روح المعاني - ج ١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

الصَّابِرِينَ) خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل من تتأتى منه البشارة ، والجملة عطف على ما قبلها عطف المضمون على المضمون من غير نظر إلى الخبرية والإنشائية ـ والجامع ظاهر ـ كأنه قيل : الابتلاء حاصل لكم ـ وكذا البشارة ـ ولكن لمن صبر منكم. وقيل : على محذوف أي أنذر الجازعين وبشر ، وفي توصيف الصابرين بقوله تعالى :

(الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) إشارة إلى أن الأجر لمن صبر وقت إصابتها ، كما في الخبر «إنما الصبر عند أول صدمة» والمصيبة تعم ما يصيب الإنسان من مكروه في نفس أو مال أو أهل ـ قليلا كان المكروه أو كثيرا ـ حتى لدغ الشوكة ، ولسع البعوضة ، وانقطاع الشسع ، وانطفاء المصباح ، وقد استرجع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من ذلك وقال : «كل ما يؤذي المؤمن فهو مصيبة له وأجر» وليس الصبر بالاسترجاع باللسان ، بل الصبر باللسان وبالقلب بأن يخطر بباله ما خلق لأجله من معرفة الله تعالى وتكميل نفسه ، وأنه راجع إلى ربه وعائد إليه بالبقاء السرمدي ، ومرتحل عن هذه الدنيا الفانية وتارك لها على علاتها ، ويتذكر نعم الله تعالى عليه ليرى ما أعطاه أضعاف ما أخذ منه فيهون على نفسه ويستسلم له ، والصبر من خواص الإنسان لأنه يتعارض فيه العقل والشهوة ، والاسترجاع من خواص هذه الأمة ، فقد أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال : قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : «أعطيت أمتي شيئا لم يعطه أحد من الأمم ، أن تقول عند المصيبة إنا لله وإنا إليه راجعون» وفي رواية «أعطيت هذه الأمة عند المصيبة شيئا لم تعطه الأنبياء قبلهم ، إنا لله وإنا إليه راجعون ولو أعطيها الأنبياء قبلهم لأعطيها يعقوب إذ يقول : يا أسفا على يوسف» ويسن أن يقول بعد الاسترجاع : اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها ، فقد أخرج مسلم عن أم سلمة قالت : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم آجرني إلخ ، إلا آجره الله تعالى في مصيبته وأخلف له خيرا منها» قالت فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخلف الله تعالى لي خيرا منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومفعول (بَشِّرِ) محذوف أي برحمة عظيمة وإحسان جزيل ـ بدليل قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) الصلاة في الأصل على ما عليه أكثر أهل اللغة الدعاء ومن الله تعالى الرحمة ، وقيل : الثناء ، وقيل : التعظيم ، وقيل : المغفرة ، وقال الإمام الغزالي : الاعتناء بالشأن ، ومعناها الذي يناسب أن يراد هنا سواء كان حقيقيا أو مجازيا الثناء والمغفرة لأن إرادة الرحمة يستلزم التكرار ، ويخالف ما روي «نعم العدلان للصابرين الصلاة والرحمة» وحملها على التعظيم والاعتناء بالشأن يأباهما صيغة الجمع ثم إن جوزنا إرادة المعنيين بتجويز عموم المشترك أو الجمع بين الحقيقة والمجاز أو بين المعنيين المجازيين يمكن إرادة المعنيين المذكورين كليهما وإلا فالمراد أحدهما والرحمة تقدم معناها ، وأتي بعلى إشارة إلى أنهم منغمسون في ذلك وقد غشيهم وتجللهم فهو أبلغ من اللام ، وجمع (صَلَواتٌ) للإشارة إلى أنها مشتملة على أنواع كثيرة على حسب اختلاف الصفات التي بها الثناء والمعاصي التي تتعلق بها المغفرة ، وقيل : للإيذان بأن المراد صلاة بعد صلاة على حد التثنية في «لبيك وسعديك» وفيه أن مجيء الجمع لمجرد التكرار لم يوجد له نظير ، والتنوين فيها وكذا فيما عطف عليها للتفخيم والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لإظهار مزيد العناية بهم ـ ومن ـ ابتدائية ، وقيل تبعيضية ، وثم مضاف محذوف أي من (صَلَواتٌ) ربهم ، وأتي بالجملة اسمية للإشارة إلى أن نزول ذلك عليهم في الدنيا والآخرة. فقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني ، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه مرفوعا «من استرجع عند المصيبة جبر الله تعالى مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفا صالحا يرضاه» و (أُولئِكَ) إشارة كسابقه إلى الصابرين المنعوتين بما

٤٢١

ذكر من النعوت ، والتكرير لإظهار كمال العناية بهم ، ويجوز أن يكون إشارة إليهم باعتبار حيازتهم ما ذكر من ـ الصلوات والرحمة ـ المترتبة على ما تقدم ، فعلى الأول المراد بالاهتداء في قوله عزّ شأنه (هُمُ الْمُهْتَدُونَ). هو الاهتداء للحق والصواب مطلقا ؛ والجملة مقررة لما قبل كأنه قيل : وأولئك هم المختصون بالاهتداء لكل حق وصواب ، ولذلك استرجعوا واستسلموا لقضاء الله تعالى ، وعلى الثاني هو «الاهتداء» والفوز بالمطالب ، والمعنى (أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) [التوبة : ٢٠] بمطالبهم الدينية والدنيوية فإن من نال تزكية الله تعالى ورحمته لم يفته مطلب.

«ومن باب الإشارة والتأويل» (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان العياني (اسْتَعِينُوا) بالصبر معي عند سطوات تجليات عظمتي وكبريائي ، والصلاة أي الشهود الحقيقي (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) المطيقين لتجليات أنواري (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ) يجعل فانيا مقتولا في سلوك سبيل التوحيد (أَمْواتٌ) أي عجزة مساكين (بَلْ) هم (أَحْياءٌ) عند ربهم بالحياة الحقيقية الدائمة السرمدية شهداء لله تعالى قادرون به (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) لعمى بصيرتكم وحرمانكم من النور الذي تبصر به القلوب أعيان عالم القدس وحقائق الأرواح (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ) أي خوفي الموجب لانكسار النفس وانهزامها (وَالْجُوعِ) الموجب لهتك البدن وضعف القوى ورفع حجاب الهوى وتضييق مجاري الشيطان إلى القلب (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ) التي هي مواد الشهوات المقوية للنفس الزائدة في طغيانها (وَالْأَنْفُسِ) المستولية على القلب بصفاتها أو أنفس الأحباب الذين تأوون إليهم لتنقطعوا إلي (وَالثَّمَراتِ) أي الملاذ النفسانية لتلتذوا بالمكاشفات والمعارف القلبية والمشاهدات الروحية عند صفاء بواطنكم وخلوص نضار قلوبكم بنار الرياضة (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) معي بي أو عن مألوفاتهم بلذة محبتي (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) من تصرفاتي فيهم شاهدوا آثار قدرتي بل أنوار تجليات صفتي واستسلموا وأيقنوا أنهم ملكي أتصرف فيه بتجلياتي وتفانوا فيّ وشاهدوا هلكهم بي ـ فقالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ـ بالوجود الموهوب لهم بعد الفناء المنهلة عليه صفاتي الساطعة عليه أنواري (وَرَحْمَةٌ) أي هداية يهدون بها خلقي ، ومن أراد التوجه نحوي (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) بي الواصلون إلي بعد تخلصهم من وجودهم الذي هو الذنب الأعظم عندي.

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢) وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى

٤٢٢

الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧) يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(١٧٩)

٤٢٣

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) لما أشار سبحانه فيما تقدم إلى الجهاد عقب ذلك ببيان معالم الحج فكأنه جمع بين الحج والغزو ، وفيهما شق الأنفس وتلف الأموال ، وقيل : لما ذكر الصبر عقبه ببحث الحج لما فيه من الأمور المحتاجة إليه ، و (الصَّفا) في الأصل الحجر الأملس مأخوذ من صفا يصفو إذا خلص ، واحده صفاة ـ كحصى وحصاة ، ونوى ونواة ـ وقيل : (إِنَّ الصَّفا) واحد قال المبرد وهو كل حجر لا يخالطه غيره من طين أو تراب ، وأصله من الواو لأنك تقول في تثنيته صفوان ولا يجوز إمالته ، (وَالْمَرْوَةَ) في الأصل الحجر الأبيض اللين ـ والمرو ـ لغة فيه ، وقيل : هو جمع مثل تمرة وتمر ، وثم صارا في العرق علمين لموضعين معروفين بمكة للغلبة ، واللام لازمة فيهما ، وقيل : سمي (الصَّفا) لأنه جلس عليه آدم صفي الله تعالى ، وسمي ـ المروة ـ لأنه جلست عليه امرأته حواء ، و ـ الشعائر ـ جمع شعيرة ، أو شعارة ـ وهي العلامة ـ والمراد بهما أعلام المتعبدات أو العبادات الحجية ، وقيل : المعنى إن الطواف بين هذين الجبلين من علامات دين الله تعالى ، أو أنهما من المواضع التي يقام فيها دينه ، أو من علاماته التي تعبد بالسعي بينهما لا من علامات الجاهلية (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) الحج لغة القصد مطلقا أو إلى معظم ، وقيده بعضهم بكونه على وجه التكرار ، و ـ العمرة ـ الزيارة أخذا من العمارة كأن الزائر يعمر المكان بزيارته فغلبا شرعا على المقصد المتعلق بالبيت وزيارته على الوجهين المخصوصين ، و (الْبَيْتَ) خارج من المفهوم ، والنسبة مأخوذة فيه فلا بد من ذكره فلا يرد أن البيت مأخوذ في مفهومهما فيكفي من حج أو اعتمر ولا حاجة إلى أن يتكلف بأنه مأخوذ في مفهوم الاسمين خارج عن مفهوم الفعلين ، وعلى تقدير أخذه في مفهومهما يعتبر التجريد ليظهر شرف البيت (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) أي لا إثم عليه في أن يطوف. وأصل الجناح الميل ، ومنه (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ) [الأنفال : ٦١] وسمي الإثم به لأنه ميل من الحق إلى الباطل ، وأصل يطوف يتطوف فأدغمت التاء في الطاء ، وسبب النزول ما صح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه كان على الصفا صنم على صورة رجل يقال له أساف ، وعلى المروة صنم على صورة امرأة تدعى نائلة زعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخهما الله تعالى حجرين فوضعا على الصفا والمروة ليعتبر بهما فلما طالت المدة عبدا من دون الله تعالى فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بينهما مسحوا الوثنين فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ومن يعلم دفع ما يتراءى انه لا يتصور فائدة في نفي الجناح بعد إثبات أنهما من الشعائر بل ربما لا يتلازمان إذ أدنى مراتب الأول الندب وغاية الثاني الإباحة ، وقد وقع الإجماع على مشروعية الطواف بينهما في الحج والعمرة لدلالة نفي الجناح عليه قطعا لكنهم اختلفوا في الوجوب ، فروي عن أحمد أنه سنة ـ وبه قال أنس وابن عباس وابن الزبير ـ لأن نفي الجناح يدل على الجواز ، والمتبادر منه عدم اللزوم كما في قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) [البقرة : ٢٣٠] وليس مباحا بالاتفاق ولقوله تعالى : (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) فيكون مندوبا ، وضعف بأن نفي الجناح. وإن دل على الجواز المتبادر منه ـ عدم اللزوم إلا أنه يجامع الوجوب فلا يدفعه ولا ينفيه ـ والمقصود ذلك ـ فلعل هاهنا دليلا يدل على الوجوب كما في قوله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) [النساء : ١٠١] ولعل هذا كقولك لمن عليه صلاة الظهر مثلا وظن أنه لا يجوز فعلها عند الغروب فسأل عن ذلك : لا جناح عليك إن صليتها في هذا الوقت فإنه جواب صحيح لا يقتضي نفي وجوب صلاة الظهر ، وعن الشافعي ومالك إنه ركن ـ وهو رواية عن الإمام أحمد ـ واحتجوا بما أخرج الطبراني عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إن الله تعالى كتب عليكم السعي فاسعوا» ومذهب إمامنا أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه واجب يجبر بالدم لأن الآية لا تدل إلا على نفي الإثم المستلزم للجواز ، والركنية لا تثبت إلا بدليل مقطوع به ولم يوجد ، والحديث إنما يفيد حصول الحكم معللا ومقررا في الذهن ، ولا يدل على بلوغه غاية الوجوب بحيث يفوت الجواز بفوته لتتحقق الركنية وهو ظني السند وإن فرض

