مهدي المهريزي ومحمد حسين الدرايتي
الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-21-8
الصفحات: ٦٣٢
في ذلك إلى الله ، فمن يهدي الله فهو المهتدي ، ومن يضلل الله فلن تجد له وليّا مرشدا » (١) .
ومنها : رواية عنوان البصري ، المرويّة في الوسائل وغيرها ، عن أبي عبد الله عليهالسلام يقول : « سل العلماء ما جهلت » (٢) .
ومنها : الآيات والأخبار الدالّة على مشروعيّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووجوبهما الكفائي ؛ فتأمّل.
ومنها : قوله سبحانه : ﴿ وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ﴾(٣) .
وقوله سبحانه : ﴿ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾(٤) .
وقوله سبحانه : ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ﴾(٥) و: ﴿ الظَّالِمُونَ ﴾(٦) و: ﴿ الْكافِرُونَ ﴾(٧) .
وقوله تعالى : ﴿ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾(٨) .
وقوله سبحانه : ﴿ وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾(٩) ؛ فتأمّل.
حجّة الخصم : الأصل ، والاستصحاب ، والعمومات الدالّة على عدم جواز نقض اليقين إلّا باليقين ، والعمومات الدالّة على عدم جواز العمل بغير العلم ، أو العمومات الدالّة على أنّ طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة ، وعلى وجوب التفقّه في الدين.
وما دلّ من العمومات وغيرها على قبح التقليد وامتناعه.
وخصوص (١٠) الإجماع الظاهر أو اللائح من الغنية عليه ، وأنّه لو جاز التقليد هنا ،
__________________
(١) المحاسن ، ج ١ ، ص ٢٦٨ ، ح ٣٥٧.
(٢) وسائل الشيعة ، ج ٢٧ ، ص ١٧٢ ، ح ٣٣٥٢٤.
(٣) المائدة (٥) : ٣٢.
(٤) النحل (١٦) : ٤٣.
(٥) المائدة (٥) : ٤٧.
(٦) المائدة (٥) : ٤٥.
(٧) المائدة (٥) : ٤٤.
(٨) التوبة (٩) : ١١٩.
(٩) العنكبوت (٢٩) : ٦٩.
(١٠) أي حجّة الخصم بالعمومات وخصوص الإجماع.
لجاز في اصول الدين ، والتالي باطل ، فكذا المقدّم.
وفي الجميع نظر لا يخفى ، سيّما على اولي النّهي ، خصوصا بعد ما مضى.
المسألة الثانية : إذا استفتى المستفتي في واقعة فاجيب ، ثمّ حدثت تلك الواقعة مرّة اخرى ، فهل يلزمه تجديد السؤال ، أم لا ، بل يكفيه السؤال السابق ما لم يمنع عنه مانع ؟
المعتمد : هو الثاني ، وفاقا لصريح شيخنا الشهيد الثاني في المنية (١) ، وسائر كلمات الطائفة ؛ للأصل ، والاستصحاب ، والعمومات المقتضية لعدم الوجوب والبقاء على ما كان ، السليمة عمّا يصلح للمعارضة ـ ولو في الجملة ـ بالعمومات النافية للحرج والعسر والضرر في الشريعة.
مضافا إلى السيرة المعهودة المستمرّة بين الشيعة ، بل بين المسلمين في جميع الأعصار والأمصار ، من زمن النبيّ صلىاللهعليهوآله إلى زماننا هذا.
المسألة الثالثة : لو اتّحد المفتي الجامع للشرائط تعيّن عليه الاستفتاء عنه وتقليده في جميع ما ورد عليه من الوقائع.
ولو تعدّد ، فإن اتّفقوا في الفتوى ، تعيّن عليه الأخذ بها بلا خلاف ظاهر في ذلك بين القائلين بالمختار فتوى ودليلا ، ولكن هل يجب عليه في الصورة الثانية تعيين من قلّده من المفتين ؟
الأحوط ـ كما في المفاتيح (٢) ـ نعم ؛ أخذا بالمتيقّن وإن كان في تعيينه كلام وإشكال ، كما سيأتي إليه الإشارة.
وإن اختلفوا في العلم والعدالة والورع ، وقلنا بتعيين الأعلم والأورع ـ كما هو المختار حسبما نقل سابقا ـ تعيّن عليه الأخذ من الأعلم والأورع.
وإن تساووا في ذلك ، أو قلنا بتخييره مطلقا ، تخيّر في الأخذ بفتوى من شاء منهم
__________________
(١) منية المريد ، ص ٣٠٥.
(٢) مفاتيح الاصول ، ص ٦٣٢.
فيما ورد عليه من الوقائع ، بلا خلاف في ذلك فتوى ودليلا.
المسألة الرابعة : هل يجب على المستفتي والمقلّد تعيين شخص من يقلّده ويعمل بفتواه حال العمل مطلقا ، فلا يصحّ ولا يكفي بدون ذلك كذلك ؟
أم لا كذلك ، فيصحّ عمله ، ويكفي في صحّته اعتقاده القطعي أو القائم مقامه شرعا بموافقته لفتوى مفت ما جامع للشرائط ، مع عدم تعيينه بخصوصه عنده شرعا كذلك؟
أم التفصيل بما إذا تعذّر أو تعسّر التعيين ؛ فالثاني ، وغيره ؛ فالأوّل ؟ أوجه واحتمالات.
أحوطها : الأوّل مهما أمكن ، وإن كان المسير إلى الثاني لا يخلو عن وجه وقوّة ؛ للعمومات المشار إليها ، الدالّة على الصحّة ، وعلى الاكتفاء بذلك ، السليمة عمّا يصلح للمعارضة ، المؤيّدة أو المعتضدة بعدم تصريح التعيين فيما وقفت عليه من كلماتهم.
نعم ، لو كان الجهل وعدم التعيين مانعا عن ثبوت كونه جامعا للشرائط المعتبرة في حقّه ، فحينئذ يتّجه القول بلزوم التعيين ، ولكنّه ـ كما ترى ـ ليس لأجل اشتراطه ووجوبه ، بل لأجل عدم ثبوت كونه جامعا للشرائط.
