تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٨

و (مَنْ) استفهامية كما هو شأنها إذا دخلت على اسم الإشارة والموصول ، و (الَّذِي يُقْرِضُ) خبرها ، و (ذَا) معترضة لاستحضار حال المقترض بمنزلة الشخص الحاضر القريب.

وعن الفراء : (ذا) صلة ، أي زائدة لمجرد التأكيد مثل ما قال كثير من النحاة : إن (ذا) في (ما ذا) ملغاة ، قال الفراء : رأيتها في مصحف عبد الله منذا الذي والنون موصولة بالذال اه.

والاستفهام مستعمل في معنى التحريض مجازا لأن شأن المحرّض على الفعل أن يبحث عمن يفعله ويتطلب تعيينه لينوطه به أو يجازيه عليه.

والقرض الحسن : هو القرض المستكمل محاسن نوعه من كونه عن طيب نفس وبشاشة في وجه المستقرض ، وخلو عن كل ما يعرّض بالمنة أو بتضييق أجل القضاء. والمشبّه هنا بالقرض الحسن هو الإنفاق في سبيل الله المنهيّ عن تركه في قوله : (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [الحديد : ١٠].

وقرأ الجمهور (فَيُضاعِفَهُ) بألف بعد الضاد. وقرأه ابن كثير وابن عامر ويعقوب (فَيُضاعِفَهُ) بدون ألف وبتشديد العين.

والفاء في جملة (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) فاء السببية لأن المضاعفة مسببة على القرض. وقرأ الجمهور فعل يضاعفه مرفوعا على اعتباره معطوفا على (يُقْرِضُ). والمعنى : التحريض على الإقراض وتحصيل المضاعفة لأن الإقراض سبب المضاعفة فالعمل لحصول الإقراض كأنه عمل لحصول المضاعفة.

أو على اعتبار مبتدأ محذوف لتكون الجملة اسمية في التقدير فيقع الخبر الفعلي بعد المبتدأ مفيدا تقوية الخبر وتأكيد حصوله ، واعتبار هذه الجملة جوابا ، ل (من) الموصولة بإشراب الموصول معنى الشرط وهو إشراب كثير في القرآن.

وقرأه حفص عن عاصم وابن عامر ويعقوب ـ كل على قراءته ـ بالنصب على جواب الاستفهام.

ومعنى (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) : أن له أنفس جنس الأجور لأن الكريم في كل شيء هو النفيس ، كما تقدم في قوله تعالى : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) في سورة النمل [٢٩]. وجعل الأجر الكريم مقابل القرض الحسن فقوبل بهذا موصوف وصفته بمثلهما.

٣٤١

والمضاعفة : مماثلة المقدار ، فالمعنى : يعطيه مثلي قرضه.

والمراد هنا مضاعفته أضعافا كثيرة كما قال : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) الآية في سورة البقرة [٢٦١].

وقال : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [البقرة : ٢٤٥].

وضمير النصب في (فَيُضاعِفَهُ) عائد إلى القرض الحسن ، والكلام على حذف مضاف تقديره : فيضاعف جزاءه له. لأن القرض هنا تمثيل بحال السلف المتعارف بين الناس فيكون تضعيفه مثل تضعيف مال السلف وذلك قبل تحريم الربا.

والأجر : ما زاد على قضاء القرض من عطية يسديها المستسلف إلى من سلفه عند ما يجد سعة ، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خيركم أحسنكم قضاء» ، وقال تعالى: (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) [النساء : ٤٠].

والظاهر أن هذا الأجر هو المغفرة كما في قوله تعالى : (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) في سورة التغابن [١٧]. وهذا يشمل الإنفاق في الصدقات قال تعالى : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) [الحديد : ١٨] ، وهو ما فسره قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار» ، أي زيادة على مضاعفتها مثل الحسنات كلها.

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢))

لما كان معلوما أن مضاعفة الثواب وإعطاء الأجر يكون في يوم الجزاء ، ترجح أن يكون قوله : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ) منصوبا بفعل محذوف تقديره : اذكر تنويها بما يحصل في ذلك اليوم من ثواب للمؤمنين والمؤمنات ومن حرمان للمنافقين والمنافقات ، ولذلك كرر (يَوْمَ) ليختصّ كل فريق بذكر ما هو من شئونه في ذلك اليوم.

وعلى هذا فالجملة متصلة بالتي قبلها بسبب هذا التعلق ، على أنه في نظم الكلام يصح جعله ظرفا متعلقا ب (فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) [الحديد : ١١] على طريقة التخلص لذكر ما يجري في ذلك اليوم من الخيرات لأهلها ومن الشر لأهله.

وعلى الوجه الأول فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا لمناسبة ذكر أجر المنفقين فعقب

٣٤٢

ببيان بعض مزايا المؤمنين ، وعلى الوجه الثاني فهي متصلة بالتي قبلها بسبب التعلق.

والخطاب في (تَرَى) لغير معين ليكون على منوال المخاطبات التي قبله ، أي يوم يرى الرائي ، والرؤية بصرية ، و (يَوْمَ) مبني على الفتح لأنه أضيف إلى جملة فعلية ، ويجوز كونها فتحة إعراب المضاف إلى المضارع يجوز فيه الوجهان.

ووجه عطف (الْمُؤْمِناتِ) على (الْمُؤْمِنِينَ) هنا ، وفي نظائره من القرآن المدني التنبيه على أن حظوظ النساء في هذا الدين مساوية حظوظ الرجال إلا فيما خصصن به من أحكام قليلة لها أدلتها الخاصة وذلك لإبطال ما عند اليهود من وضع النساء في حالة ملعونات ومحرومات من معظم الطاعات.

وقد بيّنا شيئا من ذلك عند قوله تعالى : (وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) في سورة البقرة [١٧٨].

والنور المذكور هنا نور حقيقي يجعله الله للمؤمنين في مسيرهم من مكان الحشر إكراما لهم وتنويها بهم في ذلك المحشر.