٤٢٤

قطعي الدلالة فلا يدل على الفرضية ، وما روى مسلم عن عائشة أنها قالت ـ لعمري ما أتم الله تعالى حج من لم يسع بين الصفا والمروة ولا عمرته ـ ليس فيه دليل على الفرضية أيضا سلمنا لكنه مذهب لها ، والمسألة اجتهادية فلا تلزم به على أنه معارض بما أخرجه الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي أنه قال : أتيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالمزدلفة فقلت : «يا رسول الله جئت من جبل طي ما تركت جبلا إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟ فقال : من صلي معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف ، وقد أدرك عرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه ، وقضى تفثه» فأخبر صلى الله تعالى عليه وسلم بتمام حجه ، وليس في السعي بينهما ، ولو كان من فروضه لبينه للسائل لعلمه بجهله ، وقرأ ابن مسعود وأبيّ ـ أن لا يطوف ـ ولا تصلح أن تكون ناصرة للقول الأول لأنها شاذة لا عمل بها مع ما يعارضها ولاحتمال أن «لا» زائدة كما يقتضيه السياق.

(وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) أي من انقاد انقيادا ـ خيرا أو بخير ، أو آتيا بخير ـ فرضا كان أو نفلا ، وهو عطف على (فَمَنْ حَجَ) إلخ مؤكد أمر الحج والعمرة والطواف تأكيد الحكم الكلي للجزئي ، أو من تبرع تبرعا ـ خيرا ـ أو بخير أو آتيا بخير من حج أو عمرة أو طواف لقرينة المساق ، وعليه تكون الجملة مسوقة لإفادة شرعية التنفل بالأمور الثلاثة ، وفائدة (خَيْراً) على الوجهين مع أن التطوع لا يكون إلا كذلك التنصيص بعموم الحكم بأن من فعل خيرا أي خير كان يثاب عليه ، أو من تبرع تبرعا خيرا أو بخير أو آتيا بخير من السعي فقط بناء على أنه سنة ، والجملة حينئذ تكميل لدفع ما يتوهم من نفي الجناح من الإباحة ، وفائدة القيد التنصيص بخيرية الطواف دفعا لحرج المسلمين. وقرأ ابن مسعود ـ ومن تطوع بخير ـ وحمزة والكسائي ويعقوب ـ يطوع ـ على صيغة المضارع المجزوم لتضمن (مِنْ) معنى الشرط وأصله ـ يتطوع ـ فأدغم (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ) أي مجاز على الطاعة بالثواب وفي التعبير به مبالغة في الإحسان إلى العباد. (عَلِيمٌ). مبالغ في العلم بالأشياء فيعلم مقادير أعمالهم وكيفياتها فلا ينقص من أجورهم شيئا ، وبهذا ظهر وجه تأخير هذه الصفة عما قبلها ، ومن قال : أتى بالصفتين هاهنا ـ لأن التطوع بالخير يتضمن الفعل والقصد فناسب ذكر الشكر باعتبار الفعل وذكر العلم باعتبار القصد وأخر صفة العلم وإن كانت متقدمة على الشكر كما أن النية متقدمة على الفعل لتواخي رءوس الآي ـ لم يأت بشيء.

وهذه الجملة علة لجواب الشرط المحذوف قائم مقامه كأنه قيل : ومن تطوع خيرا جازاه الله تعالى أو أثابه فإن الله شاكر عليم ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) اخرج جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال : سأل معاذ بن جبل وسعد بن معاذ. وخارجة بن زيد نفرا من أحبار يهود عن بعض ما في التوراة فكتموهم إياه وأبوا أن يخبروهم فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية ، وعن قتادة أنها نزلت في الكاتمين من اليهود والنصارى ، وقيل : نزلت في كل من كتم شيئا من أحكام الدين لعموم الحكم للكل فقد روى البخاري وابن ماجة وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : لو لا آية في كتاب الله تعالى ما حدثت أحدا بشيء أبدا ثم تلا هذه الآية ، وأخرج أبو يعلى والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من سئل عن علم فكتمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار» والأقرب أنها نزلت في اليهود والحكم عام كما تدل عليه الأخبار وكونها نزلت في اليهود لا يقتضي الخصوص فإن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، فالموصول للاستغراق ويدخل فيه من ذكر دخولا أوليا ، والكتم والكتمان ترك إظهار الشيء قصدا مع مساس الحاجة إليه وتحقق الداعي إلى إظهاره وذلك قد يكون بمجرد ستره وإخفائه وقد يكون بإزالته ووضع شيء آخر موضعه واليهود قاتلهم الله تعالى ارتكبوا كلا الأمرين (ما أَنْزَلْنا) على الأنبياء (مِنَ الْبَيِّناتِ) أي الآيات الواضحة الدالة على الحق ومن ذلك ما أنزلناه على موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤٢٥

(وَالْهُدى) عطف على (الْبَيِّناتِ) والمراد به ـ ما يهدي ـ إلى الرشد مطلقا ومنه ـ ما يهدي ـ إلى وجوب اتباعه صلى الله تعالى عليه وسلم والإيمان به وهي الآيات الشاهدة على صدقه عليه الصلاة والسلام ، والعطف باعتبار التغاير في المفهوم كجاءني الآكل فالشارب ، وقيل : إنه عطف على (ما أَنْزَلْنا) إلخ ، والمراد بالأول الأدلة النقلية ، وبالثاني ما يدخل فيه الأدلة العقلية ، أو المراد بالأول التنزيل ، وبالثاني ما يقتضيه من الفوائد ، ولا يخفى أنه تكلف يأبى عنه قرب المعطوف عليه والتبيين الدال على كمال الوضوح في قوله سبحانه : (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ) أي شرحناه وأظهرناه لهم والظرف متعلق ـ بيكتمون ـ واللام في ـ الناس ـ صلة ـ بينا ـ أو لام الأجل ، والمراد بهم الجنس أو الاستغراق ، وفي تقييد الكتمان بالظرف إشارة إلى شناعة حالهم بأنهم يكتمون ما وضح ـ للناس ـ وإلى عظم الإثم بأنهم يكتمون ما فيه النفع العام (فِي الْكِتابِ) متعلق ـ ببيناه ـ وتعلق جارين بفعل واحد عند اختلاف المعنى مما لا ريب في جوازه ، أو متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعوله ، والمراد به الجنس ، وقيل : التوراة ، وقيل : هي والإنجيل ، وقيل : القرآن ، والمراد من الناس أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، ومن الناس من حمل ـ البينات ـ على ما في القرآن وعلق (مِنْ بَعْدِ) ب (أَنْزَلْنا) ، وفسر (الْكِتابِ) بالتوراة ـ والكتمان ـ بعدم الاعتراف بالحقية ، ولعل ما ذهبنا إليه أولى من جميع ذلك (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ) أي يبعدهم عن رحمته ويذيقهم أليم نقمته والالتفات إلى الغيبة بإظهار اسم الذات لتربية المهابة والإشعار بأن مبدأ صدور اللعن صفة الجلال المغايرة لما هو مبدأ الإنزال والتبيين من صفة الجمال ، ولم يؤت بالفاء في هذه الجملة التي هي خبر الموصول كما أتي به فيما بعد من قوله سبحانه : (فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) مع أن الموصول متضمن لمعنى الشرط وقصد السببية في الموضعين ولذا أورد اسم الإشارة الذي تعليق الحكم به كتعليقه بالمشتق ، قيل : لئلا يتوهم أن ـ لعنهم ـ إنما هو بهذا السبب بناء على أن ـ فاء ـ السببية في الأصل لكونه ـ فاء ـ التعقيب يفيد أن حصول المسبب بعد السبب بلا تراخ ، وقد يقصد منه ذلك بمعونة المقام كما في الآية بعد ، وليس كذلك بل له أسباب جمة وبهذا علم أن اسم الإشارة لا يغني عن الفاء لأنه يشعر بالسببية ولا يشعر بالتعقيب الموهم للانحصار بناء على امتناع التوارد.

(وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) أي من يتأتى منه اللعن عليهم من الملائكة والثقلين ، فالمراد ـ باللاعنون ـ معناه الحقيقي وليس على حد من ـ قتل قتيلا ـ في المشهور ؛ والاستغراق عرفي أي كل فرد مما يتناوله اللفظ بحسب متفاهم العرف ، وليس بحقيقي حتى يرد أنه لا يلعنهم كل لاعن في الدنيا ، ويحتاج إلى التخصيص وإنما أعاد الفعل لأن لعنة اللاعنين بمعنى الدعاء عليهم بالإبعاد عن رحمة الله تعالى ، وروى البيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد تفسير اللاعنين بدواب الأرض حتى العقارب والخنافس ، ولعل الجمع حينئذ على حد قوله تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤] واستدل بهذه الآية على وجوب إظهار علم الشريعة وحرمة كتمانه لكن اشترطوا لذلك أن لا يخشى العالم على نفسه وأن يكون متعينا وإلا لم يحرم عليه الكتم إلا إن سئل فيتعين عليه الجواب ما لم يكن إثمه أكبر من نفعه قالوا : وفيها دليل أيضا على وجوب قبول خبر الواحد لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله ، وقد يستدل بها على عدم وجوب ذلك على النساء بناء على أنهن لا يدخلن في خطاب الرجال.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) أي رجعوا عن الكتمان أو عنه وعن سائر ما يجب أن يتاب عنه بناء على أن حذف المعمول يفيد العموم ، وفيه إشارة إلى أن التوبة عن الكتمان فقط لا يوجب صرف اللعن عنهم ما لم يتوبوا عن الجميع فإن للعنهم أسبابا جمة (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا بالتدارك فيما يتعلق بحقوق الحق والخلق ومن ذلك أن يصلحوا قومهم بالإرشاد إلى الإسلام بعد الإضلال وأن يزيلوا الكلام المحرف ويكتبوا مكانه ما كانوا أزالوه عند التحريف (وَبَيَّنُوا)

