الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-530-4
الصفحات: ٤٨٥
مسألة ٣٣٩ : لا يراد بالتعريف سنةً استيعاب السنة وصَرفها بأسرها في التعريف ، بل يسقط التعريف في الليل ؛ لأنّ النهار مجمع الناس وملتقاهم ، دون الليل ، ولا يستوعب الأيّام أيضاً ، بل على المعتاد ، فيُعرّف في ابتداء أخذ اللّقطة في كلّ يومٍ مرّتين في طرفي النهار ، ثمّ في كلّ يومٍ مرّةً ، ثمّ في كلّ أُسبوعٍ مرّةً أو مرّتين ، ثمّ في كلّ شهرٍ مرّةً بحيث لا ينسى كونه تكراراً لما مضى.
وبالجملة ، فلم يقدّر الشرع في ذلك سوى المدّة التي قلنا : إنّه لا يجب شغلها به ، فالمرجع حينئذٍ في ذلك إلى العادة.
وينبغي المبادرة إلى التعريف من حيث الالتقاط ؛ لأنّ العثور على المالك في ابتداء الضياع أقرب ، ويكرّر ذلك طول الأُسبوع ؛ لأنّ الطلب فيه أكثر.
وللشافعيّة في وجوب المبادرة إلى التعريف من حين الالتقاط قولان :
أحدهما : الوجوب ؛ لما تقدّم.
والثاني : عدمه ، بل الواجب تعريفها سنةً مطلقاً ، وبه ورد الأمر (١).
مسألة ٣٤٠ : قدر مدّة التعريف سنة فيما بلغ درهماً فصاعداً ، عند علمائنا أجمع ـ وبه قال عليٌّ عليهالسلام وابن عباس وعمر وابن المسيّب والشعبي ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحاب الرأي (٢) ـ لحديث زيد بن
__________________
(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧١.
(٢) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ١٥٢ و ١٥٣ ، الحاوي الكبير ٨ : ١٢ ، حلية العلماء ٥ : ٥٢٦ و ٥٢٨ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٥٤٨ ، البيان ٧ : ٤٤٨ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧١ ، التمهيد ٣ : ١١٧ ـ ١١٨ ، المغني ٦ : ٣٤٨ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٧٤ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ٥٤.
خالد ، الذي رواه العامّة ، وقد تقدّم (١).
ومن طريق الخاصّة : ما تقدّم (٢).
وما رواه محمّد بن مسلم ـ في الصحيح ـ عن أحدهما عليهماالسلام ، قال : سألته عن اللّقطة ، قال : « لا ترفعوها ، فإن ابتليتَ فعرِّفها سنةً ، فإن جاء طالبها ، وإلاّ فاجعلها في عرض مالك يجري عليها ما يجري على مالك إلى أن يجيء لها طالب » (٣).
ولأنّ السنة لا تتأخّر عنها القوافل وتمضي فيها الأزمان التي تقصد فيها البلاد من الحَرّ والبرد والاعتدال.
وروي عن عمر روايتان أُخريان :
إحداهما : يُعرّفها ثلاثة أشهر.
والأُخرى : ثلاثة أعوام (٤) ؛ لأنّ أُبيّ بن كعب روى أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أمره بتعريف مائة دينارٍ ثلاثة أعوام ؛ لأنّه قد روي في حديث أُبيّ بن كعب أنّه قال له : « عرِّفها حولاً » فعرَّفها ، ثمّ عاد إليه ، فقال له : « عرِّفها [ حولاً ] » فعرَّفها ، ثمّ عاد إليه ، فقال له : « عرِّفها حولاً » (٥) فأمره أن يعرِّفها ثلاثة أحوال.
__________________
(١) في ص ١٦٥ و ٢١٩.
(٢) في ص ١٦٦ و ٢١٩.
(٣) التهذيب ٦ : ٣٩٠ / ١١٦٥ ، الاستبصار ٣ : ٦٨ ـ ٦٩ / ٢٢٩.
(٤) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ١٥٣ ، المغني ٦ : ٣٤٨ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٧٤.
(٥) صحيح البخاري ٣ : ١٦٦ ، صحيح مسلم ٣ : ١٣٥٠ / ١٧٢٣ ، سنن أبي داوُد ٢ : ١٣٤ / ١٧٠١ ، سنن الترمذي ٣ : ٦٥٨ / ١٣٧٤ ، سنن البيهقي ٦ : ١٨٦ ، وما بين المعقوفين أثبتناه من المصادر.
قال أبو داوُد : شكّ الراوي في ذلك فقال : قال له : حولاً ، أو ثلاثاً (١).
قال ابن المنذر : قد ثبت الإجماع بخلاف هذا الحديث ، وعلى أنّ [ في ] حديث زيد بن خالد أمره بسنةٍ واحدة ، فدلّ على إجزاء ذلك (٢).
وقال أبو أيّوب الهاشمي : ما دون الخمسين درهماً يعرّفها ثلاثة أيّام إلى سبعة أيّام (٣).
وقد روي عن أبان بن تغلب قال : أصبتُ يوماً ثلاثين ديناراً ، فسألتُ الصادقَ عليهالسلام عن ذلك ، فقال لي : « أين أصبتَه؟ » قال : فقلت : كنتُ منصرفاً إلى منزلي فأصبتُها ، قال : فقال : « صِرْ إلى المكان الذي أصبتَ فيه فتعرّفه ، فإن جاء طالبه بعد ثلاثة أيّام فأعطه ، وإلاّ تصدّق به » (٤).
