك الثواب وإن كان النبيّ [ صلى‌الله‌عليه‌وآله ] لم يقله » . (٣)

[ ٤. ] وعن هشام بن سالم ، عنه [ عليه‌السلام ] : « من سمع شيئا من الثواب على شيء ، فصنعه ، كان له (٤) وإن لم يكن على ما بلغه (٥) » . (٦)

[ ٥. ] وعن محمّد بن مروان ، عن أبي جعفر [ عليه‌السلام ] : « من بلغه ثواب من الله على عمل ، فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب ، اوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه » . (٧)

[ ٦. ] وعن الكليني بطرقه إليهم [ عليهم‌السلام ] : « من بلغه شيء من الخير ، فعمل به ، كان له من

__________________

ـ عن هاشم بن صفوان ، عنه عليه‌السلام. ثواب الأعمال ، ص ١٣٢. وعنه في إقبال الأعمال ، ج ٣ ، ص ١٧٠ ؛ عدّة الداعي ، ص ٩ ؛ وسائل الشيعة ، ج ١ ، ص ٨٠ ، ح ١٨٢ ؛ وبحار الأنوار ، ج ٢ ، ص ٢٥٦ ، ح ١.

(١) رواه البرقي رحمه‌الله في المحاسن عن عليّ بن الحكم ، عن هشام بن سالم ، عنه عليه‌السلام. المحاسن ، ج ١ ، ص ٢٥ ، ح ٢.

وعنه في وسائل الشيعة ، ج ١ ، ص ٨١ ، ح ١٨٤ ؛ وبحار الأنوار ، ج ٢ ، ص ٢٥٦ ، ح ٣. وقال العلّامة المجلسي رحمه‌الله في البحار ذيل الحديث : « هذا الخبر من المشهورات ، رواه الخاصّة والعامّة بأسانيد » ، وألحقه الشيخ الأنصاري رحمه‌الله بالصحاح. انظر : رسائل فقهيّة ، ص ١٤٢.

(٢) في المحاسن : « فيه » .

(٣) رواه البرقي رحمه‌الله في المحاسن ، عن أبيه ، عن أحمد بن النضر ، عن محمّد بن مروان ، عنه عليه‌السلام. المحاسن ، ج ١ ، ص ٢٥ ، ح ١. وعنه في وسائل الشيعة ، ج ١ ، ص ٨١ ، ح ١٨٥ ؛ وبحار الأنوار ، ج ٢ ، ص ٢٥٦ ، ح ٢.

(٤) في عدّة الداعي : + « أجره » .

(٥) في الإقبال : « كما بلغه » بدل « على ما بلغه » .

(٦) رواه الكليني رحمه‌الله في الكافي ، عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عنه عليه‌السلام.

الكافي ، ج ٢ ، ص ٨٧ ، ح ١. وعنه في الإقبال ، ج ٣ ، ص ١٧١ ؛ عدّة الداعي ، ص ٩ ؛ وسائل الشيعة ، ج ١ ، ص ٨٢ ، ح ١٨٧. وألحق الشيخ الأنصاري رحمه‌الله الخبر بالحسن كالصحيح في رسالته. انظر : رسائل فقهيّة ، ص ١٤٢.

(٧) رواه الكليني رحمه‌الله في الكافي ، عن محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن سنان ، عن عمران الزعفراني ، عن محمّد بن مروان ، عنه عليه‌السلام. الكافي ، ج ٢ ، ص ٨٧ ، ح ٢. وعنه في الإقبال ، ج ٣ ، ص ١٧١ ؛ وسائل الشيعة ، ج ١ ، ص ٨٢ ، ح ١٨٨ ؛ وبحار الأنوار ، ج ٢ ، ص ٢٥٦ ، ح ٤.

