تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٨

أو الترجيح ، ورواية مسلم وغيره عن ابن مسعود أصح سندا ، وكلام ابن مسعود يرجّح على ما روي عن أنس وابن عباس لأنه أقدم إسلاما وأعلم بنزول القرآن ، وقد علمت آنفا أن صدر هذه السورة كان مقروءا قبل إسلام عمر بن الخطاب. قال ابن عطية «يشبه صدرها أن يكون مكيا والله أعلم ، ولا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا» اه.

وروي أن نزولها كان يوم ثلاثاء استنادا إلى حديث ضعيف رواه الطبراني عن ابن عمر ورواه الديلمي عن جابر بن عبد الله.

وأقول : الذي يظهر أن صدرها مكي كما توسمه ابن عطية وأن ذلك ينتهي إلى قوله : (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [الحديد : ٩] وأن ما بعد ذلك بعضه نزل بالمدينة كما تقتضيه معانيه مثل حكاية أقوال المنافقين ، وبعضه نزل بمكة مثل آية (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) [الحديد : ١٦] الآية كما في حديث مسلم. ويشبه أن يكون آخر السورة قوله : (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحديد : ٢٥] نزل بالمدينة ألحق بهذه السورة بتوقيف من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في خلالها أو في آخرها.

قلت : وفيها آية (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) [الحديد : ١٠] الآية ، وسواء كان المراد بالفتح في تلك الآية فتح مكة أو فتح الحديبية. فإنه أطلق عليه اسم الفتح وبه سميت «سورة الفتح» ، فهي متعينة لأن تكون مدنية فلا ينبغي الاختلاف في أن معظم السورة مدني.

وروي أن نزولها كان يوم الثلاثاء استنادا إلى حديث ضعيف رواه الطبراني عن ابن عمر ورواه الديلمي عن جابر بن عبد الله.

وقد عدت السورة الخامسة والتسعين في ترتيب نزول السور جريا على قول الجمهور : إنها مدنية فقالوا : نزلت بعد سورة الزلزال وقبل سورة القتال ، وإذا روعي قول ابن مسعود : إنها نزلت بعد البعثة بأربع سنين. وما روي من أن سبب إسلام عمر بن الخطاب أنه قرأ صحيفة لأخته فاطمة فيها صدر سورة الحديد لم يستقم هذا العدّ لأن العبرة بمكان نزول صدر السورة لا نزول آخرها فيشكل موضعها في عد نزول السورة.

وعلى قول ابن مسعود يكون ابتداء نزولها آخر سنة أربع من البعثة فتكون من أقدم السور نزولا فتكون نزلت قبل سورة الحجر وطه وبعد غافر ، فالوجه أن معظم آياتها نزل بعد سورة الزلزال.

٣٢١

وعدّت آيها في عدّ أهل المدينة ومكة والشام ثمانا وعشرين ، وفي عدّ أهل البصرة والكوفة تسعا وعشرين.

وورد في فضلها مع غيرها من السور المفتتحة بالتسبيح ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن العرباض بن سارية «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ بالمسبحات قبل أن يرقد ويقول : إن فيهن آية أفضل من ألف آية. وقال الترمذي : حديث حسن غريب.

وظن ابن كثير أن الآية المشار إليها في حديث العرباض هي قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الحديد : ٣] لما ورد في الآثار من كثرة ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياها.

أغراضها

الأغراض التي اشتملت عليها هذه السورة :

التذكير بجلال الله تعالى ، وصفاته العظيمة ، وسعة قدرته وملكوته ، وعموم تصرفه ، ووجوب وجوده ، وسعة علمه ، والأمر بالإيمان بوجوده ، وبما جاء به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما أنزل عليه من الآيات البينات.

والتنبيه لما في القرآن من الهدي وسبيل النجاة ، والتذكير برحمة الله ورأفته بخلقه.

والتحريض على الإنفاق في سبيل الله ، وأن المال عرض زائل لا يبقى منه لصاحبه إلا ثواب ما أنفق منه في مرضاة الله.

والتخلص إلى ما أعد الله للمؤمنين والمؤمنات يوم القيامة من خير وضد ذلك للمنافقين والمنافقات.

وتحذير المسلمين من الوقوع في مهواة قساوة القلوب التي وقع فيها أهل الكتاب من قبلهم من إهمال ما جاءهم من الهدى حتى قست قلوبهم وجرّ ذلك إلى الفسوق كثيرا منهم.

والتذكير بالبعث. والدعوة إلى قلة الاكتراث بالحياة الفانية.

والأمر بالصبر على النوائب والتنويه بحكمة إرسال الرسل والكتب لإقامة أمور الناس على العدل العام.

٣٢٢

والإيماء إلى فضل الجهاد في سبيل الله.

وتنظير رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم برسالة نوح وإبراهيم عليهما‌السلام على أن في ذريتهما مهتدين وفاسقين.

وأن الله اتبعهما برسل آخرين ، منهم عيسى عليه‌السلام الذي كان آخر رسول أرسل بشرع قبل الإسلام ، وأن أتباعه كانوا على سنة من سبقهم ، منهم مؤمن ومنهم كافر.

ثم أهاب بالمسلمين أن يخلصوا الإيمان تعريضا بالمنافقين ووعدهم بحسن العاقبة وأن الله فضلهم على الأمم لأن الفضل بيده يؤتيه من يشاء.

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١))

افتتاح السورة بذكر تسبيح الله وتنزيهه مؤذن بأن أهم ما اشتملت عليه إثبات وصف الله بالصفات الجليلة المقتضية أنه منزّه عما ضل في شأنه أهل الضلال من وصفه بما لا يليق بجلاله ، وأول التنزيه هو نفي الشريك له في الإلهية فإن الوحدانية هي أكبر صفة ضل في كنهها المشركون والمانوية ونحوهم من أهل التثنية وأصحاب التثليث والبراهمة ، وهي الصفة التي ينبئ عنها اسمه العلم أعني «الله» لما علمت في تفسير الفاتحة من أن أصله الإله ، أي المنفرد بالإلهية.