نعم ، قد يشكل الحكم فيما لو كان المفتي لا على التعيين مطلقا ـ أي بالإضافة إلى نفسه ، وبالإضافة إلى المقلّد أيضا ، كما لو أفتى جماعة من المفتين بصحّة شيء ، وبنى المقلّد عمله على الصحّة ومقتضاه ، ولكن لم يعيّن على نفسه ، بل على واحد منهم لا بعينه ، ومنشأ الإشكال إنّما هو عدم تحقّق المصداق للواحد لا بعينه ، واستلزامه لخروجه عن تحت الأدلّة الدالّة على حجّيّة فتوى المفتي.
اللهمّ إلّا إذا ثبت حجّيّة فتوى المفتي والحكم المؤدّى إليه اجتهاده من حيث إنّهما حكمه وفتواه ، من دون مدخليّة لخصوص شخص المفتي وتعيينه ، فحينئذ يتّجه أيضا ما قلناه ، ولكن ثبوتها كذلك لا يخلو عن إشكال ، كما لا يخفى على المطّلع على حقيقة الحال.
المسألة الخامسة : هل يصحّ شرعا للمستفتي والمقلّد في الواقعة الشخصيّة تقليد
أكثر من واحد ممّن يصحّ له تقليده والعمل بفتواه ، كما أفتى جماعة ممّن يصحّ له تقليدهم بانفعال الماء القليل ، واطّلع عليه المستفتي والمقلّد ، ثمّ بنى عمله على فتوى هؤلاء الجماعة بأجمعهم ، واعتقد وعزم بتقليد جميعهم ، ثمّ عمل عليه ؟
المعتمد : نعم ، وفاقا لظاهر كلّ من قال في صورة تعذّر المفتي واتّفاقهم في الفتوى بأخذ المستفتي والمقلّد بها مطلقا ، كالعلّامة في النهاية ـ على ما حكي ـ وفي التهذيب ، والعميدي في منية اللبيب ، وشيخنا الشهيد الثاني في منية المريد (١) .
ولظاهر كلّ من قال بأنّ فتوى المجتهد والمفتي بالإضافة إلى المقلّد بمنزلة الأمارة الشرعيّة بالإضافة إلى المجتهد ؛ للعمومات المشار إليها ، السليمة عمّا يصلح للمعارضة ، المعتضدة أو المؤيّدة بالأولويّة والاعتبار ، وبعدم التصريح في كلماتهم فيما أعلم باشتراط وحدة المفتي في صحّة العمل بفتواه ، مع أنّه لو كانت شرطا فيها ، لاشتهر غاية الاشتهار بحكم العادة ؛ لكونه من الامور العامّة البلوى ، كما لا يخفى.
هل يصحّ شرعا للمقلّد والمستفتي فيما لو قلّد المفتي الجامع للشرائط وعلم بفتواه في واقعة ، تقليد الآخر كذلك والعمل بفتواه في واقعة اخرى ، أم لا ، بل يتعيّن عليه الرجوع إلى من قلّده ابتداء والعمل بفتواه ؟
المعتمد : هو التفصيل ، بأن يقال : إن كان المفتي الأوّل أعلم وأورع من الآخر ، تعيّن عليه فيها وفي غيرها ـ عدا ما مرّ أيضا ـ الرجوع إلى الأوّل وتقليده ، بناء على ما مرّ من لزوم تقليد الأعلم والأورع.
وإن كان الثاني أعلم أو أورع تعيّن عليه فيها وفي غيرها ـ عدا ما مرّ ـ الرجوع إليه وتقليده ، بناء على لزوم تقليد الأعلم والأورع كما تقدّم.
نعم ، لو كان الواقعة ممّا يتفرّع على الواقعة التي قلّد فيها الأوّل ، تعيّن عليه الرجوع إليه بحكم ما دلّ على صحّة تقليده الأوّل ، ووجوب البقاء عليه على أحد القولين الآتي
__________________
(١) حكاه عنهم في مفاتيح الاصول ، ص ٦١٦ ؛ وهو في نهاية الوصول إلى علم الاصول ، الورقة ٣٢٠ ؛ تهذيب الوصول إلى علم الاصول ، ص ٢٩٣ ؛ منية المريد ، ص ٣٠٥.
إليه الإشارة.
وإن كانا متساويين علما وورعا ، أو لم يثبت له شرعا بعد التتبّع والفحص اللازم عليه تفاوتهما في ذلك ، أو قلنا بعدم وجوب تقليد الأعلم والأورع ، تخيّر فيما عدا ما يتفرّع على ما قلّد الأوّل من الأحكام على أحد القولين الآتيين بين الرجوع إلى كلّ منهما ، والعمل بفتوى كلّ من شاء منهما على الأصحّ ، وفاقا للنهاية والتهذيب ومنية اللبيب والذكرى والجعفريّة ومنية المريد وغيرها (١) .
وللمحكيّ عن المقاصد العليّة والإحكام والمختصر وشرحه ، بل الأكثر كما في منية اللبيب ، بل المعظم كما في صريح المفاتيح. (٢)
وللأصل ، والاستصحاب ، والعمومات الدالّة على عدم جواز نقض اليقين إلّا باليقين ، الموجبة لبقاء التخيير وعدم التعيين الثابتين قبل التقليد ؛ والعمومات الكثيرة المشار إليها ، الدالّة على التخيير والصحّة والجواز فيما نحن فيه ، السليمة عمّا يصلح للمعارضة ، المعتضدة أو المؤيّدة بالعمومات النافية للحرج والضرر في الشريعة ؛ وبعدم اشتهار القول بتعيين الرجوع إلى الأوّل مع كونه من الامور العامّة البلوى.
