جواهر القرآن ودرره

أبو حامد الغزالي

جواهر القرآن ودرره

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٦

والأطراف ؛ وأما حدّ السرقة وقطع الطريق فدفعا لما يستهلك الأموال التي هي أسباب المعاش ؛ وأما حدّ الزّنا واللّواط والقذف فدفعا لما يشوّش أمر النسل والأنساب ، ويفسد طريق التّحارث والتّناسل ؛ وأما جهاد الكفار وقتالهم فدفعا لما يعرض من الجاحدين للحق من تشويش أسباب المعيشة والدّيانة اللتين بهما الوصول إلى الله تعالى ؛ وأما قتال أهل البغي فدفعا لما يظهر من الاضطراب ، بسبب انسلال المارقين عن ضبط السياسات الدينية ، التي يتولّاها حارس السّالكين وكافل المحقّين نائبا عن رسول ربّ العالمين ، ولا يخفى عليك الآيات الواردة في هذا الجنس ، وتحته أساسيّات ومصالح وحكم وفوائد يدركها المتأمل في محاسن الشريعة المبيّنة لحدود الأحكام الدنيوية ، ويشتمل هذا القسم على ما يسمى الحلال والحرام وحدود الله ، وفيها يوجد المسك الأذفر ، فهذه مجامع ما تنطوي عليه سور القرآن وآياتها.

وإن جمعت الأقسام [الستّة المذكورة] مع شعبها المقصودة في سلك واحد ألفيتها عشرة أنواع : ذكر الذات ، وذكر الصفات ؛ وذكر الأفعال ؛ وذكر المعاد ؛ وذكر الصّراط المستقيم ، أعني جانبي التّزكية والتّحلية ؛ وذكر أحوال الأولياء ؛ وذكر أحوال الأعداء ، وذكر محاجّة الكفار ؛ وذكر حدود الأحكام.

٢١

الفصل الرابع

في كيفية انشعاب العلوم الدينية كلها

عن الأقسام العشرة المذكورة

وأظنك الآن تشتهي أن تعرف كيفية انشعاب هذه العلوم كلها عن هذه الأقسام العشرة ، ومراتب هذه العلوم في القرب والبعد من المقصود.

[ويتمّ لك ذلك إذا عرفت انقسامها إلى : علوم الصّدف ، وعلوم الجوهر واللّباب] :

المبحث الأول

علوم الصّدف

اعلم أن لهذه الحقائق التي أشرنا إليها أسرارا وجواهر ، ولها أصداف ، والصّدف أول ما يظهر ، ثم يقف بعض الواصلين إلى الصّدف على الصّدف ، وبعضهم يفتق الصّدف ويطالع الدرّ ، فكذلك صدف جواهر القرآن وكسوته اللغة العربية ، فانشعبت منه خمس علوم وهي : علم القشر والصّدف والكسوة (١) إذ انشعب من ألفاظه علم اللغة (٢) ومن إعراب ألفاظه علم النحو (٣) ومن وجوه إعرابه علم القراءات (٤) ومن كيفية التصويت بحروفه علم مخارج الحروف ، إذ أول

٢٢

أجزاء المعاني التي منها يلتئم النطق هو الصوت ، ثم الصوت بالتّقطيع يصير حرفا ، ثم عند جمع الحروف يصير كلمة ، ثم عند تعيّن بعض الحروف المجتمعة يصير لغة عربية ، ثم بكيفية تقطيع الحروف يصير معربا ، ثم بتعيّن بعض وجوه الإعراب يصير قراءة منسوبة إلى القراءات السبع (٥) ثم إذا صار كلمة عربية صحيحة معربة صارت دالة على معنى من المعاني فتتقاضى للتفسير الظاهر وهو العلم الخامس.