وأتبع هذا الاسم بصفات ربانية تدل على كمال الله تعالى وتنزّهه عن النقص كما يأتي بيانه فكانت هذه الفاتحة براعة استهلال لهذه السورة ، ولذلك أتبع اسمه العلم بعشر صفات هي جامعة لصفات الكمال وهي : العزيز ، الحكيم ، له ملك السماوات والأرض ، يحيي ، ويميت ، وهو على كل شيء قدير ، هو الأول ، والآخر ، والظاهر ، والباطن ، وهو بكل شيء عليم.

وصيغ فعل التسبيح بصيغة الماضي للدلالة على أن تنزيهه تعالى أمر مقرر أمر الله به عباده من قبل وألهمه الناس وأودع دلائله في أحوال ما لا اختيار له ، كما دل عليه قوله تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) [الرعد : ١٥] وقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤].

٣٢٣

ففي قوله : (سَبَّحَ) تعريض بالمشركين الذين أهملوا أهم التسبيح وهو تسبيحه عن الشريك والند.

واللام في قوله : (لِلَّهِ) لام التبيين. وفائدتها زيادة بيان ارتباط المعمول بعامله لأن فعل التسبيح متعدّ بنفسه لا يحتاج إلى التعدية بحرف ، قال تعالى : (فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ) [الإنسان : ٢٦] ، فاللام هنا نظيره اللام في قولهم : شكرت لك ، ونصحت لك ، وقوله تعالى : (وَنُقَدِّسُ لَكَ) [البقرة : ٣٠] ، وقولهم سقيا لك ورعيا لك ، وأصله : سقيك ورعيك.

و (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعم الموجودات كلها فإن (ما) اسم موصول يعمّ العقلاء وغيرهم ، أو هو خاص بغير العقلاء فجرى هنا على التغليب ، وكلها دال على تنزيه الله تعالى عن الشريك فمنها دلالة بالقول كتسبيح الأنبياء والمؤمنين ، ومنها دلالة بالفعل كتسبيح الملائكة ، ومنها دلالة بشهادة الحال كما تنبئ به أحوال الموجودات من الافتقار إلى الصانع المنفرد بالتدبير ، فإن جعل عموم (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مخصوصا بمن يتأتى منهم النطق بالتسبيح وهم العقلاء كان إطلاق التسبيح على تسبيحهم حقيقة.

وإن حمل العموم على ظاهره لزم تأويل فعل (سَبَّحَ) بما يشمل الحقيقة والمجاز فيكون مستعملا في حقيقته ومجازه.

والعزيز : الذي لا يغلب ، وهذا الوصف ينفي وجود الشريك في الإلهية.

و (الْحَكِيمُ) الموصوف بالحكمة ، وهي وضع الأفعال حيث يليق بها ، وهي أيضا العلم الذي لا يخطئ ولا يتخلف ولا يحول دون تعلقه بالمعلومات حائل ، وتقدما في سورة البقرة. وهذا الوصف يثبت أن أفعاله تعالى جارية على تهيئة المخلوقات لما به إصابة ما خلقت لأجله ، فلذلك عززها الله بإرشاده بواسطة الشرائع.

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢))

استئناف ابتدائي بذكر صفة عظيمة من صفات الله التي متعلقها أحوال الكائنات في السماوات والأرض وخاصة أهل الإدراك منهم.

ومضمون هذه الجملة يؤذن بتعليل تسبيح الله تعالى لأن من له ملك العوالم العليا والعالم الدنيوي حقيق بأن يعرف الناس صفات كماله.

وأفاد تعريف المسند قصر المسند على المسند إليه وهو قصر ادعائي لعدم الاعتداد

٣٢٤

بملك غيره في الأرض إذ هو ملك ناقص فإن الملوك مفتقرون إلى من يدفع عنهم العوادي بالأحلاف والجند ، وإلى من يدبر لهم نظام المملكة من وزراء وقواد ، وإلى أخذ الجباية والجزية ونحو ذلك ، أو هو قصر حقيقي ، إذا اعتبرت إضافة (مُلْكُ) إلى مجموع (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإنه لا ملك لمالك على الأرض كلها بله السماوات معها.

وهذا معنى صفته تعالى «الملك» ، وتقدم في آخر سورة آل عمران.

وجملة (يُحْيِي وَيُمِيتُ) بدل اشتمال من مضمون (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإن الإحياء والإماتة ممّا يشتمل عليه معنى ملك السماوات والأرض لأنهما من أحوال ما عليهما ، وتخصيص هذين بالذكر للاهتمام بهما لدلالتهما على دقيق الحكمة في التصرف في السماء والأرض ولظهور أن هاذين الفعلين لا يستطيع المخلوق ادعاء أن له عملا فيهما ، وللتذكير بدليل إمكان البعث الذي جحده المشركون ، وللتعريض بإبطال زعمهم إلهية أصنامهم كما قال تعالى : (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) [الفرقان : ٣] ، ومن هذين الفعلين جاء وصفه تعالى بصفة «المحيي المميت».

وتقدم ذكر الإحياء والإماتة عند قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) في أول سورة البقرة [٢٨].

وجملة (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تفيد مفاد التذييل لجملة (يُحْيِي وَيُمِيتُ) لتعميم ما دل عليه قوله : (يُحْيِي وَيُمِيتُ) من بيان جملة (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، وإنما عطفت بالواو وكان حق التذييل أن يكون مفصولا لقصد إيثار الإخبار عن الله تعالى بعموم القدرة على كل موجود ، وذلك لا يفيت قصد التذييل ، لأن التذييل يحصل بالمعنى.

(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣))

(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ).