٤٢٦

أي أظهروا ما بينه الله تعالى للناس معاينة وبهذين الأمرين تتم التوبة ، وقيل : أظهروا ما أحدثوه من التوبة ليمحوا سمة الكفر عن أنفسهم ويقتدي بهم أضرابهم فإن إظهار التوبة ممن يقتدي به شرط فيها على ما يشير إليه بعض الآثار ، وفيه إن الصحيح أن إظهار التوبة إنما هو لدفع معصية المتابعة وليس شرطا في التوبة عن أصل المعصية فهو داخل في قوله تعالى : (وَأَصْلَحُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) بالقبول وإفاضة المغفرة والرحمة (وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) عطف على ما قبله تذييل له والالتفات إلى التكلم للافتنان مع ما فيه من الرمز إلى اختلاف مبدأ فعليه السابق واللاحق (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) الموصول للعهد كما هو الأصل ، والمراد به الذين كتموا وعبر عن الكتمان بالكفر نعيا عليهم به ، والجملة عديلة لما فيها (إِلَّا) ولم تعطف عليها إشارة إلى كمال التباين بين الفريقين ، والآية مشتملة على الجمع والتفريق جمع الكاتمين في حكم واحد وهو أنهم ملعونون ثم فرق فقال : أما الذين تابوا فقد تاب الله تعالى عليهم وأزال عنهم عقوبة اللعنة ، وأما الذين ماتوا على الكتمان ولم يتوبوا عنه فقد استقرت عليهم اللعنة ولم تزل عنهم. وأورد كلمة الاستثناء في الجملة الأولى مع أنه ليس للإخراج عن الحكم السابق بل هو بمعنى لكن للدلالة على أن التوبة صارت مكفرة للعن عنهم فكأنهم لم يباشروا ولم يدخلوا تحته ـ قاله بعض المحققين ـ وفيه ارتكاب خلاف الظاهر في الاستثناء ولهذا قال البعض إن المراد بالجملة المستثنى منها بيان دوام اللعن واستمراره وعليه يدور الاستثناء المتصل ، وجملة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلخ مستأنفة سيقت لتحقيق بقاء اللعن فيما وراء الاستثناء وتأكيد دوامه واستمراره على غير التائبين والاقتصار على ذكر الكفر في الصلة من غير تعرض لعدم التوبة والإصلاح والتبيين مبني على أن وجود الكفر مستلزم لعدمها جميعها كما أن وجودها مستلزم للإيمان الموجب لعدم الكفر ، ولذا لم يصرح بالإيمان في صفات التائبين ، والفرق بين الدوامين أن الأول تجددي ، والثاني ثبوتي ـ ولا يخفى أن هذا أوفق بظاهر اللفظ ـ وما ذكره بعض المحققين أجزل معنى وأعلى كعبا وأدق نظرا ، وقيل : الموصول عام للذين كتموا وغيرهم كما يقتضيه ظاهر الصلة ، والآية من باب التذييل فيدخل الكاتمون الذين ماتوا على الكتمان دخولا أوليا ، واعترض بأن تقييد الوعيد بعدم التخفيف أعدل شاهد على أن الآية في شأن الكاتمين الذين ماتوا على ذلك لأنهم أشد الكفرة وأخبثهم فإن الوعيد في حق الكفرة مطلق الخلود في النار ، وأنت تعلم أن هذا في حيز المنع بل ما من كافر جهنمي إلا وحاله يوم القيامة طبق ما ذكر في الآية ولا أظنك في مرية من ذلك بعد سماع قوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) [الزخرف : ٧٥] فلا يبعد القول بحسن هذا القيل ـ وإليه ذهب الإمام ـ وكلام الطيبي يشير إلى حسنه وطيبه فتدبر.

(أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) المراد استمرار ذلك ودوامه فهذا الحكم غير ما سبق إذ المراد منه حدوث اللعنة ووقوعها عليهم وليس المقصود من ذكر ـ الملائكة والناس ـ التخصيص لينافي العموم السابق ولا العموم ليرد خروج المهيمين الذين لا شعور لهم بذواتهم وكثير من الأتقياء الذين لا يلعنون أحدا بل المقصود أنه يلعنهم هؤلاء المتعدون من خلقه و (أَجْمَعِينَ) تأكيد بالنسبة إلى الكل لا للناس فقط ، والمراد بهم المؤمنون لأنهم المعتدّون منهم ، والكفار كالإنعام لأنه لا يحسم مادة الإشكال ، وقيل : إنه باق على عمومه والكفار يلعن بعضهم بعضا يوم القيامة ، أو الجملة مساقة للإخبار باستحقاق أولئك اللعن من العموم لا بوقوعه بالفعل ولم يكرر اللعنة هنا كما كرر الفعل قبل اكتفاء به وافتنانا في النظم الكريم ومناسبة لما يشعر به التأكيد. وقرأ الحسن ـ والملائكة والناس أجمعون ـ بالرفع ، وخرج على وجوه ، فقيل : عطف على (لَعْنَةُ) بتقدير لعنة الله ولعنة الملائكة فحذف المضاف من الثاني وأقيم المضاف إليه مقامه ، وقيل : مبتدأ محذوف الخبر أي ـ والملائكة ، والناس يلعنونهم ـ أو فاعل لفعل محذوف أي

٤٢٧

يلعنهم ، وقيل إن (لَعْنَةُ) مصدر مضاف إلى فاعله والمرفوع معطوف على محله ، وقد أتبعت العرب فاعل المصدر على محله رفعا كقوله :

* مشى الهلوك عليها الخيعل «الفضل» * برفع الفضل وهو صفة للهلوك على الموضع ، وإذا ثبت في النعت جاز في العطف إذ لا فارق بينهما ، وادعى أبو حيان عدم الجواز لأن شرط العطف على الموضع أن يكون ثمت طالب ومحرز للموضع لا يتغير ، وأيضا (لَعْنَةُ) وإن سلم مصدريته فهو إنما يعمل إذا انحل ـ لأن ، والفعل ـ وهنا المقصود الثبوت فلا يصح انحلاله لهما وسلمه له غيره ، وقالوا : إنه مذهب سيبويه (خالِدِينَ فِيها) أي في اللعنة ، وهو يؤكد ما تفيده اسمية الجملة من الثبات ، وجوز رجوع الضمير إلى النار والإضمار قبل الذكر يدل على حضورها في الذهن المشعر بالاعتناء المفضي إلى التفخيم والتهويل ، وقيل : إن اللعن يدل عليها إذ استقرار الطرد عن الرحمة يستلزم الخلود في النار خارجا وذهنا ، والموت على الكفر وإن استلزم ذلك خارجا لكنه لا يستلزمه ذهنا فلا يدل عليه ، و (خالِدِينَ) على كلا التقديرين في المرجع حال مقارن لاستقرار اللعنة لا كما قيل : إنه على الثاني حال مقدرة (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) إما مستأنف لبيان كثرة عذابهم من حيث الكيف إثر بيانه كثرته من حيث الكم ، وإما حال من ضمير عليهم أيضا أو من ضمير (خالِدِينَ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) عطف على ما قبله جار فيه ما جرى فيه ، وإيثار الجملة الاسمية لإفادة دوام النفي واستمراره ، والفعل إما من الإنظار بمعنى التأخير ـ أي لا يمهلون ـ عن العذاب ولا يؤخرون عنه ساعة. وإما من النظر بمعنى الانتظار أي ـ لا ينتظرون ـ ليعتذروا ، وإما من النظر بمعنى الرؤية أي ـ لا ينظر الله تعالى إليهم نظر رحمة ـ والنظر بهذا المعنى يتعدى بنفسه أيضا كما في الأساس فيصاغ منه المجهول. (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) نزلت كما روي عن ابن عباس لما قال كفار قريش للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم : صف لنا ربك ، والخطاب عام لكل من يصح أن يخاطب كما هو الظاهر غير مختص بشأن النزول ، والجملة معطوفة على (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) عطف القصة على القصة ، والجامع أن الأولى مسوقة لإثبات نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهذه لإثبات وحدانيته تعالى ، وقيل : الخطاب للكاتمين ، وفيه انتقال عن زجرهم عما يعاملون رسولهم إلى زجرهم عن معاملتهم ربهم حيث يكتمون وحدانيته ، ويقولون : عزير ، وعيسى ـ ابنان لله عزوجل ، وفيه أنه وإن حسن الانتظام إلا أنه فيه خروج شأن النزول عن الآية ـ وهو باطل ـ وإضافة ـ إله ـ إلى ضمير المخاطبين باعتبار الاستحقاق لا باعتبار الوقوع فإن الآلهة الغير المستحقة كثيرة ، وإعادة لفظ ـ إله ـ وتوصيفه بالوحدة لإفادة أن المعتبر الوحدة في الألوهية ، واستحقاق العبادة ، ولو لا ذلك لكفي ـ وإلهكم واحد ـ فهو بمنزلة وصفهم الرجل ـ بأنه سيد واحد ، وعالم واحد ـ وقال أبو البقاء : إله ـ خبر المبتدأ ، و (واحِدٌ) صفة له ، والغرض هنا هو الصفة إذ لو قال : ـ وإلهكم واحد ـ لكان هو المقصود إلا أن في ذكره زيادة تأكيد ، وهذا يشبه الحال الموطئة كقولك : مررت بزيد رجلا صالحا ، وكقولك في الخبر : زيد شخص صالح ، ولعل الأول ألطف ، وأكثر الناس على أن الواحد هنا بمعنى لا نظير له ولا شبيه في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، وقيل : إن المراد به ما ليس بذي أبعاض ولا يجوز عليه الانقسام ولا يحتمل التجزئة أصلا ، وليس المعنى به هنا مبدأ العدد ، وأصح الأقوال عند ذوي العقول السليمة أنه الذي لا نظير له ولا شبيه له في استحقاق العبادة ، وهو مستلزم لكل كمال آب عما فيه أدنى وصمة وإخلال (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) خبر ثان للمبتدإ أو صفة أخرى للخبر أو جملة معترضة لا محل لها من الإعراب ، وعلى أي تقدير هو مقرر للوحدانية ، ومزيح ـ على ما قيل ـ لما عسى أن يتوهم أن في الوجود إلها لكن لا يستحق العبادة ، والضمير المرفوع على الصحيح بدل من الضمير المستكن في الخبر المحذوف فهو بدل مرفوع من ضمير مرفوع ، وقد اختلف في المنفي هل المعبود بحق أو المعبود بباطل ، فقال محمد الشيشيني : النفي إنما تسلط

٤٢٨

على الآلهة المعبودة بباطل تنزيلا لها منزلة العدم ، وقال عبد الله الهبطي : إنما تسلط على الآلهة المعبودة بحق ولك انتصر بعض ، وذكر الملوي أن الحق مع الثاني لأن المعبود بباطل له وجود في الخارج ، ووجود في ذهن المؤمن بوصف كونه باطلا ، ووجود في ذهن الكافر بوصف كونه حقا فهو من حيث وجوده في الخارج في نفسه لا تنفى لأن الذات لا تنفى ، وكذا من حيث كونه معبودا بباطل لا ينفى أيضا إذ كونه معبودا بباطل أمر حق لا يصح نفيه وإلا كان كذبا ، وإنما ينفى من حيث وجوده في ذهن الكافر من حيث وجوده في ذهنه بوصف كونه معبودا بحق ، فالمعبودات الباطلة لم تنف إلا من حيث كونها معبودة بحق لم ينف في هذه الكلمة إلا المعبود بحق غيره تعالى فافهم ، وسيأتي تحقيق ما في هذه الكلمة الطيبة في محله إن شاء الله تعالى : (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ). خبران آخران بعد خبر أو خبرين لقوله تعالى (إِلهُكُمْ) أو لمبتدإ محذوف والجملة معترضة ، أو بدلان على رأي وجيء بهما لتمييز الذات الموصوفة بالوحدة عما سواه وليكون الجواب ، موافقا لما سألوه وفي ذلك إشارة إلى حجة الوحدانية لأنه لما كان مولى النعم كلها أصولا وفروعا دنيا وأخرى ، وما سواه إما خير محض أو خير غالب ، وهو إما نعمة أو منعم عليه لم يستحق العبادة أحد غيره لاستواء الكل في الاحتياج إليه تعالى في الوجود وما يتبعه من الكمالات.