والرواية في سندها قولٌ ، فلا تعويل عليها ، على أنّه يحتمل تعريفها سنةً ثمّ يتصدّق بها بعد ثلاثة أيّام من تمام الحول استظهاراً في الحفظ لصاحبها.
وقال الثوري : في الدرهم يُعرّفه أربعة أيّام (٥).
وقال الحسن بن صالح بن حي : ما دون عشرة دراهم يُعرّفها ثلاثة أيّام (٦).
__________________
(١) سنن أبي داوُد ٢ : ١٣٤ ، ذيل ح ١٧٠١ ، وعنه في المغني ٦ : ٣٤٩ ، والشرح الكبير ٦ : ٣٧٥.
(٢) البيان ٧ : ٤٤٨.
(٣) المغني ٦ : ٣٤٨ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٧٤.
(٤) التهذيب ٦ : ٣٩٧ / ١١٩٥.
(٥) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ١٥٢ ، الحاوي الكبير ٨ : ١٦ ، حلية العلماء ٥ : ٥٢٩ ، المغني ٦ : ٣٤٨ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٧٤ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٣٣٦ / ٢٠٤٢ ، التمهيد ٣ : ١١٧.
(٦) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ١٥١ ، الحاوي الكبير ٨ : ١٦ ، المغني ٦ :
وقال إسحاق : ما دون الدينار يُعرّفه جمعةً أو نحوها (١).
وروى أبو إسحاق الجوزجاني بإسناده عن يعلى بن أُميّة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « مَن التقط درهماً أو حبلاً أو شبه ذلك فليعرّفه ثلاثة أيّام ، وإن كان فوق ذلك فليعرّفه سبعة أيّام » (٢).
وهذا الحديث لم يُعلم به قائل على وجهه ، فإذَنْ الأحاديث التي أوردناها أولى بالعمل من هذا ، فإنّ إطراح الفقهاء من العامّة والخاصّة له يدلّ على الضعف في الرواية.
مسألة ٣٤١ : لا يجب التوالي في التعريف ، فلو فرّقه جاز بأن يُعرّف شهرين ويترك شهرين ، وهكذا ـ وهو أحد وجهي الشافعيّة (٣) ـ كما لو نذر صوم سنةٍ ، يجوز أن يوالي وأن يُفرّق ، كذا هنا.
وفي الآخَر : لا يجوز التفريق ؛ لأنّه إذا فرّق لم تظهر فائدة التعريف ، فعلى هذا لو قطع التعريف مدّةً وجب الاستئناف عندهم (٤).
والأقرب : وجوب المبادرة في التعريف ؛ تحصيلاً لغرض وقوف المالك عليها ، وهو في الغالب يعجّل الطلب ، فإذا أخفاها عن مالكها فات الغرض المطلوب شرعاً ، فإن فرّط في المبادرة فَعَل محرَّماً ، فإذا عرّف متفرّقاً لم يجب الاستئناف ، وكفاه التلفيق.
__________________
٣٤٨ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٧٤ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٣٣٦ / ٢٠٤٢ ، التمهيد ٣ : ١١٧.
(١) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ١٥٢ ، الحاوي الكبير ٨ : ١٦ ، حلية العلماء ٥ : ٥٢٩ ، المغني ٦ : ٣٤٨ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٧٤.
(٢) نقله عنه ابنا قدامة في المغني ٦ : ٣٤٨ ، والشرح الكبير ٦ : ٣٧٤ ـ ٣٧٥.
(٣ و ٤) حلية العلماء ٥ : ٥٢٦ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٥٤٩ ، البيان ٧ : ٤٤٩ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦١ ـ ٣٦٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧١.
مسألة ٣٤٢ : الأحوط في التعريف الإيغال في الإبهام ، فلا يذكر الجنس فضلاً عن النوع ووصفه ، بل يقول : مَنْ ضاع له شيء أو مال ؛ لأنّه أبعد أن يدخل عليه بالتخمين وأحفظ لها من ادّعاء كاذبٍ.
ولو ذكر الجنس جاز ، كأن يقول : مَنْ ضاع له ذهب أو فضّة أو ثوب ، ولا يزيد عليه ، فإنّه ربما ادّعاها الكاذب.
ولو ذكر بعض صفاتها ، لم يستقص على الجميع ؛ لئلاّ يعلم بصفتها مَنْ يسمع تلك الأوصاف المفصّلة ، فلا تبقى صفتها دليلاً على ملكها ؛ لمشاركة غير المالكِ [ المالكَ ] (١) في ذلك ، ولا يؤمن أن يدّعيها بعض مَنْ سمع صفتها ويذكر صفتها التي تُدفع اللّقطة بها فيأخذها وهو غير مالكٍ لها فتضيع على مالكها.
وقال بعض الشافعيّة : لا بدّ وأن يصف الملتقط بعض أوصاف اللّقطة ؛ فإنّه أفضى إلى الظفر بالمالك (٢).
وهل ذلك شرطٌ أو مستحبٌّ؟ فيه وجهان ، الأظهر منهما عندهم : الثاني (٣).