استئناف في سياق تبيين أن له ملك السماوات والأرض ، بأن ملكه دائم في عموم الأزمان وتصرف فيهما في كل الأحوال ، إذ هو الأول الأزلي ، وأنه مستمر من قبل وجود كل محدث ومن بعد فنائه إذ الله هو الباقي بعد فناء ما في السماوات والأرض ، وذلك يظهر من دلالة الآثار على المؤثر فإن دلائل تصرفه ظاهرة للمتبصر بالعقل وهو معنى (الظَّاهِرُ) كما يأتي ، وأن كيفيات تصرفاته محجوبة عن الحس وذلك معنى (الْباطِنُ) تعالى كما سيأتي.

٣٢٥

فضمير (هُوَ) ليس ضمير فصل ولكنه ضمير يعبر عن اسم الجلالة لاعتبارنا الجملة مستأنفة ، ولو جعلته ضمير فصل لكانت أوصاف (الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) أخبارا عن ضمير (هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الحديد : ١].

وقد اشتملت هذه الجملة على أربعة أخبار هي صفات لله تعالى.

فأما وصف (الْأَوَّلُ) فأصل معناه الذي حصل قبل غيره في حالة تبينها إضافة هذا الوصف إلى ما يدل على الحالة من زمان أو مكان ، فقد يقع مع وصف (أول) لفظ يدل على الحالة التي كان فيها السبق ، وقد يستدل على تلك الحالة من سياق الكلام ، فوصف (الْأَوَّلُ) لا يتبين معناه إلا بما يتصل به من الكلام ولا يتصور إلا بالنسبة إلى موصوف آخر هو متأخر عن الموصوف ب (أول) في حالة ما.

فقول امرئ القيس :

ومهلهل الشعراء ذاك الأول

يفيد أنه مهلهل سابق غيره من الشعراء في الشعر ، وقوله تعالى : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) [الأنعام : ١٤] أي أولهم في اتباع الإسلام ، وقوله : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) [البقرة : ٤١] ، أي أولهم كفرا وقوله : (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ) [الأعراف : ٣٩] ، أي أولاهم في الدخول إلى النار.

وأشهر معاني الأوّلية هو السبق في الوجود ، أي في ضد العدم ، ألا ترى أن جميع الأحوال التي يسبق صاحبها غيره فيها هي وجودات من الكيفيات ، فوصف الله بأنه (الْأَوَّلُ) معناه : أنه السابق وجوده على كل موجود وجد أو سيوجد ، دون تخصيص جنس ولا نوع ولا صنف ، ولكنه وصف نسبي غير ذاتي.

ولهذا لم يذكر لهذا الوصف هنا متعلّق ـ بكسر اللام ـ ، ولا ما يدل على متعلّق لأن المقصود أنه الأول بدون تقييد.

ويرادف هذا الوصف في اصطلاح المتكلمين صفة القدم.

واعلم أن هذا الوصف يستلزم صفة الغنى المطلق ، وهي عدم الاحتياج إلى المخصّص ، أي مخصص يخصصه بالوجود بدلا عن العدم ، لأن الأول هنا معناه الموجود لذاته دون سبق عدم ، وعدم الاحتياج إلى محل يقوم به قيام العرض بالجوهر.

٣٢٦

ويستلزم ذلك انفراده تعالى بصفة الوجود لأنه لو كان غير الله واجبا وجوده لما كان الله موصوفا بالأولية ، فالموجودات غير الله ممكنة ، والممكن لا يتصف بالأولية المطلقة ، فلذلك تثبت له الوحدانية ، ثم هذه الأولية في الوجود تقتضي أن تثبت لله جميع صفات الكمال اقتضاء عقليا بطريق الالتزام البيّن بالمعنى الأعمّ وهو الذي يلزم من تصور ملزومه وتصوّره الجزم بالملازمة بينهما.

وأما وصف (الْآخِرُ) فهو ضد الأول ، فأصله : هو المسبوق بموصوف بصفة متحدث عنها في الكلام أو مشار إليها فيه بما يذكر من متعلق به ، أو تمييزه ، على نحو ما تقدم في قوله : (هُوَ الْأَوَّلُ) كقوله تعالى : (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) [الأعراف : ٣٨] أي أخراهم في الادّراك في النار ، وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «آخر أهل الجنة دخولا الجنة ...» إلخ ، وقول الحريري في المقامة الثانية «وجلس في أخريات الناس» ، أي الجماعات الأخريات في الجلوس ، وهو وصف نسبيّ.

ووصف الله تعالى بأنه (الْآخِرُ) بعد وصفه بأنه (الْأَوَّلُ) مع كون الوصفين متضادّين يقتضي انفكاك جهتي الأولية والآخرية ، فلما تقرر أن كونه الأول متعلق بوجود الموجودات اقتضى أن يكون وصفه ب (الْآخِرُ) متعلقا بانتقاض ذلك الوجود ، أي هو الآخر بعد جميع موجودات السماء والأرض ، وهو معنى قوله تعالى : (نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) [مريم : ٤٠] وقوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨].

فتقدير المعنى : والآخر في ذلك أي في استمرار الوجود الذي تقرر بوصفه بأنه الأول. وليس في هذا إشعار بأنه زائل ينتابه العدم ، إذ لا يشعر وصف الآخر بالزوال لا مطابقة ولا التزاما ، وهذا هو صفة البقاء في اصطلاح المتكلمين. قال معنى (الْآخِرُ) إلى معنى «الباقي» ، وإنما أوثر وصف (الْآخِرُ) بالذكر لأنه مقتضى البلاغة ليتم الطباق بين الوصفين المتضادين ، وقد علم عند المتكلمين أن البقاء غير مختص بالله تعالى وأنه لا ينافي الحدوث على خلاف في تعيين الحوادث الباقية ، بخلاف وصف القدم فإنه مختص بالله تعالى ومتناف مع الحدوث.

واعلم أن في قوله : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) دلالة قصر من طريق تعريف جزأي الجملة.

