روح المعاني - ج ١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

أنفسهم لسخط الله تعالى ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم ، وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم حين لم يشكروا النعمة في ذلك وغمطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها ـ وهو مثل في الغباوة والبلادة ـ وقرأ أبو عمرو (بارِئِكُمْ) بالاختلاس ، وروي عنه ـ السكون ـ أيضا وهو من إجراء المتصل من كلمتين مجرى المنفصل من كلمة ، وللناس في تخريجه وجوه لا تخلو عن شذوذ.

(فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) الفاء للتعقيب ، والمتبادر من «القتل» القتل المعروف من إرهاق الروح ـ وعليه جمع من المفسرين ـ والفعل معطوف على سابقه ، فإن كانت توبتهم هو «القتل» إما في حقهم خاصة ، أو توبة المرتد مطلقا في شريعة موسى عليه‌السلام ، فالمراد بقوله تعالى : (فَتُوبُوا) اعزموا على التوبة ـ ليصح العطف ـ وإن كانت هي الندم و «القتل» من متمماتها ـ كالخروج عن المظالم في شريعتنا ـ فهو على معناه ولا إشكال ، وقد يقال : إن التوبة جعلت لهؤلاء عين «القتل» ولا حاجة إلى تأويل «توبوا» باعزموا ، بل تجعل ـ الفاء ـ للتفسير ـ كما تجعل الواو له ـ وقد قيل به في قوله تعالى : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ) [الأعراف : ٣٦] وظاهر الأمر أنهم مأمورون بأن يباشر كل قتل نفسه ، وفي بعض الآثار أنهم أمروا أن يقتل بعضهم بعضا ، فمعنى «اقتلوا أنفسكم» حينئذ ، ليقتل بعضكم بعضا ، كما في قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) [الحجرات : ١١] والمؤمنون كنفس واحدة ، وروي أنه أمر من لم يعبد (الْعِجْلَ) أن يقتل من عبده ، والمعنى عليه استسلموا أنفسكم للقتل ، وسمي الاستسلام للقتل قتلا على سبيل المجاز ، والقاتل إما غير معين ، أو الذين اعتزلوا مع هارون عليه‌السلام ، والذين كانوا مع موسى عليه‌السلام ، وفي كيفية (القتل) أخبار لا نطيل بذكرها ، وجملة القتلى سبعون ألفا ، وبتمامها نزلت التوبة وسقطت الشفار من أيديهم ، وأنكر القاضي عبد الجبار أن يكون الله تعالى أمر بني إسرائيل ـ بقتل أنفسهم ـ وقال : لا يجوز ذلك عقلا ـ إذ الأمر لمصلحة المكلف ـ وليس بعد القتل حال تكليف ليكون فيه مصلحة ، ولم يدر هذا القاضي بأن لنفوسنا خالقا ـ بأمره نستبقيها ، وبأمره نفنيها ـ وأن لها بعد هذه الحياة التي هي لعب ولهو ، حياة سرمدية وبهجة أبدية. وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ، وأن قتلها بأمره يوصلها إلى حياة خير منها ، ومن علم أن الإنسان في هذه الدنيا ـ كمجاهد أقيم في ثغر يحرسه ، ووال في بلد يسوسه ـ وأنه مهما استرد فلا فرق بين أن يأمره الملك بخروجه بنفسه ، أو يأمر غيره بإخراجه ـ وهذا واضح لمن تصور حالتي الدنيا والآخرة ، وعرف قدر الحياتين والميتتين فيهما ، ومن الناس من جوز ذلك ـ إلا أنه استبعد وقوعه ـ فقال : معنى «اقتلوا أنفسكم» ذللوا ، ومن ذلك قوله :

إن التي عاطيتني فرددتها

«قتلت قتلت» فهاتها لم تقتل

ولو لا أن الروايات على خلاف ذلك لقلت به تفسيرا. ونقل عن قتادة أنه قرأ «فأقيلوا أنفسكم» والمعنى أن (أَنْفُسَكُمْ) قد تورطت في عذاب الله تعالى بهذا الفعل العظيم الذي تعاطيتموه ، وقد هلكت ـ فأقيلوها ـ بالتوبة والتزام الطاعة ، وأزيلوا آثار تلك المعاصي بإظهار الطاعات.

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) جملة معترضة للتحريض على التوبة أو معللة ، والإشارة إلى المصدر المفهوم مما تقدم ، و (خَيْرٌ) أفعل تفضيل حذفت همزته ، ونطقوا بها في الشعر قال الراجز : بلال خير الناس وابن الأخير وقد تأتي ـ ولا تفضيل ـ والمعنى أن (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) من العصيان والإصرار على الذنب ـ أو خير من ثمرة العصيان ، وهو الهلاك الدائم ، والكلام ـ على حد العسل ـ أحلى من الخل أو خير من الخيور كائن لكم. والعندية هنا مجاز ، وكرر البارئ بلفظ الظاهر اعتناء بالحث على التسليم له في كل حال ، وتلقي ما يرد من قبله والقبول والامتثال فإنه كما رأى الإنشاء راجحا فأنشأ رأى الإعدام راجحا ، فأمر به وهو العليم الحكيم.

٢٦١

(فَتابَ عَلَيْكُمْ) جواب شرط محذوف بتقدير ـ قد ـ إن كان من كلام موسى عليه‌السلام لهم ، تقديره إن فعلتم ما أمرتم به فقد «تاب عليكم» ومعطوف على محذوف ـ إن كان خطابا من الله تعالى لهم ، كأنه قال : ففعلتم ما أمرتم (فَتابَ عَلَيْكُمْ) بارئكم وفيه التفات لتقدم التعبير عنهم في كلام موسى عليه‌السلام بلفظ القوم وهو من قبيل الغيبة ، أو من التكلم إلى الغيبة في (فَتابَ) حيث لم يقل : فتبنا ، ورجح العطف لسلامته من حذف الأداة والشرط وإبقاء الجواب ، وفي ثبوت ذلك عن العرب مقال ، وظاهر الآية كونها إخبارا عن المأمورين بالقتل الممثلين ذلك وقال ابن عطية : جعل الله تعالى ـ القتل ـ لمن ـ قتل ـ شهادة و «تاب» عن الباقين و «عفا» عنهم ، فمعنى (عَلَيْكُمْ) عنده ، على باقيكم (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) تذييل لقوله تعالى : (فَتُوبُوا) فإن التوبة بالقتل ـ لما كانت شاقة على النفس هونها سبحانه بأنه هو الذي يوفق إليها ويسهلها ويبالغ في الإنعام على من أتى بها ، أو تذييل لقوله تعالى : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) وتفسر «التوبة» منه تعالى حينئذ بالقبول لتوبة المذنبين ـ والتأكيد لسبق الملوح ـ أو للاعتناء بمضمون الجملة ، والضمير المنصوب إن كان ضمير لشأن ـ فالضمير المرفوع مبتدأ ـ وهو الأنسب لدلالته على كمال الاعتناء بمضمون الجملة ، وإن كان راجعا إلى البارئ سبحانه فالضمير المرفوع إما فصل أو مبتدأ ، هذا وحظ العارف من هذه القصة أن يعرف أن هواه بمنزلة عجل بني إسرائيل ـ فلا يتخذه إلها ـ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ، وأن الله سبحانه قد خلق نفسه في أصل لفطرة مستعدة لقبول فيض الله تعالى والدين القويم ومتهيئة لسلوك المنهج المستقيم ، والترقي إلى جناب القدس وحضرة الأنس ، وهذا هو الكتاب الذي أوتيه موسى القلب ، والفرقان الذي يهتدي بنوره في ليالي السلوك إلى حضرة الرب ، فمتى أخلدت النفس إلى الأرض واتبعت هواها ، وآثرت شهواتها على مولاها ، أمرت بقتلها بكسر شهواتها وقلع مشتهياتها ليصح لها البقاء بعد الفناء ، والصحو بعد المحو ، وليست التوبة الحقيقية سوى محو البشرية بإثبات الألوهية ، وهذا هو الجهاد الأكبر والموت الأحمر.

ليس من مات فاستراح بميت

إنما الميت ميت الأحياء

وهذا صعب لا يتيسر إلا لخواص الحق ، ورجال الصدق ، وإليه الإشارة ، ب (موتوا) قبل أن تموتوا. وقيل : أول قدم في العبودية إتلاف النفس وقتلها بترك الشهوات ، وقطعها عن الملاذ ، فكيف الوصول إلى شيء من منازل الصديقين ومعارج المقربين ـ هيهات هيهات ـ ذاك بمعزل عنا ، ومناط الثريا منا

تعالوا نقم مأتما للهموم

فإن الحزين يواسي الحزينا

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) القائل هم السبعون الذين اختارهم موسى عليه‌السلام لميقات التوراة ، قيل : قالوه بعد الرجوع ، وقتل عبدة العجل ، وتحريق عجلهم ، ويفهم من بعض الآثار أن القائل أهل الميقات الثاني الذي ضربه الله تعالى للاعتذار عن عبدة العجل ـ وكانوا سبعين أيضا ، وقيل : القائل عشرة آلاف من قومه ، وقيل : الضمير لسائر بني إسرائيل ـ إلا من عصمه الله تعالى ـ وسيأتي إن شاء الله تعالى في الأعراف ما ينفعك هنا ـ واللام ـ من (لك) إما ـ لام الأجل ـ أو للتعدية بتضمين معنى الإقرار على أن (مُوسى) مقرّ له والمقر به محذوف ، وهو أن الله تعالى أعطاه التوراة ، أو أن الله تعالى كلمه فأمره ونهاه ، وقد كان هؤلاء مؤمنين ـ من قبل ـ بموسى عليه‌السلام ، إلا أنهم نفوا هذا الإيمان المعين والإقرار الخاص. وقيل : أرادوا نفي الكمال أي لا يكمل إيماننا لك ، كما قيل في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه» والقول إنهم لم يكونوا مؤمنين أصلا لم نره لأحد من أئمة التفسير.

(حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً حَتَّى) هنا حرف غاية ، و (الجهرة) في الأصل مصدر جهرت بالقراءة ـ إذا رفعت

٢٦٢

صوتك بها ـ واستعيرت للمعاينة بجامع الظهور التام. وقال الراغب : ـ الجهر ـ يقال لظهور الشيء بإفراط حاسة البصر أو حاسة السمع «أما البصر» فنحو رأيته جهارا «وأما السمع» فنحو (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [طه : ٧] وانتصابها ـ على أنها مصدر ـ مؤكد مزيل لاحتمال أن تكون الرؤية مناما أو علما بالقلب ، وقيل : على أنها حال على تقدير ذوي ـ جهرة ـ أو مجاهرين ، فعلى الأول ـ الجهرة ـ من صفات الرؤية ، وعلى الثاني من صفات الرائين ، وثم قول ثالث ، وهو أن تكون راجعة لمعنى القول أو القائلين ـ فيكون المعنى ـ (وإذ قلتم) كذا قولا (جَهْرَةً) أو جاهرين بذلك القول غير مكترثين ولا مبالين ، وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي عبيدة ، وقرأ سهل بن شعيب وغيره «جهرة» بفتح الهاء ، وهي إما مصدر ـ كالغلبة ـ ومعناها معنى (المسكنة) وإعرابها إعرابها ، أو جمع ـ جاهر ـ كفاسق وفسقة ، وانتصابها على الحال.

(فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) أي استولت عليكم وأحاطت بكم ، وأصل ـ الأخذ ـ القبض باليد ، و (الصَّاعِقَةُ) هنا نار من السماء أحرقتهم ، أو جند سماوي سمعوا حسهم فماتوا ، أو صيحة سماوية خروا لها صعقين ميتين يوما وليلة ، واختلف في (مُوسى) هل أصابه ما أصابهم؟ والصحيح ـ لا ـ وأنه صعق ولم يمت لظاهر ثم أفاق في حقه ، و (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ) إلخ في حقهم ، وقرأ عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما «الصعقة» (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) جملة حالية ومتعلق النظر ما حل بهم من الصاعقة أو أثرها الباقي في أجسامهم بعد البعث ، أو إحياء كل منهم ـ كما وقع في قصة العزير ، قالوا : أحيا عضوا بعد عضو : والمعنى (وَأَنْتُمْ) تعلمون أنها تأخذكم ، أو و (أَنْتُمْ) يقابل بعضكم بعضا ، قال في البحر : ولو ذهب ذاهب إلى أن المعنى (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) إجابة السؤال في حصول الرؤية لكم كان وجها من قولهم : نظرت الرجل ـ أي انتظرته ـ كما قال :

فإنكما إن (تنظراني) ساعة

من الدهر تنفعني لدى أم جندب

لكن هذا الوجه غير منقول فلا أجسر على القول به ، وإن كان اللفظ يحتمله (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) بسبب الصاعقة ، وكان ذلك بدعاء موسى عليه‌السلام ومناشدته ربه بعد أن أفاق ، ففي بعض الآثار أنهم لما ماتوا لم يزل موسى يناشد ربه في إحيائهم ويقول : يا رب إن بني إسرائيل يقولون قتلت خيارنا حتى أحياهم الله تعالى جميعا رجلا بعد رجل ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحييون ، والموت هنا ظاهر في مفارقة الروح الجسد ، وقيد البعث به لأنه قد يكون عن نوم كما هو في شأن أصحاب الكهف ، وقد يكون بمعنى إرسال الشخص ـ وهو في القرآن كثير ـ ومن الناس من قال : كان هذا الموت غشيانا وهمودا لا موتا حقيقة كما في قوله تعالى : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) [إبراهيم : ١٧] ومنهم من حمل الموت على الجهل مجازا كما في قوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : ١٢٢]. وقد شاع ذلك نثرا ونظما ، ومنه قوله :

أخو (العلم حي) خالد بعد موته

وأوصاله تحت التراب رميم

وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى

يظن من الأحياء وهو عديم

ومعنى البعث على هذا التعليم أي ثم علمناكم بعد جهلكم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي نعمة الله تعالى عليكم بالإحياء بعد الموت أو نعمته سبحانه بعد ما كفرتموها إذ رأيتم بأس الله تعالى في رميكم بالصاعقة وإذاقتكم الموت وتكليف من أعيد بعد الموت مما ذهب إليه جماعة لئلا يخلو بالغ عاقل من تعبد في هذه الدار بعد بعثة المرسلين ، ومن جعل البعث بعد الموت مجازا عن التعليم بعد الجهل جعل متعلق الشكر ذلك ، وفي بعض الآثار أنه لما أحياهم الله تعالى سألوا أن يبعثهم أنبياء ففعل ، فمتعلق الشكر حينئذ على ما قيل : هذا البعث وهو بعيد ، وأبعد منه جعل متعلقه

٢٦٣

إنزال التوراة التي فيها ذكر توبته عليهم وتفصيل شرائعهم بعد إن لم يكن لهم شرائع وقد استدل المعتزلة وطوائف من المبتدعة بهذه الآية على استحالة رؤية البارئ سبحانه وتعالى لأنها لو كانت ممكنة لما أخذتهم الصاعقة بطلبها ، والجواب أن أخذ الصاعقة لهم ليس لمجرد الطلب ولكن لما انضم إليه من التعنت وفرط العناد كما يدل عليه مساق الكلام حيث علقوا الإيمان بها ، ويجوز أيضا أن يكون ذلك الأخذ لكفرهم بإعطاء الله تعالى التوراة لموسى عليه‌السلام وكلامه إياه أو نبوته لا لطلبهم ، وقد يقال : إنهم لما لم يكونوا متأهلين لرؤية الحق في هذه النشأة كان طلبهم لها ظلما فعوقبوا بما عوقبوا ، وليس في ذلك دليل على امتناعها مطلقا في الدنيا والآخرة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق هذه المسألة بوجه لا غبار عليه (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) عطف على بعثناكم ، وقيل : على قلتم ، والأول أظهر للقرب والاشتراك في المسند إليه مع التناسب في المسندين في كون كل منهما نعمة بخلاف (قُلْتُمْ) فإنه تمهيد لها ، وإفادته تأخير التظليل والإنزال عن واقعة طلبهم الرؤية ، وعلى التقديرين لا بد لترك كلمة إذ هاهنا من نكتة ، ولعلها الاكتفاء بالدلالة العقلية على كون كل منهما نعمة مستقلة مع التحرز عن تكرارها في (ظَلَّلْنا) و (أَنْزَلْنا) و (الْغَمامَ) اسم جنس كحمامة وحمام ، وهو السحاب ، وقيل : ما ابيض منه ، وقال مجاهد : هو أبرد من السحاب وأرق ، وسمي غماما لأنه يغم وجه السماء ويستره. ومنه الغم والغمم ، وهل كان غماما حقيقة أو شيئا يشبه وسمي به؟ قولان ، والمشهور الأول وهو مفعول (ظَلَّلْنا) على إسقاط حرف الجر كما تقول : ظللت على فلان بالرداء أو بلا إسقاط ، والمعنى جعلنا الغمام عليكم ظلة ، والظاهر أن الخطاب لجميعهم. فقد روي أنهم لما أمروا بقتال الجبارين وامتنعوا وقالوا (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) [المائدة : ٢٤] ابتلاهم الله تعالى بالتيه بين الشام ومصر أربعين سنة وشكوا حر الشمس فلطف الله تعالى بهم بإظلال الغمام ـ وإنزال المنّ والسلوى ـ وقيل : لما خرجوا من البحر وقعوا بأرض بيضاء عفراء ليس فيها ماء ولا ظل فشكوا الحر فوقوا به ، وقيل : الذين ظللوا بالغمام بعض بني إسرائيل وكان الله تعالى قد أجرى العادة فيهم أن من عبد ثلاثين سنة لا يحدث فيها ذنبا أظلته الغمامة وكان فيهم جماعة يسمون أصحاب غمائم فامتن الله تعالى عليهم لكونهم فيهم من له هذه الكرامة الظاهرة والنعمة الباهرة (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) المنّ اسم جنس لا واحد له من لفظه والمشهور أنه الترنجبين وهو شيء يشبه الصمغ حلو مع شيء من الحموضة كان ينزل عليهم كالطل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس في كل يوم إلا يوم السبت وكان كل شخص مأمورا بأن يأخذ قدر صاع كل يوم أو ما يكفيه يوما وليلة ولا يدخر إلا يوم الجمعة فإن ادخار حصة السبت كان مباحا فيه. وعن وهب أنه الخبز الرقاق ، وقيل : المراد به جميع ما من الله تعالى به عليهم في التيه وجاءهم عفوا بلا تعب ، وإليه ذهب الزجاج ويؤيده قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «الكمأة من المنّ الذي منّ الله تعالى به على بني إسرائيل» و (السَّلْوى) اسم جنس أيضا واحدها سلواة كما قاله الخليل وليست الألف فيها للتأنيث وإلا لما أنثت بالهاء في قوله. كما انتفض السلواة من بلل القطر وقال الكسائي : (السَّلْوى) واحدة وجمعها سلاوى ، وعند الأخفش الجمع والواحد بلفظ واحد ، وقيل : جمع لا واحد له من لفظه وهو طائر يشبه السماني أو هو السماني بعينها وكانت تأتيهم من جهة السماء بكرة وعشيا أو متى أحبوا فيختارون منها السمين ويتركون منها الهزيل ، وقيل : إن ريح الجنوب تسوقها إليهم فيختارون منها حاجتهم ويذهب الباقي ، وفي رواية كانت تنزل عليهم مطبوخة ومشوية ـ وسبحان من يقول للشيء كن فيكون ـ وذكر السدوسي أن السلوى هو العسل بلغة كنانة ويؤيده ، قول الهذلي :

وقاسمتها بالله جهرا لأنتم

ألذ من (السلوى) إذا ما نشورها

وقول ابن عطية ـ إنه غلط ـ غلط ، واشتقاقها من السلوة لأنها لطيبها تسلي عن غيرها وعطفها على بعض وجوه

٢٦٤

المنّ من عطف الخاص على العام اعتناء بشأنه (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أمر (١) إباحة على إرادة القول أي وقلنا أو قائلين ، و ـ الطيبات ـ المستلذات وذكرها للمنة عليهم أو الحلالات فهو للنهي عن الادخار ، و (مِنْ) للتبعيض ، وأبعد من جعلها للجنس أو للبدل ، ومثله من زعم أن هذا على حذف مضاف أي من عوض طيبات قائلا : إن الله سبحانه عوضهم عن جميع مآكلهم المستلذة من قبل ـ بالمنّ والسلوى ـ فكانا بدلا من الطيبات ، و (ما) موصولة والعائد محذوف ـ أي رزقناكموه ـ أو مصدرية والمصدر بمعنى المفعول ، واستنبط بعضهم من الآية أنه لا يكفي وضع المالك الطعام بين يدي الإنسان في إباحة الأكل بل لا يجوز التصرف فيه إلا بإذن المالك (٢) وهو أحد أقوال في المسألة (وَما ظَلَمُونا) عطف على محذوف أي فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر أو فظلموا بأن كفروا هذه النعم (وَما ظَلَمُونا) بذلك ، ويجوز ـ كما في البحر ـ أن لا يقدر محذوف لأنه قد صدر منهم ارتكاب قبائح من اتخاذ العجل إلها ، وسؤال رؤيته تعالى ظلما وغير ذلك فجاء قوله تعالى : (وَما ظَلَمُونا) بجملة منفية تدل على أن ما وقع منهم من تلك القبائح لم يصل إلينا منها نقص ولا ضرر ، وفي هذا دليل على أنه ليس من شرط نفي الشيء عن الشيء إمكان وقوعه لأن ظلم الإنسان لله تعالى لا يمكن وقوعه البتة (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالكفران أو بما فعلوا إذ لا يتخطاهم ضرره ، وتقديم المفعول للدلالة على القصر الذي يقتضيه النفي السابق ، وفيه ضرب تهكم بهم ، والجمع بين صيغتي الماضي ، والمستقبل للدلالة على تماديهم في الظلم واستمرارهم عليه ، وفي ذكر (أَنْفُسَهُمْ) بجمع القلة تحقير لهم وتقليل ، والنفس العاصية أقل من كل قليل (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) منصوبة على الظرفية عند سيبويه ، والمفعولية عند الأخفش ، والظاهر أن الأمر بالدخول على لسان موسى عليه‌السلام كالأوامر السابقة واللاحقة. ـ والقرية ـ بفتح القاف ـ والكسر لغة أهل اليمن ـ المدينة من قريت إذا جمعت سميت بذلك لأنها تجمع الناس على طريقة المساكنة ، وقيل : إن قلوا قيل لها : قرية ، وإن كثروا قيل لها مدينة ، وأنهى بعضهم حدّ القلة إلى ثلاثة ، والجمع القرى على غير قياس ، وقياس أمثاله فعال كظبية وظباء وفي المراد بها هنا خلاف جمّ والمشهور عن ابن عباس وابن مسعود وقتادة والسدي والربيع وغيرهم ـ وإليه ذهب الجمهور ـ أنها بيت المقدس ، وقد كان هذا الأمر بعد التيه والتحير وهو أمر إباحة يدل عليه عطف (فكلوا) إلخ وهو غير الأمر المذكور بقوله تعالى : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) [المائدة : ٢١] لأنه كان قبل ذلك وهو أمر تكليف كما يدل عليه عطف النهي ، ومنهم من زعم اتحادهما. وجعل هذا الأمر أيضا للتكليف وحمل تبديل الأمر على عدم امتثاله بناء على أنهم لم يدخلوا القدس في حياة موسى عليه‌السلام ، ومنهم من ادّعى اختلافهما لكنه زعم أن ما هنا كان بعد التيه على لسان يوشع لا على لسان موسى عليهما‌السلام لأنه وأخاه هارون ماتا في التيه وفتح يوشع مع بني إسرائيل أرض الشام بعد موته عليه‌السلام بثلاثة أشهر ومنهم من قال الأمر في التيه بالدخول بعد الخروج عنه ولا يخفى ما في كل ، فالأظهر ما ذكرنا وقد روي أن موسى عليه‌السلام سار بعد الخروج من التيه بمن بقي من بني إسرائيل إلى أريحا ـ وهي بأرض القدس ـ وكان يوشع بن نون على مقدمته ففتحها وأقام بها ما شاء الله تعالى ثم قبض وكأنهم أمروا بعد الفتح بالدخول على وجه الإقامة والسكنى كما يشير إليه قوله تعالى : (فكلوا) إلخ ، وقوله تعالى في الأعراف : (اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) [الأعراف : ١٦١] ويؤيد كونه بعد الفتح الإشارة بلفظ القريب ، والقول ـ بأنها نزلت منزلة القريب ترويجا للأمر ـ بعيد ، ولا ينافي هذا ما مر من أنه مات في التيه لأن المراد به المفازة لا التيه مصدر تاه يتيه تيها بالكسر والفتح

__________________

(١) وفي البحر أن من ذهب إلى الأصل في الأشياء الإباحة قال : المراد داوموا فتدبر ا ه منه.