وبالسيرة المستمرّة المعهودة بين الشيعة ، بل المسلمين كافّة ؛ وبما قاله في النهاية والمنية والإحكام والمختصر وشرحه للعضدي ـ على ما حكاه السيّد السند الاستاد دام ظلّه العالي في المفاتيح ـ من أنّ العلماء لم يوجبوا في كلّ عصر رجوع من استفتاهم في كلّ حكم إليهم في جميع الأحكام ، بل سوّغ الصحابة وغيرهم استفتاء العامي لكلّ عالم في مسألة ولم يحجروا على العامّة في ذلك ، ولو كان ذلك واجبا لما سوّغوا السكوت
__________________
(١) نهاية الوصول إلى علم الاصول ، الورقة ٣٢٠ ؛ تهذيب الوصول إلى علم الاصول ، ص ٢٩٣ ؛ حكاه عن منية اللبيب في مفاتيح الاصول ، ص ٦١٦ ؛ ذكرى الشيعة ، ج ١ ، ص ٤٤ ؛ الجعفريّة ( حياة المحقّق الكركي وآثاره ) ج ٤ ، ص ١٣٤ ؛ منية المريد ، ص ٣٠٥. وانظر معارج الاصول ، ص ٢٨٠.
(٢) مفاتيح الاصول ، ص ٦١٦ ؛ وانظر المقاصد العليّة ، ص ٥١ ؛ الإحكام في اصول الأحكام ، ج ٤ ، ص ٤٥٩ ؛ المختصر مع شرحه للعضدي ، ص ٤٨٥.
عنه. انتهى (١) .
خلافا للمحكيّ في منية اللبيب عن قوم ، فمنعوه.
وهذا مع أنّه لا وجه له يعبأ به ـ كما ترى ـ ضعيف في الغاية ، سيّما بعد ما مضى.
ومع هذا ، فيمكن حمله على الرجوع بدون التقليد بالجواز والصحّة ، فإنّ الرجوع منه إليه بدونه غير صحيح كما لا يخفى.
المسألة السادسة : هل يصحّ له في الواقعة الشخصيّة التي عمل فيها بقول المفتي الجامع للشرائط وفتواه ، الرجوع بعد العمل فيها إلى الآخر المفتي بخلافه ، كما لو أفتى المفتي الأوّل بصحّة النكاح بغير إذن الوليّ ، أو بصحّة العقد الفضولي مع الإجازة مثلا ، وأوقع المقلّد هذا النكاح والعقد بتقليده ، وبنى على صحّته بمقتضى فتواه ، ثمّ اطّلع بعد ذلك مثلا على فتوى الآخر ببطلانهما ، فأراد البناء فيهما على هذا الفتوى ، صحّ له ذلك ، أم لا يصحّ ، ويجب عليه البناء على ما بنى عليه أوّلا وعمل بمقتضاه ؟
المعتمد : هو الثاني بلا خلاف صريح ظاهر أجده فيه ، بل ولعلّه عليه الإجماع ، كما في صريح النهاية ومنية اللبيب (٢) ، بل الاتّفاق كما في إحكام الآمدي (٣) ، وعن صريح المختصر وشرحه للعضدي. (٤)
وهو الحجّة ، مضافا إلى الأصل ، وعدم الدليل على صحّة الرجوع ، وعدم اشتهاره مع عموم البلوى ، وتوفّر الدواعي ، والاستصحاب ، والعمومات الدالّة على عدم جواز نقض اليقين إلّا باليقين.
والعمومات النافية للحرج والعسر والضرر في الشريعة ، السليمة عمّا يصلح للمعارضة ، المؤيّدة أو المعتضدة بخصوص عمل المسلمين وسيرتهم المستمرّة.
__________________
(١) مفاتيح الاصول ، ص ٦١٦.
(٢) نهاية الوصول إلى علم الاصول ، الورقة ٣١٤ ؛ وحكاه عن منية اللبيب في مفاتيح الاصول ، ص ٦١٦.
(٣) الإحكام في اصول الأحكام ، ج ٤ ، ص ٤٥٨.
(٤) حكاه عنهما في مفاتيح الاصول ، ص ٦١٦ ؛ وهو في المختصر وشرحه ، ص ٤٨٥.
وبعموم قوله سبحانه : ﴿ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ ﴾(١) .
ولاستلزام القول بالرجوع للفساد والهرج والمرج في امور المعاش والمعاد ، كما لا يخفى على اولي الرشاد.
مضافا إلى الأدلّة الدالّة على صحّة العمل بمقتضى فتوى المفتي الأوّل ، وعلى كونه حكم الله المعتبر في حقّه بالفرض ، والدالّة على عدم جواز نقضه ، السليمة عن المعارض ، المعتضدة بما مرّ ، وبغيره من الاعتبار أو غيره في الجملة ، أو مطلقا.
نعم ، لو علم بعد ذلك بفساد ما أفتى به الأوّل ، اتّجه الرجوع كما مرّ سابقا ؛ لما مرّ.
ولا فرق في ذلك بين أن يكون المفتي الثاني أعلم وأورع ، أم لا ، كما صرّح به في المفاتيح (٢) ، وهو قضيّة إطلاق سائر الفتاوى ، وعموم هذه الأدلّة.
وكذلك لا فرق في ذلك بين أن يكون المفتي الأوّل حيّا ، أم لا ، كما صرّح به أيضا في المفاتيح (٣) ؛ لذلك.
وكذلك لا فرق أيضا في ذلك بين العبادات والمعاملات ؛ لذلك.
المسألة السابعة : هل يصحّ له بعد ذلك في وقت آخر بالإضافة إلى مثل تلك الواقعة الرجوع عن الأوّل ، والعدول إلى فتوى الآخر المخالف له في الفتوى ، والأدون له في العلم والورع ؟
المعتمد : لا ؛ لما تقدّم من لزوم تقليد الأعلم والأورع ، وتعيّن اتّباعه عليه. نعم ، لو قيل بعدم لزومه ، اتّجه ما سيأتي في المسألة العاشرة الآتية من الكلام ، فترقّب.
المسألة الثامنة : هل يصحّ له بعد ذلك في وقت آخر بالإضافة إلى مثل تلك الواقعة العدول إلى فتوى الآخر المخالف له فى الفتوى ، والأعلى منه في العلم والورع ؟
المعتمد : نعم ، وفاقا لصريح جماعة منهم عميد الدين في منية اللبيب (٤) ، وبعض
__________________
(١) البقرة (٢) : ٢٠٥.