فهذه علوم الصدف والقشر ، ولكن ليست على مرتبة واحدة ، بل للصّدف وجه إلى الباطن ملاق للدّر ، قريب الشّبه به لقرب الجوار ودوام المماسّة ، ووجه إلى الظاهر الخارج قريب الشّبه بسائر الأحجار ، لبعد الجوار وعدم المماسّة ، فكذلك صدف القرآن ووجهه البرّاني الخارج هو الصوت ، والذي يتولّى علم تصحيح مخارجه في الأداء والتّصويت صاحب علم الحروف ، فصاحبه صاحب علم القشر البرّاني البعيد عن باطن الصدف فضلا عن نفس الدّرّة ، وقد انتهى الجهل بطائفة إلى أن ظنوا أن القرآن هو الحروف والأصوات ، وبنوا عليها أنه مخلوق ، لأن الحروف والأصوات مخلوقة ، وما أجدر هؤلاء بأن يرجموا أو ترجم عقولهم ، فإما أن يعنّفوا أو يشدّد عليهم ، فلا يكفيهم مصيبة أنه لم يلح من عوالهم القرآن وطبقات سماواته إلا القشر الأقصى ، وهذا يعرفك منزلة علم المقرئ ، إذ لا يعلم إلّا بصحة المخارج.

ثم يليه في الرتبة علم لغة القرآن ، وهو الذي يشتمل عليه مثلا ترجمان القرآن وما يقار به من علم غريب ألفاظ القرآن.

٢٣

ثم يليه في الرتبة إلى القرب علم إعراب اللغة وهو النحو ، فهو من وجه يقع بعده لأن الإعراب بعد المعرب ، ولكنه في الرتبة دونه بالإضافة إليه لأنه كالتابع للغة.

ثم يليه علم القراءات وهو ما يعرف به وجوه الإعراب وأصناف هيئات التصويت ، وهو أخصّ بالقرآن من اللغة والنّحو ، ولكنه من الزوائد المستغنى عنها دون اللغة والنحو فإنهما لا يستغنى عنهما. فصاحب علم اللغة والنحو أرفع قدرا ممن لا يعرف إلا علم القراءات ، وكلهم يدورون على الصّدف والقشر وإن اختلفت طبقاتهم.

ويليه علم التفسير الظاهر ، وهو الطبقة الأخيرة من الصّدفة القريبة من مماسّة الدّرّ ، ولذلك يشتد به شبهه حتى يظن الظانّون أنه الدّرّ وليس وراءه أنفس منه ، وبه قنع أكثر الخلق ، وما أعظم غبنهم وحرمانهم ، إذ ظنوا أنه لا رتبة وراء رتبتهم ، ولكنهم بالإضافة إلى من سواهم من أصحاب علوم الصدف على رتبة عالية شريفة ، إذ علم التفسير عزيز بالنسبة إلى تلك العلوم ، فإنه لا يراد لها بل تلك العلوم تراد للتفسير ، وكل هؤلاء الطبقات إذا قاموا بشرط علومهم فحفظوها وأدّوها على وجهها ، فيشكر الله سعيهم وينقّي وجوههم كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها ، فربّ حامل فقه إلى غير فقيه ، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» ؛ وهؤلاء سمعوا وأدّوا ، فلهم أجر الحمل والأداء ، أدّوها إلى من هو أفقه منهم أو إلى غير فقيه. والمفسر المقتصر في علم التفسير على حكاية

٢٤

المنقول سامع ومؤدّ ، كما أن حافظ القرآن والأخبار حامل ومؤدّ.

وكذلك علم الحديث يتشعب إلى هذه الأقسام سوى القراءة وتصحيح المخارج ، فدرجة الحافظ الناقل كدرجة معلم القرآن الحافظ له ، ودرجة من يعرف ظاهر معاينه كدرجة المفسّر ، ودرجة من يعتني بعلم أسامي الرجال كدرجة أهل النحو واللغة ، لأن السّند والرّواية آلة النقل ، وأحوالهم في العدالة شرط لصلاح الآلة للنقل ، فمعرفتهم ومعرفة أحوالهم ترجع إلى معرفة الآلة وشرط الآلة ، فهذه علوم الصدف.

