تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٨

وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠))

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ).

أعقب التحريض على الصدقات والإنفاق بالإشارة إلى دحض سبب الشح أنه الحرص على استبقاء المال لإنفاقه في لذائذ الحياة الدنيا ، فضرب لهم مثل الحياة الدنيا بحال محقّرة على أنها زائلة تحقيرا لحاصلها وتزهيدا فيها لأن التعلق بها يعوق عن الفلاح قال تعالى : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر : ٩] ، وقال : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [النساء : ١٢٨].

كل ذلك في سياق الحث على الإنفاق الواجب وغيره ، وأشير إلى أنها ينبغي أن تتخذ الحياة وسيلة للنعيم الدائم في الآخرة ، ووقاية من العذاب الشديد ، وما عدا ذلك من أحوال الحياة فهو متاع قليل ، ولذلك أعقب مثل الحياة الدنيا بالإخبار عن الآخرة بقوله : «في الآخرة عذاب» إلخ.

وافتتاح هذا بقوله تعالى : (اعْلَمُوا) للوجه الذي بيناه آنفا في قوله : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) [الحديد : ١٧].

و (أَنَّمَا) المفتوحة الهمزة أخت (إنما) المكسورة الهمزة في إفادة الحصر ، وحصر الحياة الدنيا في الأخبار الجارية عليها هو قصر أحوال الناس في الحياة على هذه الأمور الستة باعتبار غالب الناس ، فهو قصر ادعائي بالنظر إلى ما تنصرف إليه همم غالب الناس من شئون الحياة الدنيا ، والتي إن سلم بعضهم من بعضها لا يخلو من ملابسة بعض آخر إلا الذين عصمهم الله تعالى فجعل أعمالهم في الحياة كلها لوجه الله ، وإلا فإن الحياة قد يكون فيها أعمال التقى والمنافع والإحسان والتأييد للحق وتعليم الفضائل وتشريع القوانين.

وقد ذكر هنا من شئون الحياة ما هو الغالب على الناس وما لا يخلو من مقارفة تضييع الغايات الشريفة أو اقتحام مساو ذميمة ، وهي أصول أحوال المجتمع في الحياة ، وهي أيضا أصول أطوار آحاد الناس في تطور كل واحد منهم ، فإن اللعب طور سنّ الطفولة والصبا ، واللهو طور الشباب ، والزينة طور الفتوة ، والتفاخر طور الكهولة ، والتكاثر طور الشيخوخة. وذكر هنا خمسة أشياء :

٣٦١

فاللعب : اسم لقول أو فعل يراد به المزح والهزل لتمضية الوقت أو إزالة وحشة الوحدة ، أو السكون ، أو السكوت ، أو لجلب فرح ومسرة للنفس ، أو يجلب مثل ذلك للحبيب ، أو يجلب ضده للبغيض ، كإعمال الأعضاء وتحريكها دفعا لوحشة السكون ، والهذيان المقصود لدفع وحشة السكوت ، ومنه العبث ، وكالمزح مع المرأة لاجتلاب إقبالها ومع الطفل تحببا أو إرضاء له.

واللعب : هو الغالب على أعمال الأطفال والصبيان فطور الطفولة طور اللعب ويتفاوت غيرهم في الإتيان منه فيقل ويكثر بحسب تفاوت الناس في الأطوار الأولى من الإنسان وفي رجاحة العقول وضعفها. والإفراط فيه من غير أصحاب طوره يؤذن بخسة العقل ، ولذلك قال قوم إبراهيم له : (أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) [الأنبياء : ٥٥]. واللعب يكثر في أحوال الناس في الدنيا فهو جزء عظيم من أحوالها وحسبك أنه يعمر معظم أحوال الصبا.

واللهو : اسم لفعل أو قول يقصد منه التذاذ النفس به وصرفها عن ألم حاصل من تعب الجسد أو الحزن أو الكمد ، يقال : لها عن الشيء ، أي تشاغل عنه. قال امرؤ القيس:

وبيضة خدر لا يرام خباؤها

تمتعت من لهو بها غير معجل

وقال النابغة يذكر حجه :

حيّاك ربي فإنا لا يحل لنا

لهو النساء وإن الدّين قد عزما

ويغلب اللهو على أحوال الشباب فطور الشباب طوره ، ويكثر اللهو في أحوال الدنيا من تطلب اللذات والطرب.

والزينة : تحسين الذات أو المكان بما يجعل وقعه عند ناظره مسرا له ، وفي طباع الناس الرغبة في أن تكون مناظرهم حسنة في عين ناظريهم وذلك في طباع النساء أشد ، وربّما كان من أسباب شدته فيهن كثرة إغراء الرجال لهن بذلك.

ويكثر التزين في طور الفتوة لأن الرجل يشعر بابتداء زوال محاسن شبابه ، والمرأة التي كانت غانية تحب أن تكون حالية ، وليس ذلك لأجل تعرضها للرجال كما يتوهمه الرجال فيهن غرورا بأنفسهم بل ذلك لتكون حسنة في الناس من الرجال والنساء.

ويغلب التزين على أحوال الحياة فإن معظم المساكن والملابس يراد منه الزينة ، وهي

٣٦٢

ذاتية ومعنوية ، ومن المعنوية ما يسمى في أصول الفقه بالتحسيني.

والتفاخر : الكلام الذي يفخر به ، والفخر : حديث المرء عن محامده والصفات المحمودة منها فيه بالحق أو الباطل. وصيغ منه زنة التفاعل لأن شأن الفخر أن يقع بين جانبين كما أنبأ به تقييده بظرف (بَيْنَكُمْ).

والناس يتفاخرون بالصفات المحمودة في عصورهم وأجيالهم وعاداتهم ، فمن الصفات ما الفخر به غير باطل. وهو الصفات التي حقائقها محمودة في العقل أو الشرع. ومنها ما الفخر به باطل من الصفات والأعمال التي اصطلح قوم على التمدح بها وليست حقيقة بالمدح مثل التفاخر بالإغلاء في ثمن الخمور وفي الميسر والزنى والفخر بقتل النفوس والغارة على الأموال في غير حق.

وأغلب التفاخر في طور الكهولة واكتمال الاشدّ لأنه زمن الإقبال على الأفعال التي يقصد منها الفخر.

