الشيخ جعفر السبحاني
الموضوع : الفقه
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: توحيد
الطبعة: ١
ISBN: 964-7741-18-9
الصفحات: ٢٠٨
« البيّعان بالخيار حتّى يفترقا ، وصاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيّام » (١) ، وهي نفس الرواية السابقة غير أنّ فيها تقديماً وتأخيراً ، فقد قدّم في الثانية خيار المجلس . وأُخّر خيار الحيوان ، بخلاف الأُولى ، ومع الاختلاف في التعبير عن الموضوع ، لا يمكن الاحتجاج بالأعم ( المتبايعان ) بل يقتصر على القدر المتيقّن وهو صاحب الحيوان ، أي المشتري .
فإن قلت : إذا أخذنا باللفظ الثاني ، أي صاحب الحيوان ، الذي هو أخصّ من المتبايعين ويعدّ قدراً متيقّناً من الروايتين ، يجب الأخذ بإطلاقه ، وهو ثبوت الخيار لصاحب الحيوان وإن كان بائعاً ، كما إذا باع الحنطة بحيوان ، بحيث عدّ الحيوان في العرف ثمناً فعندئذٍ يثبت للبائع دون المشتري ، لأنّه أخذ الحنطة ، أو ثبوته للمتبايعين كما إذا بادل حيواناً بحيوان ، وهذا يكون قولاً ثالثاً أشار إليه العلّامة في « المختلف » . (٢) ويؤيّده ما رواه زرارة عن الباقر عليهالسلام ، أنّه قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « البيّعان بالخيار حتّى يتفرقا ، وصاحب الحيوان ثلاث » . (٣)
قلت : ما ذكر صحيح ، لولا تقييد « صاحب الحيوان » في بعض الروايات بالمشتري ، كموثقة الحسن بن علي بن فضّال قال : سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليهالسلام يقول : « صاحب الحيوان المشتري بالخيار بثلاثة أيّام » (٤) وظاهر الرواية تحديد الموضوع بقيدين . فالأمر يدور بين أحد أمرين :
١ . الأخذ بالاطلاق ( صاحب الحيوان ) ، وحمل القيد الوارد في رواية ابن فضّال على وروده موضع الغالب .
__________________
١ . الوسائل : ١٢ ، الباب ١ من أبواب الخيار ، الحديث ١ .
٢ . المختلف : ٥ / ٦٥ .
٣ . الوسائل : ١٢ ، الباب ٣ من أبواب الخيار ، الحديث ٦ .
٤ . الوسائل : ١٢ ، الباب ٣ من أبواب الخيار ، الحديث ٢ .
٢ . الأخذ بالقيد ( المشتري ) ، وحمل المطلق على المقيّد ، ولا ترجيح لأحد الأمرين .
ومع هذين الاحتمالين المتساويين لا يتعيّن الأخذ بإطلاق « صاحب الحيوان » وإن ورد في روايتين .
حصيلة البحث
١ . تضافرت الروايات على أنّ الخيار للمشتري وبما أنّها في مقام التحديد ، يؤخذ بالقيد .
٢ . روى محمد بن مسلم : « المتبايعان بالخيار ثلاثة أيّام في الحيوان » لكن لا يمكن الأخذ بإطلاقه ، لأنّها مروية عنه بصورة أُخرى : « صاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيّام » وهو أخص من الأُولى ، فيؤخذ منه بالقدر المتيقّن ، أي صاحب الحيوان المنطبق على المشتري .
٣ . إنّ صاحب الحيوان وإن كان ينطبق على البائع فيما إذا باع الحنطة بفرس ، أو على المتبايعين ، لكنّه ورد في موثّقة ابن فضّال مقيّداً بالمشتري ، وقد عرفت أنّ الأمر يدور بين حمل القيد على الغالب ، أو تقييد المطلق بالقيد ولا مرجّح .
وبذلك يعلم أنّ ما ذهب إليه المشهور هو الأقوى حسب صناعة الفقه .
نعم بالنظر إلى حكمة الخيار يمكن القول بثبوته فيما لو باع حيواناً بحيوان ، أو جعل الثمن حيواناً كما عليه الشهيد الثاني في « المسالك » . (١)
__________________
١ . المسالك : ٣ / ٢٠٠ .