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أخرج البيهقي عن أبي الضحى ـ معضلا ـ أنه كان للمشركين حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما ، فلما سمعوا هذه الآية تعجبوا وقالوا : إن كنت صادقا فأت بآية نعرف بها صدقك ، فنزلت. ولفرط جهلهم لم يكفهم الحجة الإجمالية المشير إليها الوصفان ، وإنما جمع (السَّماواتِ) وأفرد (الْأَرْضِ) للانتفاع بجميع أجزاء الأولى باعتبار ما فيها من نور كواكبها وغيره دون الثانية فإنه إنما ينتفع بواحدة من آحادها ـ وهي ما نشاهده منها ـ وقال أبو حيان : لم تجمع (الْأَرْضِ) لأن جمعها ثقيل وهو مخالف للقياس ، ورب مفرد لم يقع في القرآن جمعه لثقله وخفة المفرد ، وجمع لم يقع مفرده ـ كالألباب ـ وفي المثل السائر نحوه ، وقال بعض المحققين : جمع (السَّماواتِ) لأنها طبقات ممتازة كل واحدة من الأخرى بذاتها الشخصية كما يدل عليه قوله تعالى : (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [البقرة : ٢٩] سواء كانت متماسة ـ كما هو رأي الحكيم ـ أو لا ، كما جاء في الآثار ـ أن بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام ـ مختلفة الحقيقة لما أن الاختلاف في الآثار المشار إليه بقوله تعالى : (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) [فصلت : ١٢] يدل عليه ، ولم يجمع (الْأَرْضِ) لأن طبقاتها ليست متصفة بجميع ذلك فإنها سواء كانت متفاصلة بذواتها ، كما ورد في الأحاديث ـ من أن بين كل أرضين كما بين كل سماءين ـ أو لا تكون متفاصلة ـ كما هو رأي الحكيم ـ غير مختلفة في الحقيقة اتفاقا.

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي تعاقبهما وكون كل منهما خلفا للآخر ، أو (اخْتِلافِ) كل منهما في أنفسهما ازديادا وانتقاصا ، أو ظلمة ونورا ، وقدم (اللَّيْلِ) لسبقه في الخلق أو لشرفه.

(وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) عطف على (خَلْقِ السَّماواتِ) لا على (السَّماواتِ) أو عطف على (اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ) من الألفاظ التي استعملت مفردا وجمعا ، وقدر بينهما تغاير اعتباري ، فإن اعتبر أن ضمته أصلية كضمة ـ قفل ـ فمفرد ، وإن اعتبر أنها عارضة كضمة ـ أسد ـ فجمع ، ومن الأول قوله تعالى : (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [الشعراء : ١١٩] ومن الثاني قوله تعالى : (إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس : ٢٢] وقيل : إنه جمع فلك ـ بفتح الفاء وسكون اللام ـ وقيل : إنه اسم جمع ، وزعم بعضهم أنه قرئ «فلك» بضمتين وهو عند بعض مفرد لا غير وقال الكواشي : الفلك ، والفلك ـ بضمتين ـ لغتان الواحد والجمع سواء في اللفظ ، ويعرف ذلك بجمع ضمير فعلهما وإفراده.

٤٢٩

(بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) «ما» إما مصدرية أي ـ بنفعهم ـ أو موصولة أي ـ بالذي ينفعهم ـ وعلى الأول ضمير الفاعل إما ـ للفلك ـ لأنه مذكر اللفظ مؤنث المعنى ـ كما قيل ـ أو ـ للجري ـ أو ـ للبحر ـ واحتمال كونها موصوفة لا يلائمه مقام الاستدلال (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) عطف على (الْفُلْكِ) قيل : وتأخيره عن ذكرها مع كونه أعم منها نفعا لما فيه من مزيد تفضيل ، وقيل : المقصود من الأول الاستدلال ب (الْبَحْرِ) وأحواله لا ب (الْفُلْكِ) الجاري فيه لأن الاستدلال بذلك إما بصنعته على وجه يجري في الماء ، أو العلم بكيفية اجرائه ، أو ـ بتسخير الريح والبحر ـ لذلك ، أو توسله إلى (بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) وشيء منها ليس من حاله في نفس ، ولأن الاستدلال ـ بالفلك الجاري في البحر ـ استدلال بحال من أحوال (الْبَحْرِ) بخلاف ما لو استدل ب (الْبَحْرِ) وجميع أحواله فإنه أعم وأليق بالمقام ، إلا أنه خص (الْفُلْكِ) بالذكر مع أن مقتضى المقام حينئذ أن يقال : والعجائب التي في البحر ـ لأنه سبب الاطلاع على أحواله وعجائبه ـ فكان ذكره ذكرا لجميع أحواله ، وطريقا إلى العلم بوجوه دلالته ، ولذلك قدم على ذكر ـ المطر والسحاب ـ لأن منشأهما البحر في غالب الأمر ، وإلا فالمناسب بعد ذكر (اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) الذي هو من الآيات العلوية ذكر ـ المطر والسحاب ـ اللذين هما من كائنات الجو وعدم نظم (الْفُلْكِ) في البين لكونها من الآيات السفلية. وعندي أن هذا خلاف الظاهر جدا ـ وإن جل قائله ـ إذ يؤول المعنى إلى ـ والبحر الذي تجري فيه الفلك بما ينفع الناس ـ وهو قلب للنظم الكريم بغير داع إليه ولا دليل يعول عليه ، وأي مانع من كون الاستدلال باختلاف الفلك وذهابها مرة كذا ومرة كذا على حسب ما تحركها المقادير الإلهية ، أو بالفلك الجارية في البحر من حيث إنها جارية فيه موقرة مقبلة ومدبرة ، متعلقة بحبال الهواء على لطفه ، وكثافتها لا ترسب إلى قاع البحر مع تلاطم أمواجه واضطراب لججه ، وكون شيء من ذلك ليس حالا لها في نفسها غير مسلم ، ووجه الترتيب ـ على ما أرى ـ أنه سبحانه ذكر أولا خلق أمرين علوي وسفلي ، واختلاف شيئين بمدخلية أمرين سماوي وأرضي «ثانيا» إذ تعاقب الليل والنهار أو اختلافهما ازديادا وانتقاصا أو ظلمة ونورا إنما هو بمدخلية سير الفلك وحيلولة جرم الأرض على كيفيتين مخصوصتين ، ثم عقب ذلك بما يشبه آيتي الليل والنهار السابح كل منهما في لجة بحر فلكه الدوار المسخر بالجريان فيه ذهابا وإيابا (بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) في أمر معاشهم وانتظام أحوالهم ، وهو (الْفُلْكِ) التي تجري على كبد (الْبَحْرِ) بذلك ، ويختلف جريانها شرقا وغربا على حسب تسليك المقادير الإلهية لها في هاتيك المسالك ، فالآية حينئذ على حد قوله تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [يس : ٣٧ ـ ٤١] إلا أن الفرق بين الآيتين أن الآيتين في الثانية ذكرتا متوسطتين صريحا بين حديث الفلك وشأن الليل والنهار ، وفي الأولى تقدم ما يشعر بهما ويشير إليهما ، ثم عقب ذلك بما يشترك فيه العالم العلوي والعالم السفلي ، وله مناسبة لذكر (الْبَحْرِ) بل ولذكر (الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي) فيه (بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) وهو إنزال الماء من السماء ونشر ما كان دفينا في الأرض بالإحياء ، وفي ذلك النفع التام والفضل العام. و (مِنَ) الأولى ابتدائية والثانية بيانية ، وجوّز أن تكون تبعيضية وأن تكون بدلا من الأولى ، والمراد من (السَّماءِ) جهة العلو ، وقد تقدم تحقيق ذلك (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ) بتهييج قواها النامية ، وإظهار ما أودع فيها من أنواع النبات والأزهار والأشجار (بَعْدَ مَوْتِها) وعدم ظهور ذلك فيها لاستيلاء اليبوسة عليها حسبما تقتضيه طبيعتها (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) عطف إما على (أَنْزَلَ) والجامع كون كل منهما آية مستقلة لوحدانيته تعالى وهو الغرض المسوق له الكلام مع الاشتراك في الفاعل ، و (فَأَحْيا) من تتمة الأول كان الاستدلال بالإنزال المسبب عنه الإحياء فلا يكون الفصل به مانعا للعطف ، إما على «أحيا» فيدخل تحت فاء السببية ، وسببية إنزال «الماء»

٤٣٠

للبث باعتبار أن الماء سبب حياة المواشي والدواب ـ والبث ـ فرع الحياة ، ولا يحتاج إلى تقدير الضمير للربط لا غناء فاء السببية عنه في المشهور ، وقيل : يحتاج إلى تقدير به ـ أي بالماء ـ ليشعر بارتباطه ب (أَنْزَلَ) استقلالا كأحيا وفاء السببية لا تكفي في ذلك إذ يجوز أن يكون السبب مجموعهما ، وحديث أن المجرور إنما يحذف إن جر الموصول بمثله أكثري لا كلي ، و «من» بيانية على التقدير الأول على الصحيح ، والمراد (مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) كل نوع من الدواب ، ومعنى ـ بثها ـ تكثيرها بالتوالد والتولد ، فالاستدلال بتكثير كل نوع مما يدب على الأرض وعدم انحصاره في البعض ، وقيل : تبعيضية لأن الله تعالى لم يبث إلا بعض الأفراد بالنسبة إلى ما في قدرته ، على أنه أثبت الزمخشري دواب في السماء أيضا في سورة «حمعسق» ، وفيه أن بث كل نوع مما يدب على الأرض لا ينافي كون بعض أفراده مقدرا ولا وجوده في السماء ، على أن مدلول التبعيضية كون شيء جزءا من مدخولها لا فردا منه ، وزائدة على التقدير الثاني لعدم تقدم المبين ، وعدم صحة التبعيض ، وهي زيادة في الإثبات لم يجوزها سوى الأخفش (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) أي تقليب الله تعالى لها جنوبا وشمالا وقبولا ودبورا ، حارة. وباردة. وعاصفة. ولينة. وعقيما. ولواقح ، وتارة بالرحمة ومرة بالعذاب ، وقرأ حمزة والكسائي الريح على الإفراد وأريد به الجنس ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ الرياح ـ للرحمة والريح للعذاب ، وروي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا هبت ريح «قال : اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» ولعله قصد بالأول ، والثاني قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) [الروم : ٤٦] وقوله تعالى : (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) [الذاريات : ٤١] وعقب إحياء الأرض بالمطر ، وبث كل دابة فيها بتصريف الرياح لأن في ذلك تربية النبات وبقاء حياة الحيوانات التي تدب على وجه الأرض ولو أمسك الله تعالى الريح ساعة لأنتن ما بين السماء والأرض كما نطق به بعض الآثار (وَالسَّحابِ) عطف على ما قبله ، وهو اسم جنس واحده سحابة سمي بذلك لانسحابه في الجو أو لجر الرياح له (الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) صفة ـ للسحاب ـ باعتبار لفظه ، وقد يعتبر معناه فيوصف بالجمع ك (سَحاباً ثِقالاً) [الأعراف : ٥٧] و «بين» ظرف لغو متعلق بالمسخر ومعنى تسخيره أنه لا ينزل ولا يزول مع أن الطبع يقتضي صعوده إن كان لطيفا وهبوطه إن كان كثيفا ، وقيل : الظرف مستقر وقع حالا من ضمير المسخر ومتعلقه محذوف أي المسخر للرياح حيث تقلبه في الجو بمشيئة الله تعالى ، وتوقيت تصريف الرياح بالسحاب لأنه كالمعلول للرياح كما يشير إليه قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) [الروم : ٤٨ ، فاطر : ٩] ولأن في جعله ختم المتعاطفات مراعاة في الجملة لما بدئ به منها لأنه أرضي سماوي فينتظم بدء الكلام وختمه ، وبما ذكرنا علم وجه الترتيب في الآية ، وقال بعض الفضلاء : لعل تأخير تصريف الرياح وتسخير السحاب في الذكر عن جريان الفلك وإنزال الماء مع انعكاس الترتيب الخارجي للإشعار باستقلال كل من الأمور المعدودة في كونها آية ولو روعي الترتيب الخارجي لربما توهم كون المجموع المرتب بعضه على بعض آية واحدة ، ولا يخفى أنه يبعد هذا التوهم ظاهر قوله تعالى : (لَآياتٍ) اسم «إن» دخلته ـ اللام ـ لتأخره عن خبرها والتنكير للتفخيم كما وكيفا أي آيات عظيمة كثيرة دالة على القدرة القاهرة والحكمة الباهرة والرحمة الواسعة المقتضية لاختصاص الإلهية به سبحانه (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي يتفكرون ، فالعقل مجاز عن التفكر الذي هو ثمرته ، أخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما قرأ هذه الآية قال : «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» وفيها تعريض بجعل المشركين الذين اقترحوا على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم آية تصدقه وتسجيل عليهم بسخافة العقول ، وإلا فمن تأمل في تلك الآيات وجد كلا منها مشتملا على وجوه كثيرة من الدلالة على وجوده تعالى ووحدانيته وسائر صفاته الكمالية الموجبة لتخصيص العبادة به تعالى واستغنى عن سائرها ، ومجمل القول في ذلك أن كل واحد من هذه الأمور المعدودة قد وجد على وجه خاص من الوجوه الممكنة دون ما عداه مستتبعا لآثار معينة ،