والتفاخر كثير في أحوال الناس في الدنيا ، ومنه التباهي والعجب ، وعنه ينشأ الحسد.

والتكاثر : تفاعل من الكثرة ، وصيغة التفاعل هنا للمبالغة في الفعل بحيث ينزل منزلة من يغالب غيره في كثرة شيء ، فإنه يكون أحرص على أن يكون الأكثر منه عنده فكان المرء ينظر في الكثرة من الأمر المحبوب إلى امرئ آخر له الكثرة منه ، ألا ترى إلى قول طرفة:

فلو شاء ربي كنت قيس بن عاصم

ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد

فأصبحت ذا مال كثير وطاف بي

بنون كرام سادة لمسوّد

ثم شاع إطلاق صيغة التكاثر فصارت تستعمل في الحرص على تحصيل الكثير من غير مراعاة مغالبة الغير ممن حصل عليه ، قال تعالى : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) [التكاثر : ١].

و (فِي) من قوله : (فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) : إما مستعملة في التعليل ، وإما هي الظرفية المجازية ، فإن جعلت الأموال كالظرف يحصل تكاثر الناس عنده كمن ينزع في بئر.

والمعنى : أن الله أقام نظام أحوال الناس في الحياة الدنيا على حكمة أن تكون

٣٦٣

الحياة وسيلة لبلوغ النفوس إلى ما هيّأها الله له من العروج إلى سمو الملكيّة كما دل عليه قوله: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] ، فكان نظام هذه الحياة على أن تجري أمور الناس فيها على حسب تعاليم الهدى للفوز بالحياة الأبدية في النعيم الحق بعد الممات والبعث ، فإذا الناس قد حرفوها عن مهيعها ، وقد تضمن ذلك قوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل : ٩٧].

(كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً).

يجوز أن يكون في موضع خبر من مبتدأ محذوف ، أي هي كمثل غيث فتكون الجملة استئنافا ، وحذف المسند إليه من النوع الذي سماه السكاكي «متابعة الاستعمال».

ويجوز أن يكون الكاف في موضع الحال و (كَمَثَلِ) معناه كحال ، أي حال الحياة الدنيا كحال غيث إلخ ، فشبهت هيئة أهل الدنيا في أحوالهم الغالبة عليهم والمشار إلى تنويعها بقوله : (لَعِبٌ وَلَهْوٌ) إلى آخره بهيئة غيث أنبت زرعا فأينع ثم اصفر ثم اضمحلّ وتحطم ، أي تشبيه هيئة هذه الأحوال الغالبة على الناس في الحياة في كونها محبوبة للناس مزهية لهم وفي سرعة تقضيها بهيئة نبات جديد أنبته غيث فاستوى واكتمل وأعجب به من رآه فمضت عليه مدة فيبس وتحطم.

والمقصود بالتمثيل هو النبات ، وإنما ابتدئ بغيث تصويرا للهيئة من مبادئها لإظهار مواقع الحسن فيها لأن ذلك يكتسب منه المشبه حسنا كما فعل كعب بن زهير في تحسين أوصاف الماء الذي مزجت به الراح في قوله :

شجت بذي شبم من ماء محنية

صاف بأبطح أضحى وهو مشمول

تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه

من صوب سارية بيض يعاليل

وعن ابن مسعود «أن الكفار : الزرّاع ، جمع كافر وهو الزارع لأنه يكفر الزريعة بتراب الأرض ، والكفر بفتح الكاف الستر ، أي ستر الزريعة ، وإنما أوثر هذا الاسم هنا وقد قال تعالى في سورة الفتح [٢٩] : (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) ، قصدا هنا للتورية بالكفار الذين هم الكافرون بالله لأنهم أشد إعجابا بمتاع الدنيا إذ لا أمل لهم في شيء بعده. وقال جمع من المفسرين : الكفار جمع الكافر بالله لأنهم قصروا إعجابهم على الأعمال ذات الغايات الدنيا دون الأعمال الدينية ، فذكر الكفار تلويح إلى أن المثل مسوق إلى جانبهم أوّلا.

٣٦٤

والنبات : اسم مصدر نبت قال تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] ، وهو هنا أطلق على النابت من إطلاق المصدر على الفاعل وهو كثير ، وأصله أن يراد به المبالغة ، وقد يشيع فيزول قصد المبالغة به.

وقوله : (ثُمَّ يَهِيجُ) تضافرت كلمات المفسرين على تفسير يهيج ب (ييبس) أو يجف ، ولم يستظهروا بشاهد من كلام العرب يدل على أن من معاني الهياج الجفاف ، وقد قال الراغب : يقال : هاج البقل ، إذا اصفرّ وطاب ، وفي «الأساس» : من المجاز هاج البقل ، إذا أخذ في اليبس. وهذان الإمامان لم يجعلا (هاج) بمعنى (يبس) وكيف لفظ الآية (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا) ، فالوجه أن الهياج : الغلظ ومقاربة اليبس ، لأن مادة الهياج تدل على الاضطراب والثوران وسميت الحرب الهيجاء ، وقال النابغة :

أهاجك من سعداك مغنى المعاهد

والزرع إذا غلظ يكون لحركته صوت فكأنه هائج ، أي ثائر وذلك ابتداء جفافه ، وذلك كقوله تعالى : (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) في سورة الفتح [٢٩].

وعطفت جملة (يَهِيجُ) ب (ثم) لإفادة التراخي الرتبي لأن اصفرار النبات أعظم دلالة على التهيّؤ للزوال ، وهذا هو الأهم في مقام التزهيد في متاع الدنيا.

وعطف (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) بالفاء لأن اصفرار النبت مقارب ليبسه ، وعطف (ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) ب (ثم) كعطف (ثُمَّ يَهِيجُ).

والحطام : بضم الحاء ما حطم ، أي كسر قطعا.

فضرب مثل الحياة الدنيا لأطوار ما فيها من شباب وكهولة وهرم ففناء ، ومن جدة وتبذّل وبلى ، ومن إقبال الأمور في زمن إقبالها ثم إدبارها بعد ذلك ، بأطوار الزرع. وكلّها أعراض زائلة وآخرها فناء.

وتندرج فيها أطوار المرء في الحياة المذكورة في قوله : (لَعِبٌ وَلَهْوٌ) إلى (وَالْأَوْلادِ) كما يظهر بالتأمل.