(٢) ثانيها أنه يملك بالوضع فقط وثالثها بالأخذ والتناول ، رابعها لا يملك بحال بل ينتفع به وهو على ملك المالك ا ه منه.

٢٦٥

وتيهانا إذا ذهب متحيرا فليفهم (فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) أي واسعا هنيئا ونصبه على المصدرية أو الحالية من ضمير المخاطبين ، وفي الكلام إشارة إلى حلّ جميع مواضعها لهم ، أو الإذن بنقل حاصلها إلى أي موضع شاءوا مع دلالة (رَغَداً) على أنهم مرخصون بالأكل منها ـ واسعا ـ وليس عليهم القناعة لسد الجوعة ، ويحتمل أن يكون وعدا لهم بكثرة المحصولات وعدم الغلاء ، وأخر هذا المنصوب هنا مع تقديمه في آية آدم عليه‌السلام قبل لمناسبة الفاصلة في قوله تعالى : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) والخلاف في نصب (الْبابَ) كالخلاف في نصب (هذِهِ الْقَرْيَةَ) والمراد بها على المشهور أحد أبواب بيت القدس ، وتدعى الآن باب حطة قاله ابن عباس ، وقيل : الباب الثامن من أبوابه ، ويدعى الآن باب التوبة ـ وعليه مجاهد ـ وزعم بعضهم أنها باب القبة التي كانت لموسى وهارون عليهما‌السلام يتعبدان فيها ، وجعلت قبلة لبني إسرائيل في التيه ، وفي وصفها أمور غريبة في القصص لا يعلمها إلا الله تعالى و (سُجَّداً) حال من ضمير (ادْخُلُوا) والمراد خضعا متواضعين لأن اللائق بحال المذنب التائب والمطيع الموافق الخشوع والمسكنة ، ويجوز حمل السجود على المعنى الشرعي ، والحال مقارنة أو مقدرة ، ويؤيد الثاني ما روي عن وهب في معنى الآية ـ إذا دخلتموه فاسجدوا شكرا لله أي على ما أنعم عليكم حيث أخرجكم من التيه ونصركم على من كنتم منه تخافون وأعادكم إلى ما تحبون ـ وقول الزمخشري ـ أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكرا لله تعالى وتواضعا ـ لم نقف على ما يدل عليه من كتاب وسنة ، وفسر ابن عباس السجود هنا بالركوع ، وبعضهم بالتطامن والانحناء قالوا : وأمروا بذلك لأن الباب كان صغيرا ضيقا يحتاج الداخل فيه إلى انحناء ، وفي الصحيح عن أبي هريرة أنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قيل لبني إسرائيل : (ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) فدخلوا يزحفون على أستاههم» (وَقُولُوا حِطَّةٌ) أي مسألتنا ، أو شأنك يا ربنا أن تحط عنا ذنوبنا ، وهي فعلة من ـ الحط ـ كالجلسة ، وذكر أبان أنها بمعنى التوبة وأنشد :

فاز (بالحطة) التي جعل الل

ه بها ذنب عبده مغفورا

والحق أن تفسيرها بذلك تفسير باللازم ، ومن البعيد قول أبي مسلم : إن المعنى أمرنا ـ حطة ـ أي أن نحط في هذه القرية ونقيم بها لعدم ظهور تعلق الغفران به وترتب التبديل عليه إلا أن يقال كانوا مأمورين بهذا القول عند الحط في القرية لمجرد التعبد ، وحين لم يعرفوا وجه الحكمة بدلوه ، وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب بمعنى حط عنا ذنوبنا (حِطَّةٌ) أو نسألك ذلك ، ويجوز أن يكون النصب على المفعولية ـ لقولوا ـ أي قولوا هذه الكلمة بعينها ـ وهو المروي عن ابن عباس ـ ومفعول القول عند أهل اللغة يكون مفردا إذا أريد به لفظه ولا عبرة بما في البحر من المنع إلا أنه يبعد هذا أن هذه اللفظة عربية وهم ما كانوا يتكلمون بها ، ولأن الظاهر أنهم أمروا أن يقولوا قولا دالا على التوبة والندم حتى لو قالوا اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك لكان المقصود حاصلا ولا تتوقف التوبة على ذكر لفظة بعينها ، ولهذا قيل : الأوجه في كونها مفعولا ـ لقولوا ـ أن يراد قولوا أمرا حاطا لذنوبكم من الاستغفار ، وحينئذ يزول عن هذا الوجه الغبار ، ثم هذه اللفظة على جميع التقادير عربية معلومة الاشتقاق ، والمعنى وهو الظاهر المسموع ، وقال الأصم : هي من ألفاظ أهل الكتاب لا نعرف معناها في العربية وذكر عكرمة أن معناها لا إله إلا الله وهو من الغرابة بمكان (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) بدخولكم الباب سجدا وقولكم حطة. والخطايا أصلها خطايئ بياء بعد ألف ثم همزة فأبدلت الياء ـ عند سيبويه ـ الزائدة همزة لوقوعها بعد الألف واجتمعت همزتان وأبدلت الثانية ياء ثم قلبت ألفا ، وكانت الهمزة بين ألفين فأبدلت ياء ، وعند الخليل قدمت الهمزة على الياء ثم فعل بها ما ذكر ، وقرأ نافع «يغفر» ـ بالياء ـ وابن عامر ـ بالتاء ـ على البناء للمجهول ، والباقون ـ بالنون ـ والبناء للمعلوم ـ وهو الجاري على نظام ما قبله وما بعده ـ ولم يقرأ أحد من السبعة إلا

٢٦٦

بلفظ (خَطاياكُمْ) وأمالها الكسائي ، وقرأ الجحدري وقتادة «تغفر» بضم التاء ، وأفرد ـ «الخطيئة» ـ وقرأ الجمهور بإظهار ـ الراء ـ من «يغفر» عند ـ اللام ـ وأدغمها قوم ، قالوا : وهو ضعيف (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) معطوف على جملة (قُولُوا حِطَّةٌ) وذكر أنه عطف على الجواب ، ولم ينجزم لأن ـ السين ـ تمنع الجزاء عن قبول الجزم ، وفي إبرازه في تلك الصورة دون تردد دليل على أن المحسن يفعل ذلك البتة ، وفي الكلام صفة الجمع مع التفريق ، فإن (قُولُوا حِطَّةٌ) جمع ، و (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ) تفريق ، والمفعول محذوف ، أي ثوابا (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) أي بدل (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالقول (الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) قولا غيره (فَبَدَّلَ) يتعدى لمفعولين «أحدهما» بنفسه «والآخر» بالياء ويدخل على المتروك ـ فالذم متوجه ـ وجوّز أبو البقاء أن يكون ـ بدل ـ محمولا على المعنى ، أي فقال (الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً) إلخ ، والقول بأن (غَيْرَ) منصوب بنزع الخافض ، كأنه قيل : فغيروا قولا بغيره غير مرضي من القول ، وصرح سبحانه ـ بالمغايرة ـ مع استحالة تحقق ـ التبديل ـ بدونها تحقيقا لمخالفتهم وتنصيصا على ـ المغايرة ـ من كل وجه ، وظاهر الآية انقسام من هناك إلى ـ ظالمين ـ وغير ظالمين ـ وأن ـ الظالمين ـ هم ـ الذين بدلوا ـ وإن كان ـ المبدل ـ الكل كان وضع ذلك من وضع الظاهر موضع الضمير ـ للإشعار بالعلة ـ واختلف في ـ القول الذي بدلوه ـ ففي الصحيحين أنهم قالوا : حبة في شعيرة ، وروى الحاكم «حنطة» بدل (حِطَّةٌ) وفي المعالم أنهم قالوا بلسانهم ـ حطا سمقاثا ـ أي حنطة حمراء ، قالوا ذلك استهزاء منهم بما قيل لهم ، والروايات في ذلك كثيرة ، وإذا صحت يحمل اختلاف الألفاظ على اختلاف القائلين ، والقول بأنه لم يكن منهم ـ تبديل ـ ومعنى ـ فبدلوا لم يفعلوا ما أمروا به ، لا أنهم أتوا ببدل له ـ غير مسلم ـ وإن قاله أبو مسلم ـ وظاهر الآية ، والأحاديث تكذبه (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) وضع المظهر موضع الضمير مبالغة في تقبيح أمرهم ، وإشعارا بكون ظلمهم وإضرارهم أنفسهم بترك ما يوجب نجاتها ، أو وضعهم غير المأمور به موضعه سببا لإنزال ـ الرجز ـ وهو العذاب ـ وتكسر راؤه وتضم ـ والضم لغة بني الصعدات ـ وبه قرأ ابن محيصن ـ والمراد به هنا ـ كما روي عن ابن عباس ـ ظلمة وموت ، يروى أنه مات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفا ، وقال وهب : طاعون غدوا به أربعين ليلة ثم ماتوا بعد ذلك ، وقال ابن جبير : ثلج هلك به منهم سبعون ألفا ـ فإن فسر بالثلج ـ كان كونه (مِنَ السَّماءِ) ظاهرا ـ وإن بغيره ـ فهو إشارة إلى الجهة التي يكون منها القضاء أو مبالغة في علوه بالقهر والاستيلاء ، وذكر بعض المحققين أن الجار والمجرور ظرف مستقر وقع صفة ل (رِجْزاً) و (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) متعلق به لنيابته عن العامل علة له ، وكلمة (ما) مصدرية ، والمعنى (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) لظلمهم عذابا مقدرا بسبب كونهم مستمرين على ـ الفسق ـ في الزمان الماضي ، وهذا أولى من جعل الجار والمجرور ظرفا لغوا متعلقا ب (فَأَنْزَلْنا) لظهوره على سائر الأقوال ، ولئلا يحتاج في تعليل ـ الإنزال بالفسق ـ بعد التعليل المستفاد من التعليق بالظلم إلى القول بأن الفسق ـ عين ـ الظلم ـ وكرر للتأكيد ، أو أن ـ الظلم أعم ـ والفسق ـ لا بد أن يكون من الكبائر ، فبعد وصفهم بالظلم ـ وصفوا ـ بالفسق ـ للإيذان بكونه من الكبائر ، فإن «الأول» (١) بضاعة العاجز «والثاني» لا يدفع ركاكة التعليل ، وما قيل : إنه تعليل ـ للظلم ـ فيكون إنزال العذاب مسببا عن ـ الظلم ـ المسبب عن ـ الفسق ـ ليس بشيء ، إذ ـ ظلمهم ـ المذكور سابقا ، الذي هو سبب الإنزال لا يحتاج إلى العلة ، وقد احتج بعض الناس بقوله تعالى : (فَبَدَّلَ) إلخ ، وترتب العذاب عن التبديل ، على أن ما ورد به التوقيف من الأقوال لا يجوز تغييره ولا تبديله بلفظ آخر ، وقال قوم : يجوز ذكر إذا كانت

__________________

(١) الأول لأبي مسلم ، والثاني للرازي ، والثالث للجيلي ا ه منه.

٢٦٧

الكلمة الثانية تسد الأولى (١) ، وعلى هذا جرى الخلاف ـ كما في البحر ـ في قراءة بالمعنى وروي الحديث به ، وجرى في تكبيرة الإحرام ، وفي تجويز النكاح بلفظ الهبة والبيع والتمليك ، والبحث مفصل في محله هذا. وقد ذكر مولانا الإمام الرازي رحمه‌الله تعالى أن هذه الآية ذكرت في الأعراف مع مخالفة من وجوه لنكات. «الأول» قال هنا : (وإذ قلنا) لما قدم ذكر النعم ، فلا بد من ذكر المنعم ، وهناك (وإذا قيل) إذ لا إبهام بعد تقديم التصريح به. «الثاني» قال هنا : (ادْخُلُوا) وهناك (اسْكُنُوا) [الأعراف : ١٦١] لأن الدخول مقدم ، ولذا قدم وضعا المقدم طبعا. «الثالث» قال هنا : (خَطاياكُمْ) ـ بجمع الكثرة ـ لما أضاف ذلك القول إلى نفسه ، واللائق بجوده غفران الذنوب الكثيرة ، وهناك (خَطِيئاتِكُمْ) [الأعراف : ١٦١] ـ بجمع القلة ـ إذ لم يصرح بالفاعل «الرابع» قال هنا : (رغدا) دون هناك لإسناد الفعل إلى نفسه هنا ، فناسب ذكر الإنعام الأعظم وعدم الإسناد هناك.