٤٣١

وأحكام مخصوصة من غير أن تقتضي ذاته وجوده فضلا عن وجوده على النمط الكذائي فإذا لا بد له من موجد لامتناع وجود الممكن بلا موجد ، قادر إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ، حكيم عالم بحقائق الأشياء وما فيها من المفاسد والمصالح يوجده حسبما يستدعيه علمه بما فيه من المصلحة وتقتضيه مشيئته ، متعال عن مقابلة غيره إذ لو كان معه واجب يقدر على ما يقدر الحق تعالى عليه فإن وافقت إرادة كل منهما إيجاده على وجه مخصوص أراده الآخر فالتأثير إن كان لكل منهما لزم اجتماع فاعلين على أثر واحد وهو يستلزم اجتماع العلتين التامتين ، وإن كان الفعل لأحدهما لزم ترجيح الفاعل من غير مرجح لاستوائهما في إرادة إيجاده على الاستقلال ، وعجز الآخر لما أن الفاعل سد عليه إيقاع ما أراده ، وإن اختلفت الإرادتان بأن أراد أحدهما وجوده على نحو ، وأراد الآخر وجوده على نحو آخر لزم التمانع والتطارد لعدم المرجح فيلزم عجزهما والعجز مناف للألوهية بديهة ، وفي الآية إثبات الاستدلال بالحجج العقلية وتنبيه على شرف علم الكلام وفضل أهله وربما أشارت إلى شرف علم الهيئة.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) بيان لحال المشركين بعد بيان الدلائل الدالة على توحيده تعالى ، و «من» دون الله حال من ضمير «يتخذ» و ـ الأنداد ـ الأمثال والمراد بها الأصنام كما هو الشائع في القرآن ، والمروي عن قتادة ومجاهد وأكثر المفسرين ، وقيل : الرؤساء الذين يطيعونهم طاعة الأرباب من الرجال ، وروي عن السدي ـ ونسب إلى الصادق رضي الله تعالى عنه ـ وقيل : المراد أعم منهما وهو ما يشغل عن الله تعالى والمعنى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ) متجاوزين الإله الواحد الذي ذكرت شئونه الجليلة أمثالا فلا يقصرون الطاعة عليه سبحانه بل يشاركونهم إياه ، وإيثار الاسم الجليل لتعيينه تعالى بالذات غبّ تعيينه بالصفات (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) إما جملة مستأنفة أو صفة الأنداد ، أو صفة ـ لمن ـ إذا جعلتها نكرة موصوفة مسوقة لبيان وجه الاتخاذ ، و ـ المحبة ـ ميل القلب من الحب واحد الحبوب استعير لحبة القلب وسويدائه ثم اشتق منه الحب لأنه يؤثر في صميم القلب ويرسخ فيه ، ومحبة العباد لله تعالى عند جمهور المتكلمين نوع من الإرادة سواء قلنا إنها نفس الميل التابع لاعتقاد النفع كما هو رأي المعتزلة ، أو صفة مرجحة مغايرة له كما هو مذهب أهل السنة فلا تتعلق إلا بالجائزات ولا يمكن تعلقها بذاته تعالى فمحبة العبد له سبحانه إرادة طاعته وتحصيل مراضيه وهذا مبني على انحصار المطلوب بالذات في اللذة ورفع الألم ، والعارفون بالله سبحانه قالوا : إن الكمال أيضا محبوب لذاته فالعبد يحب الله تعالى لذاته لأنه الكامل المطلق الذي لا يداني كماله كمال ، وأما محبة خدمته وثوابه فمرتبة نازلة ، ومحبة الله تعالى للعباد صفة له عز شأنه لا تتكيف ولا يحوم طائر الفكر حول حماها ، وقيل : إرادة إكرامه واستعماله في الطاعة وصونه عن المعاصي ، والمراد بالمحبة هنا التعظيم والطاعة أي أنهم يسوون بين الله تعالى وبين الأنداد المتخذة فيعظمونهم ويطيعونهم كما يعظمون الله تعالى ويميلون إلى طاعته ، وضمير الجمع المنصوب راجع إلى الأنداد فإن أريد بها الرؤساء فواضح وإلا فالتعبير عنها بضمير العقلاء باعتبار ذلك الزعم الباطل أنهم أنداد الله تعالى والمصدر المضاف من المبني للفاعل وفاعله ضميرهم بقرينة سبق الذكر وإن المشركين يعترفون به تعالى ويلجئون إليه في الشدائد (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥ ، الزمر : ٣٨] (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [العنكبوت : ٦٥] ، وقيل وهو الخلاف الظاهر وعدول عما يقتضيه كون جملة ـ يحبونهم بيانا لوجه الاتخاذ إنه مصدر المبني للمفعول واستغني عن ذكر من يحب لأنه غير ملبس ، والمعنى على تشبيه محبوبية الأنداد من جهة المشركين بمحبوبيته تعالى من جهة المؤمنين ، ولا ينافي ذلك قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) لأن التشبيه إنما وقع بين المحبوبيتين وذلك يقتضي أن يكون محبوبية الأصنام مماثلا لمحبوبيته تعالى ، والترجيح بين المحبتين لكن باعتبار رسوخ إحداهما دون الأخرى فإن المراد

٤٣٢

بشدة محبة المؤمنين شدتها في المحل وهو رسوخها فيهم وعدم زوالها عنهم بحال لا كمحبة المشركين لآلهتهم حيث يعدلون عنها إلى الله تعالى عند الشدائد ويتبرءون منها عند معاينة الأهوال ويعبدون الصنم زمانا ثم يرفضونه إلى غيره وربما أكلوه ـ كما يحكى : أن باهلة كانت لهم أصنام من حيس فجاعوا في قحط أصابهم فأكلوها ـ ولله أبوهم فإنه لم ينتفع مشرك بآلهته كانتفاع هؤلاء بها فإنهم ذاقوا حلاوة الكفر ، وليس المراد من شدة المحبة شدتها. وقوتها في نفسها ليرد أنا نرى الكفار يأتون بطاعات شاقة لا يأتي بشيء منها أكثر المؤمنين فكيف يقال : إن محبتهم أشد من محبتهم ومن هذا ظهر وجه اختيار ـ أشد حبا ـ على أحب إذ ليس المراد الزيادة في أصل الفعل بل الرسوخ والثبات وهو ملاك الأمر ؛ ولهذا نزل (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) [هود : ١١٢] وكان أحب الأعمال إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أدومها ، وقال العلامة : عدل عن أحب إلى أشد ـ لأنه شاع في الأشد محبوبية ـ فعدل عنه احترازا عن اللبس ، وقيل : إن أحب أكثر من حب ، فلو صيغ منه أفعل لتوهم أنه من المزيد.

(وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي لو يعلم هؤلاء (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالاتخاذ المذكور ، ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أن ذلك ـ الاتخاذ ـ ظلم عظيم ، وأن اتصاف المتخذين به أمر معلوم مشهور حيث عبر عنه بمطلق الظلم ، والموصول والصلة للاشعار بسبب ـ رؤيتهم العذاب ـ المفهومة من قوله سبحانه :

(إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) أي عاينوا (الْعَذابَ) المعد لهم وأبصروه يوم القيامة ، وأورد صيغة المستقبل بعد (لَوْ) و (إِذْ) المختصين بالماضي لتحقق مدلوله فيكون ماضيا تأويلا مستقبلا تحقيقا فروعي الجهتان.

(أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) ساد مسد مفعولي يرى ، وجواب (لَوْ) محذوف للإيذان بخروجه عن دائرة البيان ، أي لوقعوا من الحسرة والندامة فيما لا يكاد يوصف ، وقيل : هو متعلق الجواب ـ والمفعولان محذوفان ـ والتقدير (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أندادهم لا تنفع لعلموا (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) لا ينفع ولا يضر غيره. وقرأ ابن عامر ونافع ويعقوب «ترى» على أن الخطاب له صلى الله تعالى عليه وسلم ، أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب ، فالجواب حينئذ ـ لرأيت أمرا لا يوصف من الهول والفظاعة ـ وابن عامر «إذ يرون» بالبناء للمفعول ، ويعقوب «إن» بالكسر ، وكذا (وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) على الاستئناف أو إضمار القول ـ أي قائلين ذلك ـ وفائدة هذه الجملة المبالغة في تهويل الخطب وتفظيع الأمر ، فإن اختصاص (الْقُوَّةَ) به تعالى لا يوجب شدة «العذاب» لجواز تركه عفوا مع القدرة عليه (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا) بدل من (إِذْ يَرَوْنَ) مطلقا وجاز الفصل بين البدل والمبدل منه بالجواب ومتعلقة لطول البدل ، وجوّز أن يكون ظرفا ل (شَدِيدُ الْعَذابِ) أو مفعولا ـ لاذكروا ـ وزعم بعضهم أنه بدل من مفعول «ترى» على قراءة الخطاب ، كما أن (إِذْ يَرَوْنَ) بدل منه أيضا (أَنَّ الْقُوَّةَ) في موضع بدل الاشتمال من (الْعَذابَ) ولا يخفى أن هذا يقتضي جواز تعدد البدل ولم يعثر عليه في شيء من كتب النحو ، وأيضا يرد عليه أن المبدل منه في بدل الاشتمال يجب أن يكون متقاضيا للبدل دالا عليه إجمالا ، وأن يكون البدل مشتملا على ضمير المبدل منه ـ وكلاهما مفقودان ـ والمعنى «إذ تبرأ» الرؤساء المتبعون (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) أي المرءوسين بقولهم : (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) [القصص : ٦٣] وقرأ مجاهد «الأول» على البناء للفاعل «والثاني» على البناء للمفعول ، أي تبرأ الأتباع وانفصلوا عن متبوعيهم ، وندموا على عبادتهم (وَرَأَوُا الْعَذابَ) حال من ـ الأتباع والمتبوعين ـ كما في لقيته راكبين ـ أي رائين له ـ فالواو ـ للحال ، وقد مضمرة ، وقيل : عطف على (تَبَرَّأَ) وفيه أنه يؤدي إلى إبدال (وَرَأَوُا الْعَذابَ) من (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) وليس فيه كثير فائدة لأن فاعل الفعلين ـ وإن كانا متغايرين ـ إلا أن تهويل الوقت باعتبار ما وقع فيه ـ وهو رؤية العذاب ـ ولأن الحقيق بالاستفظاع ـ هو تبرءوهم حال رؤية العذاب ـ لا هو نفسه ،

٤٣٣

وأجيب أن البدل الوقت المضاف إلى الأمرين ، والمبدل منه الوقت المضاف إلى واحد ـ وهو الرؤية فقط ـ وفيه أن هذا أيضا لا يخرج ذلك عن الركاكة (إِذْ) بعد تهويل الوقت بإضافته إلى ـ رؤية العذاب ـ لا حاجة إلى جمعها مع التبري بخلاف ما إذا جعل حالا ، فإن البدل هو التبرؤ الواقع في حال رؤية العذاب.

(وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) إما عطف على (تَبَرَّأَ) أو (رَأَوُا) أو حال ، ورجح الأول لأن الأصل في ـ الواو ـ العطف ، وفي الجملة الاستقلال ولإفادته تكثير أسباب التهويل والاستفظاع مع عدم الاحتياج إلى تقدير قد والباء من (بِهِمُ) للسببية ، أي (تَقَطَّعَتْ) بسبب كفرهم (الْأَسْبابُ) التي كانوا يرجون منها النجاة ، وقيل : للملابسة أي ـ تقطعت الأسباب ـ موصولة (بِهِمُ) كقولك : خرج زيد بثيابه ، وقيل : بمعنى عن ، وقيل : للتعدية ، أي ـ قطعتهم الأسباب ـ كما تقول : تفرقت بهم الطريق ، ومنه قوله تعالى : (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الإنعام : ١٥٣] وأصل ـ السبب ـ الحبل مطلقا ، أو الحبل الذي يتوصل به إلى الماء ، أو الحبل الذي أحد طرفيه متعلق بالسقف ، أو الحبل الذي يرتقي به النخل. والمراد ب (الْأَسْبابُ) هنا الوصل التي كانت بين ـ الأتباع والمتبوعين ـ في الدنيا من الأنساب والمحاب ، والاتفاق على الدين ، والاتباع والاستتباع ، وقرئ (تَقَطَّعَتْ) بالبناء للمفعول ـ وتقطع ـ جاء لازما ومتعديا (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) أي لو ثبت لنا عودة ورجوع إلى الدنيا.

(فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ) أي من المتبوعين (كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يطيعوا الله تعالى فيتبرءوا من متبوعيهم في الآخرة إذا حشروا جميعا مثل تبري المتبوعين منهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم ، أي كما جعلوا بالتبري غائظين متحيرين على متابعتهم نجعلهم أيضا بالتبري غائظين متحيرين على ما حصل لنا بترك متابعتهم ، ولذا لم يتبرءوا منهم قبل تمني الرجوع لأنه لا يغيظ المتبوعين حيث تبرءوا من الأتباع أو لا ، ومن هنا يظهر وجه القراءة على البناء للفاعل لأن تبرؤ الأتباع من المتبوعين بالآخرة بالانفصال عنهم بعد ما تبين لهم عدم نفعهم ، وذلك لا يغيظ المتبوعين لاشتغال كل منهم بما يقاسيه ، فلذا تمنوا الرجوع إلى الدنيا ليتبرءوا منهم تبرءوا يغيظهم. وأما قوله سبحانه : (كَما تَبَرَّؤُا) فلا يقتضي إلا وقوع التبرؤ من المتبوعين ـ وهو منصوص في آية أخرى ـ ولا يقتضي أن يكون مذكورا فيما سبق ، وقيل : إن الأتباع بعد أن ـ تبرءوا ـ من المتبوعين يوم القيامة تمنوا الكرة إلى الدنيا مع متبوعيهم ليتبرءوا منهم فيها ويخذلوهم ـ فيجتمع لهم ذل الدنيا والآخرة ـ ويحتاج هذا التوجيه إلى اعتبار التغليب في (لَنا) أي لنا ولهم ، إذ التبرؤ في الدنيا إنما يتصور إذا رجع كلتا الطائفتين.

(كَذلِكَ) في موضع المفعول المطلق لما بعده ، والمشار إليه الإراء المفهوم من (إِذْ يَرَوْنَ) أي كإراء العذاب المتلبس بظهور أن (الْقُوَّةَ لِلَّهِ) والتبري ، وتقطع الأسباب ، وتمني الرجعة.

(يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) وجوّز أن يكون المشار إليه المصدر المفهوم مما بعد ـ والكاف ـ مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة ومحله النصب على المصدرية أيضا ، أي ذلك الإراء الفظيع يريهم على حد ما قيل في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] والجملة تذييل لتأكيد الوعيد ، وبيان حال المشركين في الآخرة وخلود عذابهم ، ويجوز أن تكون استئنافا كأنه لما بولغ في وعيدهم وتفظيع عذابهم كان محل أن يتردد السامع ويسأل هل لهم سوى ذلك من العذاب أم تم؟ فأجيب بما ترى ، و (حَسَراتٍ) أي ندمات وهو مفعول ثالث ليرى إن كانت الرؤية قلبية ، وحال من (أَعْمالَهُمْ) إن كانت بصرية ، ومعنى رؤية هؤلاء المشركين (أَعْمالَهُمْ) السيئة يوم القيامة (حَسَراتٍ) رؤيتها مسطورة في كتاب (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩] وتيقن الجزاء عليها ، فعند ذلك يندمون على ما فرطوا في جنب الله تعالى ، و (عَلَيْهِمْ) صفة (حَسَراتٍ) وجوّز

٤٣٤

تعلقه بها على حذف المضاف أي تفريطهم لأن ـ حسر ـ يتعدى ـ بعلى ـ واستدل بالآية من ذهب إلى أن الكفار مخاطبون بالفروع (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) المتبادر في أمثاله حصر النفي في المسند إليه نحو (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) [هود : ٢٩] (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) [هود : ٩١] ففيه إشارة إلى عدم خلود عصاة المؤمنين الداخلين في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) في النار ، وإذا أريد من (الَّذِينَ ظَلَمُوا) الكفار مطلقا دون المشركين فقط كان الحصر حقيقيا ، ويكون المقصود منه المبالغة في الوعيد بأنه لا يشاركهم في الخلود غيرهم ، فإن الشركة تهوّن العقوبات ، وقيل : إن المقصود نفي أصل الفعل لأنه اللائق بمقام الوعيد ـ لا حصر النفي ـ إذ ليس المقام مقام تردد ونزاع في أن الخارج هم أو غيرهم على الشركة أو الانفراد وإن كان صحيحا بالنظر إلى العصاة إلا أنه غير إلى ما ترى إفادة للمبالغة في الخلود ، والإقناط عن الخلاص ، والرجوع إلى الدنيا ، وزيادة ـ الباء ـ وإخراج ذواتهم من عداد الخارجين لتأكيد النفي ، وأنت تعلم أنه إذا لم يعتبر في الحصر حال المخاطب لم يبق فيه ما يقال سوى أن ظواهر بعض الآيات تقتضي عدم إرادة الحصر ، ومن ذلك قوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) [المائدة : ٣٧] فليس القول بعدم الحصر نصا في الاعتزال كما وهم.

«ومن باب الإشارة في الآيات» (إِنَّ الصَّفا) أي الروح الصافية عن دون المخالفات (وَالْمَرْوَةَ) أي النفس القائمة بخدمة مولاها من إعلام دين الله ومناسكه القلبية والقالبية ، فمن بلغ مقام الوحدة الذاتية ، ودخل بيت الحضرة الإلهية بالفناء عن السوي أوزار الحضرة بتوحيد الصفات واتزر بأنوار الجلال والجمال فلا حرج عليه حينئذ (أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ويرجع إلى مقامهما بالوجود الموهوب بعد التمكين المطلوب (وَمَنْ) تبرع (خَيْراً) بالتعليم والنصيحة وإرشاد المسترشدين فإن الله يشكر عمله ويعلم جزاءه (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) ما أفضنا عليهم من أنوار المعارف وهدى الأحوال (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي) كتاب عقولهم المنورة بنور المتابعة (أُولئِكَ) يبعدهم الله تعالى ويحجبهم عنه (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) من الملأ الأعلى فلا يمدونهم ، ومن المستعدين فلا يصحبونهم (إِلَّا الَّذِينَ) رجعوا إلى الله تعالى وعلموا أن ما هم فيه ابتلاء منه عزوجل ، وأصلحوا أحوالهم بالرياضة ، وأظهروا ما احتجب عنهم بصدق المعاملة (فَأُولئِكَ) أقبل توبتهم (وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) واحتجبوا عن الحق ، وبقوا على احتجابهم حتى زال استعدادهم وانطفأ نور فطرتهم (أُولئِكَ) استحقوا الطرد والبعد عن الحق وعالم الملكوت ، (خالِدِينَ) في ذلك (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) لرسوخ الأمور الموجبة له فيهم (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) للزوم تلك الهيئات المظلمة إياهم (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) بالذات لا شيء في الوجود غيره فأنى يعبد سواه ، وهو العدم البحت إن في إيجاد سماوات الأرواح وأرض النفوس ، واختلاف النور والظلمة بينهما ، وفلك البدن التي تجري في بحر الاستعداد بما ينفع الناس في كسب كمالاتهم ، وتكميل نشأتهم ، وما أنزل الله من سماء الأرواح من ماء العلم فأحيا به أرض النفوس بعد موتها بالجهل وبث فيها القوى الحيوانية ، وفرق في أفلاكها سيارات عالم الملكوت ، وتصريف رياح النفحات المحركة لأغصان أشجار الشوق في رياض القلوب وسحاب التجليات المسخر بين سماء الروح وأرض النفس ليمطر قطرات الخطاب على نيران الألباب لتسكن ساعة من الاحتراق بالتهاب نار الوجد لآيات ودلائل (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) بالعقل المنور بالأنوار القدسية المجرد عن شوائب الوهم ، ومن الناس من يعبد من دون الله أشياء منعته عن خدمة سيده ، والتوجه إليه يحبونهم ويميلون إليهم كحبهم لله ويسوون بينهم وبينه سبحانه لأنهم لم يذوقوا لذة محبته ولم يروا نور مشاهدته وحقائق وصله وقربه (وَالَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان الكامل (أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) لأنهم مستغرقون بمشاهدته هائمون بلذيذ خطابه من عهد (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) لا يلتفتون إلى سواه طرفة عين فهيهات أن يزول حبهم أو يميل إلى