وهذا التمثيل مع كونه تشبيه هيئة مركّبة بهيئة مثلها هو صالح للتفريق ومقابلة أجزاء الهيئة المشبهة بأجزاء الهيئة المشبه بها ، فيشبّه أول أطوار الحياة وإقبالها بالنبات عقب

٣٦٥

المطر ، ويشبّه الناس المنتفعون بإقبال الدنيا بناس زراع ، ويشبّه اكتمال أحوال الحياة وقوة الكهولة بهياج الزرع ، ويشبّه ابتداء الشيخوخة ثم الهرم وابتداء ضعف عمل العامل وتجارة التاجر وفلاحة الفلاح باصفرار الزرع وتهيئه للفناء ، ويشبه زوال ما كان للمرء من قوة ومال بتحطم الزرع.

ويفهم من هذا أن ما كان من أحوال الحياة مقصودا لوجه الله فإنه من شئون الآخرة فلا يدخل تحت هذا التمثيل إلا ظاهرا. فأعمال البر ودراسة العلم ونحو ذلك لا يعتريها نقص ما دام صاحبها مقبلا عليها ، وبعضها يزداد نماء بطول المدة ، وتقدم نظير هذه الآية في سورة الزمر.

(وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ).

كان ذكر حال الحياة الدنيا مقتضيا ذكر مقابلة على عادة القرآن ، والخبر مستعمل في التحذير والتحريض بقرينة السياق ، ولذلك لم يبين أصحاب العذاب وأصحاب المغفرة والرضوان لظهور ذلك.

وكني عن النعيم بمغفرة من الله ورضوان لأن النعيم قسمان مادي وروحاني ، فالمغفرة والرضوان أصل النعيم الروحاني كما قال تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢] وهما يقتضيان النعيم الجسماني لأن أهل الجنة لما ركبت ذواتهم من أجسام وأودعت فيها الأرواح كان النعيمان مناسبين لهم تكثيرا للذات ، وما لذة الأجسام إلا صائرة إلى الأرواح لأنها المدركة اللذات ، وكان رضوان الله يقتضي إعطائهم منتهى ما به التذاذهم ، ومغفرته مقتضية الصفح عما قد يعوق عن بعض ذلك.

وعطف (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) على (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) للمقابلة بين الحالين زيادة في الترغيب والتنفير.

والكلام على تقدير مضاف ، أي وما أحوال الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.

والحصر ادعائي باعتبار غالب أحوال الدنيا بالنسبة إلى غالب طالبيها ، فكونها متاعا أمر مطرد وكون المتاع مضافا إلى الغرور أمر غالب بالنسبة لما عدا الأعمال العائدة على المرء بالفوز في الآخرة.

والغرور : الخديعة ، أي إظهار الأمر الضار الذي من شأنه أن يحترز العاقل منه في صورة النافع الذي يرغب فيه.

٣٦٦

وإضافة (مَتاعُ) إلى (الْغُرُورِ) على معنى لام العاقبة ، أي متاع صائر لأجل الغرور به ، أي آيل إلى أنه يغرّ الناظرين إليه فيسرعون في التعلق به.

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١))

فذلكة لما تقدم من قوله تعالى : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ) [الحديد : ١٢] إلى هنا فذلك مسوق مساق الترغيب فيما به تحصيل نعيم الآخرة والتحذير من فواته وما يصرف عنه من إيثار زينة الدنيا ، ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف ، واقتصر في الفذلكة على الجانب المقصود ترغيبه دون التعرض إلى المحذر منه لأنه المقصود.

وعبر عن العناية والاهتمام بفعل السابقة لإلهاب النفوس بصرف العناية بأقصى ما يمكن من الفضائل كفعل من يسابق غيره إلى غاية فهو يحرص على أن يكون المجلّي ، ولأن المسابقة كناية عن المنافسة ، أي واتركوا المقتصرين على متاع الحياة الدنيا في الآخريات والخوالف.

وتنكير (مَغْفِرَةٌ) لقصد تعظيمها ولتكون الجملة مستقلة بنفسها ، وإلا فإن المغفرة سبق ذكرها في قوله : (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ) ، فكان مقتضى الظاهر أن يقال : سابقوا إلى المغفرة ، أي أكثروا من أسبابها ووسائلها : فالمسابقة إلى المغفرة هي المسابقة في تحصيل أسبابها.

والعرض : مستعمل في السعة وليس مقابل الطور لظهور أنه لا طائل في معنى ما يقابل الطول ، وهذا كقوله تعالى : (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) [فصلت : ٥١] ، وقول العديل لما فرّ من وعيد الحجاج :

ودون يد الحجاج من أن تنالني

بساط بأيدي الناعجات عريض

وتشبيه عرض الجنة بعرض السماء والأرض ، أي مجموع عرضيهما لقصد تقريب المشبه بأقصى ما يتصوره الناس في الاتساع ، وليس المراد تحديد ذلك العرض ولا أن الجنة في السماء حتى يقال : فما ذا بقي لمكان جهنم.

وهذا الأمر شامل لجميع المسابقات إلى أفعال البر الموجبة للمغفرة ونعيم الجنة ، وشامل للمسابقة الحقيقية مع المجازية على طريقة استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ،

٣٦٧

وهي طريقة شائعة في القرآن إكثارا للمعاني ، ومنه الحديث : «لو يعلم الناس ما في الصف الأول لاستبقوا إليه أو استهموا إليه».

وليس في الآية دليل على أن الجنة غير مخلوقة الآن إذ وجه الشبه في قوله : (كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) هو السعة لا المقدار ولا على أن الجنة في السماء الموجودة اليوم ولا عدمه ، وتقدم من معنى هذه الآية قوله : (سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) الآية في سورة آل عمران [١٣٣].

وظاهر قوله : (أُعِدَّتْ) أن الله خلقها وأعدّها لأن ظاهر استعماله الفعل في الزمان الماضي إن حصل مصدره فيه ، فقد تمسك بهذا الظاهر الذين قالوا : إن الجنة مخلوقة الآن ، وأما الذين نفوا ذلك فاستندوا إلى ظواهر أخرى وتقدم ذلك في سورة آل عمران.

وعلم من قوله : (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أن غيرهم لا حظ لهم في الجنة لأن معنى اعداد شيء لشيء قصره عليه.