الموضع الثاني : في مبدأ خيار الحيوان
المشهور أنّ مبدأ خيار الحيوان هو زمان العقد ، صرّح به جماعة وهو ظاهر الباقين .
نعم ذهب صاحب الغنية إلى أنّ مبدأه هو حين التفرّق ، قال :
« واعلم أنّ ابتداء المدّة للخيار من حين التفرّق بالأبدان ، لا من حين حصول العقد ، لأنّ الخيار إنّما يثبت بعد ثبوت العقد ، وهو لا يثبت إلّا بعد التفرّق » . (١)
وقد تبع في ذلك كلام الشيخ في « المبسوط » حيث قال : « خيار الشرط يثبت من حين التفرّق ، لأنّ الخيار يدخل إذا ثبت العقد والعقد لم يثبت قبل التفرّق » . (٢)
ولو صحّ ما ذكراه لجرى في خيار الحيوان أيضاً ، ولكن التحقيق هو أنّ مبدأه هو العقد لما عرفت من أنّ الظاهر من الشيخ في الخلاف أنّ خيار الحيوان هو نفس خيار المجلس ، غاية الأمر أنّ خيار المجلس ينقطع بالتفرّق دون خيار الحيوان فيمتد إلى ثلاثة أيّام ، فكما أنّ مبدأه هو زمان العقد فهكذا الآخر .
ويمكن استظهار ذلك من الروايات وأنّه ليس هنا إلّا خيار واحد لجميع المبيعات وإنّما الاختلاف بين الحيوان وغيره في منتهى الخيار ، وإليك نقل ما يدلّ على ذلك :
١ . صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : « المتبايعان بالخيار
__________________
١ . الغنية : ٢ / ٢٢٠ .
٢ . المبسوط : ٢ / ٨٥ .
ثلاثة أيّام في الحيوان ، وفي ما سوى ذلك من بيع حتّى يفترقا » (١) ، وظاهره أنّ الخيار المتحقّق في الحيوان ، نفس الخيار المتحقّق في غيره ، وإنّما الاختلاف في الغاية .
٢ . رواية علي بن أسباط ، عن أبي الحسن الرضا عليهالسلام قال : سمعته يقول : « الخيار في الحيوان ثلاثة للمشتري ، وفي غير الحيوان أن يفترقا » . (٢)
٣ . صحيحة فضيل ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : قلت له : ما الشرط في الحيوان ، قال : « ثلاثة أيّام للمشتري » . قال : قلت له : ما الشرط في غير الحيوان ؟ قال : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » . (٣)
فإنّ الظاهر من رواية علي بن أسباط وغيرها أنّ هنا خياراً واحداً في المبيع غير أنّه تختلف غايته حسب اختلاف المبيع ، كما أنّ الظاهر من صحيحة فضيل أنّ الشرط في الحيوان ثلاثة أيّام وهو في غيره ما لم يفترقا ، فالمجعول خيار واحد ، غير انّه رعاية للحكمة جعل غايته في غير الحيوان الافتراق لسرعة تبيّن حاله ، وفي الحيوان ـ لحاجته إلى التروّي والإمعان ـ انقضاء ثلاثة أيّام ، هذا هو الظاهر من الروايات .
الموضع الثالث : في مسقطاته
يسقط خيار الحيوان كخيار المجلس بأُمور :
١ . اشتراط سقوطه في ضمن العقد كما إذا قال : بعت هذا بهذا مع إسقاط خيار الحيوان ، وبما أنّ الخيار من الحقوق القابلة للإسقاط يصحّ الشرط ويجب
__________________
١ . الوسائل : ١٢ ، الباب ٣ من أبواب الخيار ، الحديث ٣ .
٢ . الوسائل : ١٢ ، الباب ٣ من أبواب الخيار ، الحديث ٨ ، والباب ١ من أبواب الخيار ، الحديث ٥ .
٣ . الوسائل : ١٢ ، الباب ٣ من أبواب الخيار ، الحديث ٥ ، والباب ١ من أبواب الخيار ، الحديث ٣ .
الوفاء به ، وما ربّما يقال من أنّه إسقاط لما لم يجب فقد عرفت جوابه في غير مورد ، وانّه يكفي في جواز الإسقاط وجود المقتضي للخيار وهو العقد .
كما يجوز إسقاط خيار الحيوان بعامّته يجوز إسقاط بعضه دون البعض الآخر حسب الأيّام والساعات .