والمعنى : يسعى نورهم حين يسعون ، فحذف ذلك لأن النور إنما يسعى إذا سعى صاحبه وإلا لا نفصل عنه وتركه.

وإضافة (نور) إلى ضميرهم وجعل مكانه من بين أيديهم وبأيمانهم يبين أنه نور لذواتهم أكرموا به.

وانظر معنى هذه الإضافة لضميرهم ، وما في قوله : (يَسْعى) من الاستعارة ، ووجه تخصيص النور بالجهة الأمام وبالأيمان كل ذلك في سورة التحريم.

والباء في (وَبِأَيْمانِهِمْ) بمعنى (عن) واقتصر على ذكر الأيمان تشريفا لها وهو من الاكتفاء ، أي وبجانبيهم.

ويجوز أن تكون الباء للملابسة ، ويكون النور الملابس لليمين نور كتاب الحسنات كما قال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) [الانشقاق : ٧ ، ٨] فإن كتاب الحسنات هدى فيكون لفظ «النور» قد استعمل في معنييه الحقيقي والمجازي وهو الهدى والبركة.

قال ابن عطية : «ومن هذه الآية انتزع حمل المعتق للشمعة» اه. (لعله يشير إلى عادة كانت مألوفة عندهم أن يجعلوا بيد العبد الذي يعتقونه شمعة مشتعلة يحملها ساعة

٣٤٣

عتقه ولم أقف على هذا في كلام غيره).

والبشرى : اسم مصدر بشّر وهي الإخبار بخبر يسر المخبر ، وأطلق المصدر على المفعول وهو إطلاق كثير مثل الخلق بمعنى المخلوق ، أي الذي تبشّرون به جنات ، والكلام على حذف مضافين تقديرهما : إعلام بدخول جنات كما دل عليه قوله : (خالِدِينَ فِيها).

وجملة (بُشْراكُمُ) إلى آخرها مقول قول محذوف ، والتقدير : يقال لهم ، أي يقال من جانب القدس ، تقوله الملائكة ، أو يسمعون كلاما يخلقه الله يعلمون أنه من جانب القدس.

وجملة (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يحتمل أن يكون من بقية الكلام المحكي بالقول المبشّر به ، ويحتمل أن يكون من الحكاية التي حكيت في القرآن ، وعلى الاحتمالين فالجملة تذييل تدل على مجموع محاسن ما وقعت به البشرى. واسم الإشارة للتعظيم والتنبيه ، وضمير الفصل لتقوية الخبر.

[١٣ ، ١٤] (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤))

(يَوْمَ يَقُولُ) بدل من (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ) [الحديد : ١٢] بدلا مطابقا إذا اليوم هو عين اليوم المعرف في قوله : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ) [الحديد : ١٢].

والقول في فتحة (يَوْمَ) تقدم في نظره قريبا.

وعطف (الْمُنافِقاتُ) على (الْمُنافِقُونَ) كعطف (الْمُؤْمِناتِ) على (الْمُؤْمِنِينَ) في الآية [١٢] قبل هذه.

والذين آمنوا تغليب للذكور لأن المخاطبين هم أصحاب النور وهو للمؤمنين والمؤمنات.

و (انْظُرُونا) بهمزة وصل مضموما ، من نظره ، إذا انتظره مثل نظر ، إذا أبصر ، إلا أن نظر بمعنى الانتظار يتعدّى إلى المفعول ، ونظر بمعنى أبصر يتعدى بحرف (إلى) قال

٣٤٤

تعالى : (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) [البقرة : ٢٥٩].

والانتظار : التريث بفعل ما ، أي تريثوا في سيركم حتى نلحق بكم فنستضيء بالنور الذي بين أيديكم وبجانبكم وذلك يقتضي أن الله يأذن للمؤمنين الأولين بالسير إلى الجنة فوجا ، ويجعل المنافقين الذين كانوا بينهم في المدينة سائرين وراءهم كما ورد في حديث الشفاعة «وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها» والمعنى : أنهم يسيرون في ظلمات فيسأل المنافقون المؤمنين أن ينتظروهم.

وقرأ الجمهور (انْظُرُونا) بهمزة وصل وضم الظاء ، وقرأه حمزة وحده بهمزة قطع وكسر الظاء ، من أنظره ، إذا أمهله ، أي أمهلونا حتى نلحق بكم ولا تعجلوا السير فينأى نوركم عنا وهم يحسبون أن بعدهم عنهم من جراء السرعة.

والاقتباس حقيقته : أخذ القبس بفتحتين وهو الجذوة من الحمر. قال أبو علي الفارسي : ومجيء فعلت وافتعلت بمعنى واحد كثير كقولهم : شويت واشتويت ، وحقرت واحتقرت. قلت : وكذلك حفرت واحتفرت ، فيجوز أن يكون إطلاق تقتبس هنا حقيقة بأن يكونوا ظنّوا أن النور الذي كان مع المؤمنين نور شعلة وحسبوا أنهم يستطيعون أن يأخذوا قبسا منه يلقى ذلك في ظنهم لتكون خيبتهم أشدّ حسرة عليهم.

ويجوز أن يستعار الاقتباس لانتفاع أحد بضوء آخر لأنه يشبه الاقتباس في الانتفاع بالضوء بدون علاج فمعنى (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) نصب منه ونلتحق به فنستبر به.

ويظهر من إسناد (قِيلَ) بصيغة المجهول أن قائله غير المؤمنين المخاطبين وإنما هو من كلام الملائكة السائقين للمنافقين.

وتكون مقالة الملائكة للمنافقين تهكما إذ لا نور وراءهم وإنما أرادوا إطماعهم ثم تخييبهم بضرب السور بينهم وبين المؤمنين ، لأن الخيبة بعد الطمع أشد حسرة. وهذا استهزاء كان جزاء على استهزائهم بالمؤمنين واستسخارهم بهم ، فهو من معنى قوله تعالى : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) [التوبة : ٧٩].

و (وَراءَكُمْ) : تأكيد لمعنى (ارْجِعُوا) إذ الرجوع يستلزم الوراء ، وهذا كما يقال: رجع القهقرى. ويجوز أن يكون ظرفا لفعل (فَالْتَمِسُوا نُوراً) ، أي في المكان الذي خلفكم.