«الخامس» قال هنا : (ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ) وهناك بالعكس ، لأن ـ الواو ـ لمطلق الجمع ، وأيضا المخاطبون يحتمل أن يكون بعضهم مذنبين ، والبعض الآخر ما كانوا كذلك ، فالمذنب لا بد وأن يكون اشتغاله بحط الذنب مقدما على اشتغاله بالعبادة ، فلا جرم كان تكليف هؤلاء أن يقولوا : (حِطَّةٌ) ثم ـ يدخلوا ـ وأما الذي لا يكون مذنبا ، فالأولى به أن يشتغل «أولا» بالعبادة ثم يذكر التوبة «ثانيا» للهضم وإزالة العجب فهؤلاء يجب أن ـ يدخلوا ثم يقولوا ـ فلما احتمل كون أولئك المخاطبين منقسمين إلى ذين القسمين ، لا جرم ذكر حكم كل واحد منهما في سورة أخرى «السادس» قال هنا : (وَسَنَزِيدُ) ـ بالواو ـ وهناك بدونه ، إذ جعل هنا ـ المغفرة ـ مع الزيادة جزاء واحدا لمجموع الفعلين ، وأما هناك فالمغفرة جزاء قول (حِطَّةٌ) والزيادة جزاء الدخول فترك ـ الواو ـ يفيد توزع كل من الجزاءين على كل من الشرطين «السابع» قال هناك : (الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [الأعراف : ١٦٢] وهنا لم يذكر (منهم) لأن أول القصة هناك مبني على التخصيص ب (من) حيث قال : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ) [الأعراف : ١٥٩] فخص في آخر الكلام ليطابق أوله ، ولما لم يذكر في الآيات التي قبل (فَبَدَّلَ) هنا تمييزا وتخصيصا لم يذكر في آخر القصة ذلك. «الثامن» قال هنا : (فَأَنْزَلْنا) وهناك (فَأَرْسَلْنا) [الأعراف : ١٦٢] لأن الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر ، والإرسال يفيد تسليطه عليهم واستئصاله لهم ، وذلك يكون بالآخرة. «التاسع» قال هنا : (فَكُلُوا) ـ بالفاء ـ وهناك ـ بالواو ـ لما مر في (وَكُلا مِنْها رَغَداً) [البقرة : ٣٥] وهو أن كل فعل عطف عليه شيء ـ وكان الفعل بمنزلة الشرط ، وذلك الشيء بمنزلة الجزاء ـ عطف الثاني على الأول ـ بالفاء ـ دون ـ الواو ـ فلما تعلق الأكل بالدخول قيل في سورة البقرة (فَكُلُوا) ولما لم يتعلق ـ الأكل بالسكون ـ في الأعراف ، قيل : (وَكُلُوا) [الأعراف : ٣١ ، ١٦١] «العاشر» قال هنا : (يَفْسُقُونَ) وهناك يظلمون لأنه لما بين هنا كون الفسق ظلما اكتفى بلفظ ـ الظلم ـ هناك انتهى ولا يخفى ما في هذه الأجوبة من النظر ، أما في الأول والثاني والثامن والعاشر فلأنها إنما تصح إذا كانت سورة البقرة متقدمة على سورة الأعراف نزولا ـ كما أنها متقدمة عليها ترتيبا ـ وليس كذلك ، فإن سورة البقرة كلها مدنية ، وسورة الأعراف كلها مكية إلا ثمان آيات من قوله تعالى (واسألهم عن القرية) إلى قوله تعالى : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ) [الأعراف : ١٦٣ ـ ١٧١] وقوله تعالى : (اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) [الأعراف : ١٦١] داخل في الآيات المكية ، فحينئذ لا تصح الأجوبة المذكورة. وأما ما ذكر في التاسع فيرد عليه منع عدم تعلق ـ الأكل بالسكون ـ لأنهم إذا سكنوا القرية ، تتسبب سكناهم ـ للأكل ـ منها كما ذكر الزمخشري ، فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها ، فحينئذ لا فرق بين

__________________

(١) قوله : تسد الأولى كذا بخط مؤلفه ، ولعل فيه سقطا من قلمه ، والأصل تسد مسد الأولى ا ه.

٢٦٨

(كُلُوا) و (فَكُلُوا) فلا يتم الجواب وأما الثالث فلأنه تعالى ـ وإن قال في الأعراف : (وَإِذْ قِيلَ) ـ لكنه قال في السورتين : (نَغْفِرْ لَكُمْ) وأضاف ـ الغفران ـ إلى نفسه ، فبحكم تلك اللياقة ينبغي أن يذكر في السورتين ـ جمع الكثرة ـ بل لا شك أن رعاية (نَغْفِرْ لَكُمْ) أولى من رعاية (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ) لتعلق ـ الغفران بالخطايا ـ كما لا يخفى على العارف بالمزايا. وأما الرابع فلأنه تعالى ـ وإن لم يسند الفعل إلى نفسه تعالى ـ لكنه مسند إليه في نفس الأمر ، فينبغي أن يذكر الإنعام الأعظم في السورتين. وأما الخامس فلأن القصة واحدة ، وكون بعضهم مذنبين وبعضهم غير مذنبين محقق ـ فعلى مقتضى ما ذكر ـ ينبغي أن يذكر (وَقُولُوا حِطَّةٌ) مقدما في السورتين وأما السادس فلأن القصة واحدة ، وأن ـ الواو ـ لمطلق الجمع ، وقوله تعالى (نَغْفِرْ) في مقابلة (قُولُوا) سواء قدم أو أخر ، وقوله تعالى : (وَسَنَزِيدُ) في مقابلة (وَادْخُلُوا) سواء ذكر ـ الواو ـ أو ترك ، وأما السابع فلأنه تعالى قد ذكر هنا قبل (فَبَدَّلَ) ما يدل على التخصيص والتمييز ، حيث قال سبحانه : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) إلخ بكافات الخطاب وصيغته ـ فاللائق حينئذ ـ أن يذكر لفظ (مِنْهُمْ) أيضا ، والجواب الصحيح عن جميع هذه السؤالات وما حاكاها ـ ما ذكره الزمخشري ـ من أنه لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هناك تناقض ، ولا تناقض بين قوله تعالى : (اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) وقوله : (وَكُلُوا) لأنهم إذا سكنوا القرية فتسبب سكناهم للأكل منها ، فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها ، وسواء قدموا «الحطة» على ـ دخول الباب ـ أو أخروها ، فهم جامعون في الإيجاد بينهما ، وترك ذكر ـ الرغد ـ لا يناقض إثباته ، وقوله تعالى : (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ١٦١] موعد بشيئين ـ بالغفران والزيادة ، وطرح ـ الواو ـ لا يخل لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل : ما ذا بعد الغفران؟ فقيل له (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) وكذلك زيادة (منهم) زيادة بيان (وَأَرْسَلْنا) و (أَنْزَلْنا) و (يَظْلِمُونَ) و (يَفْسُقُونَ) من دار واحد ، انتهى.

وبالجملة التفنن في التعبير لم يزل دأب البلغاء ، وفيه من الدلالة على رفعة شأن المتكلم ما لا يخفى ، والقرآن الكريم مملوء من ذلك ، ومن رام بيان سر لكل ما وقع فيه منه فقد رام ما لا سبيل إليه إلا بالكشف الصحيح والعلم اللدني ، والله يؤتي فضله من يشاء ، وسبحان من لا يحيط بأسرار كتابه إلا هو.

ومن باب الإشارة في الآيات وإذ قلتم لموسى ـ القلب (لَنْ نُؤْمِنَ) الإيمان الحقيقي حتى نصل إلى مقام المشاهدة والعيان ـ فأخذتكم صاعقة الموت ـ الذي هو الفناء في التجلي الذاتي ـ وأنتم تراقبون أو تشاهدون ـ ثم بعثناكم بالحياة الحقيقية والبقاء بعد الفناء لكي تشكروا نعمة التوحيد والوصول بالسلوك في الله عزوجل ، ـ وظللنا عليكم غمام تجلي الصفات ـ لكونها حجب شمس الذات المحرقة سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره. (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ) من الأحوال والمقامات الذوقية الجامعة بين الحلاوة وإذهاب رذائل أخلاق النفس ، كالتوكل والرضا وسلوى الحكم والمعارف والعلوم الحقيقية التي يحشرها عليكم ريح الرحمة ، والنفحات الإلهية في تيه الصفات عند سلوككم فيها ، فتسلون بذلك (السَّلْوى) وتنسون من لذائذ الدنيا كل ما يشتهى (كُلُوا) أي تناولوا وتلقوا هذه الطيبات التي رزقتموها حسب استعدادكم ، وأعطيتموها على ما وعد لكم (وَما ظَلَمُونا) أي ما نقصوا حقوقنا وصفاتنا باحتجابهم بصفات أنفسهم ، ولكن كانوا ناقصين حقوق أنفسهم بحرمانها وخسرانها ، وهذا هو الخسران المبين (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) أي المحل المقدس الذي هو مقام المشاهدة (وَادْخُلُوا الْبابَ) الذي هو الرضا بالقضاء ، فهو باب الله تعالى الأعظم (سُجَّداً) منحنين خاضعين لما يرد عليكم من التجليات ، واطلبوا أن يحط الله تعالى عنكم ذنوب صفاتكم وأخلاقكم وأفعالكم ، فإن فعلتم ذلك (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) «فمن تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا ، ومن تقرب إليّ ذراعا ، تقربت إليه باعا ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) أي

٢٦٩

المشاهدين «ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» وهل ذلك إلا الكشف التام عن الذات الأقدس. (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم وأضاعوها ووضعوها في غير موضعها اللائق بها (قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) ابتغاء للحظوظ الفانية والشهوات الدنية. (فَأَنْزَلْنا) على الظالمين خاصة ، عذابا وظلمة وضيقا في سجن الطبيعة واسرا في وثاق التمني وقيد الهوى وحرمانا ، وذلا بمحبة الماديات السفلية ، والاعراض عن هاتيك التجليات العلية ، وذلك من جهة قهر سماء الروح ، ومنع اللطف والروح عنهم بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة القلب الذي لا يأمر إلا بالهدى كما ورد في الأثر استفت قلبك وإن أفتاك المفتون إلى طاعة النفس الأمارة بالسوء. وهذا هو البلاء العظيم ، والخطب الجسيم.

من كان يرغب في السلامة فليكن

أبدا من الحدق المراض عياذه

لا تخدعنك بالفتور فإنه

نظر يضر بقلبك استلذاذه

إياك من طمع المنى فعزيزه

كذليله ، وغنيه وشحاذه

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا

٢٧٠

يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٧٤)

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) تذكير لنعمة عظيمة كفروا بها ـ وكان ذلك في التيه لما عطشوا ـ ففي بعض الآثار أنهم قالوا فيه : من لنا بحر الشمس ـ فظلل عليهم الغمام ـ وقالوا : من لنا بالطعام ـ فأنزل الله تعالى عليهم المن والسلوى ـ وقالوا : من لنا بالماء ـ فأمر موسى بضرب الحجر ـ وتغيير الترتيب لقصد إبراز كل من الأمور المعدود في معرض أمر مستقل واجب التذكير والتذكر ، ولو روعي الترتيب الوقوعي لفهم أن الكل أمر واحد ـ أمر بذكره ـ والاستسقاء ـ طلب ـ السقيا ـ عند عدم الماء أو قلته. قيل : ومفعول ـ استسقى ـ محذوف أي ـ ربه ـ أو ـ ماء ـ وقد تعدى هذا الفعل في الفصيح إلى ـ المستسقى منه تارة ـ وإلى ـ المستسقي أخرى ـ كما في قوله تعالى : (إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ) [الأعراف : ١٦٠] وقوله :