(٢) مفاتيح الاصول ، ص ٦١٦.
(٣) المصدر.
(٤) المصدر.
الأعاظم من المشايخ ـ طاب ثراه ـ في بعض تحقيقاته ، والسيّد السند العلّامة الاستاد ـ دام ظلّه العالي ـ في المفاتيح (١) .
ولظاهر إطلاق نهاية الوصول والجعفريّة ومنية المريد (٢) وغيرهما ، وللمحكيّ في بعض العبائر من موضع من التذكرة ونهاية الأحكام (٣) ؛ لمثل ما سيأتي إليه الإشارة من الاستصحاب والعمومات ، السليمة عمّا يصلح للمعارضة ، المؤيّدة بفحوى ما سيأتي إليه الإشارة من الصحّة في المسألة الآتية.
ولا فرق في ذلك بين القول بوجوب تقليد الأعلم والأورع وعدمه ، كما صرّح به السيّد السند المعظّم له (٤) ـ دام ظلّه ـ وهو ظاهر إطلاق غيره ممّن مرّ ؛ لعموم الأدلّة.
وهل يصحّ له البقاء على ما كان عليه ، ويجزي له البناء على ما بنى عليه فيها وعمل بمقتضى فتوى الأوّل في الجملة ، أم لا ، فيجب عليه الرجوع إلى الآخر ؟ وجهان ، صار إلى أوّلهما السيّد السند المعظم إليه في المفاتيح (٥) .
والذي يقتضيه التحقيق بزعم العبد أن يقال : إن قلنا بأنّ هذا المقلّد بالإضافة إلى الأعمال التي يريد الإتيان بها أيضا حقيقة لهذا المفتى ، فالمعتمد هو الأوّل ؛ للاستصحاب وغيره ممّا سيأتي إليه الإشارة.
وإن قلنا بعدم كونه مقلّدا له حقيقة بالإضافة إليها ، فالمعتمد هو الثاني ؛ لوجوب تقليد الأعلم والأورع وتعيّنه كما هو المختار ، وعموم ما دلّ على ذلك ، كما مرّ ؛ فتدبّر.
المسألة التاسعة : هل يصحّ له بعد ذلك في وقت آخر بالإضافة إلى مثل تلك الواقعة الرجوع عن الأوّل ، والعدول إلى فتوى الآخر المخالف له في الفتوى المساوي له في
__________________
(١) مفاتيح الاصول ، ص ٦١٦.
(٢) نهاية الوصول إلى علم الاصول ، الورقة ٣٢٠ ؛ الجعفريّة ( حياة المحقّق الكركي وآثاره ) ، ج ٤ ، ص ١٣٤ ؛ منية المريد ، ص ٣٠٥
(٣) لم نعثر على هذا القول في التذكرة والنهاية صريحا ، ولكن انظر نهاية الإحكام ، ج ١ ، ص ٤٠١ و٤٠٢.
(٤) مفاتيح الاصول ، ص ٦١٧.
(٥) المصدر.
العلم والورع والعمل بها مطلقا ، فيصحّ له في المسألتين الماضيتين لو أراد ثانيا النكاح بغير إذن الوليّ والعقد الفضولي البناء على البطلان والعمل بمقتضى فتوى المفتي به ؟
كما في نهاية الاصول والجعفريّة ومنية المريد (١) ، وعزّاه في منية اللبيب إلى بعضهم ، وفي المفاتيح إلى المقاصد العليّة (٢) ، وفي غيرها إلى ظاهر المحقّق في موضع من المعتبر والعلّامة في موضع من التذكرة ونهاية الأحكام.
أم لا ، فلا كذلك ، كما عزّاه في المفاتيح إلى ظاهر التهذيب ومنية اللبيب والذكرى ، وجعله أقوى (٣) ؟ قولان :
أحوطهما : الثاني ؛ خروجا عن شبهة الخلاف ، وإن كان تعيّنه في غاية الإشكال ؛ إذ لا دليل عليه ، عدا ما أفاده سيّدنا السند الاستاد ـ دام ظلّه العالي ـ في المفاتيح بقوله : لأنّ البراءة اليقينيّة من التكليف الثابت لا تحصل إلّا بالبقاء على تقليد المجتهد الأوّل ، وعدم الرجوع عنه ؛ ولاستصحاب بقاء الأحكام التي تعلّقت به ، كوجوب فعل وحرمة آخر ، وصحّة عمله باعتبار تقليده ؛ ولأصالة صحّة تقليد الأوّل ؛ إذ الرجوع يقتضي فساده (٤) . انتهى.
مضافا إلى ما ربما يقال من أنّ تعدّد المفتين المخالفين في الفتوى المتساوين في العلم والورع بالإضافة إلى المقلّد ، كتعدّد الأدلّة المتعارضة المتكافئة بالإضافة إلى المجتهد فيما يتعيّن في حقّه التخيير والأخذ بواحد منها ، ومن البيّن أنّ المجتهد بعد الأخذ بواحد منها تعيّن عليه العمل به ، ولا يصحّ له الرجوع عنه إلى غيره ما لم يثبت مرجّح له ، فليكن المقلّد أيضا كذلك.
__________________
(١) نهاية الوصول إلى علم الاصول ، الورقة ٣٢٠ ؛ الجعفريّة ( حياة المحقّق الكركي وآثاره ) ج ٤ ، ص ١٣٤ ؛ منية المريد ، ص ٣٠٥.
(٢) مفاتيح الاصول ، ص ٦١٧ ؛ وهو في المقاصد العليّة ، ص ٥١.
(٣) مفاتيح الاصول ، ص ٦١٧ ؛ وهو في تهذيب الوصول إلى علم الاصول ، ص ٢٩٣ ؛ ذكرى الشيعة ، ج ١ ، ص ٤٤.
(٤) مفاتيح الاصول ، ص ٦١٧.
وأنت خبير بأنّ شيئا من هذه لا يصلح للدلالة على ذلك :
أمّا الأوّل : فلمنع انحصار تحصيل البراءة اليقينيّة في البقاء على تقليد المجتهد الأوّل ، فإنّ البراءة اليقينيّة كما تحصل بالبقاء على تقليد المجتهد الأوّل ، فكذا تحصل بالرجوع عنه إلى تقليد المجتهد الثاني.