المبحث الثاني

علوم اللّباب

وهي على طبقتين :

أ ـ الطبقة السّفلى من علوم اللّباب وهي علوم الأقسام الثلاثة التي سمّيناها التوابع المتمّة :

ـ فالقسم الأول : معرفة قصص القرآن ، وما يتعلق بالأنبياء ، وما يتعلق بالجاحدين والأعداء ، ويتكفل بهذا العلم القصّاص والوعّاظ وبعض المحدّثين ، وهذا علم لا تعمّ إليه الحاجة.

ـ والقسم الثاني : هو محاجّة الكفار ومجادلتهم ، ومنه يتشعب علم الكلام المقصود لردّ الضلالات والبدع ، وإزالة الشّبهات ، ويتكفل به

٢٥

المتكلّمون ، وهذا العلم قد شرحناه على طبقتين ، سمينا الطبقة القريبة منهما «الرسالة القدسيّة» ؛ والطبقة التي فوقها «الاقتصاد في الاعتقاد». ومقصود هذا العلم حراسة عقيدة العوامّ عن تشويش المبتدعة ، ولا يكون هذا العلم مليّا بكشف الحقائق ، وبجنسه يتعلق الكتاب الذي صنفناه في «تهافت الفلاسفة» والذي أوردناه في الرد على الباطنيّة في الكتاب الملقب «المستظهري» وفي كتاب «حجّة الحقّ وقواصم الباطنية». وكتاب «مفصّل الخلاف في أصول الدين». ولهذا العلم آلة يعرف بها طريق المجادلة بل طرق المحاجّة بالبرهان الحقيقي ، وقد أودعناه كتاب «محكّ النظر» وكتاب «معيار العلم» على وجه لا يلفى مثله للفقهاء والمتكلمين ، ولا يثق بحقيقة الحجّة والشّبهة من لم يحط بهما علما.

ـ والقسم الثالث : علم الحدود الموضوعة للاختصاص بالأموال والنساء ، للاستعانة على البقاء في النفس والنسل ، وهذا العلم يتولّاه الفقهاء ، ويشرح الاختصاصات المالية ربع المعاملات من الفقه ؛ ويشرح الاختصاصات بمحل الحراثة أعني النساء ربع النكاح ؛ ويشرح الزّجر عن مفسدات هذه الاختصاصات ربع الجنايات ، وهذا علم تعمّ إليه الحاجة لتعلقه بصلاح الدنيا أولا ، ثم بصلاح الآخرة ، ولذلك تميز صاحب هذا العلم بمزيد الاشتهار والتّوقير ، وتقديمه على غيره من الوعّاظ والقصّاص ومن المتكلمين ، ولذلك رزق هذا العلم مزيد بحث وإطناب على قدر الحاجة فيه ، حتى كثرت فيه التصانيف ، لا سيما في الخلافيّات منه ، مع أن الخلاف فيه قريب ، والخطأ فيه غير بعيد عن

٢٦

الصواب ، إذ يقرب كل مجتهد من أن يقال له مصيب ، أو يقال إن له أجرا واحدا إن أخطأ ولصاحبه أجران ، ولكن لما عظم فيه الجاه والحشمة ، توفّرت الدواعي على الإفراط في تفريعه وتشعيبه ، وقد ضيعنا شطرا صالحا من العمر في تصنيف الخلاف منه ، وصرفنا قدرا صالحا منه إلى تصانيف المذهب وترتيبه إلى «بسيط» و «وسيط» و «وجيز» مع إيغال وإفراط في التّشعيب والتفريع ، وفي القدر الذي أودعناه كتاب «خلاصة المختصر» كفاية ، وهو تصنيف رابع وهو أصغر التصانيف ، ولقد كان الأولون يفتون في المسائل وما على حفظهم أكثر منه ، وكانوا يوفّقون للإصابة أو يتوقفون ويقولون لا ندري ، ولا يستغرقون جملة العمر فيه ، بل يشتغلون بالمهم ويحيلون ذلك على غيرهم ، فهذا وجه انشعاب الفقه من القرآن ، ويتولّد من بين الفقه والقرآن والحديث علم يسمى أصول الفقه ، ويرجع إلى ضبط قوانين الاستدلال بالآيات والأخبار على أحكام الشريعة.