٣٤٥

وتقديمه على عامله للاهتمام فيكون فيه معنى الإغراء بالتماس النور هناك وهو أشد في الإطماع ، لأنه يوهم أن النور يتناول من ذلك المكان الذي صدر منه المؤمنون ، وبذلك الإيهام لا يكون الكلام كذبا لأنه من المعاريض لا سيما مع احتمال أن يكون (وَراءَكُمْ) تأكيدا لمعنى (ارْجِعُوا).

وضمير (بَيْنَهُمْ) عائد إلى المؤمنين والمنافقين.

وضرب السور : وضعه ، يقال : ضرب خيمة ، قال عبدة بن الطيّب :

إن التي ضربت بيتا مهاجرة

بكوفة الجند غالت ودّها غول

وضمن (فَضُرِبَ) في الآية معنى الحجز فعدي بالباء ، أي ضرب بينهم سور للحجز به بين المنافقين والمؤمنين ، خلقه الله ساعتئذ قطعا لأطماعهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ، فحق بذلك التمثيل الذي مثّل الله به حالهم في الدنيا بقوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) في سورة البقرة [١٧]. وأن الحيرة وعدم رؤية المصير عذاب أليم.

ولعل ضرب السور بينهم وجعل العذاب بظاهره والنعيم بباطنه قصد منه التمثيل لهم بأن الفاصل بين النعيم والعذاب هو الأعمال في الدنيا وأن الأعمال التي يعملها الناس في الدنيا منها ما يفضي بعامله إلى النعيم ومنها ما يفضي بصاحبه إلى العذاب فأحد طرفي السور مثال لأحد العملين وطرفه الآخر مثال لضده. و «الباب» واحد وهو الموت ، وهو الذي يسلك بالناس إلى أحد الجانبين.

ولعل جعل الباب في سور واحد فيه مع ذلك ليمر منه أفواج المؤمنين الخالصين من وجود منافقين بينهم بمرأى من المنافقين المحبوسين وراء ذلك السور تنكيلا بهم وحسرة حين يشاهدون أفواج المؤمنين يفتح لهم الباب الذي في السور ليجتازوا منه إلى النعيم الذي بباطن السور.

وركّب القصّاصون على هذه الآية تأويلات موضوعة في فضائل بلاد القدس بفلسطين عزوها إلى كعب الأحبار فسموا بعض أبواب مدينة القدس باب الرحمة ، وسموا مكانا منها وادي جهنم ، وهو خارج سور بلاد القدس ، ثم ركبوا تأويل الآية عليها وهي أوهام على أوهام.

واعلم أن هذا السور المذكور في هذه الآية غير الحجاب الذي ذكر في سورة

٣٤٦

الأعراف.

وضمائر (لَهُ بابٌ) و (باطِنُهُ) و (ظاهِرُهُ) عائدة إلى السور ، والجملتان صفتان لسور. وإنما عطفت الجملة الثالثة بالواو لأن المقصود من الصفة مجموع الجملتين المتعاطفتين كقوله تعالى : (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) [التحريم : ٥].

والباطن : هو داخل الشيء ، والظاهر : خارجه.

فالباطن : هو داخل السور الحاجز بين المسلمين والمنافقين وهو مكان المسلمين.

والبطون والظهور هنا نسبيان ، أي باعتبار مكان المسلمين ومكان المنافقين ، فالظاهر هو الجهة التي نحو المنافقين ، أي ضرب بينهم بسور يشاهد المنافقون العذاب من ظاهره الذي يواجههم ، وأن الرحمة وراء ما يليهم.

و (قبل) بكسر ففتح ، الجهة المقابلة ، وقوله : (مِنْ قِبَلِهِ) خبر مقدم ، و (الْعَذابُ) مبتدأ والجملة خبر عن (ظاهِرُهُ).

و (مِنْ) بمعنى (في) كالتي في قوله تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) [الجمعة : ٩] فتكون نظير قوله : (باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ).

والعذاب : هو حرق جهنم فإن جهنم دار عذاب ، قال تعالى : (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) [الفرقان : ٦٥].

وجملة (يُنادُونَهُمْ) حال من (يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ).

وضمائر (يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى) تعرف مراجعها مما تقدم من قوله : (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ) الآية.

و (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) استفهام تقريري ، استعمل كناية عن طلب اللحاق بهم والانضمام إليهم كما كانوا معهم في الدنيا يعملون أعمال الإسلام من المسلمين.

والمعية أطلقت على المشاركة في أعمال الإسلام من نطق بكلمة الإسلام وإقامة عبادات الإسلام ، توهموا أن المعاملة في الآخرة تجري كما تجري المعاملة في الدنيا على حسب صور الأعمال ، وما دروا أن الصور مكملات وأن قوامها إخلاص الإيمان وهذا الجواب إقرار بأن المنافقين كانوا يعملون أعمالهم معهم.

ولما كان هذا الإقرار يوهم أنه قول بموجب الاستفهام التقريري أعقبوا جوابهم

٣٤٧

الإقراريّ بالاستدراك الرافع لما توهمه المنافقون من أن الموافقة للمؤمنين في أعمال الإسلام تكفي في التحاقهم بهم في نعيم الجنة فبينوا لهم أسباب التباعد بينهم بأن باطنهم كان مخالفا لظاهرهم.

وذكروا لهم أربعة أصول هي أسباب الخسران ، وهي : فتنة أنفسهم ، والتربص بالمؤمنين ، والارتياب في صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والاغترار بما تموّه إليهم أنفسهم.

وهذه الأربعة هي أصول الخصال المتفرعة على النفاق.

الأول : فتنتهم أنفسهم ، أي عدم قرار ضمائرهم على الإسلام ، فهم في ريبهم يترددون ، فكأنّ الاضطراب وعدم الاستقرار خلق لهم فإذا خطرت في أنفسهم خواطر خير من إيمان ومحبة للمؤمنين نقضوها بخواطر الكفر والبغضاء ، وهذا من صنع أنفسهم فإسناد الفتن إليهم إسناد حقيقي ، وكذلك الحال في أعمالهم من صلاة وصدقة.