كيف ؟ والأدلّة المعتبرة الدالّة على مشروعيّة التقليد ، كما تدلّ على صحّة البقاء ، فكذلك تدلّ على صحّة الرجوع أيضا ، مضافا إلى اندفاع هذه القاعدة بها وبغيرها ممّا ستقف عليه.
وأمّا الثاني ـ أي استصحاب بقاء الأحكام المتعلّقة به ـ : فلعدم جريانه هنا :
أمّا أوّلا ؛ فلأنّ البقاء فرع التعلّق ، وهو أوّل المدّعى.
وتوضيح ذلك : أنّ المجتهد والمفتي الأوّل إن لم يجتهد في المسألة المتنازع فيها ، لم يمكنه القول بتعلّق الأحكام التي قلّده المقلّد فيها ، بالإضافة إلى الواقعة المتنازع فيها ، خصوصا فيما إذا كان المقلّد قد قلّد من أفتى في هذه المسألة بالجواز ، أو لم يقلّد أصلا.
كيف ؟ والتعلّق المدّعى فرع ثبوت القول بعدم الجواز في هذه المسألة ، كما لا يخفى ، فلا معنى حينئذ لإثباته به ، وإلّا لزم المصادرة ، أو الدور المحال.
وإن اجتهد فيها وأدّى اجتهاده إلى الجواز ، فمقتضاه عدم التعلّق المدّعى ، بل التعلّق المراعى بعدم الرجوع كما لا يخفى ، خصوصا فيما إذا قلّد المقلّد فيها من أفتى بالجواز ، أو لم يقلّد فيها أصلا.
وإن اجتهد فأدّى اجتهاده إلى المنع ، فإن قلّد المقلّد فيها من أفتى بالجواز ، أو لم يقلّد فيها أصلا ، فالحكم بالتعلّق المدّعى أوّل الدعوى ، بل ممنوع جدّا ؛ مقتضى تقليده عدمه ، كما لا يخفى ، ومقتضى عدمه تعلّقه المراعى.
وإن قلّد فيها من أفتى بالمنع ، فالحكم بالتعلّق المدّعى حينئذ وإن كان مسلّما إلّا أنّه خارج عن الفرض ، ومع هذا ، فلا يثبت التعلّق المدّعى ، بالإضافة إلى القائل
بعدم الجواز في المتنازع فيه جدّا ؛ لعدم الدليل عليه ، بل الدليل على عدمه قائم ، كما ستقف عليه.
مضافا إلى توقّف صحّة القول بالمنع على ثبوت التعلّق المدّعى ، وهو بالفرض موقوف على تقليد المقلّد في المسألة من أفتى بالمنع وقوله به ، وهل هذا إلّا الدور المحال ؟
وبتقرير آخر : أنّ التعلّق المدّعى إنّما هو فرع التقليد ودوام حكمه ، واستلزام التقليد في الواقعة الشخصيّة وسببيّته لتعلّق الحكم به بالإضافة إليها للتقليد ، ولزوم دوامه بالإضافة إلى أمثال هذه الواقعة وسببيّته لتعلّق الحكم به بالإضافة إليها أيضا ، وهذا عين المدّعى ، فيكون مصادرة أو أوّل الدعوى ، إمّا لعدم الدليل عليه ، وإمّا للدليل ـ ممّا سيأتي ـ على عدمه.
مضافا إلى أدائه إلى الدور أيضا ، كما لا يخفى ، سيّما بعد ما مضى ؛ فتدبّر.
وأمّا ثانيا : فلأنّ المراد بالبقاء المستصحب ، إن كان البقاء المراعى بعدم الرجوع والبقاء الذي هو أحد فردي الواجب المخيّر ، أو أفراده ، فهو على تقدير تسليمه غير مقيّد ولا نافع ، كما لا يخفى.
وإن كان المراد البقاء المطلق الغير المراعى بعدم الرجوع ، بأن يكون هو المتعيّن في حقّه والواجب عليه لا غير ، فهو ممنوع جدّا ؛ لأنّه فرع ثبوت ذلك ابتداء كذلك ، مع أنّه ليس كذلك بالفرض ؛ إذ الثابت أوّلا إنّما هو التخيير وصحّة الرجوع إلى كلّ من المفتين ، ومشروعيّة تقليد كلّ منهم على سبيل التخيير والبدليّة ، ومجرّد اختيار أحد الفردين أو الأفراد في الواجب المخيّر لا يرفع التخيير الثابت ، ولا يصير الواجب التخييري تعيينيّا ، سواء في ذلك التخيير الاختياري والاجتهادي والاضطراري والفقاهتي ، إلّا ما خرج بالدليل.
غاية ما في الباب إنّما هو لزوم التعيين بالإضافة إلى شخص الاختيار بالإضافة إلى الواقعة الشخصيّة ، وأين هذا من التعيين المدّعى ؟
بالإضافة إلى جميع الوقائع المجرّدة عن الاختيار ، وأين هذا من استلزام هذا الشخص من الاختيار لتعيين الاختيار بالإضافة إلى الجميع ، ولتعيّن هذا المختار مطلقا ؟ ولذا لو اختار المكلّف الواجب عليه الكفّارة المخيّرة بين الأنواع الثلاث إحدى خصاله في وقت ، لم يتعيّن عليه هذا الفرد في سائر الأوقات.
والحاصل : أنّ هذا الاستصحاب مقتضاه إنّما هو صحّة البقاء لا وجوب البقاء وتعيينه ، والمقيّد للخصم والمضرّ بنا هو الثاني ، لا الأوّل ، والثابت والمسلّم هنا هو الأوّل ، لا الثاني.
وأمّا ثالثا : فلأنّ الاستصحاب كما يقتضي صحّة البقاء ، فكذا يقتضي صحّة الرجوع وصحّة تقليد الآخر أيضا.