فأما قصر الأولية على الله تعالى في صفة الوجود فظاهر ، وأما قصر الآخرية عليه في ذلك وهو معنى البقاء ، فإن أريد به البقاء في العالم الدنيوي عرض إشكال المتعارض بما

٣٢٧

ورد من بقاء الأرواح ، وحديث «أن عجب الذّنب لا يفنى وأن الإنسان منه يعاد». ورفع هذا الإشكال أن يجعل القصر ادعائيا لعدم الاعتداد ببقاء غيره تعالى لأنه بقاء غير واجب بل هو بجعل الله تعالى.

والجمع بين وصفي (الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) فيه محسّن الطباق.

و (الظَّاهِرُ) الأرجح أنه مشتق من الظّهور الذي هو ضد الخفاء فيكون وصفه تعالى به مجازا عقليا ، فإن إسناد الظهور في الحقيقة هو ظهور أدلة صفاته الذاتية لأهل النظر والاستدلال والتدبر في آيات العالم فيكون الوصف جامعا لصفته النفسية ، وهي الوجود ، إذ أدلة وجوده بيّنة واضحة ولصفاته الأخرى مما دل عليها فعله من قدرة وعلم وحياة وإرادة ، وصفات الأفعال من الخلق والرزق والإحياء والإماتة كما علمت في قوله : (هُوَ الْأَوَّلُ) عن النقص أو ما دل عليها تنزيهه عن النقص كصفة الوحدانية والقدم والبقاء والغنى المطلق ومخالفة الحوادث ، وهذا المعنى هو الذي يناسبه المقابلة بالباطن.

ويجوز أن يكون مشتقا من الظهور ، أي الغلبة كالذي في قوله تعالى : (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ) [الكهف : ٢٠] ، فمعنى وصفه تعالى ب (الظَّاهِرُ) أنه الغالب.

وهذا لا يناسب مقابلته ب (الْباطِنُ) إلا على اعتبار محسّن الإيهام ، وما وقع في حديث أبي هريرة في «صحيح مسلم» من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وأنت الظاهر فليس فوقك شيء» فمعنى فاء التفريع فيه أن ظهوره تعالى سبب في انتفاء أن يكون شيء فوق الله في الظهور ، أي في دلالة الأدلة على وجوده واتصافه بصفات الكمال ، فدلالة الفاء تفريع لا تفسير.

و (الْباطِنُ) الخفي يقال : بطن ، إذا خفي ومصدره بطون.

ومعنى وصفه تعالى بباطن وصف ذاته وكنهه لأنه محجوب عن إدراك الحواس الظاهرة قال تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣].

والقصر في قوله : (وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) قصر ادعائي لأن ظهور الله تعالى بالمعنيين ظهور لا يدانيه ظهور غيره ، وبطونه تعالى لا يشبهه بطون الأشياء الخفية إذ لا مطمع لأحد في إدراك ذاته ولا في معرفة تفاصيل تصرفاته.

والجمع بين وصفه ب (الظَّاهِرُ) بالمعنى الراجح و (الْباطِنُ) كالجمع بين وصفه ب (الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) كما علمته آنفا. وفي الجمع بينهما محسن المطابقة.

٣٢٨

وفائدة إجراء الوصفين المتضادين على اسم الله تعالى هنا التنبيه على عظم شأن الله تعالى ليتدبر العالمون في مواقعها.

واعلم أن الواوات الثلاثة الواقعة بين هذه الصفات الأربع متحدة المعنى تقتضي كل واحدة منها عطف صفة.

وقال الزمخشري : «الواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوّلية والآخريّة. والثالثة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء ، وأما الوسطى فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين» اه. وهو تشبث لا داعي إليه ولا دليل عليه ولو أريد ذلك لقال : هو الأول الآخر ، والظاهر الباطن ، بحذف واوين. والمعنى الذي حاوله الزمخشري : تقتضيه معاني هاته الصفات بدون اختلاف معاني الواوات.

(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

عطف على جملة (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) إلخ عطفت صفة علمه على صفة ذاته ، وتقدم نظير هذه الجملة في أوائل سورة البقرة.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤))

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ).

موقع هذه الجملة استئناف كموقع جملة (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) [الحديد : ٣] الآية ، فهذا استئناف ثان مفيد الاستدلال على انفراده تعالى بالإلهية ليقلعوا عن الإشراك به.

ويفيد أيضا بيانا لمضمون جملة (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الحديد : ٥] وجملة (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الحديد : ٢] ، فإن الذي خلق السماوات والأرض قادر على عظيم الإبداع.

والاستواء على العرش تمثيل للملك الذي في قوله : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الحديد : ٢] وهذا معنى اسمه تعالى : «الخالق» ، وتقدم قريب من هذه الآية في أوائل سورة الأعراف [١١].

٣٢٩

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها).

استئناف لتقرير عموم علمه تعالى بكل شيء فكان بيان جملة (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الحديد : ٢] وجملة (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الحديد : ٣] جاريا على طريقة النشر للف على الترتيب ، وتقدم نظير هذه الآية في سورة سبأ. فانظر ذلك.

(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

عطف معنى خاص على معنى شمله وغيره لقصد الاهتمام بالمعطوف.

والمعيّة تمثيل كنائي عن العلم بجميع أحوالهم.

و (أَيْنَ ما) ظرف مركب من (أين) وهي اسم للمكان ، و (ما) الزائدة للدلالة على تعميم الأمكنة.

وجملة (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تكملة لمضمون (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) ، وكان حقها أن لا تعطف وإنما عطفت ترجيحا لجانب ما تحتوي عليه من الخبر عن هذه الصفة.

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥))

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

هذا تأكيد لنظيره الذي في أول هذه السورة كرر ليبنى عليه قوله : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) ، فكان ذكره في أول السورة مبنيّا عليه التصرف في الموجودات القابلة للحياة والموت في الدنيا ، وكان ذكره هنا مبنيّا عليه أن أمور الموجودات كلّها ترجع إلى تصرفه.