٤٣٥

الأغيار لبهم وهم أحبوه بحبه وصارت قلوبهم عرش تجلياته وقربه (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) وأشركوا من هو في الحقيقة لا شيء ولا حي ولا لي في وقت رؤيتهم عذاب الاحتجاب عن رب الأرباب ، وإن القدرة لله جميعا ، وليس لآلهتهم التي ألهتهم عنه منها شيء لندموا وتحسروا حيث لم يقصدوا وجه الله تعالى ولم يطلبوه ، وعند ذلك يتبرأ الأتباع من المتبوعين وقد (رَأَوُا) عذاب الحرمان (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ) الوصل التي كانت بينهم في الدنيا وتمنوا ما لا يمكن بحال وبقوا بحسرة وعذاب. وكذا يكون حال القوى الروحانية الصافية للقوى النفسانية التابعة لها في تحصيل لذاتها ، وطوبى للمتحابين في الله تعالى عز شأنه.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً) نزلت في المشركين الذين حرموا على أنفسهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ـ كما ذكره ابن جرير وابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ وقيل : في عبد الله بن سلام وأضرابه حيث حرموا على أنفسهم لحم الإبل لما كان حراما في دين اليهود ، وقيل : في قوم من ثقيف وبني عامر بن صعصعة وخزاعة وبني مدلج حيث حرموا التمر والأقط على أنفسهم ، و (حَلالاً) إما مفعول (كُلُوا) أو حال من الموصول ـ أي كلوه حال كونه حلالا ـ أو صفة لمصدر مؤكد أي أكلا حلالا ، ومن على التقديرين الأخيرين للتبعيض ليكون مفعولا به ـ لكلوا ـ وعلى التقدير الأول يجوز أن تكون ابتدائية متعلقة ـ بكلوا ـ أو حالا من (حَلالاً) وقدم عليه لتنكيره ، وأن تكون ابتدائية بل هي متعينة كما في الكشف على مذهب من جعل الأصل في الأشياء الإباحة ، وأن تكون تبعيضية بناء على ما ارتضاه الرضي من أن التبعيضية في الأصل ابتدائية إلا أنه يكون هناك شيء ظاهر أو مقدر هو بعض المجرور ـ بمن ـ ولا يلزم صحة إقامة لفظ البعض مقامها ، والعلامة التفتازاني منع كونها تبعيضية على هذا التقدير لأنها في موضع المفعول به حينئذ ، والفعل لا ينصب مفعولين وهو مبني ـ على ما في التسهيل وغيره ـ أن التبعيض معنى حقيقي ـ لمن ـ وعلامته صحة إقامة لفظ البعض مقامها ، والأمر للوجوب فيما إذا كان الأكل لقوام البنية وللندب كما إذا كان لمؤانسة الضيف وللإباحة فيما عدا ذلك «ومناسبة الآية لما قبلها» أنه سبحانه لما بين التوحيد ودلائله وما للتائبين والعاصين أتبع ذلك بذكر إنعامه وشمول رحمته ليدل على أن الكفر لا يؤثر في قطع الانعام ؛ وقوله تعالى (طَيِّباً) صفة (حَلالاً) ومعناه كما قال الإمام مالك ما يجده فم الشرع لذيذا لا يعافه ولا يكرهه ، أو تراه عينه طاهرا عن دنس الشبهة ، وفائدة وصف الحلال به تعميم الحكم كما في قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) [الإنعام : ٣٨ ، هود : ٦] ليحصل الرد على من حرم بعض الحلالات ، فإن النكرة الموصوفة بصفة عامة تعم بخلاف غير الموصوفة ، وقال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه : المراد به ما تستطيبه الشهوة المستقيمة الناشئة من المزاج الصحيح ، ورد بأن ما لا تستطيبه إما حلال لا شبهة فيه فلا منع وإلا خرج بقيد الحلال ، وأجيب بأن المراد بالحلال ما نص الشارع على حله ـ وبهذا ما لم يرد فيه نص ـ ولكنه مما يستلذ ويشتهيه الطبع المستقيم ، ولم يكن في الشرع ما يدل على حرمته كإسكار وضرر ، والأولى نظرا للمقام أن يقال : إن التقييد ليس للاحتراز عما تستطيبه الشهوة الفاسدة بل لكونه معتبرا في مفهومه إذ لا يقال الطيب واللذيذ إلا على ما تستلذه الشهوة المستقيمة وتكون فائدة التوصيف حينئذ التنصيص على إباحة ما حرموه ، والقول بأن في الآية على هذا التفسير إشارة إلى النهي عن الأكل على امتلاء المعدة والشهوة الكاذبة لأن ذلك لا يستطاب لأن الطعام اللذيذ المأكول كذلك مما تستطيبه الشهوة إلا أنه ليس مأكولا بالشهوة المستقيمة ، وبين المعنيين بعد بعيد كما قاله بعض المحققين ـ واستدل بعضهم بالآية على أن من حرم طعاما مثلا فهو لاغ ولا يحرم عليه ، وفيه خفاء لا يخفى (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي آثاره ـ كما حكي عن الخليل ـ أو أعماله ـ كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ـ أو خطاياه ـ كما نقل عن مجاهد ـ وحاصل المعنى لا تعتقدوا به وتستنوا بسنته

٤٣٦

فتحرموا الحلال وتحللوا الحرام ، وعن الصادق من خطوات الشيطان الحلف بالطلاق والنذور في المعاصي وكل يمين بغير الله تعالى ، وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة بتسكين الطاء وهما لغتان في جمع خطوة وهي ما بين قدمي الماشي ، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه بضمتين وهمزة ، وفي توجيهها وجهان ، الأول ما قيل : إن الهمزة أصلية من الخطأ بمعنى الخطيئة ، والثاني إن الواو قلبت همزة لأن الواو المضمومة تقلب لها نحو ـ أجوه ـ وهذه لما جاورت الضمة جعلت كأنها عليها قال الزجاج : وهذا جائز في العربية ، وعن أبي السمال أنه قرأ بفتحتين على أنه جمع خطوة وهي المرة من الخطو.

(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) تعليل للنهي ، و (مُبِينٌ) من أبان بمعنى بان وظهر أي ظاهر ـ العداوة ـ عند ذوي البصيرة وإن كان يظهر الولاية لمن يغويه ولذلك سمي وليا في قوله تعالى : (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) [البقرة : ٢٥٧] ويحتمل أن يكون ذلك من باب تحيتهم السيف ، وقيل : ـ أبان ـ بمعنى أظهر أي مظهر ـ العداوة ـ والأول أليق بمقام التعليل (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ) استئناف لبيان كيفية عداوته وتفصيل لفنون شره وإفساده وانحصار معاملته معهم في ذلك ، أو علة للعلة بضم ، وكل من هذا شأنه فهو ـ عدو مبين ـ أو علة للأصل بضم ، وكل من هذا شأنه لا يتبع فيكون الحكم معللا بعلتين ـ العداوة ـ والأمر بما ذكر وليس الأمر على حقيقته لا لأن قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : ٤٢ ، الإسراء : ٦٥] ينافي ذلك لكونه مبينا على أن المعتبر في الأمر العلو ـ كما هو مذهب المعتزلة ـ وإلا فمجرد الاستعلاء لا ينافي أن يكون له سلطان ، وعلى أن يكون ـ عبادي ـ لعموم الكل بدليل الاستثناء ، وعلى أن الخطاب في (يَأْمُرُكُمْ) لجميع الناس لا للمتبعين فقط ، ولا منافاة أيضا بل لأنا نجد من أنفسنا أنه لا طلب منه للفعل منا وليس إلا التزيين والبعث فهو استعارة تبعية لذلك ويتبعها الرمز إلى أن المخاطبين بمنزلة المأمورين المنقادين له ، وفيه تسفيه رأيهم وتحقير شأنهم ، ولا يرد أنه إذا كان الأمر بمعنى التزيين فلا بد أن يقال : يأمر لكم ، وإن كان بمعنى البعث فلا بد أن يقال : يأمركم على السوء أو للسوء إذ المذكور لفظ الأمر فلا بد من رعاية طريق استعماله ـ والسوء ـ في الأصل مصدر ساءه يسوءه سوءا أو مساءة إذا أحزنه ، ثم أطلق على جميع المعاصي سواء كانت قولا أو فعلا أو عقدا لاشتراك كلها في أنها تسوء صاحبها ، و (الْفَحْشاءِ) أقبح أنواعها وأعظمها مساءة ، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن السوء ما لا حد فيه ، و (الْفَحْشاءِ) ما فيه حد ، وقيل : هما بمعنى وهو ما أنكره العقل وحكم بأنه ليس فيه مصلحة وعاقبة حميدة واستقبحه الشرع ، والعطف حينئذ لتنزيل تغاير الوصفين منزلة تغاير الحقيقتين فإن ذلك سوء لاغتمام العاقل ، وفحشاء باستقباحه إياه ، ولعل الداعي إلى هذا القول أنه سبحانه سمى جميع المعاصي والفواحش سيئة في قوله جل شأنه : (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) [البقرة : ٨١] و (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود : ١١٤] (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] وسمى جميع المعاصي بالفواحش فقال تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) [الأعراف : ٣٣] ويمكن أن يقال : سلمنا ولكن السيئة والفاحشة إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا فلا يتم الاستدلال (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) عطف على سابقه أي ـ ويأمركم الشيطان بأن تفتروا على الله الكذب بأنه حرم هذا ـ وأحل هذا أو بذلك وبأنه أمر باتخاذ الأنداد ورضي بما أنتم عليه من الإفساد ، والتنصيص على الأمر بالتقول مع دخوله فيما سبق للاهتمام بشأنه ، ومفعول العلم محذوف أي ـ ما لا تعلمون ـ الإذن فيه منه تعالى ، والتحذير عن ذلك مستلزم للتحذير عن التقول عليه سبحانه بما يعلمون عدم الإذن فيه كما هو حال كثير من المشركين استلزاما ظاهرا ، وظاهر الآية المنع من اتباع الظن رأسا لأن الظن مقابل للعلم لغة وعرفا ، ويشكل عليه أن المجتهد يعمل بمقتضى ظنه الحاصل عنده من النصوص فكيف يسوغ اتباعه للمقلد؟! وأجيب بأن الحكم

٤٣٧

المظنون للمجتهد يجب العمل به للدليل القاطع وهو الإجماع ، وكل حكم يجب العمل به قطعا علم قطعا بأنه حكم الله تعالى : وإلا لم يجب العمل به قطعا ، وكل ما علم قطعا أنه حكم الله تعالى فهو معلوم قطعا ، فالحكم المظنون للمجتهد معلوم قطعا وخلاصته أن الظن كاف في طريق تحصيله ثم بواسطة الإجماع على وجوب العمل صار المظنون معلوما وانقلب الظن علما ، فتقليد المجتهد ليس من اتباع الظن في شيء ، وزعم ذلك من اتباع الظن وتحقيقه في الأصول (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) الضمير للناس والعدول عن الخطاب إلى الغيبة للتنبيه على أنهم لفرط جهلهم وحمقهم ليسوا أهلا للخطاب بل ينبغي أن يصرف عنهم إلى من يعقله ، وفيه من النداء لكل أحد من العقلاء على ضلالتهم ما ليس إذا خوطبوا بذلك ، وقيل : الضمير لليهود وإن لم يذكروا بناء على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن الآية نزلت فيهم لما دعاهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الإسلام ، وقيل : إنه راجع إلى من يتخذ أو إلى المفهوم من أن الذين يكتمون ، والجملة مستأنفة بناء على ما روي أنها نزلت في المشركين ، وأنت تعلم أن النزول في حق اليهود أو المشركين لا يقتضي تخصيص الضمير بهم ، وقد شاع أن عموم المرجع لا يقتضي عموم الضمير كما في قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) [البقرة : ٢٢٨] وقوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) [البقرة : ٢٢٨] على أن نظم القرآن الكريم يأبى هذا القيل ، والموصول إما عام لسائر الأحكام الحقة المنزلة من الله تعالى ، وإما خاص بما يقتضيه المقام (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي وجدناهم عليه ، والظرف إما حال من ـ آبائنا ، وألفينا ـ متعد إلى واحد ، وإما مفعول ثان له مقدم على الأول.

(أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) جواب الشرط محذوف أي ـ لو كان آباؤهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين ولا يهتدون إلى الحق لاتبعوهم ـ والواو للحال أو للعطف ، والجملة الشرطية إما حال عن ضمير (قالُوا) أو معطوفة عليه ، والهمزة لإنكار مضمون تلك الجملة وهو التزامهم الاتباع على تقدير ينافيه وهو كونهم غير عاقلين ولا مهتدين المستلزم لالتزامهم الاتباع على أي حال كانوا من غير تمييز ، وعلم بكونهم محقين أو مبطلين وهو التقليد المذموم ـ ويتولد من ذلك الإنكار التعجيب ـ وجوز أن تكون الجملة حالا عن ضمير جملة محذوفة أي أيتبعونهم في حال فرضهم غير عاقلين ولا مهتدين ـ وأن تكون معطوفة على شرط مقدر أي ـ يتبعونهم لو لم يكونوا غير عاقلين ، ولو كانوا غير عاقلين ، وإلى الأول ذهب الزمخشري ، وإلى الثاني الجرمي ، ولا يخفى أنه على تقدير حذف الجملة المتقدمة لا يحتاج إلى القول بحذف الجزاء ، ولعل ما ذكر أولا أولى لما فيه من التحرز عن كثرة الحذف وإبقاء (لَوْ) على معناها المشهور ، والهمزة الاستفهامية على أصلها ـ وهو إيلاء المسئول عنه ـ وكون المعنى يدور على العطف على المحذوف في أمثال ذلك في سائر اللغات غير مسلم ، واختار الرضي أن ـ الواو ـ الداخلة على كلمة الشرط في مثل هذا اعتراضية ، وعنى بالجملة الاعتراضية ما يتوسط بين أجزاء الكلام ، أو يجيء آخره متعلقا به معنى مستأنفا لفظا ، قيل : وفي الآية دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر ، وأما اتباع الغير في الدين بعد العلم بدليل ما أنه محق فاتباع في الحقيقة لما أنزل الله تعالى ـ وليس من التقليد المذموم في شيء ـ وقد قال سبحانه : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل : ٤٣].