وبعبارة اخرى : إنّ صحّة البقاء المستصحبة إنّما هي فرع صحّة الرجوع إلى المجتهد والمفتي الأوّل ، وهي فرع ما دلّ على صحّة التقليد والرجوع إلى من شاء من المجتهدين والمفتين ، كما هو المفروض ، وهو كما يقتضي الأوّل فكذا يقتضي الثاني ، وكما يلزمه استصحاب صحّة البقاء فيما نحن فيه ، فكذا يلزمه أيضا استصحاب صحّة الرجوع عنه إلى الآخر وتقليده ، ويلزمه التخيير بين الأمرين ، وهو المدّعى.
فإن قيل : مقتضى صحّة البقاء بطلان الرجوع ، ومقتضى صحّة الرجوع بطلان البقاء ، فيقع التعارض بين الاستصحابين ، ولو لم يكن الاستصحاب المقتضي لصحّة البقاء أولى بالترجيح ، فلا أقلّ من التساوي والتوقّف ، ومعه يلزم تحصيل البراءة اليقينيّة ، وهو إنّما يكون بالبقاء على تقليد الأوّل.
قلنا : هذا فاسد ؛ إذ مقتضى كلّ من صحّة البقاء وصحّة الرجوع ، إنّما يقتضي بطلان الآخر لو كان بعنوان التعيين ، وأمّا لو كان بعنوان التخيير ، فلا يقتضي ذلك جدّا ، وإلّا لزم انتفاء الواجب المخيّر رأسا ، وهو باطل ، وبعد ثبوت التخيير ـ كما هو المفروض ـ لا تنافي بين الاستصحابين ولا تعارض حتى يرد ما ذكر.
فإن قيل : القدر المسلّم من التخيير إنّما هو قبل الاختيار ، وأمّا بعده ـ كما هو
المفروض ـ فينقلب التخيير بالتعيين ؛ إذ القدر المسلم من التخيير الثابت في حقّ المكلّف ، إنّما هو التخيير في الاختيار وقبله ، لا أزيد من ذلك ؛ لعدم الدليل عليه ، وبعد الاختيار ـ كما هو المفروض ـ لا يبقى تخيير له ، ويلزمه تعيّن المختار في حقّه ، ومعه لا يجري استصحاب التخيير وصحّة الرجوع.
قلنا : هذا أيضا فاسد ، لما مرّت إليه الإشارة.
وإن شئت توضيح ذلك فاعلم أنّ التخيير في الشرعيّات على أقسام :
منها : التخيير الاختياري الثابت بنصّ الشارع تعالى ، كالخصال الثلاث في الكفّارة المخيّرة.
ومنها : التخيير الاختياري الثابت بحكم العقل ، كالتخيير في مقام الإتيان بالواجبات العينيّة الكلّيّة بين الأنواع والأصناف وأفرادها.
ومنها : التخيير الاضطراري الثابت بنصّ الشارع ، كتخيير المجتهد في الخبرين المتعارضين بين الأخذ بأيّهما شاء من باب التسليم.
ومنها : التخيير الاضطراري الثابت بحكم العقل ، كتخييره أيضا فيما دار الأمر بين الوجوب والحرمة ، أو بين الاستحباب والكراهة ، مع فقد المرجّع لواحد من ذلك أصلا بين الأخذ في الأوّل بأيّ من الحرمة والوجوب شاء ، وفي الثاني بأيّ من الاستحباب والكراهة أراد.
ومن البيّن والواضح أنّ اختيار أحد الفردين أو الأفراد فيما كان من القسمين الأوّلين من أقسام التخيير لا يكون سببا لتعيين أمثال المختار ، ولا واقعا للتخيير الثابت بالفرض بالإجماع وغيره من الأدلّة الدالّة على التخيير وعلى بقائه وعدم تعيين أمثاله المختار في حقّه.
نعم ، اختياره فيما كان من القسم الثاني فيما إذا كان الإتيان بالكلّي منحصرا في دفعة واحدة يكون سببا للتعيين ورافعا للتخيير ، بل في الحقيقة التخيير حينئذ إنّما هو قبل الاختيار بالإضافة إلى أفراد هذا الكلّي ، وبعد الاختيار وتعيينه لأحد أفراده وإتيانه في
الخارج لا تخيير أصلا ، كما لا يخفى.
وكذلك اختياره فيما كان من القسمين الأخيرين أيضا لا يكون سببا للتعيين ، ولا رافعا للتخيير ـ كما هو المفروض ـ إن كان ما دلّ على ثبوت التخيير حينئذ عامّا شاملا لما قبل الاختيار وما بعده معا ؛ لعموم الدليل الدالّ على التخيير كما هو المفروض.
وإن كان ما دلّ على ثبوت التخيير مقيّدا بما قبل الاختيار وبالاختيار الابتدائي ، فالحقّ حينئذ الحكم بالتعيين بعد الاختيار ، لا لانقلاب التخيير بالتعيين ، بل لعدم ثبوت التخيير حينئذ ، ويلزمه تعيّن التعيين ، إمّا بمقتضى الأصل والقاعدة ، وإمّا بمقتضى الاستصحاب والعمومات وغيرها ، المفيدة للتعيين ، المؤيّدة أو المعتضدة ـ ولو في الجملة ـ بغيرها ممّا يساعده.
وإن كان ما دلّ على ثبوته مجملا ومهملا ، ففي إلحاقه بالأوّل ؛ عملا بالاستصحاب والعمومات الدالّة على عدم جواز نقض اليقين إلّا باليقين ، المقتضية لبقاء التخيير الثابت بعد الاختيار أيضا ، أو الثاني ؛ عملا بالأصل والاستصحاب والعمومات ، المقتضية لعدم ثبوت التخيير بالإضافة إلى ما بعد الاختيار ؛ واقتصارا فيما خالفها وخالف العمومات الدالّة على عدم جواز التقليد ، والعمل بغير العلم على القدر المتيقّن ؟ إشكال ، وإن كان المصير إلى الثاني لا يخلو عن وجه في وجه ، وشىء في آخر ؛ فتدبّر.
ومن هنا تحصّل أنّ التخيير بأقسامه المشار إليها إمّا مطلق وعامّ ، وإمّا مقيّد وخاصّ بما قبل الاختيار وبنفسه ، وإمّا مهمل.
