تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٨

أو قول كقوله تعالى : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [الدخان : ٥٨].

واليسر : السهولة ، وعدم الكلفة في تحصيل المطلوب من شيء. وإذ كان القرآن كلاما فمعنى تيسيره يرجع إلى تيسير ما يراد من الكلام وهو فهم السامع المعاني التي عناها المتكلم به بدون كلفة على السامع ولا إغلاق كما يقولون : يدخل للأذن بلا إذن. وهذا اليسر يحصل من جانب الألفاظ وجانب المعاني ؛ فأما من جانب الألفاظ فلذلك بكونها في أعلى درجات فصاحة الكلمات وفصاحة التراكيب ، أي فصاحة الكلام ، وانتظام مجموعها ، بحيث يخف حفظها على الألسنة.

وأما من جانب المعاني ، فبوضوح انتزاعها من التراكيب ووفرة ما تحتوي عليه التراكيب منها من مغازي الغرض المسوقة هي له. وبتولد معان من معان أخر كلّما كرّر المتدبر تدبّره في فهمها.

ووسائل ذلك لا يحيط بها الوصف وقد تقدم بسطها في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير ومن أهمها إيجاز اللفظ ليسرع تعلقه بالحفظ ، وإجمال المدلولات لتذهب نفوس السامعين في انتزاع المعاني منها كل مذهب يسمح به اللفظ والغرض والمقام ، ومنها الإطناب بالبيان إذا كان في المعاني بعض الدقة والخفاء.

ويتأتّى ذلك بتأليف نظم القرآن بلغة هي أفصح لغات البشر وأسمح ألفاظا وتراكيب بوفرة المعاني ، وبكون تراكيبه أقصى ما تسمح به تلك اللغة ، فهو خيار من خيار من خيار. قال تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء : ١٩٥].

ثم يكون المتلقين له أمة هي أذكى الأمم عقولا وأسرعها أفهاما وأشدها وعيا لما تسمعه ، وأطولها تذكرا له دون نسيان ، وهي على تفاوتهم في هذه الخلال تفاوتا اقتضته سنة الكون لا يناكد حالهم في هذا التفاوت ما أراده الله من تيسيره للذكر ، لأن الذكر جنس من الأجناس المقول عليها بالتشكيك إلا أنه إذا اجتمع أصحاب الأفهام على مدارسته وتدبره بدت لجموعهم معان لا يحصيها الواحد منهم وحده.

وقد فرض الله على علماء القرآن تبيينه تصريحا كقوله : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤] ، وتعريضا كقوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١٨٧] فإن هذه الأمة أجدر بهذا الميثاق.

وفي الحديث : «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه

١٨١

بينهم إلّا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده».

واللام في قوله : (لِلذِّكْرِ) متعلقة ب (يَسَّرْنَا) وهي ظرف لغو غير مستقر ، وهي لام تدل على أن الفعل الذي تعلقت به فعل لانتفاع مدخول هذه اللام به فمدخولها لا يراد منه مجرد تعليل فعل الفاعل كما هو معنى التعليل المجرد ومعنى المفعول لأجله المنتصب بإضمار لام التعليل البسيطة ، ولكن يراد أن مدخول هذه اللام علة خاصة مراعاة في تحصيل فعل الفاعل لفائدته ، فلا يصح أن يقع مدخول هذه اللام مفعولا لأن المفعول لأجله علة بالمعنى الأعمّ ومدخول هذه اللام علة خاصّة فالمفعول لأجله بمنزلة سبب الفعل وهو كمدخول باء السببية في نحو (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) [العنكبوت : ٤٠] ، ومجرور هذه اللام بمنزلة مجرور باء الملابسة في نحو (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢٠] ، وهو أيضا شديد الشبه بالمفعول الأول في باب كسا وأعطى ، فهذه اللام من القسم الذي سماه ابن هشام في «مغني اللبيب» : شبه التمليك. وتبع في ذلك ابن مالك في «شرح التسهيل».

وأحسن من ذلك تسمية ابن مالك إياه في «شرح كافيته» وفي «الخلاصة» معنى التعدية. ولقد أجاد في ذلك لأن مدخول هذه اللام قد تعدى إليه الفعل الذي تعلقت به اللام تعدية مثل تعدية الفعل المتعدي إلى المفعول ، وغفل ابن هشام عن هذا التدقيق ، وهو المعنى الخامس من معاني اللام الجارة في «مغني اللبيب» وقد مثله بقوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) [الشورى : ١١] ، ومثّل له ابن مالك في «شرح التسهيل» بقوله تعالى : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) [مريم : ٥] ، ومن الأمثلة التي تصلح له قوله تعالى : (وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) [يس : ٧٢] وقوله تعالى : (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) [الأعلى : ٨] وقوله : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) [الليل : ٧] وقوله: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) [الليل : ١٠] ، ألا ترى أن مدخول اللام في هذه الأمثلة دال على المنتفعين بمفاعيل أفعالها فهم مثل أول المفعولين من باب كسا.

وإنما بسطنا القول في هذه اللام لدقة معناها وليتّضح معنى قوله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ).

وأصل معاني لام الجر هو التعليل وتنشأ من استعمال اللام في التعليل المجازي معان شاعت فساوت الحقيقة فجعلها النحويون معاني مستقلة لقصد الإيضاح.

والذكر : مصدر ذكر الذي هو التذكر العقلي لا اللساني ، والذي يرادفه الذكر بضم

١٨٢

الذال اسما للمصدر ، فالذكر هو تذكر ما في تذكره نفع ودفع ضر ، وهو الاتعاظ والاعتبار.

فصار معنى (يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أن القرآن سهلت دلالته لأجل انتفاع الذكر بذلك التيسير ، فجعلت سرعة ترتب التذكر على سماع القرآن بمنزلة منفعة للذكر لأنه يشيع ويروج بها كما ينتفع طالب شيء إذا يسرت له وسائل تحصيله ، وقربت له أباعدها. ففي قوله : (يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) استعارة مكنية ولفظ (يَسَّرْنَا) تخييل. ويؤول المعنى إلى : يسرنا القرآن للمتذكرين.