ومعنى الإسقاط هو تقليل مدّة الخيار من أوّل الأمر وتخصيصه باليوم الأوّل أو باليوم الثاني فقط .
٢ . إسقاطه بعد العقد ، كما إذا قال : التزمت بالعقد .
٣ . سقوطه بكلّ فعل دالّ على التزامه بالعقد وكراهته للفسخ وان لم يستلزم تصرّفاً في المبيع ، كما لو اشترى للفرص في أيام الخيار ، سرجاً وزماماً ، أو اشترى للجارية فيها ما يناسبها من الألبسة والأحذية وأدوات الزينة ، أوعرضها للبيع من دون أن يتصرّف فيها ولكن عُدّ العمل عرفاً ، إنشاءً فعليّاً للالتزام بالبيع وإسقاطاً للحقّ ، إذ لا فرق فيه بين القول والفعل ، فالإنشاء الفعلي كالإنشاء القولي وقد ورد في خيار الشرط ما يشهد لذلك . (١)
٤ . التصرّف وكونه مسقطاً في الجملة ممّا لا كلام فيه ، إنّما الكلام في خصوصياته ، فقد اضطربت كلماتهم كاضطراب النصوص في نظرهم ، وقد أنهى السيد الطباطبائي الأقوال في المسألة إلى سبعة (٢) ، والمهمّ هو القولان التاليان :
أ : مطلق التصرّف ـ وإن لم يكن مغيّراً للعين ـ مسقط .
ب : التصرّف المغيّر للعين مسقط .
ولا يتعيّن أحد القولين إلّا بدراسة الروايات ، وهي على صنفين :
__________________
١ . الوسائل : ١٢ ، الباب ١٢ من أبواب الخيار ، الحديث ١ .
٢ . تعليقة السيد الطباطبائي : ٢ / ٢١ .
الأوّل : ما يدلّ على أنّ مطلق التصرّف وإن لم يكن مغيّراً للعين مسقط للعين ، صحيحة علي بن رئاب ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل اشترىٰ جارية لمن الخيار ؟ فقال : « الخيار لمن اشترىٰ » ـ إلى أن قال : قلت له : أرأيت إن قبّلها المشتري أو لامس ؟ قال : فقال : « إذا قبّل أو لامس أو نظر منها إلى ما يحرم على غيره فقد انقضى الشرط ولزمته » . (١)
الثاني : ما يدلّ على أنّ التصرّف المغيِّر للعين هو المسقط ، ونقتصر على روايتين :
١ . روى الصفّار ، قال : كتبت إلى أبي محمد عليهالسلام في الرجل اشترى من رجل دابّة فأحدث فيها حدثاً من أخذ الحافر ، أو أنعلها أو ركب ظهرها فراسخ ، أله أن يردّها في الثلاثة الأيّام التي له فيها الخيار بعد الحدث الذي يحدث فيها أو الركوب الذي يركبها فراسخ ؟ فوقع عليهالسلام : « إذا أحدث فيها حدثاً فقد وجب الشراء إن شاء الله » . (٢)
وجه الدلالة : إنّ السائل طرح تصرّفين في ذيل سؤاله :
أ : الحدث الذي يحدث فيها .
ب : الركوب الذي يركبها فراسخ .
والأوّل : هو التصرّف المغيّر كما مثّل الراوي في صدر كلامه من أخذ الحافر وإنعالها .
والثاني : هو التصرّف غير المغيّر ، وقد جعله الراوي موضوعاً مستقلاً بشهادة أنّه عطفه على الحدث الذي يحدث فيها .
ولكن الإمام خصّ الإسقاط بالقسم الأوّل دون الثاني وقال : « إذا أحدث
__________________
١ و ٢ . الوسائل : ١٢ ، الباب ٤ من أبواب الخيار ، الحديث ٣ و ٢ .
فيها حدثاً » ولم يقل : « أو ركب ظهرها » وهذا يدل على أنّ التصرّف المغيّر هو المسقط لا مطلق التصرّف وإلّا لما ترك ذكر الركوب .