ثم لا يخفى عليك أن رتبة القصّاص والوعّاظ دون رتبة الفقهاء والمتكلمين ما داموا يقتصرون على مجرد القصص وما يقرب منها ، ودرجة الفقيه والمتكلم متقاربة ، لكن الحاجة إلى الفقيه أعم ، وإلى المتكلم أشدّ وأشدّ ، ويحتاج إلى كليهما لمصالح الدنيا ، أما الفقيه فلحفظ أحكام الاختصاصات بالمآكل والمناكح ؛ وأما المتكلم فلدفع ضرر المبتدعة بالمحاجّة والمجادلة ، كيلا يستطير شررهم ولا يعمّ ضررهم ، أما نسبتهم إلى الطريق والمقصد فنسبة الفقهاء كنسبة عمّار الرّباطات والمصالح في طريق مكة إلى الحج ، ونسبة المتكلمين كنسبة

٢٧

بدرقة طريق الحج وحارسه إلى الحجاج ، فهؤلاء إن أضافوا إلى صناعتهم سلوك الطريق إلى الله تعالى بقطع عقبات النفس ، والنّزوع عن الدنيا ، والإقبال على الله تعالى ، ففضلهم على غيرهم كفضل الشمس على القمر ؛ وإن اقتصروا فدرجتهم نازلة جدا.

ب ـ الطبقة العليا من علوم اللّباب

وأما الطبقة العليا من نمط اللّباب فهي السوابق والأصول من العلوم المهمّة ، وأشرفها العلم بالله واليوم الآخر لأنه علم المقصد ، ودونه العلم بالصراط المستقيم وطريق السلوك ، وهو معرفة تزكية النفس ، وقطع عقبات الصفات المهلكات ، وتحليتها بالصفات المنجّيات ، وقد أودعنا هذه العلوم بكتب «إحياء علوم الدين» ففي ربع المهلكات ما تجب تزكية النفس منه ، من الشّره والغضب ، والكبر والرّياء والعجب ، والحسد وحب الجاه وحب المال وغيرها ، وفي ربع المنجيات يظهر ما يتحلّى به القلب من الصفات المحمودة كالزهد والتوكل والرضا والمحبة والصدق والإخلاص وغيرها.

وبالجملة يشتمل كتاب «الإحياء» على أربعين كتابا ، يرشدك كل كتاب إلى عقبة من عقبات النفس ، وأنها كيف تقطع ، وإلى حجاب من حجبها ، وأنه كيف يرفع ، وهذا العلم فوق علم الفقه والكلام وما قبله ، لأنه علم طريق السلوك ، وذلك علم آلة السلوك وإصلاح منازله ودفع مفسداته كما يظهر ، والعلم الأعلى الأشرف علم معرفة الله تعالى ، فإن سائر العلوم تراد له ومن أجله وهو لا يراد لغيره ، وطريق التدريج

٢٨

فيه التّرقّي من الأفعال إلى الصفات ، ثم من الصفات إلى الذات ، فهي ثلاث طبقات :

أعلاها علم الذّات ، ولا يحتملها أكثر الأفهام ، ولذلك قيل لهم «تفكّروا في خلق الله ولا تفكّروا في ذات الله». وإلى هذا التدريج يشير تدرّج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ملاحظته ونظره حيث قال : «أعوذ بعفوك من عقابك» فهذه ملاحظة الفعل ؛ ثم قال : «وأعوذ برضاك من سخطك» وهذه ملاحظة الصفات ؛ ثم قال : «وأعوذ بك منك» وهذه ملاحظة الذات ؛ فلم يزل يترقّى إلى القرب درجة درجة ، ثم عند النهاية اعترف بالعجز فقال : «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» فهذا أشرف العلوم.