وفرع على هذا المعنى قوله : (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ). والقول فيه كالقول في نظيره المتقدم آنفا ، إلا أن بين الادّكارين فرقا دقيقا ، فالادّكار السالف ادّكار اعتبار عن مشاهدة آثار الأمة البائدة ، والادّكار المذكور هنا ادكار عن سماع مواعظ القرآن البالغة وفهم معانيه والاهتداء به.

[١٨ ـ ٢٠] (كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠))

موقع هذه الجملة كموقع جملة (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) [القمر : ٩] فكان مقتضى الظاهر أن تعطف عليها ، وإنما فصلت عنها ليكون في الكلام تكرير التوبيخ والتهديد والنعي عليهم عقب قوله : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ* حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) [القمر : ٤ ، ٥]. ومقام التوبيخ والنعي يقتضي التكرير.

والحكم على عاد بالتكذيب عموم عرفي بناء على أن معظمهم كذبوه وما آمن به إلا نفر قليل قال تعالى : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) [هود : ٥٨].

وفرع على التذكير بتكذيب عاد قوله : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) قبل أن يذكر في الكلام ما يشعر بأن الله عذبهم فضلا عن وصف عذابهم.

فالاستفهام مستعمل في التشويق للخبر الوارد بعده وهو مجاز مرسل لأن الاستفهام يستلزم طلب الجواب والجواب يتوقف على صفة العذاب وهي لمّا تذكر فيحصل الشوق إلى معرفتها وهو أيضا مكنى به عن تهويل ذلك العذاب.

وفي هذا الاستفهام إجمال لحال العذاب وهو إجمال يزيد التشويق إلى ما يبينه بعده

١٨٣

من قوله : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) الآية ، ونظيره قوله تعالى : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) [النبأ : ١] ثم قوله : (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) [النبأ : ٢] الآية.

وعطف (وَنُذُرِ) على (عَذابِي) بتقدير مضاف دل عليه المقام ، والتقدير : وعاقبة نذري ، أي انذاراتي لهم ، أي كيف كان تحقيق الوعيد الذي أنذرهم.

ونذر : جمع نذير بالمعنى المصدري كما تقدم في أوائل السورة وقد علمت بما ذكرنا أن جملة «فكيف كان عذابي ونذري» هذه ليست تكريرا لنظيرها السابق في خبر قوم نوح ، ولا اللاحق في آخر قصة عاد للاختلاف الذي علمته بين مفادها ومفاد مماثلتها وإن اتحدت ألفاظهما.

والبليغ يتفطن للتغاير بينهما فيصرفه عن توهم أن تكون هذه تكريرا فإنه لما لم يسبق وصف عذاب عاد لم يستقم أن يكون قوله : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي) تعجيبا من حالة عذابهم.

وقوله : (وَنُذُرِ) موعظة من تحقق وعيد الله إياهم ، وقد أشار الفخر إلى هذا وقفينا عليه ببسط وتوجيه. وأصل السؤال عن تكرير هذه الجملة أثناء قصة عاد هنا أورده في كتاب «درة التنزيل وغرة التأويل» المنسوب إلى الفخر وإلى الراغب إلا أن كلام الفخر في «التفسير» أجدر بالتعويل مما في «درة التنزيل».

وجملة (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) إلخ بيان للإجمال الذي في قوله : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ). وهو في صورة جواب للاستفهام الصوري. وكلتا الجملتين يفيد تعريضا بتهديد المشركين بعذاب على تكذيبهم.

وجملة البيان إنما اتصف حال العذاب دون حال الإنذار ، أو حال رسولهم وهو اكتفاء لأن التكذيب يتضمن مجيء نذير إليهم وفي مفعول (كَذَّبَتْ) المحذوف إشعار برسولهم الذي كذبوه وبعث الرسول وتكذيبهم إياه بتضمن الإنذار لأنهم لما كذبوه حق عليه إنذارهم.

وتعدية إرسال الريح إلى ضميرهم هي كإسناد التكذيب إليهم بناء على الغالب وقد أنجى الله هودا والذين معه كما علمت آنفا أو هو عائد إلى المكذبين بقرينة قوله : (كَذَّبَتْ عادٌ).

والصرصر : الشديدة القوية يكون لها صوت ، وتقدم في سورة فصّلت.

١٨٤

وأريد ب (يَوْمِ نَحْسٍ) أول أيام الريح التي أرسلت على عاد إذ كانت سبعة أيام إلا يوما كما في قوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) في سورة فصّلت [١٦] وقوله : (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) في سورة الحاقة [٧].

والنحس : سوء الحال.

وإضافة (يَوْمِ) إلى (نَحْسٍ) من إضافة الزمان إلى ما يقع فيه كقولهم يوم تحلاق اللمم ، ويوم فتح مكة. وإنما يضاف اليوم إلى النحس باعتبار المنحوس ، فهو يوم نحس للمعذبين يوم نصر للمؤمنين ومصائب قوم عند قوم فوائد .. وليس في الأيام يوم يوصف بنحس أو بسعد لأن كل يوم تحدث فيه نحوس لقوم وسعود لآخرين ، وما يروى من أخبار في تعيين بعض أيام السنة للنحس هو من أغلاط القصاصين فلا يلقي المسلم الحق إليها سمعه.

واشتهر بين كثير من المسلمين التشاؤم بيوم الأربعاء. وأصل ذلك انجرّ لهم من عقائد مجوس الفرس ، ويسمون الأربعاء التي في آخر الشهر «الأربعاء التي لا تدور» ، أي لا تعود ، أرادوا بهذا الوصف ضبط معنى كونها آخر الشهر لئلا يظن أنه جميع النصف الأخير منه وإلّا فأيّة مناسبة بين عدم الدوران وبين الشؤم ، وما من يوم إلّا وهو يقع في الأسبوع الأخير من الشهر ولا يدور في ذلك الشهر.

ومن شعر بعض المولدين من الخراسانيين :

لقاؤك للمبكّر فأل سوء

ووجهك أربعاء لا تدور

وانظر ما تقدم في سورة فصّلت.