وجمع الرسل هنا يشمل كل أمة آمنوا بالله وبرسولهم الذي أرسله الله إليهم ، وليس يلزمها أن تؤمن برسول أرسل إلى أمة أخرى ولم يدع غيرها إلى الإيمان به.

والإشارة في (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ) إلى المذكور من المغفرة والجنة.

[٢٢ ، ٢٣] (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣))

لما جرى ذكر الجهاد آنفا بقوله : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) [الحديد : ١٠] وقوله : (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) [الحديد : ١٩] على الوجهين المتقدمين هنا لك ، وجرى ذكر الدنيا في قوله : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) [الحديد : ٢٠] وكان ذلك كله مما تحدث فيه المصائب من قتل وقطع وأسر في الجهاد ، ومن كوارث تعرض في الحياة من فقد وألم واحتياج ، وجرى مثل الحياة الدنيا بالنّبات ، وكان ذلك ما يعرض له القحط والجوائح ، أتبع ذلك بتسلية المسلمين على ما يصيبهم لأن المسلمين كانوا قد تخلقوا بآداب الدنيا من قبل فربما لحقهم ضر أو رزء خارج عن نطاق قدرتهم وكسبهم فأعلموا أن ذلك مما اقتضاه ارتباط أسباب الحوادث بعضها ببعض على

٣٦٨

ما سيرها عليه نظام جميع الكائنات في هذا العالم كما أشار إليه قوله تعالى : (إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) [الحديد : ٢٢] كما ستعلمه ، فلم يملكهم الغم والحزن ، وانتقلوا عن ذلك إلى الإقبال على ما يهمهم من الأمور ولم يلهمهم التحرق على ما فات على نحو ما وقع في قوله : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ* وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ١٥٤ ـ ١٥٦] ، ولعل المسلمين قد أصابتهم شدة في إحدى المغازي أو حبس مطر أو نحو ذلكم مما كان سبب نزول هذه الآية.

و (ما) نافية و (من) زائدة في النفي للدلالة على نفي الجنس قصدا للعموم.

ومفعول (أَصابَ) محذوف تقديره : ما أصابكم أو ما أصاب أحدا.

وقوله : (فِي الْأَرْضِ) إشارة إلى المصائب العامة كالقحط وفيضان السيول وموتان الأنعام وتلف الأموال.

وقوله : (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) إشارة إلى المصائب اللاحقة لذوات الناس من الأمراض وقطع الأعضاء والأسر في الحرب وموت الأحباب وموت المرء نفسه فقد سماه الله مصيبة في قوله : (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) [المائدة : ١٠٦]. وتكرير حرف النفي في المعطوف على المنفي في قوله : (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) لقصد الاهتمام بذلك المذكور بخصوصه فإن المصائب الخاصة بالنفس أشد وقعا على المصاب ، فإن المصائب العامة إذا اخطأته فإنما يتأثر لها تأثرا بالتعقل لا بالحسّ فلا تدوم ملاحظة النفس إياه.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ) استثناء من أحوال منفية ب (ما) ، إذ التقدير : ما أصاب من مصيبة في الأرض كائنة في حال إلا في حال كونها مكتوبة في كتاب ، أي مثبتة فيه.

والكتاب : مجاز عن علم الله تعالى ووجه المشابهة عدم قبوله التبديل والتغيير والتخلف ، قال الحارث بن حلزة :

حذر الجور والتطاخي وهل

ينقض ما في المهارق الأهواء

ومن ذلك علمه وتقديره لأسباب حصولها ووقت خلقها وترتب آثارها والقصر المفاد ب (إلّا) قصر موصوف على صفة وهو قصر إضافي ، أي إلا في حال كونها في كتاب دون عدم سبق تقديرها في علم الله ردّا على اعتقاد المشركين والمنافقين المذكور في قوله

٣٦٩

تعالى : (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) [آل عمران : ١٥٦] وقوله : (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا) [آل عمران : ١٦٨]. وهذا الكلام يجمع الإشارة إلى ما قدمناه من أن الله تعالى وضع نظام هذا العالم على أن تترتب المسببات على أسبابها ، وقدر ذلك وعلمه ، وهذا مثل قوله : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) [فاطر : ١١] ونحو ذلك.

والبرء : بفتح الباء : الخلق ومن أسمائه تعالى البارئ ، وضمير النصب في (نَبْرَأَها) عائد إلى الأرض أو إلى الأنفس.

وجملة (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) ردّ على أهل الضلال من المشركين وبعض أهل الكتاب الذين لا يثبتون لله عموم العلم ويجوّزون عليه البداء وتمشّي الحيل ، ولأجل قصد الرد على المنكرين أكد الخبر ب (إنّ).

والتعليل بلام العلة و (كي) متعلق بمقدر دل عليه هذا الإخبار الحكيم ، أي أعلمناكم بذلك لكي لا تأسوا على ما فاتكم إلخ ، أي لفائدة استكمال مدركاتكم وعقولكم فلا تجزعوا للمصائب لأن من أيقن أن ما عنده من نعمة دنيوية مفقود يوما لا محالة لم يتفاقم جزعه عند فقده لأنه قد وطّن نفسه على ذلك ، وقد أخذ هذا المعنى كثيّر في قوله :

فقلت لها يا عزّ كل مصيبة

إذا وطّنت يوما لها النفس ذلّت

وقوله : (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) تتميم لقوله : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ) فإن المقصود من الكلام أن لا يئسوا عند حلول المصائب لأن المقصود هو قوله : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ) ... (إِلَّا فِي كِتابٍ) ثم يعلم أن المسرات كذلك بطريق الاكتفاء فإن من المسرات ما يحصل للمرء عن غير ترقب وهو أوقع في المسرة كمل أدبه بطريق المقابلة.

والفرح المنفي هو الشديد منه البالغ حدّ البطر ، كما قال تعالى في قصة قارون (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [القصص : ٧٦]. وقد فسره التذييل من قوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ).