ويتلوه في الشّرف علم الآخرة وهو علم المعاد كما ذكرناه في الأقسام الثلاثة وهو متصل بعلم المعرفة ، وحقيقته معرفة نسبة العبد إلى الله تعالى عند تحقّقه بالمعرفة ، أو مصيره محجوبا بالجهل. وهذه العلوم الأربعة ، أعني (١) علم الذات (٢) والصفات (٣) والأفعال (٤) وعلم المعاد ، أودعنا من أوائله ومجامعه القدر الذي رزقنا منه ، مع قصر العمر وكثرة الشواغل والآفات ، وقلة الأعوان والرفقاء ، بعض التّصانيف لكنا لم نظهره ، فإنه يكلّ عنه أكثر الأفهام ، ويستضرّ به الضعفاء ، وهم أكثر المترسّمين بالعلم ، بل لا يصلح إظهاره إلا على من أتقن علم الظاهر ، وسلك في قمع الصفات المذمومة من النفس وطرق المجاهدة ، حتى ارتاضت نفسه واستقامت على سواء السبيل ، فلم يبق له حظ في الدنيا ، ولم يبق له طلب إلّا الحق ، ورزق مع ذلك فطنة

٢٩

وقّادة ، وقريحة منقادة ، وذكاء بليغا ، وفهما صافيا ، وحرام على من يقع ذلك الكتاب بيده أن يظهره إلّا على من استجمع هذه الصفات ، فهذه هي مجامع العلم التي تتشعب من القرآن ومراتبها.

٣٠

الفصل الخامس

في انشعاب سائر العلوم من القرآن

ولعلّك تقول : إن العلوم وراء هذه كثيرة ، كعلم الطب والنجوم ، وهيئة العالم ، وهيئة بدن الحيوان وتشريح أعضائه ، وعلم السّحر والطّلّسمات ، وغير ذلك.

فاعلم : أنّا إنما أشرنا إلى العلوم الدينية التي لا بد من وجود أصلها في العالم ، حتى يتيسر سلوك طريق الله تعالى والسفر إليه. أما هذه العلوم التي أشرت إليها فهي علوم ، ولكن لا يتوقف على معرفتها صلاح المعاش والمعاد ، فلذلك لم نذكرها ، ووراء ما عددته علوم أخر يعلم تراجمها ولا يخلو العالم عمن يعرفها ، ولا حاجة إلى ذكرها.

بل أقول : ظهر لنا بالبصيرة الواضحة التي لا يتمارى فيها أن في الإمكان والقوة أصنافا من العلوم بعد لم تخرج من الوجود ، وإن كان في قوة الآدميّ الوصول إليها ؛ وعلوم كانت قد خرجت إلى الوجود واندرست الآن ، فلن يوجد في هذه الأعصار على بسيط الأرض من يعرفها ؛ وعلوم أخر ليس في قوة البشر أصلا إدراكها والإحاطة بها ، ويحظى بها بعض الملائكة المقرّبين ، فإن الإمكان في حق الآدميّ محدود ، والإمكان في حق الملك محدود إلى غاية في الكمال بالإضافة ، كما أنه في حق البهيمة محدود إلى غاية في النقصان ، وإنما الله سبحانه هو الذي لا يتناهى العلم في حقه ، ويفارق علمنا علم الحقّ تبارك

٣١

وتعالى في شيئين : أحدهما انتفاء النهاية عنه ، والآخر أن العلوم ليست في حقه بالقوة والإمكان الذي ينتظر خروجه بالوجود ، بل هو بالوجود والحضور ، فكل ممكن في حقه من الكمال فهو حاضر موجود.

ثم هذه العلوم ما عددناها وما لم نعدها ليست أوائلها خارجة عن القرآن ، فإن جميعها مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى ، وهو بحر الأفعال ، وقد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له ، وأن البحر لو كان مدادا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد. فمن أفعال الله تعالى وهو بحر الأفعال مثلا الشفاء والمرض ، كما قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)(١). وهذا الفعل الواحد لا يعرفه إلا من عرف الطبّ بكماله ، إذ لا معنى للطب إلا معرفة المرض بكماله وعلاماته ، ومعرفة الشفاء وأسبابه ، ومن أفعاله تبارك وتعالى تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بحسبان ، وقد قال الله تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ)(٢) ؛ وقال : (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ)(٣) ؛ وقال : (وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ)(٤) ؛ وقال : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ)(٥) ؛ وقال : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)(٦).