وعلى القول بكونه شرطاً فهل يكفي ذكر الجنس بأن يقول : مَنْ ضاع منه دراهم؟ قال الجويني : ما عندي أنّه يكفي ، ولكن يتعرّض للعفاص والوكاء ومكان الالتقاط وتأريخه ، ولا يستوعب الصفات ولا يبالغ لئلاّ يدّعيها الكاذب (٤).
فإن استوعب جميع الصفات ، ففي الضمان عندهم وجهان :
__________________
(١) ما بين المعقوفين أثبتناه من المغني ٦ : ٣٥٠.
(٢) الوجيز ١ : ٢٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧١.
(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧١.
أحدهما : المنع ؛ لأنّه لا يلزمه الدفع إلاّ بالبيّنة.
والثاني : الثبوت ؛ لأنّ المدّعي قد يرفع الملتقط إلى حاكمٍ يعتقد وجوب الدفع إلى الواصف (١).
مسألة ٣٤٣ : لا يجب على الملتقط مباشرة التعريف ؛ إذ الغرض به الإشهار والإعلان ، ولا غرض للشارع متعلّق بمباشرٍ دون آخَر ، فيجوز أن يباشر النداء بنفسه ، وأن يولّيه غلامه وولده ومَنْ يستعين به ويستأجره عليه ، ولا نعلم فيه خلافاً.
فإن تبرّع الملتقط بالتعريف أو بذل مئونته فذاك ، وإلاّ فإن أخذها للحفظ أبداً وجب التعريف أيضاً عندنا ، وعلى أحد قولَي الشافعي لا يجب حينئذٍ ، فهو متبرّع إذا عرّف (٢).
فإن قلنا : يجب ـ وهو الحقّ عندنا ـ إذا احتاج التعريف إلى مئونةٍ ، فإن أخذها للتملّك واتّصل الأمر بالتملّك ، فمئونة التعريف على الملتقط ؛ لأنّه إنّما يفعل التعريف ليتشبّث به إلى إباحة تملّكه لها ، فكانت مئونة التعريف عليه ؛ لأنّها لمصلحته ونفعه ، وإن ظهر المالك فهي على الملتقط أيضاً ؛ لقصده التملّك ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة ، والثاني : إنّها على المالك ؛ لعود الفائدة إليه (٣).
ولو قصد الحفظ حين الالتقاط أبداً ، فالأقرب : إنّه لا يجب على
__________________
(١) التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٥٤٩ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧١.
(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧٢ ، المغني ٦ : ٣٤٧ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٧٣.
(٣) التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٥٤٩ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧٢.
الملتقط أُجرة التعريف ، بل يرفع الأمر إلى الحاكم ليبذل أُجرته من بيت المال ، أو يستقرض على المالك ، أو يأمر الملتقط بالاقتراض ليرجع ، أو يبيع بعضها إن رآه أصلح أو لم يمكن إلاّ به.
ولو قصد الأمانة أوّلاً دائماً ثمّ قصد التملّك ، ففيه للشافعيّة وجهان مبنيّان على أنّ النظر هل هو إلى منتهى الأمر ومستقرّه ، أو إلى حالة ابتدائه؟ (١).
ويحتمل عندي أنّه إذا قصد التملّك دائماً أن تكون مئونة التعريف عليه أيضاً ؛ لأنّه واجب عليه ، فإذا لم يتمّ إلاّ بالأجر وجب ؛ لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به يكون ـ لا شكّ ـ واجباً.
وكذا البحث في أُجرة لقطة الحرم.
أمّا أُجرة مخزنها ونشرها وطيّها وتجفيفها فإنّه على المالك.
ولو وليه الملتقط بنفسه ، لم يكن له أُجرة.
وقال مالك : إذا دفع الملتقط من اللّقطة شيئاً لمن عرّفها ، لم يكن عليه غُرم ، كما لو دفع منها شيئاً لمن يحفظها (٢).
والأصل ممنوع.
مسألة ٣٤٤ : مكان التعريف في مجتمع الناس ، كالأسواق وأبواب المساجد عند خروج الناس من الجماعات ، وفي الجوامع في الوقت الذي يجتمعون فيها ، وفي مجامع الناس ؛ لأنّ المقصود إشاعة ذكرها وإظهارها ليظهر عليها مالكها ، فيجب تحرّي مجامع الناس.
ولا ينشدها في وسط المسجد ؛ لأنّ المسجد لم يُبْنَ لهذا ، وقد روي
__________________
(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧٢.
(٢) المغني ٦ : ٣٥٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٧٧.
عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : « مَنْ سمع رجلاً ينشد ضالّةً في المسجد فليقل : لا أدّاها الله إليك ، فإنّ المساجد لم تُبْن لهذا » (١) وكراهة تعريف الضالّة ككراهة طلبها في المساجد.
وقال بعض الشافعيّة : الأصحّ من الوجهين : جواز التعريف في المسجد الحرام ، بخلاف سائر المساجد (٢).
ثمّ إذا التقط في بلدٍ أو قريةٍ فلا بدّ من التعريف فيها ، وليكن أكثر تعريفه في البقعة بالمحلّة التي وُجد فيها ، فإنّ طلب الشيء في موضع فقدانه أكثر ، فإن اتّفق له سفر فوّض التعريف إلى غيره ، ولا يسافر بها.