وأبيض ـ يستسقى ـ الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

وتعديته إليهما مثل أن تقول : ـ استسقى زيد ربه الماء ـ لم نجدها في شيء من كلام العرب ـ واللام ـ متعلقة بالفعل ، وهي سببية أي لأجل قومه (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) أي فأجبناه (فَقُلْنَا) إلخ ـ والعصا ـ مؤنث ـ والألف منقلبة عن ـ واو ـ بدليل عصوان وعصوته ـ أي ضربته بالعصا ـ ويجمع على أفعل شذوذا وعلى فعول قياسا ، فيقال : أعص وعصي ، وتتبع حركة ـ العين ـ حركة ـ الصاد ـ و (الْحَجَرَ) هو هذا الجسم المعروف ، وجمعه أحجار وحجار ، وقالوا : حجارة ، واشتقوا منه فقالوا : استحجر الطين ، والاشتقاق من الأعيان قليل جدا. والمراد بهذه ـ العصا ـ المسئول عنها في قوله تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) [طه : ١٧] والمشهور أنها من آس الجنة ـ طولها عشرة أذرع طول موسى عليه‌السلام ـ لها شعبتان تتقدان في الظلمة ، توارثها صاغر عن كابر حتى وصلت إلى شعيب ومنه إلى موسى عليهما‌السلام ، وقيل : رفعها له ملك في طريق مدين ، وفي المراد من (الْحَجَرَ) خلاف ، فقال الحسن : لم يكن حجرا معينا ، بل أي حجر ضربه انفجر منه الماء ، وهذا أبلغ في الإعجاز وأبين في القدرة ، وقال وهب : كان يقرع لهم أقرب حجر فتنفجر ، وعلى هذا ـ اللام ـ فيه للجنس ، وقيل : للعهد ، وهو حجر معين حمله معه من الطور مكعب له أربعة أوجه ينبع من كل وجه ثلاثة أعين ، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى السبط الذي أمرت أن تسقيهم ، وكانوا ستمائة ألف ما عدا دوابهم ، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلا ، وقيل : حجر كان عند آدم وصل مع العصا إلى شعيب فدفع إلى موسى ، وقيل : هو الحجر الذي فر بثوبه ، والقصة معروفة. وقيل : حجر أخذ من قعر البحر خفيف يشبه رأس الآدمي كان يضعه في مخلاته ، فإذا احتاج للماء ضربه. والروايات في ذلك كثيرة ، وظاهر أكثرها التعارض ، ولا ينبني على تعيين هذا الحجر أمر ديني ، والأسلم تفويض علمه إلى الله تعالى.

(فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) عطف على مقدر ، أي فضرب فانفلق ، ويدل على هذا المحذوف وجود الانفجار ، ولو كان ينفجر دون ضرب لما كان للأمر فائدة ، وبعضهم يسمي هذه ـ الفاء ـ الفصيحة ويقدر شرطا أي فإن ضربت فقد «انفجرت» وفي المغني أن هذا التقدير يقتضي تقدم الانفجار على الضرب ، إلا أن يقال : المراد فقد حكمنا

٢٧١

بترتب الانفجار على ضربك ، وقال بعض المتأخرين (١) : لا حذف ، بل ـ الفاء ـ للعطف وإن مقدرة بعد ـ الفاء ـ كما هو القياس ، بعد الأمر عند قصد السببية ، والتركيب من قبيل ـ زرني فأكرمك ـ أي (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) فإن انفجرت فليكن منك الضرب فالانفجار ـ ولا يخفى ما في كل حتى قال مولانا مفتي الديار الرومية في الأول إنه غير لائق بجلالة شأن النظم الكريم ـ والثاني أدهى وأمرّ ـ والانفجار انصداع شيء من شيء ، ومنه الفجر والفجور ، وجاء هنا «انفجرت» وفي الأعراف [١٦٠] «انبجست» فقيل : هما سواء وقيل : بينهما فرق وهو أن الانبجاس أول خروج الماء ، والانفجار اتساعه وكثرته ، أو الانبجاس خروجه من الصلب ، والآخر خروجه من اللين ، والظاهر استعمالهما بمعنى واحد ـ وعلى فرض المغايرة ـ لا تعارض لاختلاف الأحوال ، و (من) لابتداء الغاية ، والضمير عائد على ـ الحجر المضروب ـ وعوده إلى الضرب ، و (من) سببية مما لا ينبغي الإقدام عليه ، والتاء في ـ اثنتا ـ للتأنيث ، ويقال : ثنتا إلا أن التاء فيها على ما في البحر للإلحاق ، وهذا نظير أنبت ، ونبت ولامها محذوفة ، وهي ياء لأنها من ثنيت ، وقرأ مجاهد وجماعة ـ ورواه السعدي عن أبي عمرو ـ عشرة بكسر الشين وهي لغة بني تميم ، وقرأ الفضل الأنصاري بفتحها قال ابن عطية : وهي لغة ضعيفة ، ونص بعض النحاة على الشذوذ ، ويفهم من بعض المتأخرين أن هذه اللغات في المركب لا في عشرة وحدها ، وعبارات القوم لا تساعده ، و ـ العين ـ منبع الماء وجمع على أعين شذوذا وعيون قياسا ، وقالوا في أشراف الناس : أعيان ، وجاء ذلك في الباصرة قليلا كما في قوله* أعيانا لها ومآقيا* وهو منصوب على التمييز ، وإفراده في مثل هذا الموضع لازم ، وأجاز الفراء أن يكون جمعا ، وكان هذا العدد دون غيره لكونهم كانوا اثني عشر سبطا وكان بينهم تضاغن وتنافس فأجرى الله تعالى لكل سبط عينا يردها لا يشركه فيها أحد من السبط الآخر دفعا لإثارة الشحناء ، ويشير إلى حكمة الانقسام ، قوله تعالى : (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) وهي جملة مستأنفة مفهمة على أن كل سبط منهم قد صار له مشرب يعرفه فلا يتعدى لمشرب غيره ، و (أُناسٍ) جمع لا واحد له من لفظه ، وما ذكر من شذوذ إثبات همزته إنما هو مع الألف واللام ، وأما بدونها فشائع صحيح ، و (عَلِمَ) هنا متعدية لواحد أجريت مجرى عرف ـ ووجد ذلك بكثرة ـ و ـ المشرب ـ إما اسم مكان أي محل الشرب ، أو مصدر ميمي بمعنى الشرب ، وحمله بعضهم على المشروب وهو الماء ، وحمله على المكان أولى عند أبي حيان ، وإضافة المشرب إليهم لأنه لما تخصص كل مشرب بمن تخصص به صار كأنه ملك لهم وأعاد الضمير في مشربهم على معنى (كُلُ) ولا يجوز أن يعود على لفظها لأن ـ كلّا ـ متى أضيف إلى نكرة وجب مراعاة المعنى كما في قوله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) [الإسراء : ٧١] وقوله :

وكل أناس سوف تدخل بينهم

دويهية تصفرّ منها الأنامل

ونص على المشرب تنبيها على المنفعة العظيمة التي هي سبب الحياة وإن كان سرد الكلام يقتضي ـ قد علم كل أناس عينهم ـ وفي الكلام حذف أي منها لأن (قَدْ عَلِمَ) صفة ـ لاثنتا عشرة عينا ـ فلا بد من رابط ، وإنما وصفها به لأنه معجزة أخرى حيث يحدث مع حدوث الماء جداول يتميز بها مشرب كل من مشرب آخر ، ويحتمل أن تكون الجملة حالية لا صفة لقوله تعالى : (اثْنَتا عَشْرَةَ) لئلا يحتاج إلى تقدير العائد وليفيد مقارنة العلم بالمشارب للانفجار ، والمشرب حينئذ العين (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ) على إرادة القول ، وبدأ بالأكل لأن قوام الجسد به ، والاحتياج إلى الشرب حاصل عنه ، و (مِنْ) لابتداء الغاية ، ويحتمل أن تكون للتبعيض ، وفي ذكر الرزق مضافا تعظيم

__________________

(١) هو عصام الدين ا ه منه

٢٧٢

للمنة ، وإشارة إلى حصول ذلك لهم من غير تعب ولا تكلف ، وفي هذا التفات إذ تقدم (فَقُلْنَا اضْرِبْ) ولو جرى على نظم واحد لقال من رزقنا ، ولو جعل الإضمار قبل (كُلُوا) مسندا إلى موسى ـ أي وقال موسى كلوا واشربوا ـ لا يكون فيه ذلك ، و ـ الرزق ـ هنا بمعنى المرزوق وهو الطعام المتقدم من المنّ والسلوى ، وبالمشروب من ماء العيون ، وقيل : المراد به الماء وحده لأنه يشرب ويؤكل مما ينبت منه ويضعفه أنه لم يكن أكلهم في التيه من زروع ذلك الماء كما يشير إليه قوله تعالى : (يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) و (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) ويلزم عليه أيضا الجمع بين الحقيقة والمجاز إذ يؤول إلى ـ كلوا واشربوا ـ من الماء ، ويكون نسبة الشرب إليه بإرادة ذاته ، والأكل بإرادة ما هو سبب عنه ، أو القول بحذف متعلق أحد الفعلين أي كلوا من رزق الله واشربوا من رزق الله ، وقول بعض المتأخرين إن رزق الله ـ عبارة عن الماء ، وفي الآية إشارة إلى إعجاز آخر وهو أن هذا الماء كما يروي العطشان يشبع الجوعان فهو طعام وشراب ـ بعيد غاية البعد ، وأقرب منه أن لا يكون (كُلُوا وَاشْرَبُوا) بتقدير القول من تتمة ما يحكى عنهم بل يجعل أمرا مرتبا على ذكرهم ما وقع وقت الاستسقاء على وجه الشكر والتذكير بقدرة الله تعالى فهو أمر المخاطبين بهذه الحكاية بأكلهم وشربهم مما يرزقهم الله تعالى ، وعدم الإفساد بإضلال الخلق ، وجمع عرض الدنيا ويكون فضله عما سبق لأنه بيان للشكر المأمور أو نتيجة للمذكور «واحتجت المعتزلة» بهذه الآية على أن الرزق هو الحلال لأن أقل درجات هذا الأمر أن يكون للإباحة فاقتضى أن يكون الرزق مباحا فلو وجد رزق حرام لكان الرزق مباحا وحراما ، وأنه غير جائز ، والجواب أن الرزق هنا ليس بعام إذا أريد المنّ والسلوى والماء المنفجر من الحجر ، ولا يلزم من حلية معين ما من أنواع الرزق حلية جميع الرزق وعلى تسليم العموم يلتزم التبعيض (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) لما أمروا بالأكل والشرب من رزق الله تعالى ولم يقيد ذلك عليهم بزمان ولا مكان ولا مقدار كان ذلك إنعاما وإحسانا جزيلا إليهم ، واستدعى ذلك التبسط في المأكل والمشرب نهاهم عما يمكن أن ينشأ عن ذلك وهو الفساد حتى لا يقابلوا تلك النعم بالكفران ، و ـ العثى ـ عند بعض المحققين مجاوزة الحد مطلقا فسادا كان أو لا فهو كالاعتداء ، ثم غلب في الفساد ومفسدين على هذا حال غير مؤكدة هو الأصل فيها كما يدل عليه تعريفها وذكر أبو البقاء أن العثي الفساد والحال مؤكدة ، وفيه أن مجيء الحال المؤكدة بعد الفعلية خلاف مذهب الجمهور وذهب الزمخشري أن معناه أشد الفساد والمعنى لا تتمادوا في الفساد حال إفسادكم ، والمقصد النهي عما كانوا عليه من التمادي في الفساد وهو من أسلوب (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) [آل عمران : ١٣٠] وإلا فالفساد أيضا منكر منهي عنه ، وفيه أنه تكلف مستغنى عنه بما ذكرنا ، والمراد من (الْأَرْضِ) عند الجمهور أرض التيه. ويجوز أن يريدها وغيرها مما قدروا أن يصلوا إليها فينالها فسادهم ، وجوز أن يريد الأرضين كلها ، و (أل) لاستغراق الجنس ، ويكون فسادهم فيها من جهة أن كثرة العصيان والإصرار على المخالفات والبطر يؤذن بانقطاع الغيث وقحط البلاد ونزع البركات ، وذلك انتقام يعم الأرضين ، هذا ثم إن ظاهر القرآن لا يدل على تكرر هذا الاستسقاء ولا الضرب ولا الانفجار فيحتمل أن يكون ذلك متكررا ، ويحتمل أن يكون ذلك مرة واحدة والواحدة هي المتحققة. والحكايات في هذا الأمر كثيرة وأكثرها لا صحة له ، وقد أنكر بعض الطبيعيين هذه الواقعة. وقال كيف يعقل خروج الماء العظيم الكثير من الحجر الصغير ، وهذا المنكر مع أنه لم يتصور قدرة الله تعالى في تغيير الطبائع والاستحالات فقد ترك النظر على طريقتهم إذ قد تقرر عندهم أن حجر المغناطيس يجذب الحديد والحجر الحلاق يحلق الشعر والحجر الباغض للخل ينفر منه ، وذلك كله من أسرار الطبيعة وإذا لم يكن مثل ذلك منكرا عندهم فليس يمتنع أن يخلق في حجر آخر قوة جذب الماء من تحت الأرض ، ويكون خلق تلك القوة عند ضرب العصا أو عند أمر موسى عليه‌السلام على ما ورد أنه كان بعد ذلك يأمره ، فينفجر ولا ينافيه انفصاله عن الأرض كما وهم ، ويحتمل أيضا أن يقلب الله تعالى ـ بواسطة قوة أودعها في الحجر ـ الهواء ماء