و (مُسْتَمِرٍّ) : صفة (نَحْسٍ) ، أي نحس دائم عليهم فعلم من الاستمرار أنه أبادهم إذ لو نجوا لما كان النحس مستمرا. وليس (مُسْتَمِرٍّ) صفة ل (يَوْمِ) إذ لا معنى لوصفه بالاستمرار.

والكلام في اشتقاق مستمر تقدم آنفا عند قوله تعالى : (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) [القمر : ٢].

ويجوز أن يكون مشتقا من مرّ الشيء قاصرا ، إذا كان مرّا ، والمرارة مستعارة للكراهية والنفرة فهو وصف كاشف لأن النحس مكروه.

١٨٥

والنزع : الإزالة بعنف لئلا يبقى اتصال بين المزال وبين ما كان متصلا به ، ومنه نزع الثياب.

والأعجاز جمع عجز : وهو أسفل الشيء ، وشاع إطلاق العجز على آخر الشيء لأنهم يعتبرون الأجسام منتصبة على الأرض فأولاها ما كان إلى السماء وآخرها ما يلي الأرض.

وأطلقت الأعجاز هنا على أصول النخل لأن أصل الشجرة هو في آخرها مما يلي الأرض.

وشبه الناس المطروحون على الأرض بأصول النخيل المقطوعة التي تقلع من منابتها لموتها إذ تزول فروعها ويتحاتّ ورقها فلا تبقى إلا الجذوع الأصلية فلذلك سميت أعجازا.

و (مُنْقَعِرٍ) : اسم فاعل انقعر مطاوع قعره ، أي بلغ قعره بالحفر يقال : قعر البئر إذا انتهى إلى عمقها ، أي كأنهم أعجاز نخل قعرت دواخله وذلك يحصل لعود النخل إذا طال مكثه مطروحا.

ومنقعر : وصف النخل ، روعي في إفراده وتذكيره صورة لفظ نخل دون عدد مدلوله خلافا لما في قوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة : ٧] وقوله : (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) [الرحمن : ١١].

قال القرطبي : «قال أبو بكر ابن الأنباري سئل المبرد بحضرة إسماعيل القاضي (١) عن ألف مسألة من جملتها ، قيل له : ما الفرق بين قوله تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً) [الأنبياء : ٨١] و (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) [يونس : ٢٢] وقوله : (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة : ٧] و (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ)؟ فقال كل ما ورد عليك من هذا الباب فإن شئت رددته إلى اللفظ تذكيرا أو إلى المعنى تأنيثا» اه.

وجملة (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) في موضع الحال من (النَّاسَ) ووجه الوصف ب (مُنْقَعِرٍ) الإشارة إلى أن الريح صرعتهم صرعا تفلقت منه بطونهم وتطايرت أمعاؤهم

__________________

(١) إسماعيل بن إسحاق بن حماد البصري فقيه المالكية بالعراق ، وقاضي الجماعة ببغداد ، توفي سنة ٢٨٢ ه‍ له «أحكام القرآن».

١٨٦

وأفئدتهم فصاروا جثثا فرغا. وهذا تفظيع لحالهم ومثلة لهم لتخويف من يراهم.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١))

تكرير لنظيره السابق عقب قصة قوم نوح لأن مقام التهويل والتهديد يقتضي تكرير ما يفيدهما. و (كيف) هنا استفهام على حالة العذاب ، وهي الحالة الموصوفة في قوله : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) إلى (مُنْقَعِرٍ) [القمر : ١٩ ، ٢٠] ، والاستفهام مستعمل في التعجيب.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢))

تكرير لنظيره السابق في خبر قوم نوح.

[٢٣ ـ ٢٥] (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥))

القول في موقع جملة (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) كالقول في موقع جملة (كَذَّبَتْ عادٌ) [القمر : ١٨]. وكذلك القول في إسناد حكم التكذيب إلى ثمود وهو اسم القبيلة معتبر فيه الغالب الكثير. فإن صالحا قد آمن به نفر قليل كما حكاه الله عنهم في سورة الأعراف.

وثمود : ممنوع من الصرف باعتبار العلمية والتأنيث المعنوي ، أي على تأويل الاسم بالقبيلة.

والنذر : جمع نذير الذي هو اسم مصدر أنذر ، أي كذبوا بالإنذارات التي أنذرهم الله بها على لسان رسوله. وليس النذر هنا بصالح لحمله على جمع النذير بمعنى المنذر لأن فعل التكذيب إذا تعدى إلى الشخص المنسوب إلى الكذب تعدى إلى اسمه بدون حرف قال تعالى : (فَكَذَّبُوا رُسُلِي) [سبأ : ٤٥] وقال : (لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ) [الفرقان : ٣٧] وقال : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) [الحج : ٤٢] ، وإذا تعدى إلى الكلام المكذّب تعدى إليه بالباء قال : (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) [الأنعام : ٥٧] وقال : (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) [الأنعام : ٦٦] وقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) [الأعراف : ٤٠] وقال : (كَذَّبُوا بِآياتِنا) [آل عمران : ١١]. وهذا بخلاف قوله : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ) في سورة الشعراء [١٤١].

والمعنى : أنهم كذبوا إنذارات رسولهم ، أي جحدوها ثم كذبوا رسولهم ، فلذلك

١٨٧

فرع على جملة (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) قوله : (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) إلى قوله : (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) ولو كان المراد بالنذر جمع النذير وأطلق على نذيرهم لكان وجه النظم أن تقع جملة (فَقالُوا أَبَشَراً) إلى آخرها غير معطوفة بالفاء لأنها تكون حينئذ بيانا لجملة (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ).

والمعنى : أن صالحا جاءهم بالإنذارات فجحدوا بها وكانت شبهتهم في التكذيب ما أعرب عنه قولهم : (أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) إلى آخره ، فهذا القول يقتضي كونه جوابا عن دعوة وإنذار ، وإنما فصّل تكذيب ثمود وأجمل تكذيب عاد لقصد بيان المشابهة بين تكذيبهم ثمود وتكذيب قريش إذ تشابهت أقوالهم.

والقول في انتظام جملة (فَقالُوا أَبَشَراً) إلخ بعد جملة (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) كالقول في جملة (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) [القمر : ٩] بعد جملة (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) [القمر : ٩].