والمعنى : أخبرتكم بذلك لتكونوا حكماء بصراء فتعلموا أن لجميع ذلك أسبابا وعللا ، وأن للعالم نظاما مرتبطا بعضه ببعض ، وأن الآثار حاصلة عقب مؤثراتها لا محالة ، وإن إفضاءها إليها بعضه خارج عن طوق البشر ومتجاوز حد معالجته ومحاولته ، وفعل الفوات مشعر بأن الفائت قد سعى المفوت عليه في تحصيله ثم غلب على نواله

٣٧٠

بخروجه عن مكنته ، فإذا رسخ ذلك في علم أحد لم يحزن على ما فاته مما لا يستطيع دفعه ولم يغفل عن ترقب زوال ما يسره إذا كان مما يسره ، ومن لم يتخلق بخلق الإسلام يتخبط في الجوع إذا أصابه مصاب ويستطار خيلاء وتطاولا إذا ناله أمر محبوب فيخرج عن الحكمة في الحالين.

والمقصود من هذا التنبيه على أن المفرحات صائرة إلى زوال وأن زوالها مصيبة.

واعلم أن هذا مقام المؤمن من الأدب بعد حلول المصيبة وعند نوال الرغيبة.

وصلة الموصول في (بِما آتاكُمْ) مشعرة بأنه نعمة نافعة ، وفيه تنبيه على أن مقام المؤمن من الأدب بعد حلول المصيبة وعند انهيال الرغيبة ، هو أن لا يحزن على ما فات ولا يبطر بما ناله من خيرات ، وليس معنى ذلك أن يترك السعي لنوال الخير واتقاء الشر قائلا : إن الله كتب الأمور كلها في الأزل ، لأن هذا إقدام على إفساد ما فطر عليه الناس وأقام عليه نظام العالم. وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للذين قالوا أفلا نتّكل «اعملوا فكل ميسّر لما خلق له».

وقوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) تحذير من الفرح الواقع في سياق تعليل الأخبار بأن كل ما ينال المرء ثابت في كتاب ، وفيه بيان للمراد من الفرح أنه الفرح المفرط البالغ بصاحبه إلى الاختيال والفخر.

والمعنى : والله لا يحب أحدا مختالا وفخورا ولا تتوهم أن موقع (كل) بعد النفي يفيد النفي عن المجموع لا عن كل فرد لأن ذلك ليس مما يقصده أهل اللسان ، ووقع للشيخ عبد القاهر ومتابعيه توهم فيه ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) في سورة البقرة [٢٧٦] ونبهت عليه في تعليقي على دلائل الإعجاز.

وقرأ الجمهور (آتاكُمْ) بمدّ بعد الهمزة محول عن همزة ثانية هي فاء الكلمة ، أي ما جعله آتيا لكم ، أي حاصلا عندكم ، فالهمزة الأولى للتعدية إلى مفعول ثان ، والتقدير : بما آتاكموه. والإتيان هنا أصله مجاز وغلب استعماله حتى ساوى الحقيقة ، وعلى هذه القراءة فعائد الموصول محذوف لأنه ضمير متصل منصوب بفعل ، والتقدير : بما آتاكموه ، وفيه إدماج المنة مع الموعظة تذكيرا بأن الخيرات من فضل الله. وقرأه أبو عمرو وحده بهمزة واحدة على أنه من (أتى) ، إذا حصل ، فعائد الموصول هو الضمير المستتر المرفوع ب (آتى) ، وفي هذه القراءة مقابلة (آتاكُمْ) ب (فاتكم) وهو محسن الطباق ففي كلتا القراءتين محسّن.

٣٧١

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤))

يجوز أن يكون (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) ابتداء كلام على الاستئناف لأن الكلام الذي قبله ختم بالتذييل بقوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) [الحديد : ٢٣] فيكون (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) مبتدأ وخبره محذوفا يدل عليه جواب الشرط وهو (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ). والتقدير : فإن الله غني عنهم وحامد للمنفقين.

ويجوز أن يكون متصلا بما قبله على طريقة التخلص فيكون (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) بدلا من (كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) ، أو خبرا لمبتدإ محذوف هو ضمير (كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ). تقديره : هم الذين يبخلون ، وعلى هذا الاحتمال الأخير فهو من حذف المسند إليه اتّباعا للاستعمال كما سماه السكاكي ، وفيه وجوه آخر لا نطوّل بها.

والمراد ب (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) : المنافقون ، وقد وصفهم الله بمثل هذه الصلة في سورة النساء ، وأمرهم الناس بالبخل هو الذي حكاه الله عنهم بقوله : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) [المنافقون : ٧] ، أي على المؤمنين.

وجملة (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) تذييل لأن (مَنْ يَتَوَلَ) يعم (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) وغيرهم فإنّ (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) أي في سبيل الله وفي النفقات الواجبة قد تولوا عن أمر الله و (من) شرطية عامة.

وجملة (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) قائمة مقام جواب الشرط لأن مضمونها علة للجواب ، فالتقدير : ومن يتولّ فلا يضر الله شيئا ولا يضر الفقير لأن الله غني عن مال المتولّين ، ولأن له عبادا يطيعون أمره فيحمدهم.

والغنيّ : الموصوف بالغنى ، أي عدم الاحتياج. ولما لم يذكر له متعلق كان مفيدا الغنى العام.

والحميد : وصف مبالغة ، أي كثير الحمد للمنفقين على نحو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : ٥٤] الآية.

٣٧٢

ووصفه ب (الْحَمِيدُ) هنا نظير وصفه ب «الشكور» وفي قوله : (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) [التغابن : ١٧] ، فإن اسمه (الْحَمِيدُ) صالح لمعنى المحمود فيكون فعيلا بمعنى مفعول ، وصالح لمعنى كثير الحمد ، فيكون من أمثلة المبالغة لأن الله يثيب على فعل الخير ثوابا جزيلا ويثني على فاعله ثناء جميلا فكان بذلك كثير الحمد. وقد حمله على كلا المعنيين ابن برّجان الإشبيلي (١) في «شرحه لأسماء الله الحسنى» (٢) ووافقه كلام ابن العربي في «أحكام القرآن» في سورة الأعراف ، وهو الحق. وقصره الغزالي في «المقصد الأسنى» على معنى «المحمود».

وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر فإن الله الغني الحميد بدون ضمير فصل ، وكذلك هو مرسوم في مصحف المدينة ومصحف الشام. وقرأه الباقون (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) بضمير فصل بعد اسم الجلالة وكذلك هو مرسوم في مصاحف مكة والبصرة والكوفة ، فهما روايتان متواترتان.

والجملة مفيدة للقصر بدون ضمير فصل لأن تعريف المسند إليه والمسند من طرق القصر ، فالقراءة بضمير الفصل تفيد تأكيد القصر.