وتقديم المسند لقصر الإلهية عليه تعالى فيفيد صفة الواحد.

(وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).

عطف على (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) عطف الخاص من وجه على العام منه فيما يتعلق بالأمور الجارية في الدنيا ، وعطف المغاير فيما يتعلق بالأمور التي تجري يوم القيامة على ما سيتضح في تفسير معنى (الْأُمُورُ).

فالأمور : جمع أمر ، واشتهر في اللغة أن الأمر اسم للشأن والحادث فيعم الأفعال والأقوال.

وقال ابن عطية : (الْأُمُورُ) هنا : جميع الموجودات لأن الأمر والشيء والموجود

٣٣٠

أسماء شائعة في جميع الموجودات : أعراضها وجواهرها» اه. ولم أره لغيره. وفي «المحصول» و «شرحه» في أصول الفقه ، ومن تبعه من كتب أصول الفقه أن كلمة (أمر) مشتركة بين الفعل والقول والشأن والشيء ولم أر عزو ذلك إلى معروف ولا أتوا له بمثال سالم عن النظر ولا أحسب أن ذلك من اللغة.

فإن أخذنا بالمشهور في اللغة كان المعنى ترجع أفعال الناس إلى الله ، أي ترجع في الحشر ، والمراد : رجوع أهلها للجزاء على أعمالهم إذ لا يتعلق الرجوع بحقائقها ، فعطف قوله : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) تتميم لجملة (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، أي له ملك العوالم في الدنيا وله التصرف في أعمال العقلاء من أهلها في الآخرة.

وإن أخذنا بشمول اسم الأمور للذوات كان مفيدا لإثبات البعث ، أي الذوات التي كانت في الدنيا تصير إلى الله يوم القيامة فيجازيها على أعمالها.

وعلى كلا الاحتمالين فمفاده مفاد اسمه (المهيمن).

وتعريف الجمع في (الْأُمُورُ) من صيغ العموم.

وتقديم المجرور على متعلّقه للاهتمام لا للقصر إذ لا مقتضى للقصر الحقيقي ولا داعي للقصر الإضافي إذ لا يوجد من الكفار من يثبت البعث ولا من زعموا أن الناس يصيرون في تصرف غير الله.

والرجوع : مستعار للكون في مكان غير المكان الذي كان فيه دون سبق مغادرة عن هذا المكان.

وإظهار اسم الجلالة دون أن يقول : وإليه ترجع الأمور ، لتكون الجملة مستقلة بما دلت عليه فتكون كالمثل صالحة للتسيير.

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وأبو جعفر (تُرْجَعُ) بضم التاء وفتح الجيم على معنى يرجعها مرجع وهو الله قسرا. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف (تُرْجَعُ) بفتح التاء وكسر الجيم ، أي ترجع من تلقاء أنفسها لأنها مسخرة لذلك في آجالها.

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦))

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ).

٣٣١

مناسبة ذكره هذه الجملة أن تقدير الليل والنهار وتعاقبهما من التصرفات الإلهية المشاهدة في أحوال السماوات والأرض وملابسات أحوال الإنسان ، فهذه الجملة بدل اشتمال من جملة (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الحديد : ٥]

وهو أيضا مناسب لمضمون جملة (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [الحديد : ٥] تذكير للمشركين بأن المتصرف في سبب الفناء هو الله تعالى فإنهم يعتقدون أن الليل والنهار هما اللذان يفنيان الناس ، قال الأعشى :

ألم تروا إرما وعادا

أفناهما الليل والنهار

وحكى الله عنهم قولهم : (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤] فلما قال : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [الحديد : ٥] ، أبطل بعده اعتقاد أهل الشرك أن للزمان الذي هو تعاقب الليل والنهار والمعبر عنه بالدهر تصرفا فيهم ، وهذا معنى اسمه تعالى : «المدبر».

(وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

لما ذكر تصرف الله في الليل وكان الليل وقت إخفاء الأشياء أعقب ذكره بأن الله عليم بأخفى الخفايا وهي النوايا ، فإنها مع كونها معاني غائبة عن الحواس كانت مكنونة في ظلمة باطن الإنسان فلا يطلع عليها عالم إلا الله تعالى ، وهذا كقوله تعالى : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ) [الأنعام : ٥٩] ، وقوله : (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) [هود : ٥].

(بِذاتِ الصُّدُورِ) : ما في خواطر الناس من النوايا ، ف (ذات) هنا مؤنث (ذو) بمعنى صاحبة.

والصحبة : هنا بمعنى الملازمة.

ولما أريد بالمفرد الجنس أضيف إلى «جمع» ، وتقدم (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) في سورة الأنفال [٤٣]. وقد اشتمل هذا المقدار من أول السورة إلى هنا على معاني ست عشرة صفة من أسماء الله الحسنى : وهي : الله ، العزيز ، الحكيم ، الملك ، المحيي ، المميت ، القدير ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، العليم ، الخالق ، البصير ، الواحد ، المدبر.

وعن ابن عباس أن اسم الله الأعظم هو في ست آيات من أول سورة الحديد فهو يعني مجموع هذه الأسماء.

٣٣٢

واعلم أن ما تقدم من أول السورة إلى هنا يرجح أنه مكي.

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧))

استئناف وقع موقع النتيجة بعد الاستدلال فإن أول السورة قرر خضوع الكائنات إلى الله تعالى وأنه تعالى المتصرف فيها بالإيجاد والإعدام وغير ذلك فهو القدير عليها ، وأنه عليم بأحوالهم مطّلع على ما تضمره ضمائرهم وأنهم صائرون إليه فمحاسبهم ، فلا جرم تهيأ المقام لإبلاغهم التذكير بالإيمان به إيمانا لا يشوبه إشراك والإيمان برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ قد تبين صدقه بالدلائل الماضية التي دلت على صحة ما أخبرهم به مما كان محل ارتيابهم وتكذيبهم كما أشار إليه قوله : (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ) [الحديد : ٨].