وهذا قول قالوه لرسولهم لما أنذرهم بالنذر لأن قوله : (كَذَّبَتْ) يؤذن بمخبر إذ التكذيب يقتضي وجود مخبر. وهو كلام شافهوا به صالحا وهو الذي عنوه بقولهم : (أَبَشَراً مِنَّا) إلخ. وعدلوا عن الخطاب إلى الغيبة.

وانتصب (أَبَشَراً) على المفعولية ل (نَتَّبِعُهُ) على طريقة الاشتغال ، وقدم لاتصاله بهمزة الاستفهام لأن حقها التصدير واتصلت به دون أن تدخل على نتبع لأن محل الاستفهام الإنكاري هو كون البشر متبوعا لا اتباعهم له ومثله (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) [التغابن : ٦] وهذا من دقائق مواقع أدوات الاستفهام كما بين في علم المعاني.

والاستفهام هنا إنكاري ، أنكروا أن يرسل الله إلى الناس بشرا مثلهم ، أي لو شاء الله لأرسل ملائكة.

ووصف (بَشَراً) ب (واحِداً) : إما بمعنى أنه منفرد في دعوته لا أتباع له ولا نصراء ، أي ليس ممن يخشى ، أي بعكس قول أهل مدين (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) [هود : ٩١]. وإما بمعنى أنه من جملة آحاد الناس ، أي ليس من أفضلنا. وإما بمعنى أنه منفرد في ادعاء الرسالة لا سلف له فيها كقول أبي محجن الثقفي :

قد كنت أغنى الناس شخصا واحدا

سكن المدينة من مزارع فوم

يريد : لا يناظرني في ذلك أحد.

وجملة (إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) تعليل لإنكار أن يتبعوا بشرا منهم تقديره : أنتّبعك

١٨٨

وأنت بشر واحد منا.

و (إذن) حرف جواب هي رابطة الجملة بالتي قبلها. والضلال : عدم الاهتداء إلى الطريق ، أرادوا : إنا إذن مخطئون في أمرنا.

والسعر : الجنون ، يقال بضم العين وسكونها.

وفسر ابن عباس السعر بالعذاب على أنه جمع سعير. وجملة (أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) تعليل للاستفهام الإنكاري.

و (أُلْقِيَ) حقيقته : رمي من اليد إلى الأرض وهو هنا مستعار لإنزال الذكر من السماء قال تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل : ٥].

و (في) للظرفية المجازية ، جعلوا تلبسهم بالضلال والجنون كتلبس المظروف بالظرف.

و (مِنْ بَيْنِنا) حال من ضمير (عَلَيْهِ) ، أي كيف يلقى عليه الذكر دوننا ، يريدون أن فيهم من هو أحق منه بأن يوحى إليه حسب مدارك عقول الجهلة الذين يقيسون الأمور بمقاييس قصور أفهامهم ويحسبون أن أسباب الأثرة في العادات هي أسبابها في الحقائق.

وحرف (مِنْ) في قوله : (مِنْ بَيْنِنا) بمعنى الفصل كما سماه ابن مالك وإن أباه ابن هشام أي مفصولا من بيننا كقوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) [البقرة: ٢٢٠].

و (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) إضراب عن ما أنكروه بقولهم : (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) أي لم ينزل الذكر عليه من بيننا بل هو كذّاب فيما ادعاه ، بطر متكبر.

و (الأشر) بكسر الشين وتخفيف الراء : اسم فاعل أشر ، إذا فرح وبطر ، والمعنى : هو معجب بنفسه مدّع ما ليس فيه.

(سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦))

مقول قول محذوف دل عليه السياق تقديره : قلنا لنذيرهم الذي دل عليه قوله : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) [القمر : ٢٣] فإن النذر تقتضي نذيرا بها وهو المناسب لقوله بعده (فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) [القمر : ٢٧] وذلك مبني على أن قوله آنفا : (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) [القمر : ٢٥] كلام أجابوا به نذارة صالح إيّاهم المقدرة من قوله تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ

١٨٩

بِالنُّذُرِ) [القمر : ٢٣] ، وبذلك انتظم الكلام أتم انتظام.

وقرأ الجمهور (سَيَعْلَمُونَ) بياء الغيبة. وقرأ ابن عامر وحمزة ستعلمون بتاء الخطاب وهي تحتمل أن يكون هذا حكاية كلام من الله لصالح على تقدير : قلنا له : قل لهم ، ففيه حذف قول. ويحتمل أن يكون خطابا من الله لهم بتقدير : قلنا لهم ستعلمون. ويحتمل أن يكون خطابا للمشركين على جعل الجملة معترضة.

والمراد من قوله : (غَداً) الزمن المستقبل القريب كقولهم في المثل : إن مع اليوم غدا ، أي إن مع الزمن الحاضر زمنا مستقبلا. يقال في تسلية النفس من ظلم ظالم ونحوه ، وقال الطرمّاح :

وقبل غد يا ويح قلبي من غد

إذا راح أصحابي ولست برائح

يريد يوم موته.

والمراد به في الآية يوم نزول عذابهم المستقرب.

وتبيينه في قوله : (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) [القمر : ٢٧] إلخ ، أي حين يرون المعجزة وتلوح لهم بوارق العذاب يعلمون أنهم الكذّابون الأشرون لا صالح. وعلى الوجه الثاني في ضمير (سَيَعْلَمُونَ) يكون الغد مرادا به : يوم انتصار المسلمين في بدر ويوم فتح مكة ، أي سيعلمون من الكذاب المماثل للكذاب في قصة ثمود.

[٢٧ ـ ٢٩] (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩))

هذه الجملة بيان لجملة (سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) [القمر : ٢٦] باعتبار ما تضمنته الجملة المبيّنة ـ بفتح الياء ـ من الوعيد وتقريب زمانه وإن فيه تصديق الرسول الذي كذبوه.

وضمير (لَهُمْ) جار على مقتضى الظاهر على قراءة الجمهور (سَيَعْلَمُونَ) بياء الغائبة ، وإما على قراءة ابن عامر وحمزة ستعلمون بتاء الخطاب فضمير (لَهُمْ) التفات.