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَ)

(أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥))

استئناف ابتدائي ناشئ عما تقدم من التحريض على الإنفاق في سبيل الله وعن ذكر الفتح وعن تذييل ذلك بقوله : (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [الحديد : ٢٤] ، وهو إعذار للمتولين من المنافقين ليتداركوا صلاحهم باتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتدبر في هدي القرآن وإنذار لهم إن يرعووا وينصاعوا إلى الحجة الساطعة بأنه يكون تقويم عوجهم بالسيوف القاطعة وهو ما صرح لهم به في قوله في سورة الأحزاب [٦٠ ، ٦١] (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ

__________________

(١) هو أبو الحكم عبد السلام بن عبد الرحمن الإشبيلي المتوفي سنة ٥٣٦ ه‍ ، وبرجان بموحدة في أوله مفتوحة ثم راء مشددة مفتوحة.

(٢) هو شرح موسع ينحو الطرائق الصوفية ، لم يذكره في «كشف الظنون» ، أوله «الحمد لله الذي باسمه تفتتح المطالب ، ذكر فيه مائة واثنين وثلاثين اسما مستخرجة من ألفاظ القرآن ، مخطوط نادر توجد منه نسخة بالمكتبة العاشورية بتونس نسخت سنة ١٠٢١ ه‍.

٣٧٣

الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً* مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) وقوله في سورة التحريم [٩] يا أيها النبي (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) لئلا يحسبوا أن قوله : (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [الحديد : ٢٤] مجرد متاركة فيطمئنوا لذلك.

وتأكيد الخبر بلام القسم وحرف التحقيق راجع إلى ما تضمنه الخبر من ذكر ما في إرسال رسل الله وكتبه من إقامة القسط للناس ، ومن التعريض بحمل المعرضين على السيف إن استمروا على غلوائهم.

وجمع (الرسل) هنا لإفادة أن ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بدعا من الرسل ، وأن مكابرة المنافقين عماية عن سنة الله في خلقه فتأكيد ذلك مبني على تنزيل السامعين منزلة من ينكر أن الله أرسل رسلا قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن حالهم في التعجب من دعواه الرسالة كحال من ينكر أن الله أرسل رسلا من قبل. وقد تكرر مثل هذا في مواضع من القرآن كقوله تعالى: (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ) [آل عمران : ١٨٣].

والبينات : الحجج الدالّة على أن ما يدعون إليه هو مراد الله ، والمعجزات داخلة في البينات.

وتعريف (الْكِتابَ) تعريف الجنس ، أي وأنزلنا معهم كتبا ، أي مثل القرآن.

وإنزال الكتاب : تبليغ بواسطة الملك من السماء ، وإنزال الميزان : تبليغ الأمر بالعدل بين الناس.

والميزان : مستعار للعدل بين الناس في إعطاء حقوقهم لأن مما يقتضيه الميزان وجود طرفين يراد معرفة تكافئهما ، قال تعالى : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء : ٥٨]. وهذا الميزان تبيّنه كتب الرسل ، فذكره بخصوصه للاهتمام بأمره لأنه وسيلة انتظام أمور البشر كقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) [النساء : ١٠٥] وليس المراد أن الله ألهمهم وضع آلات الوزن لأن هذا ليس من المهم ، وهو مما يشمله معنى العدل فلا حاجة إلى التنبيه عليه بخصوصه.

ويتعلق قوله : (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) بقوله : (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ).

والقيام : مجاز في صلاح الأحوال واستقامتها لأنه سبب لتيسير العمل وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) في أوائل البقرة [٣].

٣٧٤

والقسط : العدل في جميع الأمور ، فهو أعم من الميزان المذكور لاختصاصه بالعدل بين متنازعين ، وأما القسط فهو إجراء أمور الناس على ما يقتضيه الحق فهو عدل عام بحيث يقدر صاحب الحق منازعا لمن قد احتوى على حقه.

ولفظ «القسط» مأخوذ في العربية من لفظ قسطاس اسم العدل بلغة الرّوم ، فهو من المعرّب وروي ذلك عن مجاهد.

والباء للملابسة ، أي يكون أمر الناس ملابسا للعدل ومماشيا للحق ، وإنزال الحديد: مستعار لخلق معدنه كقوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزمر : ٦] ، أي خلق لأجلكم وذلك بإلهام البشر استعماله في السلاح من سيوف ودروع ورماح ونبال وخوذ ودرق ومجانّ. ويجوز أن يراد بالحديد خصوص السلاح المتخذ منه من سيوف وأسنة ونبال ، فيكون إنزاله مستعارا لمجرد إلهام صنعه ، فعلى الوجه الأول يكون ضمير (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) عائدا إلى الحديد باعتبار إعداده للبأس فكأن البأس مظروف فيه.

والبأس : الضر. والمراد بأس القتل والجرح بآلات الحديد من سيوف ورماح ونبال ، وبأس جرأة الناس على إيصال الضر بالغير بواسطة الواقيات المتخذة من الحديد.

والمنافع : منافع الغالب بالحديد من غنائم وأسرى وفتح بلاد.

ويتعلق قوله : (لِلنَّاسِ) بكلّ من (بَأْسٌ) و (مَنافِعُ) على طريقة التنازع ، أي فيه بأس لناس ومنافع لآخرين فإن مصائب قوم عند قوم فوائد.

والمقصود من هذا لفت بصائر السامعين إلى الاعتبار بحكمة الله تعالى من خلق الحديد وإلهام صنعه ، والتنبيه على أن ما فيه من نفع وبأس إنما أريد به أن يوضع بأسه حيث يستحق ويوضع نفعه حيث يليق به لا لتجعل منافعه لمن لا يستحقها مثل قطّاع الطريق والثوار على أهل العدل ، ولتجهيز الجيوش لحماية الأوطان من أهل العدوان ، وللادخار في البيوت لدفع الضاريات والعاديات على الحرم والأموال.

وكان الحكيم (انتيثنوس) اليوناني تلميذ سقراط إذا رأى امرأة حالية متزينة في أثينا يذهب إلى بيت زوجها ويسأله أن يريه فرسه وسلاحه فإذا رآهما كاملين أذن لامرأته أن تتزين لأن زوجها قادر على حمايتها من داعر يغتصبها ، وإلا أمرها بترك الزينة وترك الحلي.