فذلك وجه عطف (وَرَسُولِهِ) على متعلق الإيمان مع أن الآيات السابقة ما ذكرت إلا دلائل صفات الله دون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فالخطاب ب (آمِنُوا) للمشركين ، والآية مكية حسب ما روي في إسلام عمر وهو الذي يلائم اتصال قوله : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [الحديد : ٨] إلخ بها.

والمراد بالإنفاق المأمور به : الإنفاق الذي يدعو إليه الإيمان بعد حصول الإيمان وهو الإنفاق على الفقير ، وتخصيص الإنفاق بالذكر تنويه بشأنه ، وقد كان أهل الجاهلية لا ينفقون إلا في اللذات ، والمفاخرة والمقامرة ، ومعاقرة الخمر ، وقد وصفهم القرآن بذلك في مواضع كثيرة كقوله : (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) [الحاقة : ٣٤] وقوله : (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر : ١٧ ـ ٢٠] وقوله : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) [التكاثر : ١ ، ٢] إلى آخر السورة.

وقيل : نزلت في غزوة تبوك ـ يعني الإنفاق بتجهيز جيش العسرة ـ قاله ابن عطية عن الضحاك ، فتكون الآية مدنية ويكون قوله : (آمِنُوا) أمرا بالدوام على الإيمان كقوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [النساء : ١٣٦].

ويجوز أن يكون أمرا لمن في نفوسهم بقية نفاق أو ارتياب ، وأنهم قبضوا أيديهم عن تجهيز جيش العسرة كما قال تعالى : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) إلى قوله:

٣٣٣

(وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧] ، فهم إذا سمعوا الخطاب علموا أنهم المقصود على نحو ما في آيات سورة براءة ، ولكن يظهر أن سنة غزوة تبوك لم يبق عندها من المنافقين عدد يعتد به فيوجه إليه خطاب كهذا.

وجيء بالموصول في قوله : (مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) دون أن يقول : وأنفقوا من أموالكم أو مما رزقكم الله لما في صلة الموصول من التنبيه على غفلة السامعين عن كون المال لله جعل الناس كالخلائف عنه في التصرف فيه مدة ما ، فلما أمرهم بالإنفاق منها على عباده كان حقا عليهم أن يمتثلوا لذلك كما يمتثل الخازن أمر صاحب المال إذا أمره بإنفاذ شيء منه إلى من يعيّنه.

والسين والتاء في (مُسْتَخْلَفِينَ) للمبالغة في حصول الفعل لا للطلب لاستفادة الطلب من فعل (جَعَلَكُمْ). ويجوز أن تكون لتأكيد الطلب.

والفاء في قوله : (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) تفريع وتسبب على الأمر بالإيمان والإنفاق لإفادة تعليله كأنه قيل لأن الذين آمنوا وأنفقوا أعددنا لهم أجرا كبيرا.

والمعنى على وجه كون الآية مكية : أن الذين آمنوا من بينكم وأنفقوا ، أي سبقوكم بالإيمان والإنفاق لهم أجر كبير ، أي فاغتنموه وتداركوا ما فاتوكم به.

و (من) للتبعيض ، أي الذين آمنوا وهم بعض قومكم.

وفي هذا إغراء لهم بأن يماثلوهم.

ويجوز أن يكون فعلا المضيّ في قوله : (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا) مستعملان في معنى المضارع للتنبيه عن إيقاع ذلك.

(وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨))

ظاهر استعمال أمثال قوله : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ) أن يكون استفهاما مستعملا في التوبيخ والتعجيب ، وهو الذي يناسب كون الأمر في قوله : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) مستعملا في الطلب لا في الدوام.

وتكون جملة (لا تُؤْمِنُونَ) حالا من الضمير المستتر في الكون المتعلق به الجار

٣٣٤

والمجرور كما تقول : ما لك قائما؟ بمعنى ما تصنع في حال القيام. والتقدير : وما لكم كافرين بالله ، أي ما حصل لكم في حالة عدم الإيمان.

وجملة (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) حال ثانية ، والواو واو الحال لا العطف ، فهما حالان متداخلتان. والمعنى : ما ذا يمنعكم من الإيمان وقد بين لكم الرسول من آيات القرآن ما فيه بلاغ وحجة على أن الإيمان بالله حق فلا عذر لكم في عدم الإيمان بالله فقد جاءتكم بينات حقّيّته فتعين أن إصراركم على عدم الإيمان مكابرة وعناد.

وعلى هذا الوجه فالميثاق المأخوذ عليهم هو ميثاق من الله ، أي ما يماثل الميثاق من إيداع الإيمان بوجود الله وبوحدانيته في الفطرة البشرية فكأنه ميثاق قد أخذ على كل واحد من الناس في الأزل وشرط التكوين فهو ناموس فطري. وهذا إشارة إلى قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) ذرياتهم (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) وقد تقدم في سورة الأعراف [١٧٢].

فضمير (أَخَذَ) عائد إلى اسم الجلالة في قوله : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) والمعنى : أن النفوس لو خلت من العناد وعن التمويه والتضليل كانت منساقة إلى إدراك وجود الصانع ووحدانيته وقد جاءهم من دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يكشف عنهم ما غشى على إدراكهم من دعاء أئمة الكفر والضلال.

وجملة (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) مستأنفة ، وجواب الشرط محذوف دل عليه قوله : (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ).

واسم فاعل في قوله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) مستعمل في المستقبل بقرينة وقوعه في سياق الشرط ، أي فقد حصل ما يقتضي أن تؤمنوا من السبب الظاهر والسبب الخفي المرتكز في الجبلة.

ويرجح هذا المعنى أن ظاهر الأمر في قوله : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [الحديد : ٧] أنه لطلب إيجاد الإيمان كما تقدم في تفسيرها وأن الآية مكية.