٥٩٢

الثواب ما بلغه وإن لم يكن الأمر كما نقل إليه » . (١)

[ ٧. ] وعن الإقبال ، عن الصادق [ عليه‌السلام ] : « من بلغه شيء من الخير ، فعمل به ، (٢) كان له (٣) ذلك وإن لم يكن الأمر كما بلغه » . (٤)

[ ما اورد على التمسّك بالأخبار التي يستدلّ بها في قاعدة التسامح ]

وقد اورد على التمسّك بها امور :

الأوّل : بأنّ قصد القربة مأخوذ في المستحبّات ، فلا تكون نفس تلك الأخبار مثبتا للأمر ، ولا بدّ أن يراد بلوغ مقدار من الثواب وإعطائه وإن لم يكن كما بلغه ، دون مشروعيّته ، (٥) ولعلّ لذلك قيّد شيخ الوسائل عنوان بابه. (٦)

وفيه : أنّ الاستحباب على التقرّبيّة ، وهو أمر ثابت في نفس العمل ، والذي يكشف عنه ، فلا مانع من العمل بظاهر الأخبار ، واختصاص بعضها ببلوغ مقدار من الثواب ، دون أصل المشروعيّة لا يقدح في ظهور الباقي ، حتّى مع اتّحاد الراوي ؛ لجواز تعدّد التسامح ، وكون الخاصّ مرويّا بالمعنى لعدم جواز التعبير بالعامّ عن خاصّ ، إلّا أن يدّعى وجود الصارف مطلقا إلى شهرة الحكم كما عرفت ، وكون المورد من موارد [ ... ] التي لا يقيّد فيها المطلق.

__________________

(١) رواه ابن فهد رحمه‌الله في عدّة الداعي ، عن الشيخ الصدوق رحمه‌الله ، عن محمّد بن يعقوب رحمه‌الله ، بطرقه عن الأئمّة عليهم‌السلام.

عدّة الداعي ، ص ٩. وعنه في وسائل الشيعة ، ج ١ ، ص ٨٢ ، ح ١٨٩.

(٢) في الإقبال : ـ « به » .

(٣) في الوسائل : + « أجر » .

(٤) الإقبال ، ج ٣ ، ص ٤٧. وعنه في وسائل الشيعة ، ج ١ ، ص ٨٢ ، ح ١٩٠.

(٥) لعلّ أوّل من أورد هذا ، المحقّق الخوانساري رحمه‌الله في مشارق الشموس ، ص ٣٤ ، في مسألة استحباب الوضوء لحمل المصحف.

(٦) عنوان الباب في الوسائل هكذا : « باب استحباب الإتيان بكلّ عمل مشروع روي له ثواب عنهم عليهم‌السلام ».

وسائل الشيعة ، ج ١ ، ص ٨٠.

٥٩٣

الثاني : أنّه خاصّ بما ورد فيه محض الثواب ، ولا يشمل ما ورد فيه عقاب ، أو ثواب وعقاب.

أمّا الأوّل ، فيمكن الإلزام بخروجه بتخصيص التسامح بالمندوب ، وعدم إجرائه في المكروه ، وستعرف الكلام فيه.

ودعوى الشمول بواسطة صدق بلوغ ثواب على شيء من الخير ؛ فإنّ ترك المكروه تعبّدا له ثواب ، إلّا أن يقال : ظاهر الأخبار تصرف عن ذلك ، والتفصيل يأتي إن شاء الله.

وأمّا الثاني ، فإطلاق الأخبار يدفعه ، حيث جعل المناط على بلوغ الثواب ، ولم يضرّ عدم بلوغ شيء آخر ، ولعلّ نقصان العمل بما بلغ مع وجود معارض له في هذه الأخبار لا مماثلة فيه ، مع أنّ الالتزام بأصل خروج مثله أيضا لا يضرّ بالاستدلال ؛ فإنّ الغرض إثبات الحكم في مورد صدق البلوغ عرفا ، وإمكان العمل ، أو تحفّظه كذلك ، ولا يضرّنا ما خرج عنه موضوعا. (١)

الثالث : أنّ الثواب الموعود في تلك الروايات لا يستلزم الاستحباب ؛ لأنّ الظاهر كون الثواب للعمل المتفرّع على البلوغ ، وما يكون هو الداعي إليه ـ كما يرشد إليه قوله : « طلب قول النبيّ » ـ قوله : « التماس ذلك » ، ونحوه ، والنقل مستقلّ باستحقاق الثواب فيه ، فهذه مؤكّدة لحكم العقل ، والأمر فيه إرشادي ، وإنّما يمكن استفادة الاستحباب من ذكر الثواب إذا كان ثبوته ببيان شرعي لا يعرف إلّا من قبله ، فنقول بما كان لا يكون إلّا مع الإتيان بمطلوب ولا بدّ أن يكون هذا العمل مطلوبا للشارع لا مطلقا.