وهذا من باب سد الذريعة ، لا ليجعل بأسه لإخضاد شوكة العدل وإرغام الآمرين

٣٧٥

بالمعروف على السكوت ، فإن ذلك تحريف لما أراد الله من وضع الأشياء النافعة والقارة ، قال تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٥] ، وقال على لسان أحد رسله (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) [هود : ٨٨].

وقد أومأ إلى هذا المعنى بالإجمال قوله : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) ، أي ليظهر للناس أثر علم الله بمن ينصره ، فأطلق فعل (لِيَعْلَمَ) على معنى ظهور أثر العلم كقول إياس بن قبيصة الطائي :

وأقبلت والخطي يخطر بيننا

لأعلم من جبانها من شجاعها

أي ليظهر للناس الجبان والشجاع ، أي فيعلموا أني شجاعهم.

ونصر الناس الله هو نصرهم دينه ، وأما الله فغني عن النصر ، وعطف (وَرُسُلَهُ) ، أي من ينصر القائمين بدينه ، ويدخل فيه نصر شرائع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعده ونصر ولاة أمور المسلمين القائمين بالحق. وأعظم رجل نصر دين الله بعد وفاة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو أبو بكر الصديق في قتاله أهل الردة رضي‌الله‌عنه.

وقوله : (بِالْغَيْبِ) يتعلق ب (يَنْصُرُهُ) ، أي ينصره نصرا يدفعه إليه داعي نفسه دون خشية داع يدعوه إليه ، أو رقيب يرقب صنيعه والمعنى : أنه يجاهد في سبيل الله والدفاع عن الدين بمحض الإخلاص.

وقد تقدم ذكر الحديد ومعدنه وصناعته في تفسير قوله تعالى : (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) في سورة الكهف [٩٦].

وجملة (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) تعليل لجملة (أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) إلى آخرها ، أي لأن الله قوي عزيز في شئونه القدسية ، فكذلك يجب أن تكون رسله أقوياء أعزة ، وأن تكون كتبه معظمة موقرة ، وإنما يحصل ذلك في هذا العالم المنوطة أحداثه بالأسباب المجعولة بأن ينصره الرسل وأقوام مخلصون لله ويعينوا على نشر دينه وشرائعه.

والقوي العزيز : من أسمائه تعالى. فالقوي : المتصف بالقوة ، قال تعالى : (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات : ٥٨] وتقدم القوي في قوله : (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) [الأنفال : ٥٢].

والعزيز : المتصف بالعزة ، وتقدمت في قوله : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) في سورة يونس وقوله : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة : ٢٠٩].

٣٧٦

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦))

معطوف على جملة (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) [الحديد : ٢٥] عطف الخاص على العام لما أريد تفصيل لإجماله تفصيلا يسجل به انحراف المشركين من العرب والضالّين من اليهود عن مناهج أبويهما : نوح وإبراهيم ، قال تعالى في شأن بني إسرائيل (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) [الإسراء : ٣] ، والعرب لا ينسون أنهم من ذرية نوح كما قال النابغة يمدح النعمان بن المنذر :

فألفيت الأمانة لم تخنها

كذلك كان نوح لا يخون

والنبوءة في ذريتهما كنبوءة هود وصالح وتبّع ونبوءة إسماعيل وإسحاق وشعيب ويعقوب.

والمراد ب (الْكِتابَ) ما كان بيد ذرية نوح وذرية إبراهيم من الكتب التي فيها أصول ديانتهم من صحف إبراهيم وما حفظوه من وصاياه ووصايا إسماعيل وإسحاق.

والفسق : الخروج عن الاهتداء ، ومن الفاسقين : المشركون من عاد وثمود وقوم لوط واليمن والأوس والخزرج وهم من ذرية نوح ، ومن مدين والحجاز وتهامة وهم من ذرية إبراهيم.

والمراد : من أشركوا قبل مجيء الإسلام لقوله : (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [الحديد : ٢٧].

(ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧))

(ثُمَ) للتراخي الترتبي لأن بعثه رسل الله الذين جاءوا بعد نوح وإبراهيم ومن سبق من ذريتهما أعظم مما كان لدى ذرية إبراهيم قبل إرسال الرسل الذين قفّى الله بهم ، إذ أرسلوا إلى أمم كثيرة مثل عاد وثمود وبني إسرائيل وفيهم شريعة عظيمة وهي شريعة التوراة.

٣٧٧

والتقفية : اتباع الرسول برسول آخر ، مشتقة من القفا لأنه يأتي بعده فكأنه يمشي عن جهة قفاه ، وقد تقدم في قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) في سورة البقرة [٨٧].

والآثار : جمع الأثر ، وهو ما يتركه السائر من مواقع رجليه في الأرض ، قال تعالى : (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) [الكهف : ٦٤].

وضمير الجمع في قوله : (عَلى آثارِهِمْ) عائد إلى نوح وإبراهيم وذريتهما الذين كانت فيهم النبوءة والكتاب ، فأما الذين كانت فيهم النبوءة فكثيرون ، وأما الذين كان فيهم الكتاب فمثل بني إسرائيل.

و (على) للاستعلاء. وأصل (قفى على أثره) يدل على قرب ما بين الماشيين ، أي حضر الماشي الثاني قبل أن يزول أثر الماشي الأول ، وشاع ذلك حتى صار قولهم : على أثره ، بمعنى بعده بقليل أو متصلا شأنه بشأن سابقه ، وهذا تعريف للأمة بأن الله أرسل رسلا كثيرين على وجه الإجمال وهو تمهيد للمقصود من ذكر الرسول الأخير الذي جاء قبل الإسلام وهو عيسى عليه‌السلام.

وفي إعادة فعل (قَفَّيْنا) وعدم إعادة (عَلى آثارِهِمْ) إشارة إلى بعد المدة بين آخر رسل إسرائيل وبين عيسى فإن آخر رسل إسرائيل كان يونس بن متّى أرسل إلى أهل نينوى أول القرن الثامن قبل المسيح فلذلك لم يكن عيسى مرسلا على آثار من قبله من الرسل.

والإنجيل : هو الوحي الذي أنزله الله على عيسى وكتبه الحواريون في أثناء ذكر سيرته.