وإرسال الناقة إشارة إلى قصة معجزة صالح أنه أخرج لهم ناقة من صخرة وكانت تلك المعجزة مقدّمة الأسباب التي عجل لهم العذاب لأجلها ، فذكر هذه القصة في جملة

١٩٠

البيان توطئة وتمهيد.

والإرسال مستعار لجعلها آية لصالح. وقد عرف خلق خوارق العادات لتأييد الرسل باسم الإرسال في القرآن كما قال تعالى : (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) [الإسراء : ٥٩] فشبهت الناقة بشاهد أرسله الله لتأييد رسوله. وهذا مؤذن بأن في هذه الناقة معجزة وقد سماها الله آية في قوله حكاية عنهم وعن صالح (فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قالَ هذِهِ ناقَةٌ) [الشعراء : ١٥٤ ، ١٥٥] إلخ.

و (فِتْنَةً لَهُمْ) حال مقدر ، أي تفتنهم فتنة هي مكابرتهم في دلالتها على صدق رسولهم ، وتقدير معنى الكلام : إنا مرسلو الناقة آية لك وفتنة لهم.

وضمير (لَهُمْ) عائد إلى المكذبين منهم بقرينة إسناد التكذيب كما تقدم. واسم الفاعل من قوله : (مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) مستعمل في الاستقبال مجازا بقرينة قوله : (فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) ، فعدل عن أن يقال : سنرسل ، إلى صيغة اسم الفاعل الحقيقة في الحال لتقريب زمن الاستقبال من زمن الحال.

والارتقاب : الانتظار ، ارتقب مثل : رقب ، وهو أبلغ دلالة من رقب ، لزيادة المبنى فيه.

وعدي الارتقاب إلى ضميرهم على تقدير مضاف يقتضيه الكلام لأنه لا يرتقب ذواتهم وإنما يرتقب أحوالا تحصل لهم. وهذه طريقة إسناد أو تعليق المشتقات التي معانيها لا تسند إلى الذوات فتكون على تقدير مضاف اختصارا في الكلام اعتمادا على ظهور المعنى. وذلك مثل إضافة التحريم والتحليل إلى الذوات في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣]. والمعنى : فارتقب ما يحصل لهم من الفتنة عند ظهور الناقة.

والاصطبار : الصبر القوي ، وهو كالارتقاب أيضا أقوى دلالة من الصبر ، أي اصبر صبرا لا يعتريه ملل ولا ضجر ، أي اصبر على تكذيبهم ولا تأيس من النصر عليهم ، وحذف متعلق (اصْطَبِرْ) ليعم كل حال تستدعي الضجر. والتقدير : واصطبر على أذاهم وعلى ما تجده في نفسك من انتظار النصر.

وجملة (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) معطوفة على جملة (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) باعتبار أن الوعد بخلق آية الناقة يقتضي كلاما محذوفا ، تقديره : فأرسلنا لهم الناقة وقلنا نبئهم أن الماء قسمة بينهم على طريقة العطف والحذف في قوله : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ

١٩١

اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) [الشعراء : ٦٣] ، وإن كان حرف العطف مختلفا ، ومثل هذا الحذف كثير في إيجاز القرآن.

والتعريف في (الْماءَ) للعهد ، أي ماء القرية الذي يستقون منه ، فإن لكل محلة ينزلها قوم ماء لسقياهم وقال تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) [القصص : ٢٣].

وأخبر عن الماء بأنه (قِسْمَةٌ). والمراد مقسوم فهو من الإخبار بالمصدر للتأكيد والمبالغة.

وضمير (بَيْنَهُمْ) عائد إلى معلوم من المقام بعد ذكر الماء إذ من المتعارف أن الماء يستقي منه أهل القرية لأنفسهم وماشيتهم ، ولما ذكرت الناقة علم أنها لا تستغني عن الشرب فغلّب ضمير العقلاء على ضمير الناقة الواحدة وإذ لم يكن للناقة مالك خاص أمر الله لها بنوبة في الماء. وقد جاء في آية سورة الشعراء [١٥٥] (قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) ، وهذا مبدأ الفتنة ، فقد روي أن الناقة كانت في يوم شربها تشرب ماء البئر كله فشحّوا بذلك وأضمروا جلدها عن الماء فأبلغهم صالح إن الله ينهاهم عن أن يمسوها بسوء.

والمحتضر بفتح الضاد اسم مفعول من الحضور وهو ضد الغيبة. والمعنى : محتضر عنده فحذف المتعلق لظهوره. وهذا من جملة ما أمر رسولهم بأن ينبئهم به ، أي لا يحضر القوم في يوم شرب الناقة ، وهي بإلهام الله لا تحضر في أيام شرب القوم. والشّرب بكسر الشين : نوبة الاستقاء من الماء. فنادوا صاحبهم الذي أغروه بقتلها وهو قدار ـ بضم القاف وتخفيف الدال ـ بن سالف. ويعرف عند العرب بأحمر ، قال زهير :

فتنتج لكم غلمان أشأم كلّهم

كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم

يريد أحمر ثمود لأن ثمودا إخوة عاد (ولم أقف على سبب وصفه بأحمر وأحسب أنه لبياض وجهه). وفي الحديث «بعثت إلى الأحمر والأسود» ، وكان قدار من سادتهم وأهل العزة منهم ، وشبهه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأبي زمعة ـ يعني الأسود بن المطلب بن أسد ـ في قوله: «فانتدب لها رجل ذو منعة في قومه كأبي زمعة» (أي فأجاب نداءهم فرماها بنبل فقتلها).

وعبر عنه بصاحبهم للإشارة إلى أنهم راضون بفعله إذ هم مصاحبون له وممالئون.

ونداؤهم إياه نداء الإغراء بالناقة وإنما نادوه لأنه مشتهر بالإقدام وقلة المبالاة لعزته.

و (فَتَعاطى) مطاوع عاطاه وهو مشتق من : عطا يعطو ، إذا تناول. وصيغة تفاعل

١٩٢

تقتضي تعدد الفاعل ، شبه تخوف القوم من قتلها لما أنذرهم به رسولهم من الوعيد وتردّدهم في الإقدام على قتلها بالمعاطاة فكل واحد حين يحجم عن مباشرة ذلك ويشير بغيره كأنه يعطي ما بيده إلى يد غيره حتى أخذه قدار.