وهذا ينشأ عنه الكذب ، والخداع ، والاستهزاء ، والطعن في المسلمين ، قال تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) [النساء : ٦٠].

الثاني : التربص ، والتربص : انتظار شيء ، وتقدم في قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) [البقرة : ٢٢٨] الآية.

ويتعدى فعله إلى المفعول بنفسه ويتعلق به ما زاد على المفعول بالباء. وحذف هنا مفعوله ومتعلقه ليشمل عدة الأمور التي ينتظرها المنافقون في شأن المؤمنين وهي كثيرة مرجعها إلى أذى المسلمين والإضرار بهم فيتربصون هزيمة المسلمين في الغزوات ونحوها من الأحداث ، قال تعالى في بعضهم : (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) [التوبة : ٩٨] ، ويتربصون انقسام المؤمنين فقد قالوا لفريق من الأنصار يندّمونهم على من قتل من قومهم في بعض الغزوات (لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا) [آل عمران : ١٦٨].

الثالث : الارتياب في الدين وهو الشك في الاعتماد على أهل الإسلام أو على الكافرين وينشأ عنه القعود عن الجهاد قال تعالى : (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) [التوبة : ٤٥] ولذلك كانوا لا يؤمنون بالآجال ، وقالوا لإخوانهم : (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) [آل عمران : ١٥٦].

الرابع : الغرور بالأماني ، وهي جمع أمنية وهي اسم التمني. والمراد بها ما كانوا يمنون به أنفسهم من أنهم على الحق وأن انتصار المؤمنين عرض زائل ، وأن الحوادث تجري على رغبتهم وهواهم ، ومن ذلك قولهم : (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) [المنافقون : ٨]

٣٤٨

وقولهم : (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) [آل عمران : ١٦٧] ولذلك يحسبون أن العاقبة لهم (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) [المنافقون : ٧]. وقد بينت الخصال التي تتولد على النفاق في تفسير سورة البقرة فطبّق عليه هذه الأصول الأربعة وألحق فروع بعضها ببعض.

والمقصود من الغاية ب (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) التنديد عليهم بأنهم لم يرعووا عن غيهم مع طول مدة أعمارهم وتعاقب السنين عليهم وهم لم يتدبروا في العواقب ، كما قال تعالى : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) [فاطر : ٣٧] وإسناد التغرير إلى الأماني مجاز عقلي لأن الأماني والطمع في حصولها سبب غرورهم وملابسه.

ومجيء أمر الله هو الموت ، أي حتى يتمّ على تلك الحالة السيئة ولم تقلعوا عنها بالإيمان الحق.

والغاية معترضة بين الجملتين المتعاطفتين ، ومن حق المؤمن أن يعتبر بما تضمنه قوله تعالى : (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) الآية ، فلا يماطل التوبة ولا يقول : غدا غدا.

وجملة (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) عطف على جملة (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) تحقيرا لغرورهم وأمانيهم بأنها من كيد الشيطان ليزدادوا حسرة حينئذ.

والغرور : بفتح الغين مبالغة في المتصف بالتغرير ، والمراد به الشيطان ، أي بإلقائه خواطر النفاق في نفوسهم بتلوينه في لون الحق وإرضاء دين الكفر الذي يزعمون أنه رضي الله (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) [الزخرف : ٢٠].

ويجوز أن يراد جنس الغارّين ، أي وغركم بالله أئمة الكفر وقادة النفاق.

والتغرير : إظهار الضار في صورة النافع بتمويه وسفسطة.

والباء في قوله : (بِاللهِ) للسببية أو للآلة المجازية ، أي جعل الشيطان شأن الله سببا لغروركم بأن خيّل إليكم أن الحفاظ على الكفر مرضي لله تعالى وأن النفاق حافظتم به على دينكم وحفظتم به نفوسكم وكرامة قومكم واطلعتم به على أحوال عدوكم.

وهذا كله معلوم عندهم قد شاهدوا دلائله فمن أجل ذلك فرّعوا لهم عليه قولهم : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) [الحديد : ١٥] ، قطعا لطمعهم أن يكونوا مع المؤمنين يومئذ كما

٣٤٩

كانوا معهم في الحياة.

(فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥))

يجوز أن يكون هذا الكلام من تتمة خطاب المؤمنين للمنافقين استمرارا في التوبيخ والتنديم. وهذا ما جرى عليه المفسرون ، فموقع فاء التفريع بيّن والعلم للمؤمنين بأن لا تؤخذ فدية من المنافقين والذين كفروا حاصل مما يسمعون في ذلك اليوم من الأقضية الإلهية بين الخلق بحيث صار معلوما لأهل المحشر ، أو هو علم متقرر في نفوسهم مما علموه في الدنيا من أخبار القرآن وكلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك موجب عطف (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) تعبيرا عما علموه بأسره وهو عطف معترض جرّته المناسبة.

ويجوز أن يكون كلاما صادرا من جانب الله تعالى للمنافقين تأييسا لهم من الطمع في نوال حظ من نور المؤمنين ، فيكون الفاء من عطف التلقين عاطفة كلام أحد على كلام غيره لأجل اتحاد مكان المخاطبة على نحو قوله تعالى قال : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [إبراهيم : ٤٠].

ويكون عطف (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) جمعا للفريقين في توبيخ وتنديم واحد لاتحادهما في الكفر.

وإقحام كلمة (فَالْيَوْمَ) لتذكيرهم بما كانوا يضمرونه في الدنيا حين ينفقون مع المؤمنين رياء وتقيّة. وهو ما حكاه الله عنهم بقوله : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) [التوبة : ٩٨].

وقرأ الجمهور (لا يُؤْخَذُ) بياء الغائب المذكر لأن تأنيث (فِدْيَةٌ) غير حقيقي ، وقد فصل بين الفعل وفاعله بالظرف فحصل مسوغان لترك اقتران الفعل بعلامة المؤنث. وقرأه ابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بمثناة فوقية جريا على تأنيث الفاعل في اللفظ ، والقراءتان سواء.