__________________

(١) قال الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في رسالته ، تحت الأمر السادس من التنبيهات : « المشهور إلحاق الكراهة بالاستحباب في التسامح في دليله ، ولا إشكال فيه بناء على الاستناد إلى قاعدة الاحتياط. وأمّا بناء على الاستناد إلى الأخبار ، فلا بدّ من تنقيح المناط بين الاستحباب والكراهة ، وإلّا فموارد الأخبار ظاهر الاختصاص بالفعل المستحبّ ، فلا يشمل ترك المكروه إلّا أن يدّعى عموم لفظ ( الفضيلة ) في النبوي ، بل عموم لفظ ( الشيء ) في غيره للفعل والترك ، فتأمّل مضافا إلى ظاهر إجماع الذكرى » . رسائل فقهيّة ، ص ١٦٠.

٥٩٤

والجواب عن ذلك أنّ الذي يستقلّ العقل به في العمل بالاحتياط هو الوصول إلى المثوبات الثابتة في الواقع ونفس الأمر مع قطع النظر عنه ، ولا شكّ في اختصاص ذلك بمورد الإصابة ، ويستقلّ أيضا بكشفه عن حسن سريرة العبد ، وأنّ المولى يعطيه ما يعطي من حسنت سريرته ، وهذا في الحقيقة لا يعدّ ثوابا ؛ لخروجه عن جزاء العمل بضرورة جواز منعه ، فعدم الاختصاص بمورد الإصابة والمناطة بإتيان تلك الأفعال ، وتبيّن ما بلغه من القدر ، ونحو ذلك كاشف عن كون الثواب الموعود في تلك الروايات غير ما استقلّ به العقل ، وكونه وعدا ابتدائيّا لا يعقل ثبوته إلّا مع مطلوبيّة الإتيان بتلك الأفعال شرعا ، ويكون الروايات باعتبار الاشتمال على وعد الثواب الخاصّ دليل استحباب الفعل كسائر الموارد ، فلاحظ. (١)

الرابع : أنّ تلك الروايات معارضة لأدلّة حرمة العمل بالضعاف ، وخبر الفاسق كآية

__________________

(١) في حاشية النسخة : « ثمّ لا يخفى عليك أنّا وإن أثبتنا استحباب ما اشتمل عليه الضعاف من أجل وعد الثواب عليها في أخبار التسامح ، إلّا أنّه لا يكون مثل سائر المستحبّات ، أعني في صورة عدم المطابقة للواقع ، والوجه في ذلك أنّ وعد الثواب عليها في تلك الأخبار إنّما هو تفضّل محض ، وليس لحسن الفعل بالضرورة خلوّه عن المصلحة والحسن ، وعروض البلوغ والإتيان له لو أوجب حسنه ترمى ( كذا ) الموارد المخالفة للواقع في الثواب ، ذكر في الروايات أو لم يذكر ، مع أنّ الثابت من تلك الأخبار هو التفضّل حينئذ تفضّل الربّ بإعطاء ما يجزيه العبد لطمعه ، ولا قبح في الاختلاف حينئذ ، بخلاف ما لو كان للحسن مجال ( كذا ) بهذا العنوان العارض على أصل الفعل ، وفي ذلك يكون الفعل مستحبّا شرعا ، والمنادي إليه لدرك الثواب والمنادي هو أخبار التسامح فقط ، ولو بحسب الإرشاد كون الطلب لحسن الفعل ، ومن أجله اختلف الثواب نظرا إلى أنّ أخبار التسامح يقيّد بترتيب آثار الواقع على الأخبار الضعيفة وآثار واقعيّتها مختلفة ، وفيه ما لا يخفى.

وظاهر الأصحاب أيضا حسن الإتيان لدرك الثواب الموعود في تلك الأخبار ، ولا دليل عليه ، فلاحظ.

ويمكن أنّ الشارع لاحظ أنّ عدّة من المستحبّات يفوت من المكلّف بضعف الخبر ، ولا يمكنه طلب المعارف ، جعل الأمر للكلّ وطلب الكلّ وصولا إلى ذلك الغرض ، فيكون الطلب شرعيّا كاشفا عن المصلحة ، وإن كان أصل جعل الثواب للاستحقاق ، بل لمجرّد التفضّل ، مع أنّ التفضّل في جعل الأمر لا في إعطاء ما اخبر به ، فلاحظ ذلك جيّدا » . وراجع للمزيد في هذه المسألة : ذخيرة المعاد للمحقّق السبزواري ، ص ٤ ؛ عوائد الأيّام للمحقّق النراقي ، ص ٧٩٧ ؛ نهاية الدراية في شرح الكفاية ، ص ٥٤٣ ؛ فوائد الاصول ، ص ٤١٠.