__________________

(١) الآية ٨٠ / من سورة الشعراء.

(٢) الآية ٥ / من سورة الرحمن.

(٣) الآية ٥ / من سورة يونس.

(٤) الآية ٨ / من سورة القيامة.

(٥) الآية ١٣ / من سورة فاطر.

(٦) الآية ٣٨ / من سورة يس.

٣٢

ولا يعرف حقيقة سير الشمس والقمر بحسبان ، وخسوفهما وولوج الليل في النهار ، وكيفية تكوّر أحدهما على الآخر ، إلا من عرف هيئات تركيب السّماوات والأرض ، وهو علم برأسه.

ولا يعرف كمال معنى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ)(١) إلا من عرف تشريح الأعضاء من الإنسان ظاهرا وباطنا ، وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها ، وقد أشار في القرآن في مواضع إليها ، وهي من علوم الأوّلين والآخرين ، وفي القرآن مجامع علم الأوّلين والآخرين.

وكذلك لا يعرف كمال معنى قوله تعالى (سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي)(٢) من لم يعلم التّسوية والنّفخ والرّوح ، ووراءها علوم غامضة يغفل عن طلبها أكثر الخلق ، وربما لا يفهمونها إن سمعوها من العالم بها ، ولو ذهبت أفصّل ما تدل عليه آيات القرآن من تفاصيل الأفعال لطال ، ولا تمكن الإشارة إلا إلى مجامعها ، وقد أشرنا إليه حيث ذكرنا أن من جملة معرفة الله تعالى معرفة أفعاله ، فتلك الجملة تشتمل على هذه التفاصيل ، وكذلك كل قسم أجملناه لو شعّب لانشعب إلى تفاصيل كثيرة ، فتفكّر في القرآن والتمس غرائبه ، لتصادف فيه مجامع علم الأوّلين والآخرين ، وجملة أوائله ، وإنما التفكر فيه للتوصل من جملته إلى تفصيله وهو البحر الذي لا شاطئ له.

__________________

(١) الآية ٦ / من سورة الانفطار.

(٢) الآية ٢٩ / من سورة الحجر.

٣٣

الفصل السادس

في وجه التّسمية بالألقاب

التي لقّب بها أقسام القرآن

ولعلك تقول : أشرت في بعض أقسام العلوم إلى أنه يوجد فيها التّرياق الأكبر ، وفي بعضها المسك الأذفر ، وفي بعضها الكبريت الأحمر ، إلى غير ذلك من النفائس ، فهذه استعارات رسمية تحتها رموز وإشارات خفية.

فاعلم : أن التكلّف والترسّم ممقوت عند ذوي الجد ، فما كلمة طمس إلا وتحتها رموز وإشارات إلى معنى خفيّ ، يدركها من يدرك الموازنة والمناسبة بين عالم الملك وعالم الشهادة وبين عالم الغيب والملكوت ، إذ ما من شيء في عالم الملك والشّهادة إلا وهو مثال لأمر روحاني من عالم الملكوت كأنه هو في روحه ومعناه ، وليس هو هو في صورته وقالبه ، والمثال الجسماني من عالم الشهادة مندرج إلى المعنى الروحاني من ذلك العالم ، ولذلك كانت الدنيا منزلا من منازل الطريق إلى الله ضروريا في حق الانس ، إذ كما يستحيل الوصول إلى اللبّ إلا من طريق القشر فيستحيل الترقّي إلى عالم الأرواح إلا بمثال عالم الأجسام ، ولا تعرف هذه الموازنة إلا بمثال ، فانظروا إلى ما ينكشف للنائم في نومه من الرؤيا الصحيحة التي هي جزء من ستة