وكني بنفي أخذ الفدية عن تحقق جزائهم على الكفر ، وإلا فإنهم لم يبذلوا فدية ، ولا كان النفاق من أنواع الفدية ولكن الكلام جرى على الكناية لما هو مشهور من أن الأسير والجاني قد يتخلصان من المؤاخذة بفدية تبذل عنهما.

فعطف (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) قصد منه تعليل أن لا محيص لهم من عذاب الكفر،

٣٥٠

مثل الذين كفروا ، أي الذين أعلنوا الكفر حتى كان حالة يعرفون بها. وهذا يقتضي أن المنافقين كانوا هم والكافرون في صعيد واحد عند أبواب جهنم ، ففيه احتراس من أن يتوهم الكافرون الصرحاء من ضمير (لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) أن ذلك حكم خاص بالمنافقين تعلقا بأقل طمع ، فليس ذكر (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) مجرد استطراد.

والمأوى : المكان الذي يؤوى إليه ، أي يصار إليه ويرجع ، وكني به عن الاستمرار والخلود.

وأكد ذلك بالصريح بجملة (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ)! أي ترجعون إليها كما يرجع المستنصر إلى مولاه لينصره أو يفادي عنه ، فاستعير المولى للمقرّ على طريقة التهكم.

ويجوز مع ذلك أن يجعل المولى اسم مكان الولي ، وهو القرب والدنوّ ، أي مقركم ، كقول لبيد :

فغدت كلا الفرجين تحسب أنه

مولى المخافة خلفها وأمامها

أي مكان المخافة ومقرها.

و (بِئْسَ الْمَصِيرُ) تذييل يشمل جميع ما يصيرون إليه من العذاب. وقد يحصل العلم للمؤمنين بما أجابوا به أهل النفاق لأنهم صاروا إلى دار الحقائق.

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦))

قد علم من صدر تفسير هذه السورة أن هذه الآية نزلت بمكة سنة أربع أو خمس من البعثة رواه مسلم وغيره عن عبد الله بن مسعود أنه قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) إلى (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) إلا أربع سنين.

والمقصود من (لِلَّذِينَ آمَنُوا) : إما بعض منهم ربما كانوا مقصرين عن جمهور المؤمنين يومئذ بمكة فأراد الله إيقاظ قلوبهم بهذا الكلام المجمل على عادة القرآن وأقوال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التعريض مثل قوله : «ما بال أقوام يفعلون كذا» وقوله تعالى : (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) [آل عمران : ١٥٤]. وليس ما قاله ابن

٣٥١

مسعود مقتضيا أن مثله من أولئك الذين ذكرهم الله بهذه الآية ولكنه يخشى أن يكون منهم حذرا وحيطة.

فالمراد بالذين آمنوا المؤمنون حقا لا من يظهرون الإيمان من المنافقين إذ لم يكن في المسلمين بمكة منافقون ولا كان داع إلى نفاق بعضهم. وعن ابن مسعود «لما نزلت جعل بعضنا ينظر إلى بعض ونقول : ما أحدثنا».

وإما أن يكون تحريضا للمؤمنين على مراقبة ذلك والحذر من التقصير.

والهمزة في (أَلَمْ يَأْنِ) للاستفهام وهو استفهام مستعمل في الإنكار ، أي إنكار نفي اقتراب وقت فاعل الفعل.

ويجوز أن يكون الاستفهام للتقرير على النفي ، وفعل (يَأْنِ) مشتق من اسم جامد وهو الإنى بفتح الهمزة وكسرها ، أي الوقت قال تعالى : (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) [الأحزاب : ٥٣]. وقريب من قوله : (أَلَمْ يَأْنِ) قولهم : أما آن لك أن تفعل ، مثل ما ورد في حديث إسلام عمر بن الخطاب من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم له «أما آن لك يا ابن الخطاب أن تسلم»وفي خبر إسلام أبي ذر من أن علي بن أبي طالب وجده في المسجد الحرام وأراد أن يضيفه وقال له : «أما آن للرجل أن يعرف منزله» يريد : أن يعرف منزلي الذي هو كمنزله. وهذا تلطف في عرض الاستضافة ، إلا أن فعل (يَأْنِ) مشتق من الإنى وهو فعل منقوص آخره ألف. وفعل : آن مشتق من الأين وهو الحين وهو فعل أجوف آخره نون.

فأصل : أنى أني وأصل آن : آون وآل معنى الكلمتين واحد.

واللام للعلة ، أي ألم يأن لأجل الذين آمنوا الخشوع ، أي ألم يحقّ حضوره لأجلهم.

و (أَنْ تَخْشَعَ) فاعل (يَأْنِ) ، والخشوع : الاستكانة والتذلل.

و (لِذِكْرِ اللهِ) ما يذكرهم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو هو الصلاة. و (ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) القرآن ، قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنفال : ٢].

ويجوز أن يكون الوصفان للقرآن تشريفا له بأنه ذكر الله وتعريفا لنفعه بأنه نزل من عند الله ، وأنه الحق ، فيكون قوله : (وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) عطف وصف آخر للقرآن مثل قول الشاعر أنشده في «الكشاف» :

٣٥٢

إلى الملك القرم وابن الهمّام ... البيت

واللام في (لِذِكْرِ اللهِ) لام العلة ، أي لأجل ذكر الله.

ومعنى الخشوع لأجله : الخشوع المسبب على سماعه وهو الطاعة والامتثال.

وقرأ نافع وحفص عن عاصم (وَما نَزَلَ) بتخفيف الزاي. وقرأه الباقون بتشديد الزاي على أن فاعل (نَزَلَ) معلوم من المقام ، أي الله.

و (لا يَكُونُوا) قرأه الجمهور بياء الغائب. وقرأه رويس عن يعقوب ولا تكونوا بتاء الخطاب.