٥٩٥

النبأ (١) في وجه ، ولا أقلّ ممّا دلّ على لزوم ترك مثل ذلك في مقام العمل بعنوان كونه ظنّا لا يغني من الحقّ شيئا. (٢)

واجيب عنه بأنّ الأدلّة إنّما دلّت على عدم جواز الاتّكال إلى غير الحجّة من أجل عدم ثبوت الحجّيّة ، لا لمفسدة ذاتيّة ثابتة فيه ، فمقتضى تلك الأدلّة عدم حجّيّة الخبر الضعيف مثلا ، وأخبار التسامح لا تدلّ على الحجّيّة ، وإنّما تدلّ على حسن العمل بها والإتيان بالأفعال من غير حكم على الواقعيّة.

وفيه أنّ أخبار التسامح وإن لم تدلّ على الحجّيّة إلّا أنّها تدلّ على الاتّكال إليها ، وهو سبيل عنه ، فتأمّل.

وربّما يجاب بأنّ دليل عدم الجواز قاصر عن الشمول لمثل ما اعتبر بأخبار التسامح ، فإنّه لو كان الإجماع لمعلوم انعدم ؛ إذ الشهرة على العمل بالأخبار الضعيفة في المندوبات ، وغير الإجماع أيضا إطلاقات لا يعلم الشمول للموادّ منه ، ولكن قد عرفت وجود الدليل على المنع من العمل بالضعاف مطلقا ، ولا يتّجه معه ذلك المنع ، والمتّجه أن يقال : حال تلك الأخبار الضعيفة مثل حال الأخبار المعتبرة على حدّ سواء ، فالوجه في خروج الصحاح والمعتبرة في مدار التكليف جار فيما نحن فيه من غير فرق.

وبتقرير أوضح : إنّ الأدلّة التي تدلّ على عدم جواز العمل لعدم الدليليّة والاعتبار ، وعدم معلوميّة مصادفة الواقع ، وقيام احتمال المخالفة ، فهي مقيّدة بصورة عدم قيام دليل على جواز الأخذ والاعتبار ؛ فإنّ ذلك الدليل رافع لحكم أدلّة المنع وناظر إليها ، فلا معارضة بينهما من بدو الأمر كما لا يخفى ، ولكن على ما عرفت من كون الحكم

__________________

(١) الآية مشهورة ، وهي الآية السادسة من سورة الحجرات (٤٩) : ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا

(٢) إشارة إلى الآية ٣٦ من سورة يونس (١٠) ؛ والآية ٢٨ من سورة النجم (٥٣) : ﴿ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً.

٥٩٦

الشرعي مستفادا من أخبار التسامح ، وأنّها المثبتة لاستحباب تلك الأفعال في الشرع ، ولا اتّكال إلى الأخبار الضعيفة في ثبوت الحكم ، وإنّما هو من الامور المعتبرة في تحقّق موضوع ذلك الحكم ، بمعنى أنّه لا بدّ من وصول الخبر بصدق بلوغ ثواب على عمل ، لا عمل على الأخبار والامور الطلبيّة لتحصل المعارضة ويحتاج إلى الدفع بالوجوه المذكورة.

والحاصل أنّ المحظور العمل بالظنّ في الحكم الشرعي ، وموضوعه بما يرجع إلى الحكم ، وهو مورد أدلّة المنع ، وأمّا اعتبار الظنّ في الموضوع فلا منع منه ، وبلوغ الخبر والإتيان بالفعل من الامور المعتبرة في موضوع قوله : « كان له ذلك » وأمثاله ، ومفاد الأخبار استحباب تلك الأفعال شرعا ، وهي قطعيّة لا يعارضها شيء. (١)

الخامس : أنّ الخبر في أصل الواقعة قد يكون دالّا على الوجوب ، فبناء على كون مفاد الأخبار ترتيب آثار الواقعيّة على مفاده ـ وإن لم يكن من باب الحجّيّة والطريقيّة ـ يلزم الحكم بالوجوب.