٢ . ما رواه الحلبي ، عن أبي عبد الله عليهالسلام في رجل اشترى شاة فأمسكها ثلاثة أيّام ثمّ ردّها ؟ فقال : « إن كان في تلك الثلاثة الأيّام يشرب لبنها ردّ معها ثلاثة أمداد ، وإن لم يكن لها لبن فليس عليه شيء » . (١)
وجه الاستدلال : أنّه لو كان مطلق التصرّف مسقطاً لسقط الخيار ، لأنّ المفروض انّ المشتري حلبها وشرب لبنها ، فإذا لم يكن مثل ذلك مسقطاً بشهادة تجويز الردّ فسقي الدابة وتعليفها أو استخدام الأمة لبعض الأُمور لا يكون مسقطاً بطريق أولى .
وبذلك يقيّد ما دلّ على أنّ مطلق التصرّف مسقط بما دلّ على أنّ المسقط هو التصرّف المغيّر .
بقي هنا سؤال ، وهو انّ الإمام عدّ لمس الأمة وتقبيلها أو النظر إليها بما يحرم عليه قبل الشراء في رواية علي بن رئاب من المسقطات ، ومن المعلوم أنّ هذه الأُمور ليست تصرّفاً مغيّراً ؟
والجواب : أنّ ما جاء فيها يختصّ بالأمة دون غيرها وفي الأمة أيضاً يختص بباب خيار الحيوان . وعلى ذلك فلا يتعدّى إلى غير الأمة في خيار الحيوان ، ولا فيها إلى غير خيار الحيوان كخيار العيب ، فلأجل ذلك جعلوا المسقط في خيار العيب في الأمة الوطء ، وتضافرت الروايات في كونه مسقطاً ، ولو كان النظر واللمس مسقطاً ، يلزم عدم استناد السقوط في مورد إلى الوطء لكونه مسبوقاً بهما دائماً .
__________________
٢ . الوسائل : ١٢ ، الباب ١٣ من أبواب الخيار ، الحديث ١ .
عمومية الحكم للجاهل والعالم
ثمّ إنّه إذا كان التصرّف المغيّر مسقطاً ، فهل هو مسقط مطلقاً ، سواء كان المتصرّف عالماً بالموضوع ( انّ هذا الفرس مثلاً هو المبيع الذي اشتراه أمس ) أو جاهلاً به وتصوّر أنّه هو ماله الذي تملَّكه قبل شهور ، وسواء أكان عالماً بالحكم وأنّه ذو خيار أو أنّ خياره يسقط بالتصرّف أم لا ؟ أو أنّ المسقط هو التصرّف الصادر من الملتفت إلى الموضوع والحكم ، فلا يسقط إذا كان جاهلاً بالموضوع أو الحكم ؟ ظاهر الروايات هو الأوّل ، وإنّ التصرّف وإحداث الحدث كافٍ في سقوط الخيار مطلقاً ، ولو خصّصناه بالملتفت ، يلزم حمل المطلقات على المواضع القليلة أو النادرة ، فإنّ الجهل بالأحكام سائد على الناس خصوصاً الجهل بخصوصيات المسقط .
|
التحقيق |
|
١ . لا شكّ في دخول الليلتين المتوسطتين في الثلاثة الأيّام ، فهل دخولهما تبعيٌّ لحفظ الاستمرار ، أو دخولهما حقيقي إذا أُريد من الأيّام ـ ولو مجازاً ـ الأيّام ولياليها ؟ ٢ . اذكر الاستعمالات المختلفة للفظة « الأيّام » في القرآن . لاحظ : المتاجر ، قسم الخيارات ، ص ٢٢٥ ؛ والمختار في أحكام الخيار ، ص ١١٩ . |
الفصل الثالث
خيار التأخير
خيار التأخير ممّا أطبق فقهاء أهل السنّة على عدمه ، كما أطبق أصحابنا على ثبوته ، وأخبارهم به متضافرة ، ومورده عبارة : عمّن ابتاع شيئاً معيّناً بثمن معيّن ولم يَقبضه ولا قبّض ثمنه وفارقه البائع ، فالمبتاع أحقّ به ما بينه وبين ثلاثة أيّام ، فإن مضت ولم يُحضر الثمن ، كان البائع بالخيار بين فسخ البيع وبين مطالبته بالثمن . (١)
وعرّفه المحقّق بقوله : من باع ولم يَقبض الثمن ، ولا سلّم المبيع ، ولا اشترط تأخير الثمن ، فالبيع لازم ثلاثة أيّام ؛ فإن جاء المشتري بالثمن ، وإلّا كان البائع أولى بالمبيع . (٢)
ووفقاً لما ذكر فهو مشروط بثلاثة شروط :
الأوّل : عدم قبض الثمن .