ولو التقط في الصحراء ، فإن اجتازت به قافلة يتبعهم وعرّفها فيهم ، وإلاّ فلا فائدة في التعريف في المواضع الخالية ، ولكن يعرّف عند الوصول إليها.
ولا يلزمه أن يغيّر قصده ويعدل إلى أقرب البلاد إلى ذلك الموضع ، أو يرجع إلى مكانه الذي أنشأ السفر منه.
وقال بعض الشافعيّة : يُعرّفها في أقرب البلدان إليه (٣).
نعم ، لو التقطها في منزل قومٍ رجع إليه وعرّفهم ، فإن عرفوها فهي لهم ، وإلاّ فلا ؛ لما رواه إسحاق بن عمّار أنّه سأل الكاظمَ عليهالسلام : عن رجلٍ نزل في بعض بيوت مكة فوجد [ فيها ] نحواً من سبعين درهماً مدفونة ، فلم تزل معه ولم يذكرها حتى قدم الكوفة كيف يصنع؟ قال : « يسأل عنها
__________________
(١) سنن أبي داوُد ١ : ١٢٨ / ٤٧٣ ، سنن البيهقي ٦ : ١٩٦ ، مسند أحمد ٣ : ١٥٠ / ٩١٦١.
(٢) حلية العلماء ٥ : ٥٢٣ ـ ٥٢٤ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧٣.
(٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧٣.
أهل المنزل لعلّهم يعرفونها » قلت : فإن لم يعرفوها؟ قال : « يتصدّق بها » (١).
إذا عرفت هذا ، فإنّه لا يصحب اللّقطة في السفر ، كما لا يصحب الوديعة ، ولكن يُعرّف في أيّ بلدٍ دَخَله.
مسألة ٣٤٥ : ينبغي أن يتولّى التعريفَ شخصٌ أمين ثقة عاقل غير مشهورٍ بالخلاعة واللعب ؛ ليحصل الوثوق بإخباره ، ولا يتولاّه الفاسق ؛ لئلاّ يفقد فائدة التعريف ، وهذا على الكراهة دون التحريم.
وليس للملتقط تسليم اللّقطة إلى غيره إلاّ بإذن الحاكم ، فإن فَعَل ضمن ، إلاّ مع الحاجة بأن يريد السفر ولا يجد حاكماً يستأذنه ، فيجوز أن يسلّمها إلى الثقة.
وكذا لو التقط في الصحراء ولم يتمكّن من حفظها ومراعاتها ، فإنّه يجوز له الاستعانة بغيره وتسليمها إليه مع عدم القدرة على الاستقلال بحفظها والمشاركة فيه.
مسألة ٣٤٦ : قد بيّنّا أنّ التعريف سنةً يجب في قليل المال وكثيره ما لم يقصر عن درهمٍ فلا يجب ـ وهو أحد وجوه الشافعيّة (٢) ـ لما رواه العامّة عن عائشة أنّه لا بأس بما دون الدرهم أن يستنفع به (٣).
ومن طريق الخاصّة : قول الصادق عليهالسلام : « وما [ كان ] دون الدرهم فلا يعرّف » (٤).
الثاني للشافعيّة : إنّ القليل إن انتهت قلّته إلى أن يسقط تموّله كالحبّة
__________________
(١) التهذيب ٦ : ٣٩١ / ١١٧١ ، وما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.
(٢) حلية العلماء ٥ : ٥٢٧ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٥٥٠ ، البيان ٧ : ٤٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧٤ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٤٧ ـ ٣٤٨.
(٣) تقدّم تخريجه في ص ٢٠٨ ، الهامش (٣).
(٤) تقدّم تخريجه في ص ٢٠٨ ، الهامش (٨) ، وما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.
من الحنطة والزبيبة الواحدة ، فلا تعريف على واجده ، وله الاستبداد به ـ وبينهم خلاف في أنّ مَنْ أتلف ممّا لا يتموّل ما هو من قبيل المثليّات هل يغرمه؟ والظاهر بينهم أنّه لا يغرمه ، كما لا يجوز بيعه وهبته ـ وإن كان متموّلاً مع القلّة فيجب تعريفه ؛ لأنّ فاقده يطلبه (١) ، خلافاً لأبي حنيفة ومالك (٢).
واختلفوا في قدر مدّة تعريفه على وجهين :
أحدهما : سنة ؛ لإطلاق الأخبار.
والثاني : المنع ؛ لأنّ الشيء الحقير لا يدوم فاقده على طلبه سنةً ، بخلاف الخطير.
وعلى هذا فأوجُه :
أحدها : قال الاصطخري : إنّه يكفي التعريف مرّةً ؛ لأنّه يخرج بها عن حدّ الكاتم ، وليس بعدها ضبط يعتمد.
والثاني : يُعرّف ثلاثة أيّام ؛ لأنّه قد روي في بعض الأخبار : « مَن التقط لقطةً يسيرة فليعرّفها ثلاثة أيّام » (٣).
والثالث ـ وهو الأظهر بينهم ـ : إنّه يُعرّف مدّةً يُظنّ في مثلها طلب الفاقد له ، فإذا غلب على الظنّ إعراضه سقط التعريف (٤).
ويختلف ذلك باختلاف قدر المال.
قال بعض الشافعيّة : دانق الفضّة يُعرَّف في الحال ، ودانق الذهب
__________________
(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧٤.
(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦٤.