ومن البيّن أنّ ما لا يجري فيه استصحاب التخيير وصحّة الرجوع والاختيار الجديد إنّما هو القسم الثاني من هذه الأقسام الثلاثة خاصّة ، دون غيره ، والمفروض أنّ محلّ البحث لا يكون من هذا القسم ، بل هو : إمّا من القسم الأوّل ، كما هو الظاهر بمقتضى أكثر الأدلّة السالفة الدالّة على صحّة التقليد المفتي الجامع للشرائط للمقلّد ، وعلى صحّة الرجوع إلى كلّ واحد من المفتيين المتساويين في العلم والعدالة
الجامعين للشرائط مطلقا ، من الآيات والروايات ، المؤيّدة أو المعتضدة بغيرها أيضا ولو في الجملة.
وإمّا من القسم الثالث ، كما هو المحتمل بالنظر إلى بعض الأدلّة السالفة الدالّة على صحّة التقليد وعلى التخيير ، كالإجماعات المنقولة ، والدليل العقلي وغيره ، وعلى أيّ من التقديرين يتّجه الاستصحاب المدّعى ، كما لا يخفى ، سيّما على المتأمّل فيما مضى.
مضافا إلى ما سيأتي.
وأمّا رابعا : فلأنّ هذا الاستصحاب على تقدير تماميّة دلالته على المنع عن الرجوع وسلامته عمّا مرّ ، مندفع بما دلّ على الجواز والصحّة ، من الاستصحاب والعمومات الدالّة على عدم جواز نقض اليقين إلّا باليقين ، والدالّة على صحّة الرجوع إلى المفتي الثاني أيضا مطلقا.
وأمّا خامسا : فلأنّه على تقدير سلامته عمّا مرّ ، إنّما يدلّ على المنع فيما إذا لم يكن المقلّد مقلّدا في هذه المسألة لمن أفتى بالجواز ، وأمّا إذا كان مقلّدا له فيها فلا يجري فيه ، ولا يدلّ على المنع بالإضافة إليه جدّا ، فيكون أخصّ من المدّعى.
اللهمّ إلّا أن يفصّل في المسألة ، أو يتمّ المدّعى بعدم القول بالفصل فيها ، وكلاهما كما ترى ؛ فتدبّر.
وأمّا سادسا : فلأنّه على تقدير سلامته عمّا مرّ ، إنّما يتمّ فيما إذا لم يكن المقلّد مقلّدا له في تلك الواقعة الشخصيّة خاصّة ، بل يكون مقلّدا له بالإضافة إليها ، وإلى جميع أمثالها في جميع الأوقات. وأمّا إذا كان مقلّدا له فيها خاصّة ، فلا.
وتفصيل القول في ذلك يحتاج إلى بيان حقيقة التقليد الواجب على المقلّد والمشروع له ، وسيأتي مفصّلا عن قريب إن شاء الله تعالى ؛ فترقّب.
وممّا ذكر ظهر ما في سائر الوجوه المشار إليها المستدلّ بها على المنع ، كما ظهر أيضا ما في غيرها ممّا ربما يستدلّ عليه ، من العمومات الدالّة على عدم جواز نقض
اليقين إلّا باليقين ، والدالّة على عدم مشروعيّة التقليد ، وعدم جواز العمل بغير العلم ، ولزوم الاقتصار فيما خالفها على القدر المتيقّن المتّفق عليه ، وهو في الفرض تقليد الأوّل والبقاء عليه خاصّة ، دون غيره ؛ فتذكّر.
فإذن القول بالجواز والصحّة نظرا إلى الاستصحاب والعمومات المشار إليها لا يخلو عن وجه ، بل هو المتّجه كما لا يخفى.
اللهمّ إلّا أن يناقش فيهما بما يخرجان عن الصلاحية للدلالة ، فيتّجه المنع.
ولكنّه كما ترى ليس في محلّه.
المسألة العاشرة : هل يختصّ الحكم بجواز الرجوع إلى الآخر ـ بالإضافة إلى أمثال الواقعة التي قلّد فيها الأوّل وصحّة تقليده الثاني حيثما قلنا بهما ـ بما إذا كان كلّ منهما حال تقليد الأوّل موجودا وجامعا للشرائط ومخالفا للآخر في الحكم ، وكان المكلّف المقلّد حينئذ أيضا عالما بهما كذلك ، ومتمكّنا من الوصول إلى كلّ منهما بسهولة ؟
أم لا ، بل يعمّه وغيره من الأقسام المتصوّرة أيضا ؟
لم أقف على من تعرّض له صريحا ، ولكنّ الأحوط هو الأوّل ، بل ولعلّه المتعيّن إن لم يثبت العموم في الأدلّة الدالّة على صحّة التقليد وعلى التخيير بحيث تشمل ما نحن فيه أيضا ؛ فتفطّن.
المسألة الحادية عشرة : هل يختصّ الحكم بعدم جواز الرجوع إلى الثاني والمنع بالإضافة إلى أمثال تلك الواقعة على القول بهما ، بما إذا لم يكن البقاء على تقليد الأوّل مستلزما للحرج والعسر أو الضرر على المقلّد ، أم لا ، بل يعمّه وما إذا كان مستلزما لذلك أيضا ؟
المعتمد : هو الأوّل ، وفاقا لصريح السيّد السند العلّامة الاستاد ـ دام ظلّه العالي ـ في المفاتيح (١) ؛ للعمومات النافية للعسر والحرج والضرر ، المعتضدة أو المؤيّدة بما مرّت إليه الإشارة.
__________________
(١) مفاتيح الاصول ، ص ٦١٧.
ولا فرق في ذلك بين أن يكونا متساويين في العلم والعدالة ، أو متفاوتين. ولا بين أن يكون المقلّد حال تقليده الأوّل عالما باستلزامه الحرج ، أم لا ، كما صرّح بذلك في المفاتيح (١) ؛ للعمومات المشار إليها.