وعطف (فَعَقَرَ) بالفاء للدلالة على سرعة إتيانه ما دعوه لأجله.

والعقر : أصله ضرب البعير بالسيف على عراقيبه ليسقط إلى الأرض جاثيا فيتمكن الناحر من نحره. قال أبو طالب :

ضروب بنصل السيف سوق سمائها

إذا عدموا زادا فإنك عاقر

وغلب إطلاقه على قتل البعير كما هنا إذ ليس المراد أنه عقرها بل قتلها بنبله.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠))

القول فيه كالقول في نظيره الواقع في قصة قوم نوح فليس هو تكريرا ولكنه خاص بهذه القصة.

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١))

جواب قوله : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) [القمر : ٣٠] فهو مثل موقع قوله : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) [القمر : ١٩] في قصة عاد كما تقدم.

والصيحة : الصاعقة وهي المعبر عنها بالطاغية في سورة الحاقة ، وفي سورة الأعراف بالرجفة ، وهي صاعقة عظيمة خارقة للعادة أهلكتهم ، ولذلك وصفت ب (واحِدَةً) للدلالة على أنها خارقة للعادة إذ أتت على قبيلة كاملة وهم أصحاب الحجر.

و (فَكانُوا) بمعنى : صاروا ، وتجيء (كان) بمعنى (صار) حين يراد بها كون متجدد لم يكن من قبل.

والهشيم : ما يبس وجفّ من الكلأ ومن الشجر ، وهو مشتق من الهشم وهو الكسر لأن اليابس من ذلك يصير سريع الانكسار. والمراد هنا شيء خاص منه وهو ما جفّ من أغصان العضاة والشوك وعظيم الكلأ كانوا يتخذون منه حظائر لحفظ أغنامهم من الريح والعادية ولذلك أضيف الهشيم إلى المحتظر. وهو بكسر الظاء المعجمة : الذي يعمل الحظيرة ويبنيها ، وذلك بأنه يجمع الهشيم ويلقيه على الأرض ليرصفه بعد ذلك سياجا

١٩٣

لحظيرته فالمشبه به هو الهشيم المجموع في الأرض قبل أن يسيّج ولذلك قال : (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) ولم يقل : كهشيم الحظيرة ، لأن المقصود بالتشبيه حالته قبل أن يرصف ويصفف وقبل أن تتخذ منه الحظيرة.

والمحتظر : مفتعل من الحظيرة ، أي متكلف عمل الحظيرة.

والقول في تعدية (أَرْسَلْنا) إلى ضمير (ثَمُودُ) [القمر : ٢٣] كالقول في (أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) [القمر : ١٩].

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢))

تكرير ثان بعد نظيريه السالفين في قصة قوم نوح وقصة عاد تذييلا لهذه القصة كما ذيلت بنظيريه القصتان السالفتان اقتضى التكرير مقام الامتنان والحث على التدبر بالقرآن لأن التدبر فيه يأتي بتجنب الضلال ويرشد إلى مسالك الاهتداء فهذا أهم من تكرير (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) [القمر : ٣٠] فلذلك أوثر.

[٣٣ ـ ٣٥] (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥))

القول في مفرداته كالقول في نظائره ، وقصة قوم لوط تقدمت في سورة الأعراف وغيرها.

وعرف قوم لوط بالإضافة إليه إذ لم يكن لتلك الأمة اسم يعرفون به عند العرب.

ولم يحك هنا ما تلقّى به قوم لوط دعوة لوط كما حكي في القصص الثلاث قبل هذه ، وقد حكي ذلك في سورة الأعراف وفي سورة هود وفي سورة الحجر لأن سورة القمر بنيت على تهديد المشركين عن إعراضهم عن الاتّعاظ بآيات الله التي شاهدوها وآثار آياته على الأمم الماضية التي علموا أخبارها وشهدوا آثارها ، فلم يكن ثمة مقتض لتفصيل أقوال تلك الأمم إلا ما كان منها مشابها لأقوال المشركين في تفصيله ولم تكن أقوال قوم لوط بتلك المثابة ، فلذلك اقتصر فيها على حكاية ما هو مشترك بينهم وبين المشركين وهو تكذيب رسولهم وإعراضهم عن نذره. والنذر تقدم.

وجملة (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) استئناف بياني ناشئ عن الإخبار عن قوم لوط بأنهم كذبوا بالنذر.

١٩٤

وكذلك جملة (نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) ، وجملة (كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ).

والحاصب : الريح التي تحصب ، أي ترمي بالحصباء ترفعها من الأرض لقوتها ، وتقدم في قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) في سورة العنكبوت [٤٠].

والاستثناء حقيقي لأن آل لوط من جملة قومه.

و (آلَ لُوطٍ) : قرابته وهم بناته ، ولوط داخل بدلالة الفحوى. وقد ذكر في آيات أخرى أن زوجة لوط لم ينجها الله ولم يذكر ذلك هنا اكتفاء بمواقع ذكره وتنبيها على أن من لا يؤمن بالرسول لا يعد من آله ، كما قال : (يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) [هود : ٤٦].

وذكر (بِسَحَرٍ) ، أي في وقت السحر للإشارة إلى إنجائهم قبيل حلول العذاب بقومهم لقوله بعده : (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ).

وانتصب (نِعْمَةً) على الحال من ضمير المتكلم ، أي إنعاما منا.

وجملة (كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) معترضة ، وهي استئناف بياني عن جملة (نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) باعتبار ما معها من الحال ، أي إنعاما لأجل أنه شكر ، ففيه إيماء بأن إهلاك غيرهم لأنهم كفروا ، وهذا تعريض بإنذار المشركين وبشارة للمؤمنين.

وفي قوله : (مِنْ عِنْدِنا) تنويه بشأن هذه النعمة لأن ظرف (عند) يدل على الادخار والاستئثار مثل (لدن) في قوله : (مِنْ لَدُنَّا). فذلك أبلغ من أن يقال : نعمة منا أو أنعمنا.

(وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦))

عطف على جملة (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) [القمر : ٣٤].

وتأكيد الكلام بلام القسم وحرف التحقيق يقصد منه تأكيد الغرض الذي سيقت القصة لأجله وهو موعظة قريش الذين أنذرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتماروا بالنذر.

والبطشة : المرّة من البطش ، وهو الأخذ بعنف لعقاب ونحوه ، وتقدم في قوله : (أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها) في آخر الأعراف [١٩٥] ، وهي هنا تمثيل للإهلاك السريع مثل قوله : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) في سورة الدخان [١٦].

والتماري : تفاعل من المراء وهو الشك. وصيغة المفاعلة للمبالغة. وضمن

١٩٥

(فَتَمارَوْا) معنى : كذبوا ، فعدي بالباء ، وتقدم عند قوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) في سورة النجم [٥٥].

(وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧))

إجمال لما ذكر في غير هذه السورة في قصة قوم لوط أنه نزل به ضيف فرام قومه الفاحشة بهم وعجز لوط عن دفع قومه إذ اقتحموا بيته وأنّ الله أعمى أعينهم فلم يروا كيف يدخلون.

والمراودة : محاولة رضى الكاره شيئا بقبول ما كرهه ، وهي مفاعلة من راد يرود رودا ، إذا ذهب ورجع في أمر ، مثّلت هيئة من يكرر المراجعة والمحاولة بهيئة المنصرف ثم الراجع. وضمن (راوَدُوهُ) معنى دفعوه وصرفوه فعدّي ب (عَنْ).

وأسند المراودة إلى ضمير قوم لوط وإن كان المراودون نفرا منهم لأن ما راودوا عليه هو راد جميع القوم بقطع النظر عن تعيين من يفعله.

ويتعلق قوله : (عَنْ ضَيْفِهِ) بفعل (راوَدُوهُ) بتقدير مضاف ، أي عن تمكينهم من ضيوفه.

وقوله : (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) مقول قول محذوف دل عليه سياق الكلام للنفر الذين طمسنا أعينهم (فَذُوقُوا عَذابِي) وهو العمى ، أي ألقى الله في نفوسهم أنّ ذلك عقاب لهم.

واستعمل الذوق في الإحساس بالعذاب مجازا مرسلا بعلاقة التقييد في الإحساس.

وعطف النذر على العذاب باعتبار أن العذاب تصديق للنذر ، أي ذوقوا مصداق نذري ، وتعدية فعل (فَذُوقُوا) إلى نذري بتقدير مضاف ، أي وآثار نذري.

والقول في تأكيده بلام القسم تقدم ، وحذفت ياء المتكلم من قوله : (وَنُذُرِ) تخفيفا.

(وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨))

القول في تأكيده بلام القسم تقدم آنفا في نظيره.

والبكرة : أول النهار وهو وقت الصبح ، وقد جاء في الآية الأخرى قوله : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) [هود : ٨١] ، فذكر (بُكْرَةً) للدلالة على تعجيل العذاب لهم.

١٩٦

والتصبيح : الكون في زمن الصباح وهو أول النهار.

والمستقر : الثابت الدائم الذي يجري على قوة واحدة لا يقلع حتى استأصلهم.

والعذاب : هو الخسف ومطر الحجارة وهو مذكور في سورة الأعراف وسورة هود.

(فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩))

تفريع قول محذوف خوطبوا به مراد به التوبيخ ؛ إمّا بأن ألقي في روعهم عند حلول العذاب ، بأن ألقى الله في أسماعهم صوتا.

والخطاب لجميع الذين أصابهم العذاب المستقر ، وبذلك لم تكن هذه الجملة تكريرا. وحذفت ياء المتكلم من قوله : (وَنُذُرِ) تخفيفا.

والقول في استعمال الذوق هنا كالقول في سابقه.

وفائدة الإعلام بما قيل لهم من قوله : (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) في الموضعين أن يتجدد عند استماع كل نبإ من ذلك ادّكار لهم واتّعاظ وإيقاظ استيفاء لحق التذكير القرآني.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠))

تكرير ثالث تنويها بشأن القرآن للخصوصية التي تقدمت في المواضع التي كرر فيها نظيره وما يقاربه وخاصة في نظيره الموالي هو له. ولم يذكر هنا (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) [القمر : ٣٠] اكتفاء بحكاية التنكيل لقوم لوط في التعريض بتهديد المشركين.

[٤١ ، ٤٢] (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢))

لما كانت عدوة موسى عليه‌السلام غير موجهة إلى أمة القبط ، وغير مراد منها التشريع لهم. ولكنها موجهة إلى فرعون وأهل دولته الذين بأيديهم تسيير أمور المملكة الفرعونية ، ليسمحوا بإطلاق بني إسرائيل من الاستعباد ، ويمكنوهم من الخروج مع موسى خص بالنذر هنا آل فرعون ، أي فرعون وآله لأنه يصدر عن رأيهم ، ألا ترى أن فرعون لم يستأثر بردّ دعوة موسى بل قال لمن حوله : (أَلا تَسْتَمِعُونَ) [الشعراء : ٢٥] وقال : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) [الشعراء : ٣٥] وقالوا : (أَرْجِهْ وَأَخاهُ) [الشعراء : ٣٦] الآية ، ولذلك لم يكن أسلوب الإخبار عن فرعون ومن معه مماثلا لأسلوب الإخبار عن قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط

١٩٧

إذ صدر الإخبار عن أولئك بجملة (كَذَّبَتْ) [القمر : ١٨] ، وخولف في الإخبار عن فرعون فصدر بجملة (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) وإن كان مال هذه الأخبار الخمسة متماثلا.

والآل : القرابة ، ويطلق مجازا على من له شدة اتصال بالشخص كما في قوله تعالى : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر : ٤٦]. وكان الملوك الأقدمون ينوطون وزارتهم ومشاورتهم بقرابتهم لأنهم يأمنون كيدهم.

والنذر : جمع نذير : اسم مصدر بمعنى الإنذار. ووجه جمعه أن موسى كرر إنذارهم.

والقول في تأكيد الخبر بالقسم كالقول في نظائره المتقدمة.