الثاني : عدم تسليم المبيع .
الثالث : عدم اشتراط التأجيل في الثمن والمثمن .
__________________
١ . الخلاف : ٣ / ٢٠ ، المسألة ٢٤ . |
٢ . الشرائع : ٢ / ٢٣ . |
وسيوافيك أنّ هنا شرطاً رابعاً وهو كون المبيع شخصيّاً لا كليّاً .
ويدلّ عليه أُمور : أوضحها الروايات المتضافرة المغنية عن دراسة رجالها ، وهي بين صحيحة وغير صحيحة .
١ . صحيحة زرارة ، عن أبي جعفر عليهالسلام قال : قلت له : الرجل يشتري من الرجل المتاعَ ، ثمّ يدعه عنده ، فيقول : حتى آتيك بثمنه ؟ قال : « إن جاء فيما بينه و بين ثلاثة أيّام ، وإلّا فلا بيع له » . (١)
٢ . خبر عبد الرحمن بن الحجاج قال : اشتريت محملاً فأعطيت بعض ثمنه وتركته عند صاحبه ، ثمّ احْتُبِسْتُ أيّاماً ، ثمّ جئت إلى بائع المحمل لأخذه ، فقال : قد بعته ، فضحكت ثمّ قلت : لا والله لا أدعك أو أقاضيك ، فقال لي : ترضى بأبي بكر بن عياش ؟ قلت : نعم ، فأتيته فقصصنا عليه قصّتنا ، فقال أبو بكر : بقول من تريد أن أقضي بينكما ، بقول صاحبك أو غيره ؟ قال : قلت : بقول صاحبي ، قال : سمعته يقول : « من اشترى شيئاً فجاء بالثمن ما بينه وبين ثلاثة أيّام وإلّا فلا بيع له » . (٢)
٣ . صحيحة علي بن يقطين : أنّه سأل أبا الحسن عليهالسلام عن الرجل يبيع البيع ولا يُقبضه صاحبَه ولا يَقبض الثمن ؟ قال : « فإنّ الأجل بينهما ثلاثة أيّام ، فإن قبض بيعه وإلّا فلا بيع بينهما » . (٣)
٤ . خبر إسحاق بن عمّار ، عن العبد الصالح عليهالسلام قال : « من اشترى بيعاً فمضت ثلاثة أيّام ولم يجئ فلا بيع له » . (٤)
ثمّ إنّ الأصحاب بعد ما اتفقوا على عدم اللزوم اختلفوا في صحّة المعاملة وبطلانها على قولين :
__________________
١ ، ٢ ، ٣ ، ٤ . الوسائل : ١٢ ، الباب ٩ من أبواب الخيار ، الحديث ١ ، ٢ ، ٣ و ٤ .
أ . ذهب الشيخ في « المبسوط » (١) والقاضي في « المهذّب » (٢) إلى القول ببطلان البيع بعد الثلاثة ، وحكاه العلّامة عن ابن الجنيد في « المختلف » (٣) ؛ وقد قال به من المتأخرين المحدّث البحراني في « الحدائق » (٤) ومال إليه السيد الطباطبائي في تعليقته (٥) على المتاجر .
والذي نصّ به المفيد في « المقنعة » (٦) والشيخ في « النهاية » (٧) أنّ العقد صحيح ، ويكون للبائع الخيار إن شاء فسخ البيع وإن شاء طالب بالثمن .
ومدرك القولين هو الروايات السابقة ، أعني قوله : « فلا بيع له » فهل هو محمول على نفي الصحة أو على نفي اللزوم .
ويرجَّح القولُ الأوّل بأنّه إذا تعذّرت الحقيقة ـ لوجود البيع ـ فأقرب المجازات ـ وهو نفي الصحّة ـ أولى .
ويرجّح القول الثاني بأنّ الهيئة ( لا بيع له ) وإن كانت ظاهرة في نفي الحقيقة عند الإمكان ثمّ نفي الصحّة عند عدم إمكان نفي الحقيقة ، إلّا أنّ هناك قرائن تدلّ على أنّ المراد نفي اللزوم ، وإليك بعض هذه القرائن :
١ . انّ الروايات الماضية تشتمل على قضية شرطية :
ففي صحيحة زرارة : « إن جاء فيما بينه وبين ثلاثة أيّام » .