والجواب : أنّ خبر المورد ـ باعتبار كونه إخبارا بالثواب على الفعل ولو بالملازمة [ بين كونه مثابا عليه ] وبين مطلوبيّته ـ يكون ممّا حكم الأخبار على ترتيب

__________________

(١) قال الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في دفع هذا الاعتراض : « اجيب عنه بأنّه لا تعارض ؛ نظرا إلى أنّ هذه الأخبار لا تدلّ على جواز الركون إلى خبر الفاسق وتصديقه ، وإنّما تدلّ على استحباب ما روى الفاسق استحبابه.

وفيه : أنّ هذا وإن لم يكن تصديقا له ، إلّا أنّ معنى طرح خبر الفاسق جعل احتمال صدقه كالعدم ، وظاهر هذه الأخبار الاعتناء باحتمال صدقه وعدم جعله كالعدم ، ولهذا لو وقع نظير هذا في خبر الفاسق الدالّ على الوجوب ، لكانت أدلّة طرح خبر الفاسق معارضة له قطعا ، بل قد عرفت ممّا ذكرنا أنّ هذا في الحقيقة عمل بخبر الفاسق.

وربّما يجاب أيضا بأنّ النسبة بينهما عموم من وجه ، والترجيح مع هذه الأخبار.

والتحقيق في الجواب : أنّ دليل طرح خبر الفاسق إن كان هو الإجماع ، فهو في المقام غير ثابت ، وإن كان آية النبأ فهي مختصّة ـ بشهادة تعليلها ـ بالوجوب والتحريم ، فلا بدّ في التعدّي عنهما من دليل مفقود في المقام » . رسائل فقهيّة ، ص ١٥١ و١٥٢.

٥٩٧

آثار الواقعيّة عليه ، وهذا لا يستلزم وجوب الفعل ؛ فإنّ وجوبه لا يتمّ بمجرّد الثواب على الفعل ، ولا يتمّ به والعقاب على الترك ، ولا دليل على ترتيب آثار الواقعيّة على العقاب المستفاد منه بالحكم بالوجوب ، أو التصريح به ، وليس هذا من التفكيك في مفاد الخبر.

هذا بناء على استفادة ترتيب آثار الواقعيّة على خبر الوارد ، وأمّا بناء على ما استفدناه ، فأصل الإشكال لا دفع له كما لا يخفى.

السادس : أنّه يلزم تكرار الثواب في صورة مصادفة خبر المورد ومطابقته للواقع ، وذلك بأنّ الفعل بنفسه موجب للثواب ، فيستحقّه من أتى به ، وعنوان الإتيان بما بلغ فيه الثواب لا بدّ أن يكون موجبا حتّى يثاب مع عدم المطابقة ، وهذا هو التكرار.

والجواب : أنّ أصل منشأ روايات التسامح هو الاحتياط ، ولازمه مطلوبيّة الفعل مع عدم المصادفة ، وتلك الأخبار حاكمة بأنّ الشارع يثيب على العمل في صورة المخالفة ، فالثابت بها ليس إلّا الثواب مع عدم المصادفة ، ولكن بناء على ما قرّرناه مفاد الروايات ـ من استقلالها في إثبات الحكم الشرعي ، وكون خبر المورد من الامور المعتبرة في موضوع ذلك الحكم الشرعي ـ لا يكون إلّا ثواب واحد ؛ فإنّ الحاصل استحباب الامور المذكورة في تلك الروايات ، وثبوت ثواب له ، وحينئذ يكون نفس الفعل من مصاديق ما حكم في أخبار التسامح بثبوت الثواب له ، ولا يكون مصداقيّته لتلك الأخبار بعنوان زائد على عنوان نفسه في الواقع حتّى يجتمع جهتان ، ويلزم تكرّر الثواب.

والحاصل أنّ ما بلغ فيه الثواب عنوان إجمالي لامور عديدة حكم في تلك الأخبار بثبوت الثواب له ، ويثبت استحبابها من جهة هذا الثواب ، وهذا أمر متساوي النسبة إلى المطابق وغيره ، وليس مناطا على حدة للثواب غير عنوان نفس الفعل المطلوب ، حتّى يقال : اجتمع في عمل واحد جهات من المطلوبيّة ، ويلزم ثبوت ثواب

٥٩٨

كلّ منها ، فلاحظ.

ولو كان عنوانا مستقلّا ووصفا زائدا على ما اشتمل عليه نفس الفعل اتّجه ذلك ، وغرضهم إثبات المندوبيّة بنفس تلك الأخبار ، وليس العنوان حينئذ إلّا عنوانا إجماليّا يبيّن تلك الأفعال المحكومة باستحبابها ، فتدبّر.