٢٧٣

بإزالة اليبوسة عن أجزائه وخلق الرطوبة فيها. والله تعالى على كل شيء قدير ، وحظ العارف من الآية أن يعرف الروح الإنسانية وصفاتها في عالم القلب بمثابة موسى وقومه وهو مستسق ربه لإروائها بماء الحكمة والمعرفة وهو مأمور بضرب عصا ـ لا إله إلا الله ـ ولها شعبتان من النفي والإثبات تتقدان نورا عند استيلاء ظلمات النفس ، وقد حملت من حضرة العزة على حجر القلب الذي هو كالحجارة أو أشد قسوة (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) من مياه الحكمة لأن كلمة ـ لا إله إلا الله ـ اثنا عشرة حرفا فانفجر من كل حرف عين قد علم كل سبط من أسباط صفات الإنسان وهي اثنا عشر سبطا من الحواس (١) الظاهرة والباطنة ، واثنان من القلب والنفس ، ولكل واحد منهم مشرب من عين جرت من حرف من حروف الكلمة ، و (قَدْ عَلِمَ) مشربه ومشرب كل واحد حيث ساقه رائده وقاده قائده فمن مشرب عذب فرات ، ومشرب ملح أجاج ، والنفوس ترد مناهل التقى والطاعات. والأرواح تشرب من زلال الكشوف والمشاهدات ، والأسرار تروى من عيون الحقائق بكأس تجلي الصفات عن ساقي (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) [الإنسان : ٢١] للاضمحلال في حقيقة الذات (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ) بأمره ورضاه (وَلا تَعْثَوْا) في هذا القالب (مُفْسِدِينَ) بترك الأمر واختيار الوزر وبيع الدين بالدنيا وإيثار الأولى على العقبى وتقديمهما على المولى (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) الظاهر أنه داخل في تعداد النعم وتفصيلها وهو إجابة سؤالهم بقوله تعالى : (اهْبِطُوا) إلخ مع استحقاقهم كمال السخط لأنهم كفروا نعمة إنزال الطعام اللذيذ عليهم وهم في التيه من غير كدّ وتعب حيث سألوا ب (لَنْ نَصْبِرَ) فإنه يدل على كراهيتهم إياه إذ الصبر حبس النفس في المضيق ، ولذا أنكر عليه بقوله تعالى : (أَتَسْتَبْدِلُونَ) إلخ ، فالآية في الأسلوب مثل قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) إلخ ، حيث عاندوا بعد سماع الكلام وأهلكوا ، ثم أفاض عليهم نعمة الحياة ، قال مولانا الساليكوتي ـ ومن هذا ظهر ضعف ما قال الإمام الرازي ـ لو كان سؤالهم معصية لما أجابهم ، لأن الإجابة إلى المعصية معصية ـ وهي غير جائزة على الأنبياء ـ وإن قوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) أمر إباحة لا إيجاب ، فلا يكون سؤالهم غير ذلك الطعام معصية ، ووصف الطعام بواحد وإن كانا طعامين (الْمَنَّ وَالسَّلْوى) اللذين رزقوهما في التيه ، إما باعتبار كونه على نهج واحد كما يقال : طعام مائدة الأمير واحد ـ ولو كان ألوانا شتى ـ بمعنى أنه لا يتبدل ولا يختلف بحسب الأوقات ، أو باعتبار كونه ضربا واحدا لأن (الْمَنَّ وَالسَّلْوى) من طعام أهل التلذذ والسرف ، وكأن القوم كانوا فلاحة فما أرادوا إلا ما ألفوه ، وقيل : إنهم كانوا يطبخونهما معا فيصير طعاما واحدا ، والقول بأن هذا القول كان قبل نزول (السَّلْوى) نازل من القول ، وأهون منه القول بأنهم أرادوا بالطعام الواحد (السَّلْوى) لأن (الْمَنَ) كان شرابا ، أو شيئا يتحلون به ، فلم يعدوه طعاما آخر ، وإلا نزل القول بأنه عبر بالواحد عن الاثنين كما عبر بالاثنين عن الواحد في نحو (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] وإنما يخرج من أحدهما ـ وهو الملح دون العذب ـ (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ) أي سله لأجلنا ـ بدعائك إياه ـ بأن يخرج لنا كذا وكذا ـ والفاء ـ لسببية عدم الصبر للدعاء ، ولغة بني عامر «فادع» ـ بكسر العين ـ جعلوا ـ دعا من ذوات الياء ـ كرمى ، وإنما سألوا من موسى أن يدعو لهم ، لأن دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أقرب للإجابة من دعاء غيرهم ، على أن دعاء الغير للغير مطلقا أقرب إليها ـ فما ظنك بدعاء الأنبياء لأممهم؟ ـ ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر رضي الله تعالى عنه : «أشركنا في دعائك» وفي الأثر «ادعوني بألسنة لم تعصوني فيها» وحملت على ألسنة الغير ، والتعرض لعنوان الربوبية لتمهيد مبادئ الإجابة ، وقالوا : (رَبَّكَ) ولم يقولوا : ربنا ، لأن في ذلك من الاختصاص به ما ليس فيهم

__________________

(١) قوله : من الحواس إلخ كذا بخط ا ه مصححه.

٢٧٤

من مناجاته وتكليمه وإيتائه التوراة ، فكأنهم قالوا : ادع لنا المحسن إليك بما لم يحسن به إلينا ، فكما أحسن إليك من قبل نرجو أن يحسن إليك في إجابة دعائك.

(يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها) المراد ـ بالإخراج ـ المعنى المجازي اللازم للمعنى الحقيقي ، وهو الإظهار بطريق الإيجاد ـ لا بطريق إزالة الخفاء ـ والحمل على المعنى الحقيقي يقتضي مخرجا عنه ، وما يصلح له هاهنا هو (الْأَرْضُ) وبتقديره يصير الكلام سخيفا ، و (يُخْرِجْ) مجزوم لأنه جواب الأمر ، وجزمه ـ بلام الطلب ـ محذوفة لا يجوز عند البصريين ، و (مِنْ) الأولى تبعيضية أي مأكولا بعض ما (تُنْبِتُ) وادعى الأخفش زيادتها ـ وليس بشيء ـ وما موصولة والعائد محذوف ، أي تنبته ، وجعلها مصدرية لم يجوزه أبو البقاء ـ لأن المقدر جوهر ـ ونسبة ـ الإنبات ـ إلى (الْأَرْضُ) مجاز من باب النسبة إلى القابل. وقد أودع الله تعالى في الطبقة الطينية من الأرض ـ أو فيها ـ قوة قابلة لذلك ، وكون القوة القابلة مودعة في الحب دون التراب ربما يفضي إلى القول بقدم الحب بالنوع ، و (مِنْ) الثانية بيانية ، فالظرف مستقر واقع موقع الحال ، أي كائنا من (بَقْلِها). وقال أبو حيان : تبعيضية واقعة موقع البدل من كلمة ما فالظرف لغو متعلق (يُخْرِجْ) وعلى التقديرين ـ كما قال الساليكوتي ـ يفيد أن المطلوب إخراج بعض هؤلاء ، ولو جعل بيانا لما أفاده (مِنْ) التبعيضية ـ كما قاله المولى عصام الدين ـ لخلا الكلام عن الإفادة المذكورة ، وأوهم أن المطلوب إخراج جميع هؤلاء لعدم العهد ـ والبقل ـ جنس يندرج فيه النبات الرطب مما يأكله الناس والإنعام ، والمراد به هنا أطايب البقول التي يأكلها الناس ـ والقثاء ـ هو هذا المعروف ، وقال الخليل : هو الخيار ، وقرأ يحيى بن وثاب وغيره ـ بضم القاف ـ وهو لغة ـ والفوم ـ الحنطة ـ وعليه أكثر الناس ـ حتى قال الزجاج : لا خلاف عند أهل اللغة أن ـ الفوم ـ الحنطة ، وسائر الحبوب التي تختبز يلحقها اسم ـ الفوم ـ وقال الكسائي وجماعة : هو الثوم ، وقد أبدلت ـ ثاؤه فاء ـ كما في ـ جدث وجدف ـ وهو بالبصل والعدس أوفق ـ وبه قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ـ ونفس شيخنا ـ عليه الرحمة ـ إليه تميل ، والقول بأنه الخبز يبعده الإنبات من (الْأَرْضُ) وذكره مع البقل وغيره وما في المعالم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن ـ الفوم ـ الخبز يمكن توجيهه بأن معناه أنه يقال عليه ، ووجه ترتيب النظم أنه ذكر أولا ما هو جامع للحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ـ وهو البقل ـ إذ منه ما هو بارد رطب ـ كالهندبا ـ ومنه ما هو حار يابس ـ كالكرفس والسذاب ـ ومنه ما هو حار وفيه رطوبة ، كالنعناع «وثانيا» ما هو بارد رطب ـ وهو القثاء ـ «وثالثا» ما هو حار يابس ـ وهو الثوم ـ «ورابعا» ما هو بارد يابس ـ وهو العدس ـ «وخامسا» ما هو حار رطب ـ وهو البصل ـ وإذا طبخ صار باردا رطبا عند بعضهم ، أو يقال : إنه ذكر أولا ما يؤكل من غير علاج نار ، وذكر بعده ما يعالج به مع ما ينبغي فيه ذلك ويقبله.

(قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) استئناف وقع جوابا عن سؤال مقدر ، كأنه قيل : فما ذا قال لهم؟ فقيل قال : (أَتَسْتَبْدِلُونَ) إلخ ، والقائل إما الله تعالى على لسان موسى عليه‌السلام ، ويرجحه كون المقام مقام تعداد النعم ، أو موسى نفسه ـ وهو الأنسب بسياق النظم ـ والاستفهام للإنكار ، والاستبدال الاعتياض.

«فإن قلت» كونهم لا يصبرون (عَلى طَعامٍ واحِدٍ) افهم طلب ضم ذلك إليه ـ لا استبداله به ـ أجيب بأن قولهم : (لَنْ نَصْبِرَ) يدل على كراهتهم ذلك الطعام ، وعدم الشكر على النعمة دليل الزوال ، فكأنهم طلبوا زوالها ومجيء غيرها ، وقيل : إنهم طلبوا ذلك ، وخطابهم بهذا إشارة إلى أنه تعالى إذا أعطاهم ما سألوا منع عنهم (المن والسلوى) فلا يجتمعان ، وقيل : الاستبدال في المعدة ـ وهو كما ترى ـ وقرأ أبيّ ـ أتبدلون ـ وهو مجاز ، لأن التبديل ليس لهم ـ إنما ذلك إلى الله تعالى ـ لكنهم لما كانوا يحصل التبديل بسؤالهم جعلوا مبدلين ، وكان المعنى أتسألون

٢٧٥

تبديل الذي إلخ ، و (الَّذِي) مفعول (تَسْتَبْدِلُونَ) وهو الحاصل ، و (الَّذِي) دخلت عليه الباء هو الزائل ، وهو (أَدْنى) صلة (الَّذِي) وهو هنا واجب الإثبات ـ عند البصريين ـ إذ لا طول ، و (أَدْنى) إما من الدنو أو مقلوب من الدون ، وهو على الثاني ظاهر ، وعلى الأول مجاز استعير فيه الدنو بمعنى القرب المكاني للخسة كما استعير البعد للشرف ، فقيل : بعيد المحل بعيد الهمة ، ويحتمل أن يكون مهموزا من الدناءة ، وأبدلت فيه ـ الهمزة ألفا ـ ويؤيده قراءة زهير والكسائي «أدنأ» بالهمزة ، وأريد (بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ)(الْمَنَّ وَالسَّلْوى) ومعنى خيرية هذا المأكول بالنسبة إلى ذلك غلاء قيمته وطيب لذته ، والنفع الجليل في تناوله ، وعدم الكلفة في تحصيله ، وخلوه عن الشبهة في حله (اهْبِطُوا مِصْراً) جملة محكية بالقول كالأولى ، وإنما لم يعطف إحداهما على الأخرى في المحكي لأن الأولى خبر معنى ، وهذه ليست كذلك ، ولكونها كالمبينة لها فإن الإهباط طريق الاستبدال ، هذا إذا جعل الجملتان من كلام الله تعالى أو كلام موسى ، وإن جعل إحداهما من موسى والأخرى من الله تعالى ، فوجه الفصل ظاهر ، والوقف على خير كاف «على الأول» وتام «على الثاني» والهبوط يجوز أن يكون مكانيا بأن يكون التيه أرفع من المصر ، وأن يكون رتبيا ، وهو الأنسب بالمقام ، وقرئ (اهْبِطُوا) بضم الهمزة والباء ـ والمصر ـ البلد العظيم وأصله الحد والحاجز بين الشيئين ، قال :