٣٤

وأربعين جزءا من النبوة ، وكيف ينكشف بأمثلة خيالية ، فمن يعلّم الحكمة غير أهلها يرى في المنام أنه يعلق الدرّ على الخنازير. ورأى بعضهم : أنه كان في يده خاتم يختم به فروج النساء وأفواه الرجال ، فقال له ابن سيرين : أنت رجل تؤذن في رمضان قبل الصبح ، فقال : نعم. ورأى آخر : كأنه يصبّ الزيت في الزيتون ، فقال له : إن كان تحتك جارية فهي أمك ، قد سبيت وبيعت واشتريتها أنت ولا تعرف ، فكان كذلك.

فانظر ختم الأفواه والفروج بالخاتم مشاركا للأذان قبل الصبح في روح الخاتم وهو المنع وإن كان مخالفا في صورته ، وقس على ما ذكرته ما لم أذكره.

واعلم : أن القرآن والأخبار تشتمل على كثير من هذا الجنس ، فانظر إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرّحمن» فإن روح الأصبع القدرة على سرعة التقليب ، وإنما قلب المؤمن بين لمّة الملك وبين لمّة الشيطان ، هذا يغويه ، وهذا يهديه ، والله تعالى بهما يقلّب قلوب العباد كما تقلّب الأشياء أنت بإصبعيك ، فانظر كيف شارك نسبة الملكين المسخّرين إلى الله تعالى إصبعيك في روح إصبعيه وخالفا في الصورة.

واستخرج من هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله تعالى خلق آدم على صورته» وسائر الآيات ، والأحاديث الموهمة عند الجهلة للتشبيه ، والذكي يكفيه مثال واحد ، والبليد لا يزيده التكثير إلا تحيّرا ،

٣٥

ومتى عرفت معنى الأصبع ، أمكنك الترقي إلى القلم واليد واليمين والوجه والصورة ، وأخذت جميعها معنى روحانيا لا جسمانيا ، فتعلم أن روح القلم وحقيقته التي لا بد من تحقيقها إذا ذكرت حدّ القلم : هو الذي يكتب به ، فإن كان في الوجود شيء يتسطّر بواسطته نقش العلوم في ألواح القلوب ، فأخلق به أن يكون هو القلم ، فإن الله تعالى علّم بالقلم ، علّم الإنسان ما لم يعلم ، وهذا القلم روحاني إذ وجد فيه روح القلم وحقيقته ، ولم يعوزه إلا قالبه وصورته ، وكون القلم من خشب أو قصب ليس من حقيقة القلم ، ولذلك لا يوجد في حدّه الحقيقي ، ولكل شيء حدّ وحقيقة هي روحه ، فإذا اهتديت إلى الأرواح صرت روحانيا ، وفتحت لك أبواب الملكوت ، وأهّلت لمرافقة الملأ الأعلى ، وحسن أولئك رفيقا ، ولا يستبعد أن يكون في القرآن إشارات من هذا الجنس ، وإن كنت لا تقوى على احتمال ما يقرع سمعك من هذا النّمط ، ما لم تسند التفسير إلى الصحابة ، فإن كان التقليد غالبا عليك ، فانظر إلى تفسير قوله تعالى كما قاله المفسّرون : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ)(١) الآية ، وأنه كيف مثّل العلم بالماء ، والقلوب بالأودية ، والينابيع والضّلال بالزّبد ، ثم نبهك على آخرها فقال : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) ؛ ويكفيك هذا القدر من هذا الفن فلا تطيق أكثر منه.

__________________

(١) الآية ١٧ / من سورة الرعد.

٣٦

وبالجملة فاعلم : إنّ كل ما يحتمله فهمك فإن القرآن يلقيه إليك على الوجه الذي لو كنت في النوم مطالعا بروحك اللوح المحفوظ لتمثل ذلك لك بمثال مناسب يحتاج إلى التعبير. واعلم أن التأويل يجري مجرى التّعبير ، فلذلك قلنا يدور المفسّر على القشر ، إذ ليس من يترجم معنى الخاتم والفروج والأفواه كمن يدرك أنه أذان قبل الصبح.