و (لا) نافية على قراءة الجمهور والفعل معمول ل «أن» المصدرية التي ذكرت قبله ، والتقدير : ألم يأن لهم أن لا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب. وعلى قراءة رويس عن يعقوب فتاء الخطاب الالتفات و (لا) نافية ، والفعل منصوب بالعطف كقراءة الجمهور ، أو (لا) ناهية والفعل مجزوم والعطف من عطف الجمل.

والمقصود التحذير لا أنهم تلبسوا بذلك ولم يأن لهم الإقلاع عنه. والتحذير منصبّ إلى ما حدث لأهل الكتاب من قسوة القلوب بعد طول الأمد عليهم في مزاولة دينهم ، أي فليحذر الذين آمنوا من أن يكونوا مثلهم على حدثان عهدهم بالدين. وليس المقصود عذر الذين أوتوا الكتاب بطول الأمد عليهم لأن طول الأمد لا يكون سببا في التفريط فيما طال فيه الأمد بل الأمر بالعكس ولا قصد تهوين حصوله للذين آمنوا بعد أن يطول الأمد لأن ذلك لا يتعلق به الغرض قبل طول الأمد ، وإنما المقصود النهي عن التشبه بالذين أوتوا الكتاب في عدم خشوع قلوبهم ولكنه يفيد تحذير المؤمنين بعد أن يطول الزمان من أن يقعوا فيما وقع فيه أهل الكتاب. ويستتبع ذلك الأنباء بأن مدة المسلمين تطول قريبا أو أكثر من مدة أهل الكتاب الذين كانوا قبل البعثة ، فإن القرآن موعظة للعصور والأجيال.

ويجوز أن تجعل (لا) حرف نهي وتعلق النهي بالغائب التفاتا أو المراد : أبلغهم أن لا يكونوا.

وفاء (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) لتفريع طول الأمد على قسوة القلوب من عدم الخشوع ، فهذا التفريع خارج عن التشبيه الذي في قوله : (كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ) ، ولكنه تنبيه على عاقبة ذلك التشبيه تحذيرا من أن يصيبهم مثل ما أصاب الذين أوتوا الكتاب من قبل.

٣٥٣

والأمد : الغاية من مكان أو زمان والمراد به هنا : المدة التي أوصوا بأن يحافظوا على اتباع شرائعهم فيها المغيّاة بمجيء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم المبشر في الشرائع (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ) النبيين لما آتيناكم (مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) [آل عمران : ٨١].

والمعنى : أنهم نسوا ما أوصوا به فخالفوا أحكام شرائعهم ولم يخافوا عقاب الله يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا ، وصار ديدنا لهم رويدا رويدا حتى ضرءوا بذلك ، فقست قلوبهم ، أي تمردت على الاجتراء على تغيير أحكام الدين.

وجملة (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) اعتراض في آخر الكلام.

والمعنى : أن كثيرا منهم تجاوزوا ذلك الحدّ من قسوة القلوب فنبذوا دينهم وبدلوا كتابهم وحرفوه وأفسدوا عقائدهم فبلغوا حدّ الكفر. فالفسق هنا مراد به الكفر كقوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) [المائدة : ٥٩] ، أي غير مؤمنين بدليل المقابلة بقوله : (آمَنَّا بِاللهِ) إلى آخره.

وبين قوله : (فَقَسَتْ) وقوله : (فاسِقُونَ) محسّن الجناس. وهذا النوع فيه مركب مما يسمى جناس القلب وما يسمى الجناس الناقص وقد اجتمعا في هذه الآية.

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧))

افتتاح الكلام ب (اعْلَمُوا) ونحوه يؤذن بأن ما سيلقى جدير بتوجه الذهن بشراشره إليه ، كما تقدم عند قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) في سورة البقرة [٢٣٥] وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) الآية في سورة الأنفال [٤١].

وهو هنا يشير إلى أن الكلام الذي بعده مغزى عظيم غير ظاهر ، وذلك أنه أريد به تمثيل حال احتياج القلوب المؤمنة إلى ذكر الله بحال الأرض الميتة في الحاجة إلى المطر ، وحال الذكر في تزكية النفوس واستنارتها بحال الغيث في إحياء الأرض الجدبة. ودل على ذلك قوله بعده : (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ، وإلا فإن إحياء الله

٣٥٤

الأرض بعد موتها بما يصيبها من المطر لا خفاء فيها فلا يقتضي أن يفتتح الإخبار عنه بمثل (اعْلَمُوا) إلّا لأن فيه دلالة غير مألوفة وهي دلالة التمثيل ، ونظيره قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي مسعود البدري وقد رآه لطم وجه عبد له «اعلم أبا مسعود ، اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا».

فالجملة بمنزلة التعليل لجملة (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) إلى قوله : (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [الحديد : ١٦] لما تتضمنه تلك من التحريض على الخشوع لذكر الله ، ولكن هذه بمنزلة العلة فصلت ولم تعطف ، وهذا يقتضي أن تكون مما نزل مع قوله تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ) الآية.

والخطاب في قوله : (اعْلَمُوا) للمؤمنين على طريقة الالتفات إقبالا عليهم للاهتمام.

وقوله : (أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) استعارة تمثيلية مصرّحة ويتضمن تمثيلية مكنية بسبب تضمنه تشبيه حال ذكر الله والقرآن في إصلاح القلوب بحال المطر في إصلاحه الأرض بعد جدبها. وطوي ذكر الحالة المشبه بها ورمز إليها بلازمها وهو إسناد إحياء الأرض إلى الله لأن الله يحيي الأرض بعد موتها بسبب المطر كما قال تعالى : (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها)(١) [النحل : ٦٥].

والمقصود الإرشاد إلى وسيلة الإنابة إلى الله والحث على تعهد النفس بالموعظة ، والتذكير بالإقبال على القرآن وتدبره وكلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعليمه وأن في اللجأ إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجاة وفي المفزع إليهما عصمة وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي». وقال : «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقيّة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم ، ومثل من لم يرفع لذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به».