وإسناد التكذيب إليهم بناء على ظاهر حالهم وإلا فقد آمن منهم رجل واحد كما في سورة غافر.

وجملة (كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها) بدل اشتمال من جملة (جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) لأن مجيء النذر إليهم ملابس للآيات ، وظهور الآيات مقارن لتكذيبهم بها فمجيء النذر مشتمل على التكذيب لأنه مقارن مقارنه.

وقوله : (بِآياتِنا) إشارة إلى آيات موسى المذكورة في قوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ) [الأعراف : ١٣٣] وهي تسع آيات منها الخمس المذكورة في آية الأعراف والأربع الأخر هي : انقلاب العصا حية ، وظهور يده بيضاء ، وسنو القحط ، وانفلاق البحر بمرأى من فرعون وآله ، ولم ينجع ذلك في تصميمهم على اللحاق ببني إسرائيل.

وتأكيد (بِآياتِنا) ب (كُلِّها) إشارة إلى كثرتها وأنهم لم يؤمنوا بشيء منها ، وتكذيبهم بآية انفلاق البحر تكذيب فعلي لأن موسى لم يتحدّهم بتلك الآية وقوم فرعون لما رأوا تلك الآية عدّوها سحرا وتوهموا البحر أرضا فلم يهتدوا بتلك الآية.

والأخذ : مستعار للانتقام ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ* أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) في سورة النحل [٤٦ ، ٤٧].

وهذا الأخذ : هو إغراق فرعون ورجال دولته وجنده الذين خرجوا لنصرته كما تقدم في الأعراف.

وانتصب (أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) على المفعولية المطلقة مبينا لنوع الأخذ بأفظع ما هو

١٩٨

معروف للمخاطبين من أخذ الملوك والجبابرة.

والعزيز : الذي لا يغلب. والمقتدر : الذي لا يعجز.

وأريد بذلك أنه أخذ لم يبق على العدوّ أيّ إبقاء بحيث قطع دابر فرعون وآله.

(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣))

هذه الجملة كالنتيجة لحاصل القصص عن الأمم التي كذبت الرسل من قوم نوح فمن ذكر بعدهم ولذلك فصلت ولم تعطف.

وقد غير أسلوب الكلام من كونه موجّها للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى توجيهه للمشركين لينتقل عن التعريض إلى التصريح اعتناء بمقام الإنذار والإبلاغ.

والاستفهام في قوله : (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) يجوز أن يكون على حقيقته ، ويكون من المحسن البديعي الذي سماه السكاكي «سوق المعلوم مساق غيره». وسماه أهل الأدب من قبله ب «تجاهل العارف». وعدل السكاكي عن تلك التسمية وقال لوقوعه في كلام الله تعالى نحو قوله : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤] وهو هنا للتوبيخ كما في قول ليلى ابنة طريف الخارجية ترثي أخاها الوليد بن طريف الشيباني :

أبا شجر الخابور ما لك مورقا

كأنّك لم تجزع على ابن طريف

الشاهد في قولها : كأنك لم تجزع إلخ.

والتوبيخ عن تخطئتهم في عدم العذاب الذي حلّ بأمثالهم حتى كأنهم يحسبون كفّارهم خيرا من الكفّار الماضين المتحدّث عن قصصهم ، أي ليس لهم خاصية تربأ بهم عن أن يلحقهم ما لحق الكفار الماضين. والمعنى : أنكم في عدم اكتراثكم بالموعظة بأحوال المكذبين السابقين لا تخلون عن أن أحد الأمرين الذي طمأنكم من أن يصيبكم مثل ما أصابهم.

و (أَمْ) للإضراب الانتقالي. وما يقدر بعدها من استفهام مستعمل في الإنكار. والتقدير : بل ما لكم براءة في الزبر حتى تكونوا آمنين من العقاب.

وضمير (كُفَّارُكُمْ) لأهل مكة وهم أنفسهم الكفار ، فإضافة لفظ (كفار) إلى ضميرهم إضافة بيانية لأن المضاف صنف من جنس من أضيف هو إليه فهو على تقدير (مِنْ)

١٩٩

البيانية. والمعنى : الكفار منكم خير من الكفار السالفين ، أي أأنتم الكفار خير من أولئك الكفار.

والمراد بالأخيرية انتفاء الكفر ، أي خير عند الله الانتقام الإلهي وادعاء فارق بينهم وبين أولئك.

والبراءة : الخلاص والسلامة مما يضرّ أو يشقّ أو يكلّف كلفة. والمراد هنا : الخلاص من المؤاخذة والمعاقبة.

و (الزُّبُرِ) : جمع زبور ، وهو الكتاب ، وزبور بمعنى مزبور ، أي براءة كتبت في كتب الله السالفة.

والمعنى : ألكم براءة في الزبر أن كفاركم لا ينالهم العقاب الذي نال أمثالهم من الأمم السالفة.

و (فِي الزُّبُرِ) صفة (بَراءَةٌ) ، أي كائنة في الزبر ، أي مكتوبة في صحائف الكتب.

وأفاد هذا الكلام ترديد النجاة من العذاب بين الأمرين : إما الاتصاف بالخير الإلهي المشار إليه بقوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣] ، وإما المسامحة والعفو عما يقترفه المرء من السيئات المشار إليه بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لعل الله أطّلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».

والمعنى انتفاء كلا الأمرين عن المخاطبين فلا مأمن لهم من حلول العذاب بهم كما حلّ بأمثالهم.

والآية تؤذن بارتقاب عذاب ينال المشركين في الدنيا دون العذاب الأكبر ، وذلك عذاب الجوع الذي في قوله تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) [الدخان : ١٠] كما تقدم ، وعذاب السيف يوم بدر الذي في قوله تعالى : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) [الدخان : ١٦].

[٤٤ ، ٤٥] (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥))

(أَمْ) منقطعة لإضراب انتقالي. والاستفهام المقدر بعد (أم) مستعمل في التوبيخ ، فإن كانوا قد صرحوا بذلك فظاهر ، وإن كانوا لم يصرحوا به فهو إنباء بأنهم سيقولونه.

٢٠٠