السابع : أنّ تلك الأخبار إنّما تبيّن حكم ما بلغ فيه الثواب ، فلا يشمل ما يحكم باستحباب فعل ، أعني ما يصرّح بنفس الحكم ويسكت عن جانب الثواب.

والجواب : منع الانحصار فيما ذكر ؛ فإنّ قوله في رواية هشام : « شيء من الثواب فعله » وأشباهه يشمل ما أبلغ نفس الحكم فقط ، وأنّ المشتمل على الحكم بواسطة استلزامه للثواب يكون مبلغا للثواب أيضا.

وربّما يتأمّل في ذلك الوجه بدعوى كون الثواب حينئذ من اللوازم العقليّة التي لا يستلزم ثبوت الملزوم ثبوتها ، حتّى يدّعى أنّ بلوغ الحكم بلوغ الثواب أيضا.

والجواب عنه واضح ؛ فإنّ الثواب على العمل مستفاد من الخبر ، وإن كان بمعونة ثبوت الملازمة بينه وبين استحباب الفعل ولو عقلا ؛ فإنّ كون اللزوم عقليّا أو عاديّا لا يجرح كون ثبوت الثواب مدلولا التزاميّا للخبر ، كما لا يخفي.

وكيف كان فقد يستدلّ لأصل استحباب ما ورد فيه خبر ضعيف بالشهرة والإجماع ، ويستدلّ بالاحتياط أيضا.

ربّما يشكل فيه إفادته لجواز نيّة التقرّب ، والمناص فيه الاستفادة بالحسن العقلي مرّة ، واخرى يجعل أوامر الاحتياط للاستحباب الشرعي ، فيكون مثل سائر موارد الأمر.

والحاصل أنّ الإتيان بنفس محتمل الاستحباب احتياط مطلوب على وجه الاستحباب ، وانكشف مطلوبيّته بتعلّق الأمر الشرعي به ، كما في سائر موارد الأوامر الشرعيّة.

٥٩٩

[ تنبيهات ]

إذا عرفت ذلك إجمالا فلا بأس بالتنبيه على امور :

الأوّل : فهل يثبت الحكم المزبور مع تطرّق احتمال حرمة الفعل المحتمل استحبابه ؟ والمراد هنا الحرمة من غير جهة التشريع ؛ إذ من المعلوم انتفاؤه فيما نحن فيه ؛ فإنّ الغرض إتيان الفعل إمّا للاحتياط في إصابة الواقع ودرك احتمال الاستحباب ، أو العمل بأخبار من بلغ ، وعلى أيّ الفرضين لا يكون العمل إدخال ما ليس من الدين في الدين ، كما لا يخفى.

ولا فرق في ذلك بين كون منشأ الاحتمال وجود معارض للخبر مثله ، أو شهرة ، ونحوهما.

فقد يقال : ـ بناء على الاعتماد إلى الاحتياط وأدلّته ـ لا يمكن الحكم باستحباب الفعل ضرورة المعارضة ، ومساواة احتمال الحرمة والاستحباب ، هذا بناء على كون المراد من الاحتياط الأخذ بالأوثق ، (١) وإلّا ففي تلك الصورة أيضا قد يقدّم أحد الاحتمالين من باب الاحتياط في دفع الضرر وجلب المنفعة والأخذ بالأتمّ.

وهذا وإن لم يكن احتياطا مصطلحا إلّا أنّه ممّا يصحّ الاتّكال إليه في حكم المورد ، وإن كان يشكل نيّة التقرّب بمجرّده.

وكيف كان فقد يقال : إنّ مقتضى ذلك تقديم احتمال الحرمة تقوية لجانب دفع المفسدة ، وأولويّته من جلب المنفعة.

وهو محلّ إشكال في نفسه ، والمفسدة محتملة لا محقّقة ، وإنّ أهل العرف لا يقدّمون دفع الضرر مطلقا ، بل يلاحظ هو بالنسبة إلى المنفعة المحتملة من حيث

__________________

(١) انظر : رياض المسائل ، ج ٤ ، ص ٤٤٨ ؛ مفاتيح الاصول ، ص ٣٤٧ ؛ الرسائل الفقهيّة للشيخ الأنصاري ، ص ١٥٥ ؛ وغيرها.

٦٠٠