وقرأ الجمهور (أَخَذَ) بالبناء للفاعل ونصب (مِيثاقَكُمْ) على أن الضمير عائد إلى اسم الجلالة ، وقرأه أبو عمرو (أَخَذَ) بالبناء للنائب ورفع (مِيثاقَكُمْ).

(هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ

٣٣٥

بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩))

استئناف ثالث انتقل به الخطاب إلى المؤمنين ، فهذه الآية يظهر أنها مبدأ الآيات المدنية في هذه السورة ويزيد ذلك وضوحا عطف قوله : (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [الحديد : ١٠] الآيات كما سيأتي قريبا.

والخطاب هنا وإن كان صالحا لتقرير ما أفادته جملة (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ) [الحديد : ٨] ولكن أسلوب النظم وما عطف على هذه الجملة يقتضيان أن تكون استئنافا انتقاليا هو من حسن التخلص إلى خطاب المسلمين ، ولا تفوته الدلالة على تقرير ما قبله لأن التقرير يحصل من انتساب المعنيين : معنى الجملة السابقة ، ومعنى هذه الجملة الموالية.

فهذه الجملة بموقعها ومعناها وعلتها وما عطف عليها أفادت بيانا وتأكيدا وتعليلا وتذييلا وتخلصا لغرض جديد ، وهي أغراض جمعتها جمعا بلغ حد الإعجاز في الإيجاز ، مع أن كل جملة منها مستقلة بمعنى عظيم من الاستدلال والتذكير والإرشاد والامتنان.

والرءوف : من أمثلة المبالغة في الاتصاف بالرأفة وهي كراهية إصابة الغير بضر.

والرحيم : من الرحمة وهي محبة إيصال الخير إلى الغير.

وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم (لَرَؤُفٌ) بواو بعد الهمزة على اللغة المشهورة. وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بدون واو بعد الهمزة وهي لغة ولعلها تخفيف ، قال جرير :

يرى للمسلمين عليه حقا

كفعل الوالد الرّءوف الرحيم

وتأكيد الخبر ب (إِنَ) واللام في قوله : (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) لأن المشركين في إعراضهم عن دعوة الإسلام قد حسبوها إساءة لهم ولآبائهم وآلهتهم ، فقد قالوا : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) [الفرقان : ٤١ ، ٤٢]. وهذا يرجح أن قوله تعالى : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [الحديد : ٧] إلى هنا مكّي. فإن كانت الآية مدنيّة فلأن المنافقين كانوا على تلك الحالة.

(وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ

٣٣٦

الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠))

(وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

الإنفاق في سبيل الله بمعناه المشهور وهو الإنفاق في عتاد الجهاد لم يكن إلا بعد الهجرة فإن سبيل الله غلب في القرآن إطلاقه على الجهاد ويؤيده قوله عقبه : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) ، لأن الأصل أن يكون ذلك متصلا نزوله مع هذا ولو حمل الإنفاق على معنى الصدقات لكان مقتضيا أنها مدنية لأن الإنفاق بهذا المعنى لا يطلق إلا على الصدقة على المؤمنين فلا يلام المشركون على تركه.

وعليه فالخطاب موجّه للمؤمنين ، فقد أعيد الخطاب بلون غير الذي ابتدئ به.

ومن لطائفه أنه موجه إلى المنافقين الذين ظاهرهم أنهم مسلمون وهم في الباطن مشركون فهم الذين شحّوا بالإنفاق.

ووجه إلحاق هذه الآية وهي مدنيّة بالمكيّ من السورة مناسبة استيعاب أحوال الممسكين عن الإنفاق من الكفار والمؤمنين تعريضا بالتحذير من خصال أهل الكفر إذ قد سبقها قوله : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد : ٧].

و (ما) استفهامية مستعملة في اللوم والتوبيخ على عدم إنفاقهم في سبيل الله.

و (أن) مصدرية ، والمصدر المنسبك منها والفعل المنصوب بها في محل جر باللام ، أو ب (في) محذوف ، والتقدير : ما حصل لكم في عدم إنفاقكم ، أي ذلك الحاصل أمر منكر.

وعن الأخفش أنّ (أن) زائدة فيكون بمنزلة قوله : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [الحديد : ٨]. وليس نصبها الفعل الذي بعدها بمانع من اعتبارها زائدة لأن الحرف الزائد قد يعمل مثل حرف الجر الزائد ، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : (قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ) في سورة البقرة [٢٤٦].

والواو في (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) واو الحال وهو حال من ضمير (تُنْفِقُوا) باعتبار أن عموم السماوات والأرض يشمل ما فيهما فيشمل المخاطبين فذلك العموم هو الرابط. والتقدير : لله ميراث ما في السماوات والأرض ، ويشمل ميراثه إياكم.

والمعنى : إنكار عدم إنفاق أموالهم فيما دعاهم الله إلى الإنفاق فيه وهم سيهلكون

٣٣٧

ويتركون أموالهم لمن قدّر الله مصيرها إليه فلو أنفقوا بعض أموالهم فيما أمرهم الله لنالوا رضى الله وانتفعوا بمال هو صائر إلى من يرثهم.

وإضافة ميراث إلى السماوات والأرض من إضافة المصدر إلى المفعول وهو على حذف مضاف ، تقديره : أهلها ، وليس المراد ميراث ذات السماوات والأرض لأن ذلك إنما يحصل بعد انقراض الناس فلا يؤثر في المقصود من حثهم على الإنفاق.

(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

استئناف بياني ناشئ عمّا يجول في خواطر كثير من السامعين من أنهم تأخروا عن الإنفاق غير ناوين تركه ولكنهم سيتداركونه.

وأدمج فيه تفضيل جهاد بعض المجاهدين على بعض لمناسبة كون الإنفاق في سبيل الله يشمل إنفاق المجاهد على نفسه في العدة والزاد وإنفاقه على غيره ممن لم يستكمل عدته ولا زاده ، ولأن من المسلمين من يستطيع الجهاد ولا يستطيع الإنفاق ، فأريد أن لا يغفل ذكره في عداد هذه الفضيلة إذ الإنفاق فيها وسيلة لها.