وفي رواية عبد الرحمان بن الحجاج : « من اشترى شيئاً فجاء بالثمن ما بينه و بين ثلاثة أيّام » .
__________________
١ . المبسوط : ٢ / ٨٧ . |
٥ . تعليقة السيد الطباطبائي : ٢ / ٥٢ . |
٢ . المهذّب : ١ / ٣٦١ . |
٦ . المقنعة : ٥٩١ . |
٣ . المختلف : ٥ / ٧٠ . |
٧ . النهاية : ٣٨٥ ، باب الشروط في العقود . |
٤ . الحدائق الناضرة : ١٩ / ٤٨ .
وفي صحيحة علي بن يقطين : « فإن قبض بيعه » .
هذه قضايا شرطية حذف جزاؤها ، وأقيم مكانه قوله : « وإلّا فلا بيع له » ، وله في الكتاب والسنّة نظائر كثيرة حيث يحذف الجزاء ويقوم مقامه شيء آخر ، نظير قوله سبحانه : ( إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ) (١) والجزاء محذوف وهو « فلا عجب » أي فإن سرق فلا عجب ولا غرو ، فقد سرق أخوه أيضاً من قبل .
وعندئذٍ يجب علينا تعيين الجزاء المحذوف فهل هو قوله : « لا يجب الوفاء » أو قوله : « يبطل البيع » ؟
مقتضى التقابل بين الجزاءين هو الأوّل ، لأنّ الجزاء المقدّر في الشرطية الأُولى ، أعني : قوله : « إن جاء فيما بينه وبين ثلاثة أيّام » هو قوله : « يجب الوفاء » ، فيناسب أن يكون الجزاء في الشرطية الثانية أي قوله : « وإلّا » هو نفس ذلك الجزاء بصورة السالبة ، أي لا يجب الوفاء لا انّه « يبطل العقد » ، لعدم التقابل بين وجوب الوفاء وبطلان العقد .
وبعبارة أُخرى : أنّ الهدف من السؤال ، هو تعيين تكليف البائع حيث إنّه كان في السابق ملزماً ـ بالوفاء ـ بالعقد وإقباض ، المبيع فأراد أن يقف على أنّه هل هو ملزم به مثل السابق أو لا ؟ فوافاه الجواب بأنّه لا بيع ، فيكون المراد ، هو نفي اللزوم ، فأشبه بالبناء المتزلزل الذي يصحّ أن يوصف بأنّه لا بناء ، كما يصحّ أن يوصف المنهدم أيضاً بأنّه لا بناء .
٢ . إنّ الحكم في المقام امتناني ، ومقتضاه صحّته بلا لزوم لا بطلانه ، إذ ربّما يتعلّق الغرض ببقاء العقد واستمراره بحيث يكون في بطلانه ضرر عليه .
٣ . ما ورد في « دعائم الإسلام » : انّه من اشترى صفقة وذهب ليجيء
__________________
١ . يوسف : ٧٧ .
بالثمن فمضت ثلاثة أيّام ولم يأت به ، فلا بيع إذا جاء يطلب إلّا أن يشاء البائع . (١)
٤ . يؤيّده أيضاً ما في رواية علي بن يقطين قال : سألت أبا الحسن عليهالسلام عن رجل اشترى جارية وقال : أجيئك بالثمن ؟ فقال : « إن جاء فيما بينه وبين شهر وإلّا فلا بيع له » (٢) حيث تدلّ على صحّة المعاملة وبقائها إلى مضي شهر ، بناء على أنّ الرواية غير مختصّة بموردها وأنّ الإجابة مستحبّة إلى شهر ـ وذلك جمعاً بين الروايات ـ والقول ببقائها إلى شهر لا يجتمع مع البطلان بعد ثلاثة أيّام .
ولو شكّ في المفاد ، فالمحكَّم عند الشيخ هو استصحاب الآثار المترتّبة على البيع .
شروط الخيار
يعتبر في شروط الخيار الأُمور الأربعة التالية :
١ . عدم قبض المبيع .
٢ . عدم قبض مجموع الثمن .
٣ . عدم اشتراط تأخير تسليم أحد العوضين .
٤ . أن يكون المبيع عيناً أو شبهها كصاع من صبرة .