(٣) سنن البيهقي ٦ : ١٩٥ ، مسند أحمد ٥ : ١٨٣ / ١٧١١٦.
(٤) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦٤ ـ ٣٦٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧٤.
يُعرَّف يوماً أو يومين أو ثلاثة (١).
واختلفوا في الفرق بين القليل المتموّل وبين الكثير على أوجُه :
أحدها : إنّه لا يتقدّر بمقدارٍ ، ولكن ما يغلب على الظنّ أنّ فاقده لا يكثر أسفه عليه ولا يطول طلبه له في الغالب فهو قليل.
والثاني : إنّ القليل ما دون نصاب السرقة ، فإنّه تافه في الشرع ، وقد قالت عائشة : ما كانت الأيدي تُقطع على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في الشيء التافه (٢) ، وبه قال أبو حنيفة ومالك (٣).
والثالث : إنّ القليل دينار فما دون ؛ لما رواه العامّة أنّ عليّاً عليهالسلام وجد ديناراً فسأل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال : « هذا رزق الله » فاشترى به دقيقاً ولحماً ، فأكل منه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وعليٌّ وفاطمة عليهماالسلام ، ثمّ جاء صاحب الدينار ينشد الدينار ، فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : « يا علي أدِّ الدينار » (٤) (٥).
ومن طريق الخاصّة : ما رواه الفضيل بن غزوان عن الصادق عليهالسلام ، قال : كنتُ عنده فقال له الطيّار : إنّ حمزة ابني وجد ديناراً في الطواف قد انسحق كتابته ، قال : « هو له » (٦).
ويحتمل أن يكون الدينار التي طمست كتابته قصرت عن الدرهم ،
__________________
(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧٤.
(٢) تقدّم تخريجه في ص ٢١٠ ، الهامش (١).
(٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦٥ ، المغني ٦ : ٣٥١.
(٤) سنن أبي داوُد ٢ : ١٣٧ / ١٧١٤ ، سنن البيهقي ٦ : ١٩٤.
(٥) الوسيط ٤ : ٢٩٢ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٥٥٠ ، البيان ٧ : ٤٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦٥ ـ ٣٦٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧٤ ، المغني ٦ : ٣٥١ ـ ٣٥٢ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٤٧ ـ ٣٤٨.
(٦) التهذيب ٦ : ٣٩٤ ـ ٣٩٥ / ١١٨٧.
وعليه تُحمل رواية العامّة.
تذنيب : قال بعض الشافعيّة : يحلّ التقاط السنابل وقت الحصاد إن أذن فيه المالك أو كان قدر ما لا يشقّ عليه أن يلتقط وإن كان يلتقط بنفسه لو اطّلع عليه ، وإلاّ لم يحل (١).
مسألة ٣٤٧ : لو التقط ما لا بقاء له ممّا يفسد بسرعةٍ ، كالطبائخ والرطب الذي لا يتتمّر والبقول ، فإن كان في برّيّةٍ تخيّر بين أن يبيعه ويأخذ ثمنه فيعرّفه ، وبين أن يتملّكه في الحال فيأكله ويغرم قيمته لصاحبه إن وجده ؛ لما رواه العامّة أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : « فمَنْ وجد طعاماً أكله ولم يُعرّفه » (٢).
وإن وجده في قريةٍ أو بلدةٍ ، فكذلك عندنا يتخيّر بين البيع وتعريف الثمن ، وبين التقويم والتملّك والتعريف حولاً.
وقال المزني : إن وجده في الصحراء فكذلك ، وإن وجده في القرية أو البلد فقولان :
أحدهما : ليس له الأكل ، بل يبيعه ويأخذ ثمنه لمالكه ؛ لأنّ البيع يتيسّر في العمران.
والثاني : إنّه كما لو وجده في الصحراء ؛ لإطلاق الخبر.
وهو أشهر عند الشافعيّة ، ومنهم مَنْ قطع به (٣).
إذا عرفت هذا ، فإنّه إذا أراد بيعه إمّا في الصحراء أو في العمران فإنّه يدفعه إلى الحاكم ليتولّى ذلك أو يأذن له فيه ؛ لأنّه منصوب للمصالح ، وهذا منها ، فإن تعذّر الحاكم تولاّه الملتقط ، وإذا دفعه إلى الحاكم فلا ضمان.
__________________
(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧٤.
(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦٧.
(٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧٥.
وعلى أحد قولَي الشافعيّة من عدم جواز الأكل في العمران لو أكل كان غاصباً عندهم (١).
وعلى القول الثاني بجواز الأكل فلهم في وجوب التعريف بعده وجهان ، أصحّهما عندهم : الوجوب إذا كان في البلد ، كما أنّه لو باع يُعرّف (٢).
وإذا كان في الصحراء ، قال الجويني : لا يجب ؛ لأنّه لا فائدة فيه في الصحراء (٣).
وعندنا أنّ تعريف ما بلغ قدر الدرهم واجب ، سواء كان المأكول في الصحراء أو العمران ، وإذا أكله وجب عليه القيمة ؛ لأنّه أتلف مال غيره بغير إذنه.