والإنجيل : بكسر الهمزة وفتحها معرّب تقدم بيانه أول سورة آل عمران. ومعنى جعل الرأفة والرحمة في قلوب الذين اتّبعوه أن تعاليم الإنجيل الذي آتاه الله عيسى أمرتهم بالتخلق بالرأفة والرحمة فعملوا بها ، أو إن ارتياضهم بسيرة عيسى عليه‌السلام أرسخ ذلك في قلوبهم وذلك بجعل الله تعالى لأنه أمرهم به ويسّره عليهم.

ذلك أن عيسى بعث لتهذيب نفوس اليهود واقتلاع القسوة من قلوبهم التي تخلقوا بها في أجيال طويلة قال تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) في سورة البقرة [٧٤].

والرأفة : الرحمة المتعلقة بدفع الأذى والضرّ فهي رحمة خاصة ، وتقدمت في قوله

٣٧٨

تعالى : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) في سورة البقرة [١٤٣] وفي قوله : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) في سورة النور [٢].

والرحمة : العطف والملاينة ، وتقدمت في أول سورة الفاتحة.

فعطف الرحمة على الرأفة من عطف العام على الخاص لاستيعاب أنواعه بعد أن اهتم ببعضها.

والرهبانية : اسم للحالة التي يكون الراهب متصفا بها في غالب شئون دينه ، والياء فيها ياء النسبة إلى الراهب على غير قياس لأن قياس النسب إلى الراهب الراهبية ، والنون فيها مزيدة للمبالغة في النسبة كما زيدت في قولهم : شعراني ، لكثير الشعر ، ولحياني لعظيم اللحية ، وروحاني ، ونصراني.

وجعل في «الكشاف» النون جائية من وصف رهبان مثل نون خشيان من خشي والمبالغة هي هي ، إلا أنها مبالغة في الوصف لا في شدة النسبة.

والهاء هاء تأنيث بتأويل الاسم بالحالة وجعل في «الكشاف» الهاء للمرة.

وأما اسم الراهب الذي نسبت إليه الرهبانية فهو وصف عومل معاملة الاسم ، وهو العابد من النصارى المنقطع للعبادة ، وهو وصف مشتق من الرهب : أي الخوف لأنه شديد الخوف من غضب الله تعالى أو من مخالفة دين النصرانية. ويلزم هذه الحالة في عرف النصارى العزلة عن الناس تجنبا لما يشغل عن العبادة وذلك بسكنى الصوامع والأديرة وترك التزوج تجنبا للشواغل ، وربما أوجبت بعض طوائف الرهبان على الراهب ترك التزوج غلوا في الدين.

وجعل في «الكشاف» : الرهبانية مشتقة من الرهب ، أي الخوف من الجبابرة ، أي الذين لم يؤمنوا بعيسى عليه‌السلام من اليهود ، وأن الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعيسى فقاتلوهم ثلاث مرات فقتلوا حتى لم يبق منهم إلا القليل ، فخافوا أن يفتنوا في دينهم فاختاروا الرهبانية وهي ترهبهم في الجبال فارين من الفتنة في الدين اه.

وأول ما ظهر اضطهاد أتباع المسيح في بلاد اليهودية ، فلما تفرق أتباع المسيح وأتباعهم في البلدان ناواهم أهل الإشراك والوثنية من الروم حيث حلّوا من البلاد التابعة لهم فحدثت فيهم أحوال من التقية هي التي دعاها صاحب «الكشاف» بمقاتلة الجبابرة.

٣٧٩

فالراهب يمتنع من التزوج خيفة أن تشغله زوجه عن عبادته ، ويمتنع من مخالطة الأصحاب خشية أن يلهوه عن العبادة ، ويترك لذائذ المآكل والملابس خشية أن يقع في اكتساب المال الحرام ، ولأنهم أرادوا التشبه بعيسى عليه‌السلام في الزهد في الدنيا وترك التزوج ، فلذلك قال الله تعالى : (ابْتَدَعُوها) ، أي أحدثوها فإن الابتداع الإتيان بالبدعة والبدع وهو ما لم يكن معروفا ، أي أحدثوها بعد رسولهم فإن البدعة ما كان محدثا بعد صاحب الشريعة.

ونصب (رَهْبانِيَّةً) على طريقة الاشتغال. والتقدير : وابتدعوا رهبانية وليس معطوفا على (رَأْفَةً وَرَحْمَةً) لأن هذه الرهبانية لم تكن مما شرع الله لهم فلا يستقيم كونها مفعولا ل (جَعَلْنا) ، ولأن الرهبانية عمل لا يتعلق بالقلوب وفعل (جَعَلْنا) مقيد ب (فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) فتكون مفعولاته مقيدة بذلك ، إلا أن يتأول جعلها في القلوب بجعل حبها كقوله تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة : ٩٣].

وعلى اختيار هذا الإعراب مضى المحققون مثل أبي علي الفارسي والزجاج والزمخشري والقرطبي. وجوز الزمخشري أن يكون عطفا على (رَأْفَةً وَرَحْمَةً). واتهم ابن عطية هذا الإعراب بأنه إعراب المعتزلة فقال : «والمعتزلة تعرب (رَهْبانِيَّةً) أنها نصب بإضمار فعل يفسره (ابْتَدَعُوها) ويذهبون في ذلك إلى أن الإنسان يخلق أفعاله فيعربون الآية على هذا» اه. وليس في هذا الإعراب حجة لهم ولا في إبطاله نفع لمخالفتهم كما علمت.

وإنما عطفت هذه الجملة على جملة (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) لاشتراك مضمون الجملتين في أنه من الفضائل المراد بها رضوان الله.

والمعنى : وابتدعوا لأنفسهم رهبانية ما شرعناها لهم ولكنهم ابتغوا بها رضوان الله فقبلها الله منهم لأن سياق حكاية ذلك عنهم يقتضي الثناء عليهم في أحوالهم.

وضمير الرفع من ابتدعوها عائد إلى الذين اتبعوا عيسى. والمعنى : أنهم ابتدعوا العمل بها فلا يلزم أن يكون جميعهم اخترع أسلوب الرهبانية ولكن قد يكون بعضهم سنها وتابعه بقيتهم.

والذين اتبعوه صادق على من أخذوا بالنصرانية كلهم ، وأعظم مراتبهم هم الذين اهتدوا بسيرته اهتداء كاملا وانقطعوا لها وهم القائمون بالعبادة.

٣٨٠