وقوله : (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) استئناف بياني لجملة (أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) لأن السامع قوله : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) يتطلب

__________________

(١) في المطبوعة (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها) وهذا خطأ ، لأنه جمع بين آيتين ، والمثبت هو الصواب والله أعلم.

٣٥٥

معرفة الغرض من هذا الإعلام فيكون قوله : (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) جوابا عن تطلبه ، أي أعلمناكم بهذا تبيينا للآيات.

ويفيد بعمومه مفاد التذييل للآيات السابقة من أول السورة مكيّها ومدنيها لأن الآية وإن كانت مدنيّة فموقعها بعد الآيات النازلة بمكة مراد لله تعالى ، ويدل عليه الأمر بوضعها في موضعها هذا ، ولأن التعريف في الآيات للاستغراق كما هو شأن الجمع المعرّف باللام.

والآيات : الدلائل. والمراد بها : ما يشمل مضمون قوله : (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) إلى قوله : (بَعْدَ مَوْتِها) [الحديد : ١٦] ، وهو محل ضرب المثل لأن التنظير بحال أهل الكتاب ضرب من التمثيل.

وبيان الآيات يحصل من فصاحة الكلام وبلاغته ووفرة معانيه وتوضيحها ، وكل ذلك حاصل في هذه الآيات كما علمت آنفا. ومن أوضح البيان التنظير بأحوال المشابهين في حالة التحذير أو التحضيض.

و (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) : رجاء وتعليل ، أي بيّنا لكم لأنكم حالكم كحال من يرجى فهمه ، والبيان علة لفهمه.

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨))

يشبه أن تكون هذه الآية من المدني وأن تكون متصلة المعنى بقوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) [الحديد : ١١] وأن آية (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) [الحديد : ١٦] وما بعدها معترض. وقد تخلل المكي والمدني كل مع الآخر في هذه السورة ألا ترى أن ألفاظ الآيتين متماثلة إذ أريد أن يعاد ما سبق من التحريض على الإنفاق فيؤتى به في صورة الصلة التي عرف بها الممتثلون لذلك التحريض.

وعطف (وَالْمُصَّدِّقاتِ) كما تقدم في قوله : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [الحديد : ١٢] ، ولأن الشحّ يكثر في النساء كما دلت عليه أشعار العرب.

وقرأ الجمهور والمصدقين بتشديد الصاد على أن أصله المتصدقين فأدغمت التاء في الصاد بعد قلبها صادا لقرب مخرجيهما تطلبا لخفة الإدغام ، فقوله : (وَأَقْرَضُوا اللهَ

٣٥٦

قَرْضاً حَسَناً) من عطف المرادف في المعنى لما في المعطوف من تشبيه فعلهم بقرض لله تنويها بالصدقات.

وقرأه ابن كثير وأبو بكر عن عاصم بتخفيف الصاد على أنه من التصديق ، أي الذين صدّقوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي آمنوا وامتثلوا أمره فأقرضوا الله قرضا حسنا.

وقرأ الجمهور (يُضاعَفُ لَهُمْ) بألف بعد الضاد. وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب يضعف بدون ألف وبتشديد العين.

وعطف (وَأَقْرَضُوا) وهو جملة على (الْمُصَّدِّقِينَ) وهو مفرد لأن المفرد في حكم الفعل حيث كانت اللام في معنى الموصول فقوة الكلام : إن الذين اصّدّقوا واللائي تصدقن وأقرضوا ، على التغليب ولا فصل بأجنبي على أن الفصل لا يمنع إذا لم يفسد المعنى.

ووجه العدول عن تماثل الصلتين فلم يقل : إن المصدقين والمقرضين ، هو تصوير معنى كون التصدق إقراضا لله.

وتقدم معنى (يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) في قوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ) [الحديد : ١١] الآية.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩))

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ).

لما ذكر فضل المتصدقين وكان من المؤمنين من لا مال له ليتصدق منه أعقب ذكر المتصدقين ببيان فضل المؤمنين مطلقا ، وهو شامل لمن يستطيع أن يتصدق ومن لا يستطيع على نحو التذكير المتقدم آنفا في قوله : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) [النساء : ٩٥].

وفي الحديث : «إن قوما من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلّون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم ولا أموال لنا ، فقال : أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدّقون به ، إن لكم في كل تسبيحة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة».

٣٥٧

و (الَّذِينَ آمَنُوا) يعم كل من ثبت له مضمون هذه الصلة وما عطف عليها.

وفي جمع (وَرُسُلِهِ) تعريض بأهل الكتاب الذين قالوا : نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، فاليهود آمنوا بالله وبموسى ، وكفروا بعيسى وبمحمد عليهما الصلاة والسلام ، والنصارى آمنوا بالله وكفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون آمنوا برسل الله كلهم ، ولذلك وصفوا بأنهم الصدّيقون.

والصدّيق بتشديد الدال مبالغة في المصدّق مثل المسّيك للشحيح ، أي كثير الإمساك لماله ، والأكثر أن يشتق هذا الوزن من الثلاثي مثل : الضلّيل ، وقد يشتق من المزيد ، وذلك أن الصيغ القليلة الاستعمال يتوسعون فيها كما توسع في السّميع بمعنى المسمع في بيت عمرو بن معد يكرب ، والحكيم بمعنى المحكم في أسماء الله تعالى ، وإنما وصفوا بأنهم صدّيقون لأنهم صدّقوا جميع الرسل الحقّ ولم تمنعهم عن ذلك عصبية ولا عناد ، وقد تقدم في سورة يوسف وصفه بالصدّيق ووصفت مريم بالصدّيقة في سورة العقود.

وضمير الفصل للقصر وهو قصر إضافي ، أي هم الصدّيقون لا الذين كذّبوا بعض الرسل وهذا إبطال لأن يكون أهل الكتاب صدّيقين لأن تصديقهم رسولهم لا جدوى له إذ لم يصدّقوا برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

واسم الإشارة للتنويه بشأنهم وللتنبيه على أن المشار إليهم استحقوا ما يرد بعد اسم الإشارة من أجل الصفات التي قبل اسم الإشارة.

(وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ).

يجوز أن يكون عطفا على (الصِّدِّيقُونَ) عطف المفرد على المفرد فهو عطف على الخبر ، أي وهم الشهداء. وحكي هذا التأويل عن ابن مسعود ومجاهد وزيد بن أسلم وجماعة. فقيل : معنى كونهم شهداء : أنهم شهداء على الأمم يوم الجزاء ، قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة : ١٤٣] ، فالشهادة تكون بمعنى الخبر بما يثبت حقا يجازى عليه بخير أو شر.

وقيل معناه : أن مؤمني هذه الأمة كشهداء الأمم ، أي كقتلاهم في سبيل الله وروي عن البراء بن عازب يرفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فتكون جملة (عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) استئنافا بيانيا نشأ عن وصفهم بتينك الصفتين فإن السامع يترقب ما هو نوالهم من هذين الفضلين.

٣٥٨

ويجوز أن يكون قوله : (وَالشُّهَداءُ) مبتدأ وجملة (عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) خبر عن المبتدأ ، ويكون العطف من عطف الجمل فيوقف على قوله : (الصِّدِّيقُونَ). وحكي هذا التأويل عن ابن عباس ومسروق والضحاك فيكون انتقالا من وصف مزية الإيمان بالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى وصف مزية فريق منهم استأثروا بفضيلة الشهادة في سبيل الله ، وهذا من تتمة قوله : (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) إلى قوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [الحديد : ١٠] فإنه لما نوّه بوعد المؤمنين المصدقين المعفيين من قوله : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) [الحديد : ٨] إلخ فأوفاهم حقهم بقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) أقبل على وعد الشهداء في سبيل الله الذين تضمن ذكرهم قوله : (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [الحديد : ١٠] الآيات ، فالشهداء إذن هم المقتولون في الجهاد في سبيل الله.

والمعنيان من الشهداء ممكن الجمع بينهما فتحمل الآية على إرادتهما على طريقة استعمال المشترك في معنييه. وقد قررنا في مواضع كثيرة أنه جرى استعمال القرآن عليه.

وضميرا (أَجْرُهُمْ) و (نُورُهُمْ) يعودان إلى الصدّيقين والشهداء أو إلى الشهداء فقط على اختلاف الوجهين المتقدمين آنفا في العطف.

و (عِنْدَ رَبِّهِمْ) متعلق بالاستقرار الذي في المجرور المخبر به عن المبتدأ ، والتقدير : لهم أجرهم مستقر عند ربهم ، والعندية مجازية مستعملة في العناية والحظوة.

والظاهر في عود الضمير إلى أن يكون عائدا إلى مذكور في اللفظ بمعناه المذكور فظاهر معنى (أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) أنه أجر أولئك المذكورين ، ومعنى إضافة أجر ونور إلى ضميرهم أنه أجر يعرّف بهم ونور يعرف بهم.

وإذ قد كان مقتضى الإضافة أن تفيد تعريف المضاف بنسبته إلى المضاف إليه وكان الأجر والنور غير معلومين للسامع كان في الكلام إبهام يكنى به عن أجر ونور عظيمين ، فهو كناية عن التنويه بذلك الأجر وذلك النور ، أي أجر ونور لا يوصفان إلا أجرهم ونورهم ، أي أجرا ونورا لائقين بمقام ، مع ضميمة ما أفادته العندية التي في قوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) من معنى الزلفى والعناية بهم المفيد عظيم الأجر والنور.

ويجوز أن يكون ضميرا (أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) عائدين إلى لفظي (الصِّدِّيقُونَ) و (الشُّهَداءُ) أو إلى لفظ (الشُّهَداءُ) خاصة على ما تقدم لكن بمعنى آخر غير المعنى

٣٥٩

الذي حمل عليه آنفا بل بمعنى الصدّيقين والشهداء ممن كانوا قبلهم من الأمم ، قاله في «الكشاف».

ومعنى الصديقين والشهداء حينئذ مغاير للمعنى السابق بالعموم والخصوص على طريقة الاستخدام في الضمير. وطريقة التشبيه البليغ في حمل الخبر على المبتدأ في قوله : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) بتقدير : لهم مثل أجرهم ونورهم ، ولا تأويل في إضافة الأجر والنور إلى الضميرين بهذا المحمل فإن تعريف المضاف بيّن لأنه قد تقرر في علم الناس ما وعد به الصدّيقون والشهداء من الأمم الماضية قال تعالى في شأنهم : (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) [المائدة : ٤٤] وقال : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ) النبيئين (وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) [النساء : ٦٩].

وفائدة التشبيه على هذا الوجه تصوير قوة المشبه وإن كان أقوى من المشبه به لأن للأحوال السالفة من الشهرة والتحقق ما يقرّب صورة المشبه عند المخاطب ، ومنه ما في لفظ الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التشبيه بقوله : «كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم».

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ).

تتميم اقتضاه ذكر أهل مراتب الإيمان والتنويه بهم ، فأتبع ذلك بوصف أضدادهم لأن ذلك يزيد التنويه بهم بأن إيمانهم أنجاهم من الجحيم.

والمراد بالذين كفروا بالله وكذّبوا بالقرآن ما يشمل المشركين واليهود والنصارى على تفاوت بينهم في دركات الجحيم ، فالمشركون استحقوا الجحيم من جميع جهات كفرهم ، واليهود استحقوه من يوم كذبوا عيسى عليه‌السلام ، والنصارى استحقّه بعضهم حين أثبتوا لله ابنا وبعضهم من حين تكذيبهم برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي استحضارهم بتعريف اسم الإشارة من التنبيه على أنهم جديرون بذلك لأجل الكفر والتكذيب نظير ما تقدم في قوله : (أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ). ولم يؤت في خبرهم بضمير الفصل إذ لا يظن أن غيرهم أصحاب الجحيم.

والتعبير عنهم بأصحاب مضاف إلى الجحيم دلالة على شدة ملازمتهم للجحيم.

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ

٣٦٠