ثمّ بعد الوقوف على المستحقّ هل يجب إفراز القيمة المغرومة؟
للشافعيّة قولان :
أظهرهما : إنّه لا يجب ؛ لأنّ ما في الذمّة لا يخاف هلاكه ، وإذا أفرز كان المفروز أمانةً في يده ، فربما تلف ، فما في الذمّة أحفظ ، ولأنّ كلّ موضعٍ جاز له التصرّف في اللّقطة لا يجب عليه عزل قيمتها ، كما بعد الحول.
والثاني : إنّه يجب ؛ احتياطاً لصاحب المال ؛ لتقدّم صاحب المال بتلك القيمة لو أفلس الملتقط ، ولأنّه لو باعها كان الثمن عنده معزولاً ، فكذا إذا أكلها ، فحينئذٍ يجب أن يرفع الأمر إلى الحاكم ليقبض عن صاحب
__________________
(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧٥.
(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦٧ ـ ٣٦٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧٥.
(٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧٥.
المال (١).
فإن لم يجد حاكماً ، فهل للملتقط بسلطنة الالتقاط أن ينيب عنه؟ فيه عند الجويني احتمال ، وذكر أنّه إذا أفرزها لم تصر ملكاً لصاحب المال ، لكنّه أولى بتملّكها ، لكنّه لو كان كذلك لما سقط حقّه بهلاك القيمة المفروزة ، وقد نصّ الشافعي على السقوط ، وأيضاً نصّ على أنّه إذا مضت مدّة التعريف فله أن يتملّك تلك القيمة ، كما يتملّك نفس اللّقطة ، وكما يتملّك الثمن إذا باع الطعام ، وهو يقتضي صيرورتها ملكاً لصاحب اللّقطة (٢).
ولو اختلفت القيمة يوم الأخذ ويوم الأكل ، قال بعض الشافعيّة : إنّه إن أخذ للأكل اعتُبرت قيمته يوم الأخذ ، وإن أخذ للتعريف اعتُبرت قيمته يوم الأكل (٣).
ولا بأس به عندي.
ولو افتقر ما يمكن إبقاؤه إلى المعالجة ، كتجفيف الرطب بحيث يصير تمراً ، فإن كان الحظّ لصاحبه في بيعه رطباً ، بِيع إمّا بأمر الحاكم إن وُجد ، أو يتولاّه الملتقط إن لم يمكن الوصول إليه.
وإن لم يكن الحظّ في بيعه ، فإن تبرّع أحد بتجفيفه فذاك ، وإلاّ باع الحاكم أو الملتقط مع تعذّره بعضَه ، وأنفق على تجفيف الباقي ، بخلاف الحيوان حيث يُباع بأجمعه ؛ لأنّ النفقة قد تُكرّر فيؤدّي إلى أن يأكل نفسه.
تذنيب : إذا باع الطعام عرّف المبيعَ دون الثمن ، كما أنّه إذا أكل يعرّف المأكولَ دون القيمة.
مسألة ٣٤٨ : ما لا يبقى عاماً كالطبيخ والبطّيخ والفاكهة التي لا تُجفّف
__________________
(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧٥.
(٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧٦.
والخضروات يتخيّر ملتقطها بين أكلها وحفظ ثمنها ، وبين دفعها إلى الحاكم ليبيعها إن تمكّن منه على ما قدّمناه.
ولا يجوز له إبقاؤه ؛ لأنّه يتلف ، فإن تركه حتى تلف ضمن ؛ لأنّه فرّط في حفظه ، فلزمه ضمانه ، كالوديعة.
وليس له بيعه بنفسه مع وجود الحاكم.
خلافاً لأحمد في الشيء القليل (١).
وهو يبطل بالكثير ، ولأنّه مال الغير ، ولا ولاية له عليه ولا على مالكه ، فلم يجز بيعه إلاّ بالحاكم ، كغير اللّقطة.
احتجّ : بأنّه أُبيح له أكله فأُبيح له بيعه ، كماله ، ولأنّه أُبيح له بيعه عند العجز عن الحاكم ، فجاز عند القدرة عليه (٢).
وهو غلط ؛ لأنّ في البيع ولايةً على مال الغير ، بخلاف الأكل ؛ لأنّ القصد به مع الانتفاع أداء القيمة إلى المالك ، وحالة العجز لا قدرة على الحاكم ، فأُبيح له البيع ؛ تخلّصاً من ضررها ، بخلاف حال القدرة.
إذا تقرّر هذا ، فإن أراد الأكل أو البيع ، عرف صفاته وحفظها ، ثمّ عرّفه عاماً ، فإن جاء صاحبه فإن كان قد باعه دفع ثمنه إليه ، وإن كان قد أكله غرمه له بقيمته.
ولو تلف الثمن منه بغير تفريطه قبل تملّكه أو نقص أو تلفت العين أو نقصت بغير تفريطٍ ، فلا ضمان على الملتقط ، وإن تلفت أو نقصت أو نقص الثمن أو تلف بتفريطه ، لزمه ضمانه.
وكذا لو تلف الثمن بعد أن تملّكه أو نقص أو تلفت العين أو نقصت
__________________
(١ و ٢) المغني ٦ : ٣٩٥.
بعد أن تملّكها.
مسألة ٣٤٩ : ما يفتقر إلى العلاج يُنظر الحظّ لصاحبه فيفعل كما قلناه أوّلا ، فإن كان في التجفيف جفّفه أو رفعه إلى الحاكم ليس له إلاّ ذلك ؛ لأنّه مال غيره ، فلزمه الحظّ فيه لصاحبه ، كالوليّ عن اليتيم.