(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) جملة ابتدائية واردة لتقرير ما قبلها أو معطوفة عليه ، والجامع أن الأولى لبيان حال الكفار وهذه تمثيل لها وفيها مضاف محذوف إما من جانب المشبه أو المشبه به ـ أي مثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق ـ أو مثل الذين كفروا ـ كمثل بهائم الذي ينعق ـ ووضع المظهر ـ وهو الموصول ـ موضع المضمر ـ وهو البهائم ـ ليتمكن من إجراء الصفة التي هي وجه الشبه عليه ، وحاصل

٤٣٨

المعنى على التقديرين أن الكفرة لانهماكهم في التقليد وإخلادهم إلى ما هم عليه من الضلالة لا يلقون أذهانهم إلى ما يتلى عليهم ولا يتأملون فيما يقرر معهم فهم في ذلك كالبهائم التي ينعق عليها وهي لا تسمع إلا جرس النغمة ودويّ الصوت ، وقيل : المراد تمثيلهم في اتباع آبائهم على ظاهر حالهم جاهلين بحقيقتها بالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفهم ما تحته ، أو تمثيلهم في دعائهم الأصنام بالناعق في نعقه وهذا يغني عن الإضمار لكن لا يساعده قوله تعالى : (إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) لأن الأصنام بمعزل عن ذلك فلا دخل للاستثناء في التشبيه إلا أن يجعل من التشبيه المركب ويلتزم كون مجموع (لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) كناية عن عدم الفهم والاستجابة ، والنعيق التتابع في التصويت على البهائم للزجر ، ويقال : نعق الغراب نعاقا ونعيقا إذا صوت من غير أن يمد عنقه ويحركها ، ونغق بالغين بمعناه فإذا مد عنقه وحركها ثم صاح قيل : نعب بالباء ، والدعاء والنداء بمعنى ، وقيل : إن الدعاء ما يسمع ، والنداء قد يسمع وقد لا يسمع ، وقيل : إن الدعاء للقريب والنداء للبعيد (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) رفع على الذم إذ فيه معنى الوصف مع مانع لفظي من الوصف به (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أي لا يدركون شيئا لفقدان الحواس الثلاثة وقد قيل : من فقد حسا فقد فقد علما ، وليس المراد نفي العقل الغريزي باعتبار انتفاء ثمرته ـ كما قيل به ـ لعدم صحة ترتبه بالفاء على ما قبله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أي مستلذاته أو من حلاله ، والآية إما أمر للمؤمنين بما يليق بشأنهم من طلب الطيبات وعدم التوسع في تناول ما رزقوا من الحلال وذا لم يستفد من الأمر السابق ، وإما أمر لهم على طبق ما تقدم إلا أن فائدة تخصيصهم بعد التعميم تشريفهم بالخطاب وتمهيد لطلب الشكر ، و (كُلُوا) لعموم جميع وجوه الانتفاع دلالة وعبارة (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) على ما أنعم به عليكم والالتفات لتربية المهابة (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) بمنزلة التعليل لطلب الشكر كأنه قيل : واشكروا له لأنكم تخصونه بالعبادة وتخصيصكم إياه بالعبادة يدل على أنكم تريدون عبادة كاملة تليق بكبريائه وهي لا تتم إلا بالشكر لأنه من أجل العبادات ـ ولذا جعل نصف الإيمان ـ وورد من حديث أبي الدرداء مرفوعا يقول الله تعالى «إني والإنس والجن في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري» والقول بأن المراد إن كنتم تعرفونه أو إن أردتم عبادته منحط من القول (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) أي أكلها والانتفاع بها وأضاف الحرمة إلى العين ـ مع أن الحرمة من الأحكام الشرعية التي هي من صفات فعل المكلف ، وليست مما تتعلق بالأعيان ـ إشارة إلى حرمة التصرف في الميتة ، وهي التي ماتت من غير ذكاة شرعية من جميع الوجوه بأخصر طريق وأوكده حيث جعل العين غير قابلة لتعلق فعل المكلف بها إلا ما خصه الدليل كالتصرف بالمدبوغ وألحق ب (الْمَيْتَةَ) ما أبين من حي للحديث الذي أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه عن أبي واقد الليثي قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ما قطع من البهيمة ، وهي حية فهي ميتة» وخرج عنها السمك والجراد للحديث الذي أخرجه ابن ماجة والحاكم من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا «أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال» وللعرف أيضا فإنه إذا قال القائل : أكل فلان الميتة لم يسبق الوهم إليهما ، نعم حرم بعضهم ميتة السمك الطافي وما مات من الجراد بغير سبب ، وعليه أكثر المالكية ، واستدل بعموم الآية على تحريم الأجنة ، وتحريم ما لا نفس له سائلة خلافا لمن أباحه من المالكية ، وقرأ أبو جعفر : الميتة مشددة (وَالدَّمَ) قيد في سورة الإنعام بالمسفوح وسيأتي ، واستدل بعمومه على تحريم نجاسة دم الحوت ، وما لا نفس له تسيل (وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) خص اللحم بالذكر مع أن بقية أجزائه أيضا حرام خلافا للظاهرية لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان وسائر أجزائه كالتابع له ، وقيل : خص اللحم ليدل على تحريم عينه ذكي أو لم يذك ، وفيه ما لا يخفى ، ولعل السر في إقحام لفظ اللحم هنا إظهار حرمة ما استطيبوه وفضلوه على سائر اللحوم واستعظموا وقوع تحريمه ، واستدل أصحابنا بعموم الخنزير على حرمة خنزير البخر ، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه : لا بأس به ، وروي عن الإمام مالك أنه قال له شخص : ما تقول في خنزير البحر؟ فقال : حرام ثم جاء آخر فقال له : ما

٤٣٩

تقول في حيوان في البحر على صورة الخنزير؟ فقال حلال ـ فقيل له ـ في ذلك فقال : إن الله تعالى حرم الخنزير ولم يحرم ما هو على صورته ، والسؤال مختلف في الصورتين.

(وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) أي ما وقع متلبسا به أي بذبحه الصوت لغير الله تعالى ، وأصل الإهلال عند كثير من أهل اللغة رؤية الهلال لكن لما جرت العادة أن يرفع الصوت بالتكبير إذا رئي سمي بذلك إهلالا ، ثم قيل لرفع الصوت وإن كان بغيره ، والمراد ـ بغير الله ـ تعالى الصنم وغيره كما هو الظاهر ، وذهب عطاء ومكحول والشعبي والحسن وسعيد بن المسيب إلى تخصيص الغير بالأول وأباحوا ذبيحة النصراني إذا سمى عليها باسم المسيح ، وهذا خلاف ما اتفق عليه الأئمة من التحريم وإنما قدم به هنا لأنه أمس بالفعل وأخر في مواضع أخر نظرا للمقصود فيها من ذكر المستنكر وهو الذبح لغير الله عز شأنه (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ) بالاستتار على مضطر آخر بأن ينفرد بتناوله فيهلك الآخر (وَلا عادٍ) أي متجاوز ما يسد الرمق والجوع وهو ظاهر في تحريم الشبع وهو مذهب الأكثرين فعن الإمام أبي حنيفة والشافعي رضي الله تعالى عنهما لا يأكل المضطر من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه لأن الإباحة للاضطرار ، وقد اندفع به ، وقال عبد الله بن الحسن العبري : يأكل منها قدر ما يسد جوعته ، وخالف في ذلك الإمام مالك فقال : يأكل منها حتى يشبع ويتزود فإن وجد غني عنها طرحها ، ونقل عن الشافعي أن المراد (غَيْرَ باغٍ) على الوالي (وَلا عادٍ) بقطع الطريق وجعل من ذلك السفر في معصية فالعاصي في سفره لا يباح له الأكل من هذه المحرمات ـ وهو المروي عن الإمام أحمد أيضا ـ وهو خلاف مذهبنا ، ويحتاج حكم الرخصة على هذا إلى التقييد بأن لا يكون زائدا على قدر الضرورة من خارج ، واستدل بعموم الآية على جواز أكل المضطر ميتة الخنزير والآدمي خلافا لمن منع ذلك ، وقرأ أهل الحجاز والشام والكسائي (فَمَنِ اضْطُرَّ) بضم النون وأبو جعفر منهم بكسر الطاء من اضطر (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي في تناوله بل ربما يأثم بترك التناول (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فلذا أسقط الحرمة في تناوله ورخص ، وقيل : الحرمة باقية إلا أنه سقط الإثم عن المضطر وغفر له لاضطراره كما هو من تقييد الإثم بعليه ، واستدل للأول بقوله تعالى : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) [الإنعام : ١١٩] حيث استثني من الحرمة ، ثم أعلم أنه ليس المراد من الآية قصر الحرمة على ما ذكر مطلقا كما هو الظاهر حتى يرد منع الحصر بحرمة أشياء لم تذكر بل مقيد بما اعتقدوه حلالا بقرينة أنهم كانوا يستحلون ما ذكر فكأنه قيل : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ) ما ذكر من جهة ما استحللتموه لأشياء أخر ، والمقصود من قصر الحرمة على ما ذكر رد اعتقادهم حليته بأبلغ وجه وآكده فيكون قصر قلب إلا أن الجزء الثاني ليس لرد اعتقاد الحرمة إذ لم يعتقدوا حرمة شيء مما استحلوه بل تأكيد الجزء الأول ، والخطاب للناس باعتبار دخول المشركين فيهم فيكون مفاد الآية الزجر عن تحليل المحرمات كما أن (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا) زجر عن تحريم الحلالات ؛ أو المراد قصر حرمة ما ذكر على حال الاختيار ، كأنه قيل : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ) هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها ، والأنسب حينئذ أن يكون الخطاب للمؤمنين ليكون محط الفائدة هو القيد حيث كانوا معتقدين لحرمة هذه الأمور ، وفائدة الحكم الترخيص بعد التضييق عليهم بطلب الحلال الطيب ، أو تشريفهم بالامتنان بهذا الترخيص بعد الامتنان عليهم بإباحة المستلذات ، واختار بعضهم أن المراد من الحصر رد المشركين في تحريمهم ما أحله الله تعالى ـ من البحيرة والوصيلة والحام ـ وأمثالها لأكلهم من هذه المحرمات المذكورة في الآية ، فكأنهم قالوا : تلك حرمت علينا ولكن هذه أحلت لنا ، فقيل : ما حرمت إلا هذه ـ فهو إذا إضافي ـ وذهب آخرون إلى أنه قصر إفراد بالنسبة إلى ما حرمه المؤمنون مع المذكورات من المستلذات ، وفيه أن المؤمنين لم يعتقدوا حرمة المستلذات بل حرموها على أنفسهم لما سمعوا من شدائد المحاسبة والسؤال عن النعم ، قاله بعض المحققين فليتدبر.

٤٤٠