وظاهر لفظ الفتح أنه فتح مكة فإن هذا الجنس المعرّف صار علما بالغلبة على فتح مكة ، وهذا قول جمهور المفسرين.

وإنما كان المنفقون قبل الفتح والمجاهدون قبله أعظم درجة في إنفاقهم وجهادهم لأن الزمان الذي قبل فتح مكة كان زمان ضعف المسلمين لأن أهل الكفر كانوا أكثر العرب فلما فتحت مكة دخلت سائر قريش والعرب في الإسلام فكان الإنفاق والجهاد فيما قبل الفتح أشقّ على نفوس المسلمين لقلة ذات أيديهم وقلة جمعهم قبالة جمع العدوّ ، ألا ترى أنه كان عليهم أن يثبتوا أمام العدوّ إذا كان عدد العدوّ عشرة أضعاف عدد المسلمين في القتال قال تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٥].

وقيل المراد بالفتح : صلح الحديبية ، وهذا قول أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه والزهري ، والشعبي ، وعامر بن سعد بن أبي وقاص ، واختاره الطبري. ويؤيده ما رواه الطبري عن أبي سعيد الخدري «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية عام الحديبية» وهو الملائم لكون هذه السورة بعضها مكي وبعضها مدنيّ فيقتضي أن مدنيّها قريب عهد من مدة إقامتهم بمكة ، وإطلاق الفتح على صلح الحديبية وارد في قوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)

٣٣٨

[الفتح : ١].

و (مَنْ أَنْفَقَ) عامّ يشمل كلّ من أنفق. وقيل : أريد به أبو بكر الصديق فإنه أنفق ماله كله من أول ظهور الإسلام.

ونفي التسوية مراد به نفيها في الفضيلة والثواب فإن نفي التسوية في وصف يقتضي ثبوت أصل ذلك الوصف لجميع من نفيت عنهم التسوية ، فنفي التسوية كناية عن تفضيل أحد جانبين وتنقيص الجانب الآخر نقصا متفاوتا.

ويعرف الجانب الفاضل والجانب المفضول بالقرينة أو التصريح في الكلام ، وليس تقديم أحد الجانبين في الذكر بعد نفي التسوية بمقتض أنه هو المفضل فقد قال الله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) [النساء : ٩٥] وقدم هذه الآية الجانب المفضّل ، وكذا الذي في قول السموأل :

فليس سواء عالم وجهول

وقد أكد هذا الاقتضاء بقوله : (أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) ، أي أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا من بعد الفتح ، فإن اسم التفضيل يدل على المشاركة فيما اشتق منه اسم التفضيل وزيادة من أخبر عنه باسم التفضيل في الوصف المشتق منه ، أي فكلا الفريقين له درجة عظيمة.

وحذف قسم من أنفق من قبل الفتح إيجازا لدلالة فعل التسوية عليه لا محالة. والتقدير : لا يستوي من أنفق من قبل الفتح ومن أنفق بعده.

والدرجة : مستعارة للفضل لأن الدرجة تستلزم الارتقاء ، فوصف الارتقاء ملاحظ فيها ، ثم يشبّه الفضل والشرف بالارتقاء فعبر عنه بالدرجة ، فالدرجة من أسماء الأجناس التي لوحظت فيها صفات أوصاف مثل اسم الأسد بصفة الشجاعة في قول الخارجي :

أسد علي وفي الحروب نعامة

وقوله : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) احتراس من أن يتوهم متوهم أن اسم التفضيل مسلوب المفاضلة للمبالغة مثل ما في قول : (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف : ٣٣] ، أي حبيب إليّ دون ما يدعونني إليه من المعصية.

وعبر ب (الْحُسْنى) لبيان أن الدرجة هي درجة الحسنى ليكون للاحتراس معنى زائد

٣٣٩

على التأكيد وهو ما فيه من البيان.

والحسنى : لقب قرآني إسلامي يدل على خيرات الآخرة ، قال تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦].

وقوله : (مِنْكُمْ) حال من (مَنْ أَنْفَقَ) أصله نعت قدّم للاهتمام تعجيلا بهذا الوصف.

وجيء باسم الإشارة في قوله : (أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً) دون الضمير لما تؤذن به الإشارة من التنويه والتعظيم ، وللتنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما يذكر بعد اسم الإشارة ، لأجل ما ذكر قبله من الإخبار ومثله قوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٤] بعد قوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣] إلخ.

وقرأ الجمهور (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) بنصب (كُلًّا) على أنه مفعول أول مقدم على فعله على طريقة الاشتغال بالضمير المحذوف اختصارا. وقرأه ابن عامر بالرفع على الابتداء وهما وجهان في الاشتغال متساويان.

وهذه الآية أصل في تفاضل أهل الفضل فيما فضلوا فيه ، وأن الفضل ثابت للذين أسلموا بعد الفتح من أهل مكة وغيرهم. وبئس ما يقوله بعض المؤرخين من عبارات تؤذن بتنقيص من أسلموا بعد الفتح من قريش مثل كلمة «الطلقاء» وإنما ذلك من أجل حزازات في النفوس قبلية أو حزبية ، والله يقول : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات : ١١].

وجملة (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) تذييل ، والواو اعتراضية ، والمعنى : أن الله يعلم أسباب الإنفاق وأوقاته وأعذاره ، ويعلم أحوال الجهاد ونوايا المجاهدين فيعطي كل عامل على نية عمله.

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١))

موقع هذه الجملة موقع التعليل والبيان لجملة (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) [الحديد : ١٠].

وما بينهما اعتراض ، والمعنى : أن مثل المنفق في سبيل الله كمثل من يقرض الله ومثل الله تعالى في جزائه كمثل المستسلف مع من أحسن قرضه وأحسن في دفعه إليه.

٣٤٠