ولو افتقر إلى غرامةٍ ، باع بعضه في ذلك.
ولو كان الحظّ في بيعه ، باعه وحفظ ثمنه ، ولو تعذّر بيعه ولم يمكن تجفيفه ، تعيّن أكله ، كالبطّيخ.
وعن أحمد رواية أُخرى : إنّه لا يؤكل ، بل إمّا أن يبيعه أو يتصدّق به ، وكذا كلّ طعامٍ يتغيّر لو بقي لا يجوز أكله ، بل يتخيّر بين الصدقة به والبيع ، وبه قال مالك وأصحاب الرأي (١).
وقال الثوري : يبيعه ويتصدّق بثمنه (٢).
والكلّ باطل بما روي من طُرق العامّة والخاصّة من قول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في ضالّة الغنم : « خُذْها فإنّما هي لك أو لأخيك أو للذئب » (٣) وهذا تجويز للأكل ، فإذا جاز فيما هو محفوظ بنفسه ففيما يفسد ببقائه أولى.
تذنيب : إذا باع الطعام الذي يخشى فساده أو الذي يحتاج إلى العلاج ، تولاّه الحاكم ، فإن تعذّر تولاّه بنفسه ؛ لأنّه موضع ضرورةٍ ، وإذا باع وعرف صاحبه ، لم يكن له الاعتراض في البيع ؛ لأنّه وقع جائزاً.
أمّا لو باعه بدون إذن الحاكم وفي البلد حاكم ، كان البيع باطلاً ، فإذا جاء صاحبه ، كان له مطالبة المشتري به ، فإن كان تالفاً رجع بالقيمة على مَنْ شاء ؛ لأنّ الملتقط ضمنه بالبيع والتسليم ، والمشتري بالتسلّم ، فإن رجع
__________________
(١ و ٢) المغني ٦ : ٣٩٦ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٧٢.
(٣) راجع : الهامش ( ١ و ٢ ) من ص ١٦٦.
على الملتقط رجع الملتقط على المشتري ؛ لأنّ التلف حصل في يده ، ويده ضامنة ، وإن رجع على المشتري لم يرجع على الملتقط.
مسألة ٣٥٠ : قد بيّنّا أنّه تجب المبادرة إلى التعريف ، فلو أخّره عن الحول الأوّل مع الإمكان أثم ؛ لأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أمر به (١) ، وقال : « لا يكتم ولا يغيّب » (٢).
ولأنّ ذلك وسيلة إلى أن لا يعرفها صاحبها ، فإنّ الظاهر أنّ صاحبها بعد الحول ييأس منها ويسلو (٣) عنها ويترك طلبها.
ولا يسقط التعريف بتأخيره عن الحول الأوّل ؛ لأنّه واجب ، فلا يسقط بتأخّره عن وقته ، كالعبادات وسائر الواجبات ، ولأنّ المقصود يحصل بالتعريف في الحول الثاني على نعت من القصور ، فيجب الإتيان به ؛ لقوله عليهالسلام : « إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم » (٤).
وقال أحمد : يسقط التعريف بتأخّره عن ذلك الحول الأوّل ؛ لأنّ حكمة التعريف لا تحصل بعد الحول الأوّل (٥).
وهو ممنوع.
فعلى هذا لو ترك التعريف في بعض الحول الأوّل ، عرّف بقيّته وأكمله من الحول الثاني.
وعن أحمد : يكتفي بالتعريف باقي الحول خاصّةً (٦).
__________________
(١) راجع : الهامش (١) من ص ١٦٦.
(٢) تقدّم تخريجه في ص ١٧٤ ، الهامش (١).
(٣) أي : ينسى. لسان العرب ١٤ : ٣٩٤ « سلا ».
(٤) صحيح البخاري ٩ : ١١٧ ، مسند أحمد ٣ : ١٦٢ / ٩٢٣٩ ، و ٣٠٧ / ١٠٢٢٩.
(٥) المغني ٦ : ٣٥٢ ـ ٣٥٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٧٧.
(٦) المغني ٦ : ٣٥٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٧٧.
وإذا عرّفها حولاً بعد الحول الأوّل ، جاز له أن يتملّكها بعده.
وكذا لو أخّر بعض الحول عرّف باقيه وأتمّه من الثاني ، وتملّكها بعد الإتمام عندنا.
وقال أحمد : ليس له أن يتملّكها بعد إهماله ، سواء قلنا بسقوط التعريف في الحول الثاني ، أو قلنا بوجوبه ، وسواء عرّفها الحول الثاني أو بعض الأوّل وأكمل من الثاني ؛ لأنّ شرط الملك التعريفُ في الحول الأوّل وقد فات ، فيسقط ؛ لفوات شرطه (١).
وهو ممنوع ؛ لأنّ العبادات لا تسقط بفوات أوقاتها ، فكيف إذا تعلّق بها حقّ الغير!
إذا عرفت هذا ، فقال أحمد : إنّه يجب عليه إمّا حفظها أبداً أو الصدقة بها على روايتين (٢).
وقال بعض أصحابه : يجوز أن يدفعها إلى الحاكم ، كما إذا التقط ما لا يجوز التقاطه (٣).