٣٧

الفصل السابع

في سبب التّعبير عن معاني عالم الملكوت في القرآن

بأمثلة من عالم الشّهادة

ولعلك تقول : لم أبرزت هذه الحقائق في هذه الأمثلة ولم تكشف صريحا ، حتى ارتبك الناس في جهالة التّشبيه وضلالة التّخييل؟

فاعلم : أن هذا تعرفه إذا عرفت أن النائم لم ينكشف له الغيب من اللوح المحفوظ ، إلا بالمثال دون الكشف الصريح كما حكيت لك المثل ، وذلك يعرفه من يعرف العلاقة الخفيّة التي بين عالم الملك والملكوت. ثم إذا عرفت ذلك عرفت أنك في هذا العالم نائم وإن كنت مستقيظا ، فالناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا فينكشف لهم عند الانتباه بالموت حقائق ما سمعوه بالمثال وأرواحها ، ويعلمون أن تلك الأمثلة كانت قشورا وأصدافا لتلك الأرواح ، ويتيقّنون صدق آيات القرآن وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما تيقّن ذلك المؤذن صدق قول ابن سيرين وصحة تعبيره للرؤيا ، وكل ذلك ينكشف عند اتّصال الموت ، وربما ينكشف بعضه في سكرات الموت ، وعند ذلك يقول الجاحد

٣٨

والغافل : (يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا)(١) وقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)(٢) الآية ؛ ويقول : (يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً)(٣)(يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً)(٤)(يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ)(٥)(يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها)(٦)(رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ)(٧) ؛ وإلى هذا يشير أكثر آيات القرآن المتعلقة بشرح المعاد والآخرة التي أضفنا إليها الزّبرجد الأخضر.

فافهم من هذا أنّك ما دمت في هذه الحياة الدنيا فأنت نائم ، وإنما يقظتك بعد الموت ، وعند ذلك تصير أهلا لمشاهدة صريح الحقّ كفاحا ، وقبل ذلك لا تحتمل الحقائق إلا مصبوبة في قالب الأمثال الخياليّة ، ثم لجمود نظرك على الحسّ تظنّ أنه لا معنى له إلا المتخيّل ، وتغفل عن الروح كما تغفل عن روح نفسك ولا تدرك إلا قالبك.

__________________

(١) الآية ٦٦ / من سورة الأحزاب.

(٢) الآية ٥٣ / من سورة الأعراف.

(٣) الآية ٢٨ / من سورة الفرقان.

(٤) الآية ٤٠ / من سورة النّبأ.

(٥) الآية ٥٦ / من سورة الزّمر.

(٦) الآية ٣١ / من سورة الأنعام.

(٧) الآية ١٢ / من سورة السّجدة.

٣٩

الفصل الثامن

في الطريق الذي ينكشف به للإنسان

وجه العلاقة بين العالمين

لعلّك تقول : فاكشف عن وجه العلاقة بين العالمين ، وأنّ الرّؤيا لم كانت بالمثال دون الصريح ، وأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم كان يرى جبريل كثيرا في غير صورته ، وما رآه في صورته إلا مرّتين.

فاعلم : أنك إن ظننت أن هذا يلقى إليك دفعة ، من غير أن تقدّم الاستعداد لقبوله ، بالرياضة والمجاهدة ، واطّراح الدنيا بالكلية ، والانحياز عن غمار الخلق ، والاستغراق في محبة الخالق وطلب الحق ، فقد استكبرت وعلوت علوّا كبيرا ، وعلى مثلك يبخل بمثله ، ويقال :

جئتماني لتعلما سرّ سعدي

تجداني بسرّ سعدي شحيحا

فاقطع طمعك عن هذا بالمكاتبة والمراسلة ، ولا تطلبه إلا من باب المجاهدة والتقوى ، فالهداية تتلوها وتثبّتها كما قال الله تعالى (وَالَّذِينَ

٤٠