وإليك دراسة هذه الشروط :
الأوّل : عدم قبض المبيع
يعتبر في ثبوت خيار التأخير عدم قبض المبيع ، وادّعي في « الحدائق »
__________________
١ . المستدرك : ١٣ ، الباب ٨ من أبواب الخيار ، الحديث ١ .
٢ . الوسائل : ١٢ ، الباب ٩ من أبواب الخيار ، الحديث ٦ .
و « الجواهر » (١) اتّفاق الأصحاب عليه . ويدلّ عليه ما في صحيحة علي بن يقطين (٢) : « فإن قبض بيعه وإلّا فلا بيع بينهما » والمراد من « البيع » هو المبيع بقرينة صدر الرواية : « عن الرجل يبيع البيع ولا يُقبضه صاحبه ولا يَقبض الثمن » .
ثمّ إنّ الفعل في قوله : « فإن قبض بيعه » إمّا بالتخفيف أو بالتشديد ، فعلى الأوّل يتعدّى إلى مفعول واحد ، ويكون المراد : فإن قبض صاحبُ البائع ( المشتري ) المبيع ، وعلى الثاني يتعدّى إلى مفعولين ويكون المراد : فإن قبّض البائعُ صاحبَه المبيعَ ، وعلى كلا التقديرين يدلّ على المقصود .
وأمّا خبر إسحاق بن عمّار : « من اشترى بيعاً فمضت ثلاثة أيّام ولم يجئ فلا بيع له » فهو أيضاً دالّ على شرطية عدم قبض المبيع ، لأنّ المقصود قوله : « لم يجئ » هو أنّه « لم يجئ ليقبض المبيع » بقرينة قوله : « من اشترى بيعاً » فيدلّ على شرطية عدم القبض كالرواية السابقة .
الثاني : عدم قبض الثمن
اتّفقت كلمتهم على هذا الشرط ، وهو ظاهر الأخبار وقد تكرّرت هذه الجملة : « إن جاء بينه وبين ثلاثة أيّام وإلّا فلا بيع له » الظاهر في عدم دفع الثمن . حتّى أنّ بعضهم جعل الموضوع عدم المجيء بالثمن ، سواء أقبض المثمن أم لا ، فهو شرط متّفق عليه ، وقبض بعض الثمن ، كـ « لا قبض » ، لعدم كونه ثمناً .
ولو قبضه بلا إذن فهو كـ « لا قبض » ، لأنّ تعيين ما في الذمّة في فرد ، من صلاحيات المشتري لا البائع ، اللّهمّ إلّا إذا كان ممتنعاً ، فيتعيّن بتعيين الفقيه .
__________________
١ . الحدائق : ١٩ / ٤٥ ؛ الجواهر : ٢٣ / ٥٣ .
٢ . الوسائل : ١٢ ، الباب ٩ من أبواب الخيار ، الحديث ٣ .
وبالجملة إنّ ولاية المشتري في تعيين الثمن الكلّي في فرد بعدُ باقية ، فلا يتعيّن بدون إذنه .
الثالث : تأخير الثمن ثلاثة أيّام
المتبادر من الروايات أنّ التحديد بثلاثة ، تحديد شرعي وإمهال مولوي من جانب الشارع للمشتري ، ومن المعلوم أنّ الإمهال إنّما هو في مورد لم يكن هناك مجوّز للتأخير كاشتراطه في متن العقد .
الرابع : أن يكون المبيع عيناً أو شبهها كصاع من صبرة
ويمكن استظهاره مضافاً إلى وروده في عبارة « الخلاف » و « المهذّب » وغيرهما من كتب الأصحاب ، أنّه ورد في النصوص الجمل التالية : ١ . « يشتري من الرجل المتاع ثمّ يدعه عنده » ؛ ٢ . « اشتريت محملاً » و ٣ . « عن الرجل يشتري المتاع أو الثوب » وكلّها ظاهرة في الشخصي ، ولا يعمّ الكلّي .
نعم هنا طائفة ثانية يستظهر منها العموم ، أعني :
١ . ما رواه ابن عيّاش عن أبي عبد الله عليهالسلام : « من اشترى شيئاً » .
٢ . ما رواه علي بن يقطين عن أبي الحسن عليهالسلام : « يبيع البيع » .