ولو ترك التعريف في بعض الحول الأوّل ، لم يملكها أيضاً بالتعريف فيما بعده عنده ؛ لأنّ الشرط لم يكمل ، وعدم بعض الشرط كعدم جميعه ، كما لو أخلّ ببعض الطهارة (٤).
ولو ترك التعريف في الحول الأوّل ؛ لعجزه عنه بأن يتركه لمرضٍ أو حبسٍ أو نسيانٍ ونحوه ، لم يسقط التعريف عندنا ، وجاز ومَلَك بعد التعريف في الحول الثاني.
__________________
(١) المغني ٦ : ٣٥٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٧٨.
(٢ و ٣) المغني ٦ : ٣٥٣.
(٤) المغني ٦ : ٣٥٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٧٨.
وللحنابلة وجهان :
أحدهما : إنّ حكمه حكم ما لو تركه مع إمكانه ، ليس له التملّك بعد التعريف في الحول الثاني ؛ لأنّ تعريفه في الحول الأوّل سبب الملك ، والحكم ينتفي لانتفاء سببه ، سواء كان انتفاؤه لعذرٍ أو لغير عذرٍ.
والثاني : إنّه يُعرّفه في الحول الثاني ويملكه ؛ لأنّه لم يؤخّر التعريف عن وقت إمكانه ، فأشبه ما لو عرّفه في الحول الأوّل (١).
البحث الثالث : في التملّك.
مسألة ٣٥١ : إذا عرّف الملتقط حولاً ولم يكن من لقطة الحرم ، تخيّر بين أُمور ثلاثة : إمّا أن يستديم حفظها لمالكها أبداً إلى أن يظهر فيسلّمها إليه ، ولا ضمان عليه إلاّ مع التفريط أو التعدّي ، أو نيّة التملّك بعده (٢) ، أو يتصدّق بها ، ويضمن إذا جاء صاحبها خيّره بين الأجر والقيمة ، أو يتملّكها ويتصرّف فيها كيف شاء ، ويضمنها ، وتكون في ذمّته ، سواء كان الملتقط غنيّاً أو فقيراً أو مَنْ تحلّ له الصدقة أو تحرم عند علمائنا ـ وبه قال عليٌّ عليهالسلام وابن عباس والشعبي والنخعي وعمر وابن مسعود وعائشة وطاوُوس وعكرمة والشافعي (٣) ـ لما رواه العامّة في حديث زيد بن خالد : « فإن لم تعرف فاستنفقها » (٤).
__________________
(١) المغني ٦ : ٣٥٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٧٨.
(٢) أي : بعد الحول.
(٣) المغني ٦ : ٣٥٤ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٨٠ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ٥٥ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٤٣٧ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٥٥٠ ، البيان ٧ : ٤٥٣ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧٦.
(٤) صحيح مسلم ٣ : ١٣٤٩ / ٥ ، سنن البيهقي ٦ : ١٩٠ ، المغني ٦ : ٣٥٤ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٨٠.
وفي لفظٍ : « وإلاّ فهي كسبيل مالك » (١).
وفي لفظٍ : « ثمّ كُلْها » (٢).
وفي لفظٍ : « فانتفع بها » (٣).
وفي لفظٍ : « فشأنك بها » (٤).
وفي حديث أُبيّ بن كعب : « فاستنفقها » (٥).
وفي لفظٍ : « فاستمتع بها » (٦).
قال الشافعي : وكان أُبيّ من أيسر أهل المدينة أو كأيسرهم (٧).
ومن طريق الخاصّة : ما رواه الحلبي ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليهالسلام في اللّقطة يجدها الرجل الفقير أهو فيها بمنزلة الغني؟ قال : « نعم » [ و ] اللّقطة يجدها الرجل ويأخذها ، قال : « يُعرّفها سنةً ، فإن جاء لها طالب ، وإلاّ فهي كسبيل ماله » (٨).
ولأنّه مَنْ مَلَك بالعوض القرضَ مَلَك بالعوض اللّقطةَ ، كالفقير ، ولأنّ اللّقطة سببٌ في التملّك ، فاستوى فيه الغني والفقير ، كالاحتطاب ، ولأنّ
__________________
(١) كما في المغني ٦ : ٣٥٤ ، والشرح الكبير ٦ : ٣٨٠ ـ ٣٨١.
(٢) صحيح مسلم ٣ : ١٣٤٩ / ٧ ، المغني ٦ : ٣٥٤ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٨١.
(٣) المغني ٦ : ٣٥٤ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٨١.
(٤) صحيح البخاري ٣ : ١٦٣ ، صحيح مسلم ٣ : ١٣٤٧ / ١٧٢٢ ، سنن البيهقي ٦ : ١٨٥ ، المغني ٦ : ٣٥٤ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٨١.
(٥) كما في المغني ٦ : ٣٥٤ ـ ٣٥٥.
(٦) صحيح البخاري ٣ : ١٦٢ و ١٦٦ ، صحيح مسلم ٣ : ١٣٥٠ / ١٧٢٣ ، سنن أبي داوُد ٢ : ١٣٤ / ١٧٠١ ، سنن البيهقي ٦ : ١٩٣ و ١٩٧.
(٧) الأُم ٤ : ٦٧ ، مختصر المزني : ١٣٥ ، الحاوي الكبير ٨ : ٩ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٠.
(٨) تقدّم تخريجه في ص ١٦٨ ، الهامش (١) ، وما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.