وجاعل الشمس (مصرا) لا خفاء به

بين النهار وبين الليل قد فصلا

وإطلاقه على البلد لأنه ممصور أي محدود ، وأخذه من مصرت الشاة أمصرها ـ إذا حلبت كل شيء في ضرعها ـ بعيد ، وحكي عن أشهب أنه قال : قال لي مالك : هي مصر قريتك مسكن فرعون ـ فهو إذا علم ـ وأسماء المواضع قد تعتبر من حيث المكانية فتذكر ، وقد تعتبر من حيث الأرضية فتؤنث ، فهو ـ إن جعل علما ـ فإما باعتبار كونه بلدة ، فالصرف مع العلمية ، والتأنيث لسكون الوسط ، وإما باعتبار كونه ـ بلدا ـ فالصرف على بابه ، إذ الفرعية الواحدة لا تكفي في منعه ، ويؤيد ما قاله الإمام مالك رضي الله تعالى عنه أنه في مصحف ابن مسعود «مصر» بلا ـ ألف بعد الراء ـ ويبعده أن الظاهر من التنوين التنكير ، وأن قوله تعالى : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) [المائدة : ٢١] يعني الشام التي كتب الله تعالى لكم للوجوب ـ كما يدل عليه عطف النهي ـ وذلك يقتضي المنع من دخول أرض أخرى ، وأن يكون الأمر بالهبوط مقصورا على بلاد التيه ـ وهو ما بين بيت المقدس إلى قنسرين ـ ومن الناس من جعل مصر معرب ـ مصرائيم ـ كاسرائيل اسم لأحد أولاد نوحعليه‌السلام ـ وهو أول من اختطها ـ فسميت باسمه ، وإنما جاز الصرف حينئذ لعدم الاعتداد بالعجمة لوجود التعريب والتصرف فيه فافهم وتدبر (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) تعليل للأمر بالهبوط ، وفي البحر أنها جواب للأمر ـ وكما يجاب بالفعل يجاب بالجملة ـ وفي ذلك محذوفان ما يربط الجملة بما قبلها ، والضمير العائد على (ما) والتقدير ، فإن لكم فيها ما سألتموه ، والتعبير عن الأشياء المسئولة ب (ما) للاستهجان بذكرها ، وقرأ النخعي ويحيى (سَأَلْتُمْ) بكسر السين*.

(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) أي جعل ذلك محيطا بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه ، أو ألصق بهم من ضرب الطين على الحائط ففي الكلام استعارة بالكناية حيث شبه ذلك بالقبة أو بالطين ، و (ضُرِبَتْ) استعارة تبعية تحقيقية لمعنى الإحاطة والشمول أو اللزوم واللصوق بهم ، وعلى الوجهين فالكلام كناية عن كونهم أذلاء متصاغرين ، وذلك بما ضرب عليهم من الجزية التي يؤدونها عن يد وهم صاغرون ، وبما ألزموه من إظهار الزي ليعلم أنهم يهود ولا يلتبسوا بالمسلمين وبما طبعوا عليه من فقر النفس وشحها فلا ترى ملة من الملل أحرص منهم ، وبما تعودوا عليه من إظهار سوء الحال مخافة أن تضاعف عليهم الجزية إلى غير ذلك مما تراه في اليهود اليوم ، وهذا الضرب مجازاة لهم

٢٧٦

على كفران تلك النعمة ، وبهذا ارتبطت الآية بما قبلها ، وإنما أورد ضمير الغائب للإشارة إلى أن ذلك راجع إلى جميع اليهود ، وشامل للمخاطبين ، بقوله تعالى : (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة فليس من قبيل الالتفات على ما وهم (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أي نزلوا وتمكنوا بما حل بهم من البلاء والنقم في الدنيا ، أو بما تحقق لهم من العذاب في العقبى ؛ أو بما كتب عليهم من المكاره فيهما ـ أو رجعوا بغضب ـ أي صار عليهم ، ولذا لم يحتج إلى اعتبار المرجوع إليه ، أو صاروا أحقاء به ، أو استحقوا العذاب بسببه ـ وهو بعيد ـ وأصل ـ البواء ـ بالفتح والضم مساواة الأجزاء ثم استعمل في كل مساواة فيقال : هو بواء فلان أي كفؤه ، ومنه بؤ ـ لشسع نعل كليب ـ وحديث «فليتبوأ مقعده من النار» وفي وصف الغضب بكونه من الله تعالى تعظيم لشأنه بعد تعظيم وتفخيم بعد تفخيم*

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) أشار بذلك إلى ما سبق من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب العظيم ، وإنما بعّده لبعد بعضه حتى لو كان إشارة إلى البوء لم يكن على لفظ البعيد ، أو للإشارة إلى أنهم أدركتهم هذه الأمور مع بعدهم عنها لكونهم أهل الكتاب. أو للإيماء إلى بعدها في الفظاعة ، والباء للسببية وهي داخلة على المصدر المؤول ولم يعبر به ، وعبر بما عبر تنبيها على تجدد الكفر والقتل منهم حينا بعد حين واستمرارهم عليهما فيما مضى ، أو لاستحضار قبيح صنعهم و «الآيات» إما المعجزات مطلقا أو التسع التي أتى بها موسى عليه‌السلام أو ما جاء به من التسع وغيرها ، أو آيات الكتب المتلوة مطلقا ، أو التوراة أو آيات منها كالآيات التي فيها صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. أو التي فيها الرجم أو القرآن ، وفي إضافة الآيات إلى اسمه تعالى زيادة تشنيع عليهم ، وبدأ سبحانه بكفرهم بآياته لأنه أعظم كل عظيم ، وأردفه بقتلهم النبيين لأنه كالمنشأ له ، وأتى بالنبيين الظاهر في القلة دون الأنبياء الظاهر في الكثرة إذ الفرق بين الجمعين إذا كانا نكرتين وأما إذا دخلت عليهما (أل) فيتساويان ـ كما في البحر ـ فلا يرد أنهم قتلوا ثلاثمائة نبي في أول النهار ، وأقاموا سوقهم في آخره ، وقيد القتل بغير الحق مع أن قتل الأنبياء لا يكون إلا كذلك للإيذان بأن ذلك بغير الحق عندهم إذ لم يكن أحد معتقدا حقية قتل أحد منهم عليهم‌السلام ، وإنما حملهم عليه حب الدنيا ، واتباع الهوى ، والغلو في العصيان ، والاعتداء فاللام في الحق على هذا للعهد ، وقيل : الأظهر أنها للجنس ، والمراد بغير حق أصلا إذ لام الجنس المبهم كالنكرة ، ويؤيده ما في آل عمران [٢١] (بغير حق) فيفيد أنه لم يكن حقا باعتقادهم أيضا ويمكن أن يكون فائدة التقييد إظهار معايب صنيعهم فإنه قتل النبي ثم جماعة منهم ثم كونه بغير الحق ، وهذا أوفق بما هو الظاهر من كون المنهي القتل بغير الحق في نفس الأمر سواء كان حقا عند القاتل أو لا إلا أن الاقتصار على القتل بغير الحق عندهم أنسب للتعريض بما هم فيه على ما قيل ، والقول : بأنه يمكن أن يقال ـ لو لم يقيد بغير الحق لأفاد أن من خواص النبوة أنه لو قتل أحدا بغير حق لا يقتص ، ففائدة التقييد أن يكون النظم مفيدا لما هو الحكم الشرعي ـ بعيد كما لا يخفى ، قال بعض المتأخرين : هذا كله إذا كان الغير بمعنى النفي ـ أي بلا حق ، أما إذا كان بمعناه ـ أي بسبب أمر مغاير للحق أي الباطل ـ فالتقييد مفيد لأن قتلهم النبيين بسبب الباطل وحمايته ، وقريب من هذا ما قاله القفال : من أنهم كانوا يقولون : إنهم كاذبون وإن معجزاتهم تمويهات ويقتلونهم بهذا السبب وبأنهم يريدون إبطال ما هم عليه من الحق بزعمهم ، ولعل ذلك غالب أحوالهم وإلا فشعياء ، ويحيى ، وزكريا عليهم‌السلام لم يقتلوا لذلك ، وإنما قتل شعياء لأن ملكا من بني إسرائيل لما مات مرج أمر بني إسرائيل ، وتنافسوا الملك ، وقتل بعضهم بعضا فنهاهم عليه‌السلام فبغوا عليه وقتلوه ، ويحيى عليه‌السلام إنما قتل لقصة تلك الامرأة لعنها الله تعالى ، وكذلك زكريا لأنه لما قتل ابنه انطلق هاربا فأرسل الملك في طلبه غضبا لما حصل لامرأته من قتل ابنه فوجد في جوف شجرة ففلقوا الشجرة معه فلقتين طولا بمنشار ، ثم الظاهر أن الجار والمجرور مما

٢٧٧

تنازع فيه الكفر ، والقتل ، وفي البحر أنه متعلق بما عنده ، وزعم بعض الملحدين ـ أن بين هذه الآية ـ وما أشبهها ، وقوله تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) [غافر : ٥١] تناقضا ـ وأجيب بأن المقتولين من الأنبياء والموعود بنصرهم الرسل ورد بأن قوله تعالى : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ) [البقرة : ٨٧] إلى قوله سبحانه : (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) [البقرة : ٨٧] يدل على أن المقتول رسل أيضا ، وأجاب بعضهم بأن المراد النصرة بغلبة الحجة أو الأخذ بالثأر كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى قدر أن يقتل بكل نبي سبعين ألفا ، وبكل خليفة خمسا وثلاثين ألفا ولا يخفى ما فيه ، فالأحسن أن المراد بالرسل المأمورون بالقتال ـ كما أجاب به المحققين ـ لأن أمرهم بالقتال وعدم عصمتهم لا يليق بحكمة العزيز الحكيم ، وقرأ علي رضي الله تعالى عنه : يقتلون بالتشديد ، والحسن في رواية عنه وتقتلون بالتاء فيكون ذلك من الالتفات ، وقرأ نافع بهمز النبيين وكذا النبي ، والنبوة ، واستشكل بما روي أن رجلا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا نبيء الله بالهمز فقال لست بنبيء الله ـ يعني مهموزا ـ ولكن نبي الله» بغير همزة فأنكر عليه ذلك. ولهذا منع بعضهم من إطلاقه عليه عليه الصلاة والسلام على أنه استشكل أيضا جمع النبي على نبيين وهو فعيل بمعنى مفعول ، وقد صرحوا بأنه لا يجمع جمع مذكر سالم. وأجيب عن الأول بأن أبا زيد حكى نبأت من الأرض إذا خرجت منها فمنع لوهم أن معناه يا طريد الله تعالى فنهاه عن ذلك لإيهامه ، ولا يلزم من صحة استعمال الله تعالى له في حق نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ـ الذي برأه من كل نقص ـ جوازه من البشر ، وقيل إن النهي كان خاصا في صدر الإسلام حيث دسائس اليهود كانت فاشية وهذا كما نهى عن قول (راعِنا) إلى قول (انْظُرْنا) [البقرة : ١٠٤] وعن الثاني بأنه ليس بمتفق عليه إذ قيل : إنه بمعنى فاعل ولو سلم فقد خرج عن معناه الأصلي ، ولم يلاحظ فيه هذا إذ يطلقه عليه من لا يعرف ذلك ، فصح جمعه باعتبار المعنى الغالب عليه فتدبر.

(ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) إشارة إلى الكفر والقتل الواقعين سببا لما تقدم ، وجازت الإشارة بالمفرد إلى متعدد للتأويل بالمذكور ، ونحوه مما هو مفرد لفظا متعدد معنى ، وقد يجري مثل ذلك في الضمير حملا عليه ، والباء للسببية ، وما بعدها سبب للسبب ، والمعنى أن الذي حملهم على الكفر بآيات الله تعالى ، وقتلهم الأنبياء إنما هو تقدم عصيانهم واعتدائهم ومجاوزتهم الحدود ، والذنب يجر الذنب ، وأكد الأول لأنه مظنة الاستبعاد بخلاف مطلق العصيان ، وقيل : الباء بمعنى مع ، وقيل : الإشارة بذلك إلى ما أشير إليه بالأول ، وترك العاطف للدلالة على أن كل واحد منهما مستقل في استحقاق الضرب فكيف إذا اجتمعا وضعف هذا الوجه بأن التكرار خلاف الأصل مع فوات معنى لطيف حصل بالأول وسابقه بأنه لا يظهر حينئذ ـ لإيراد كلمة ذلك ـ فائدة إذ الظاهر (بِما عَصَوْا) إلخ ويفوت أيضا ما يفوت ، وحظ العارف من هذه الآيات الاعتبار بحال هؤلاء الذين لم يرضوا بالقضاء ولم يشكروا على النعماء ولم يصبروا على البلواء كيف ضرب عليهم ذل الطغيان قبل وجود الأكوان ، وقهرهم بلطمة المسكنة في بيداء الخذلان وألبس قلوبهم حب الدنيا وأهبطهم من الدرجة العليا.

«ومن باب الإشارة» الطعام الواحد هو الغذاء الروحاني من الحكمة والمعرفة ، وما تنبته الأرض هو الشهوات الخبيثة واللذات الخسيسة والتفكهات الباردة الناشئة من أرض النفوس المبتذلة في مصر البدن الموجبة للذلة لمن ذاقها والمسكنة لمن لاكها والهلاك لمن ابتلعها ، وسبب طلب ذلك الاحتجاب عن آيات الله تعالى وتجلياته وتسويد القلوب بدرن الذنوب وقطع وريدها بقطع واردها ، والذي يجر إلى هذا الغفلة عن المحبوب ، والاعتياض بالاغيار عن ذلك المطلوب نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) لما انجر الكلام إلى ذكر وعيد أهل الكتاب قرن به

٢٧٨

ما يتضمن الوعد جريا على عادته سبحانه من ذكر الترغيب والترهيب وبهذا يتضح وجه توسيط هذه الآية وما قبلها بين تعداد النعم ، وفي المراد ب (الَّذِينَ آمَنُوا) هنا أقوال ، والمروي عن سفيان الثوري أنهم المؤمنون بألسنتهم ، وهم المنافقون بدليل انتظامهم في سلك الكفرة والتعبير عنهم بذلك دون عنوان النفاق للتصريح بأن تلك المرتبة وإن عبر عنها بالإيمان لا تجديهم نفعا ولا تنقذهم من ورطة الكفر قطعا ، وعن السدي أنهم الحنيفيون ممن لم يلحق الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ـ كزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة وورقة بن نوفل ـ ومن لحقه ـ كأبي ذر وبحيرى ـ ووفد النجاشي الذين كانوا ينتظرون البعثة ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم المؤمنون بعيسى قبل أن يبعث الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، وروى السدي عن أشياخه أنهم المؤمنون بموسى إلى أن جاء عيسى عليهما‌السلام فآمنوا به ، وقيل : إنهم أصحاب سلمان الذين قصّ حديثهم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له : «هم في النار» فأظلمت الأرض عليه كما روى مجاهد عنه فنزلت عند ذلك الآية إلى (يَحْزَنُونَ) قال سلمان : فكأنما كشف عني جبل ، وقيل : إنهم المتدينون بدين محمد صلى الله تعالى عليه وسلم مخلصين أو منافقين ـ واختاره القاضي ـ وكأن سبب الاختلاف قوله تعالى فيما بعد : (مَنْ آمَنَ) إلخ فإن ذلك يقتضي أن يكون المراد من أحدهما غير المراد من الآخر وأقل الأقوال مئونة أولها (وَالَّذِينَ هادُوا) أي تهودوا يقال هاد وتهود إذا دخل في اليهودية ، و ـ يهود ـ إما عربي من هاد إذا تاب سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل ، ووجه التخصيص كون توبتهم أشق الأعمال كما مر ، وإما معرب يهوذا بذال معجمة وألف مقصورة كأنهم سموا بأكبر أولاد يعقوب عليه‌السلام ، وقرئ (هادُوا) بفتح الدال أي مال بعضهم إلى بعض (وَالنَّصارى) جمع نصران بمعنى نصراني ، وورد ذلك في كلام العرب وإن أنكره البعض كقوله :

تراه إذا دار العشيّ محنفا

ويضحى لديه وهو (نصران) شامس

ويقال في المؤنث نصران كندمان وندمانة قاله سيبويه ـ وأنشد. كما سجدت نصرانة لم تحنف. والياء في نصراني عنده للمبالغة كما يقال للأحمر أحمري إشارة إلى أنه عريق في وصفه ، وقيل : إنها للفرق بين الواحد والجمع كزنج وزنجي ، وروم ورومي ، وقيل : النصارى جمع نصري كمهري ومهارى حذفت إحدى ياءيه وقلبت الكسرة فتحة للتخفيف فقلبت الياء ألفا. وإلى ذلك ذهب الخليل ، وهو اسم لاصحاب عيسى عليه‌السلام ، وسموا بذلك لأنهم نصروه ، أو لنصر بعضهم لبعض ، وقيل : إن عيسى عليه‌السلام ولد في بيت لحم بالقدس ثم سارت به أمه إلى مصر ولما بلغ اثنتي عشرة سنة عادت به إلى الشام وأقامت بقرية ناصرة ، وقيل : نصرايا ، وقيل : نصري ، وقيل : نصرانة ، وقيل : نصران ـ وعليه الجوهري ـ فسمي من معه باسمها ، أو أخذ لهم اسم منها (وَالصَّابِئِينَ) هم قوم مدار مذهبهم على التعصب للروحانيين واتخاذهم وسائط ولما لم يتيسر لهم التقرب إليها بأعيانها والتلقي منها بذواتها فرعت جماعة منهم إلى هياكلها ، فصابئة الروم مفزعها السيارات ، وصابئة الهند مفزعها الثوابت ، وجماعة نزلوا عن الهياكل إلى الأشخاص التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عن أحد شيئا. فالفرقة الأولى هم عبدة الكواكب ، والثانية هم عبدة الأصنام وكل من هاتين الفرقتين أصناف شتى مختلفون في الاعتقادات والتعبدات ، والإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يقول : إنهم ليسوا بعبدة أوثان وإنما يعظمون النجوم كما تعظم الكعبة ، وقيل : هم قوم موحدون يعتقدون تأثير النجوم ويقرون ببعض الأنبياء كيحيى عليه‌السلام ، وقيل : إنهم يقرون بالله تعالى ويقرءون الزبور ويعبدون الملائكة ويصلون إلى الكعبة ، وقيل : إلى مهب الجنوب ، وقد أخذوا من كل دين شيئا ، وفي جواز مناكحتهم وأكل ذبائحهم كلام للفقهاء يطلب في محله ، واختلف في اللفظ فقيل غير عربي ، وقيل عربي من صبأ ـ بالهمز ـ إذا خرج أو من صبا

٢٧٩

معتلا بمعنى مال لخروجهم عن الدين الحق وميلهم إلى الباطل ، وقرأ نافع وحده بالياء وذلك إما على الأصل أو الإبدال للتخفيف.

(مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً) أي أحدث من هذه الطوائف إيمانا بالله تعالى وصفاته وأفعاله والنبوات ، وبالنشأة الثانية على الوجه اللائق ، وأتى ـ بعمل صالح ـ حسبما يقتضيه الإيمان بما ذكر ، وهذا مبني على أول الأقوال ، والقائلون بآخرها منهم من فسر الآية بمن اتصف من أولئك بالإيمان الخالص بالمبدإ والمعاد على الإطلاق سواء كان ذلك بطريق الثبات ، والدوام عليه كإيمان المخلصين ، أو بطريق إحداثه ، وإنشائه كإيمان من عداهم من المنافقين ، وسائر الطوائف ، وفائدة التعميم للمخلصين مزيد ترغيب الباقين في الإيمان ببيان أن تأخرهم في الاتصاف به غير مخل بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين ، ومنهم من فسرها بمن كان منهم في دينه قبل أن ينسخ مصدقا بقلبه بالمبدإ والمعاد عاملا بمقتضى شرعه ، فيعم الحكم المخلصين من أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، والمنافقين الذين تابوا ، واليهود والنصارى الذين ماتوا قبل التحريف والنسخ (وَالصَّابِئِينَ) الذين ماتوا زمن استقامة أمرهم إن قيل : إن لهم دينا ، وكذا يعم اليهود والصائبين الذين آمنوا بعيسى عليه‌السلام وماتوا في زمنه ، وكذا من آمن من هؤلاء الفرق بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم. وفائدة ذكر (الَّذِينَ آمَنُوا) على هذا مع أن الوعيد السابق كان في اليهود لتسكين حمية اليهود بتسوية المؤمنين بهم في أن كون كل في دينه «قبل النسخ» يوجب الأجر «وبعده» يوجب الحرمان ، كما أن ذكر (الصَّابِئِينَ) للتنبيه على أنهم مع كونهم أبين المذكورين ضلالا يتاب عليهم إذا صح منهم الإيمان والعمل الصالح ، فغيرهم بالطريق الأولى وانفهام قبل النسخ من (وَعَمِلَ صالِحاً) إذ لا صلاح في العمل بعده ، وهذا هو الموافق لسبب النزول لا سيما على رواية أن سلمان رضي الله تعالى عنه ذكر للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم حسن حال الرهبان الذين صحبهم ، فقال : «ماتوا وهم في النار» فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فقال عليه الصلاة والسلام : «من مات على دين عيسى عليه‌السلام قبل أن يسمع بي فهو على خير ، ومن سمع ولم يؤمن بي فقد هلك».

والمناسب لعموم اللفظ وعدم صرفه إلى تخصيص (الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى) بالكفرة منهم وتخصيص (مَنْ آمَنَ) إلخ بالدخول في ملة الإسلام ، إلا أنه يرد عليه أنه مستلزم أن يكون للصابئين دين ، وقد ذكر غير واحد أنه ليس لهم دين تجوز رعايته في وقت من الأوقات «ففي الملل والنحل» أن الصورة في مقابلة الحنيفية ، ولميل هؤلاء عن سنن الحق وزيغهم عن نهج الأنبياء قيل لهم : الصابئة ، ولو سلم أنه كان لهم دين سماوي ثم خرجوا عنه ، فمن مضى من أهل ذلك الدين قبل خروجهم منه ليسوا من (الصَّابِئِينَ) فكيف يمكن إرجاع الضمير الرابط بين اسم (إِنَ) وخبرها إليهم ـ على القول المشهور ـ وارتكاب إرجاعه إلى المجموع من حيث هو مجموع قصدا إلى إدراج الفريق المذكور فيهم ضرورة أن من كان من أهل الكتاب عاملا بمقتضى شرعه قبل نسخه من مجموع أولئك الطوائف بحكم اشتماله على اليهود والنصارى وإن لم يكن من (الصَّابِئِينَ) مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه؟! على أن فيه بعد ما لا يخفى فتدبر. و (مَنْ) مبتدأ ، وجوزوا فيها أن تكون موصولة والخبر جملة قوله تعالى : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ودخلت ـ الفاء ـ لتضمن المبتدأ معنى الشرط كما في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا) [البروج : ١٠] الآية ، وأن تكون شرطية ـ وفي خبرها خلاف ـ هل الشرط ، أو الجزاء ، أو هما؟ وجملة (مَنْ آمَنَ) إلخ خبر (إِنَ) فإن كانت (مَنْ) موصولة ـ وهو الشائع هنا ـ احتيج إلى تقدير ـ منهم ـ عائدا ، وإن كانت شرطية لم يحتج إلى تقديره ـ إذ العموم يغني عنه ـ كأنه قيل : هؤلاء وغيرهم إذا آمنوا (فَلَهُمْ) إلخ على ما قالوا في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [الكهف : ٣٠] وجوز بعضهم أن تكون (مَنْ)

٢٨٠