٣ . ما رواه إسحاق بن عمّار عن العبد الصالح : « من اشترى بيعاً » .
ويمكن أن يقال إنّه لا يستفاد من الطائفة الأُولى الاختصاص بالشخص ، كما لا يستفاد من الثانية العموم لعدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة .
غير أنّ هذا الخيار
لما كان على خلاف القاعدة ، فإنّ الجواز بعد اللزوم ثبت تعبّداً فيقتصر على المتيقّن من الموارد ، وهو المبيع الشخصي ، مضافاً إلى
المناسبة
المغروسة في الأذهان من أنّ هذا الخيار لأجل ذبّ الضرر عن جانب البائع ، وهو موجود في الشخصي دون الكلّي ، لا أقول إنّ الحكم دائر مدار الضرر ، ولكن يمكن أن يكون قرينة على الانصراف .
مسقطات خيار التأخير
يسقط هذا الخيار بأُمور :
١ . إسقاطه بعد الثلاثة قولاً وفعلاً .
٢ . إسقاطه في الثلاثة قولاً وفعلاً ، وليس الإسقاط في هذا القسم من قبيل إسقاط ما لم يجب ، لما عرفت من كفاية وجود المقتضي وهو العقد فيصح إسقاطه كسائر الخيارات كالمجلس والحيوان .
٣ . اشتراط سقوطه في متن العقد ، ووجه الصحّة ما ذكرناه .
وأمّا سقوطه ببذل المشتري الثمن بعد الثلاثة ، فالأقوى عدم سقوطه لظهور الروايات في أنّ التأخير تمام الثلاثة علّة تامّة للخيار ، والبذل بعده لا تأثير له في إزالة الخيار ؛ ولو شكّ في بقاء الخيار وعدمه ، فإطلاق الروايات الدال على بقاء الخيار مطلقاً ، سواء أبذل بعد الثلاثة أم لا ، كاف في رفع الشكّ من دون حاجة إلى استصحاب بقاء الخيار .
ولو أخذ البائع الثمن بعد الثلاثة من المشتري ، فلو نوى عند الأخذ الالتزامَ بالبيع فالخيار يسقط ، وإلّا فلا ، هذا حسب الثبوت ؛ وأمّا الإثبات ، فالظاهر انّه يحكم عليه بالإسقاط إذا كان عالماً بالموضوع والحكم ، فلا يقبل منه تفسير الأخذ بغير هذا الوجه .
ومثله مطالبة الثمن بعد الثلاثة فالظاهر أنّه لا يدلّ على الإسقاط ، إذ من المحتمل أن يكون لأجل استكشاف حال المشتري وانّه هل هو مستعد لدفع الثمن فيمضى العقد ، أو لا ، فيفسخ ، فلو ادّعى ذلك يقبل منه .
ثمّ إنّ خيار التأخير غير فوري لإطلاق الروايات .
لو اشترى ما يفسد من يومه
لو اشترى ما يفسد من يومه ولم يجئ بالثمن . ففي مرسلة محمّد بن أبي حمزة : في الرجل يشتري الشيء الذي يفسد من يومه ويتركه حتّى يأتيه بالثمن ؟ قال : « إن جاء فيما بينه وبين الليل بالثمن وإلّا فلا بيع له » . (١)
وفي خبر (٢) زرارة ، عن أبي عبد الله عليهالسلام في حديث قال : « العهدة فيما يفسد من يومه مثل البقول والبطيخ والفواكه يوم إلى الليل » . (٣)
إنّما الكلام في تبيين ما هو المقصود من « ما يفسد من يومه » فهنا احتمالان :
١ . المراد منه ما يفسد قرب دخول الليل ، فيكون الخيار في أوّل أزمنة الفساد .
يلاحظ عليه : بأنّ الخيار لا يجدي في هذا الحال .
٢ . أنّ المراد منه هو اليوم مع ليله ، فالمفسد هو مبيته ، فيكون للبائع مجال لبيعه من غيره قبل المبيت .
__________________
١ . الوسائل : الجزء ١٢ ، الباب ١١ من أبواب الخيار ، الحديث ١ .
٢ . في سنده حسن بن رباط ، ولم يوثّق ، لكن الروايتين عمل بهما المشهور .
٣ . الوسائل : الجزء ١٢ ، الباب ١١ من أبواب الخيار ، الحديث ٢ .