المسألة الثانية عشر : لو التزم المقلّد على نفسه تقليد مجتهد خاصّ في الواقعة الشخصيّة بوصف الشخصيّة ، أو الكلّيّة بعنوان الكلّيّة ، أو في جميع ما صار إليه المجتهد في مصنّف من مصنّفاته ، أو في باب من أبواب الفقه على وجه الإجمال ، وبنى باعتقاده على ذلك ، ولكن لم يحقّق له العمل بمقتضاه في الخارج من جهة التقليد أصلا ، فهل يجب عليه البقاء على ما التزم على نفسه وبنى عمله كذلك عليه مطلقا ، فلا يصحّ له الرجوع عنه في ذلك إلى الآخر المساوي له الجامع للشرائط ما لم يخرج الأوّل عن أهليّة العمل بقوله في حقّه ، كما في ظاهر منية اللبيب (٢) ، واختاره سيّدنا السند العلّامة الاستاد ـ دام ظلّه ـ في المفاتيح (٣) ؟
أم لا كذلك ، فيصحّ له الرجوع عنه إليه كذلك ، كما اختاره بعض الأعاظم من المشايخ ـ طاب ثراه ـ في بعض تحقيقاته ، ولعلّه الظاهر ممّن قال بجواز الرجوع بعد العمل بالإضافة إلى الوقائع الحادثة بعده ، واللائح أو الظاهر من كلّ من جوّز نقض الفتوى قبل العمل ؟
أم التفصيل بين المسائل المتّصل بها عمله ؛ فالأوّل ، وغيره ؛ فالثاني ، كما عزّاه في المفاتيح إلى ظاهر جماعة من العامّة ، كالآمدي في الإحكام ، والحاجبي في مختصره ، والعضدي في شرحه (٤) ؟
أوجه وأقوال ، أحوطها : الأوّل وإن كان تعيينه محلّ إشكال.
__________________
(١) مفاتيح الاصول ، ص ٦١٧.
(٢) حكاه عن منية اللبيب وقال به في مفاتيح الاصول ، ص ٦١٧.
(٣) المصدر.
(٤) الإحكام في اصول الأحكام ، ج ٤ ، ص ٤٥٩ ؛ المختصر مع شرحه للعضدي ، ص ٤٨٥.
وتفصيل القول في ذلك يحتاج إلى ذكر مقدّمتين :
[ المقدّمة ] الاولى : أنّ المكلّفين من الناس بالإضافة إلى الأحكام الشرعيّة المتعلّقة بأفعالهم والإتيان بها في الخارج ـ كما قاله جماعة ، بل الأكثر كما [ في ] صريح بعض العبائر (١) ، بل كلّهم كما قيل (٢) ـ صنفان : مجتهد ، ومقلّد ، وهو كذلك بمقتضى الإجماع الظاهر والمدّعى وغيره من الأدلّة المعتبرة العقليّة وغيرها ، القطعيّة وغيرها ، حسبما سنفصّل المقال في ذلك بعد ذلك إن شاء الله سبحانه.
ومن الواضح أنّ العمل الصادر عن المجتهد من حيث هو مجتهد المحكوم عليه حين الصدور عنه بالصحّة ـ مثلا ـ في ظاهر الشرع إنّما هو بعد العلم الحاصل له من الاجتهاد واستفراغ الوسع ، وبذل الجهد في المآخذ والأدلّة المعتبرة الشرعيّة بالحكم المتعلّق بهذا العمل ، ومطابقة العمل ولو باعتقاده خاصّة لما هو مقتضى علمه ومؤدّى اجتهاده وصدوره عنه من حيث إنّه مطابق له ، ومن جهة أنّه مقتضاه ومؤدّاه.
ففي الحقيقة للمجتهد ـ بعد علمه ولو إجمالا بثبوت الأحكام الشرعيّة وتعلّقها به ، ولزوم تحصيلها عليه من مأخذها ومظانّها ـ مقامات :
منها : مقام تحقيق أدلّة الأحكام ودليليّتها وحجّيّتها.
ومنها : مقام الرجوع إليها واستنباطها عنها ، وتحصيل الاعتقاد بها. وهو متأخّر عن السابق ، وموقوف على تحقّقه ، كما ينبغي.
ومنها : مقام تحصيل الاعتقاد له بها وبما المستنبط عنها. وهو أيضا متأخّر عن السابق وموقوف على تحقّقه ، كما ينبغي.
ومنها : مقام تصحيح الاعتقاد وحجّيّة ما تحصل له من المعتضدات ، وتحصيل القطع بصحّتها وحجّيّتها بحسب الاعتقاد وفيه. وهو أيضا متأخّر عن السابق ، وموقوف على تحقّقه ، كما ينبغي.
__________________
(١) انظر عوائد الأيّام ، ص ٣٨٤.
(٢) انظر هداية المسترشدين ، ج ٣ ، ص ٧١٣.
ومنها : مقام تحصيل الاعتقاد له بوجوب العمل بما تحصل له من الاعتقاد بها في الخارج وصحّته. وهو أيضا متأخّر عن السابق ، وموقوف على تحقّقه ، كما ينبغي.
ومنها : مقام تحصيل الاعتقاد بذلك. وهو أيضا متأخّر عن السابق ، وموقوف على تحقّقه ، كما ينبغي.
ومنها : مقام تصحيح هذا الاعتقاد وحجّيّة ما تحصّل له من هذا الاعتقاد وتحصيل القطع بصحّته وحجّيّته بحسب الاعتقاد وفيه. وهو أيضا متأخّر عن السابق ، وموقوف على تحقّقه ، كما ينبغي.
ومنها : مقام التوطئة والتهيّؤ للإتيان بذلك في الخارج والعزم عليه. وهو أيضا متأخّر عن السابق ، وموقوف على تحقّقه ، كما ينبغي.
ومنها : مقام الإتيان بذلك في الخارج من القول والإفتاء والقضاء والحكم والعمل به. وهو أيضا متأخّر عن السابق ، وموقوف على تحقّقه ، كما ينبغي.
ومن البيّن مدخليّة ما عدا الثامن من المقامات على سبيل الترتيب في صحّة المقام الأخير شرعا ، وعدم مدخليّة الثامن في صحّته كذلك ، ومدخليّته في وجوده من باب المقدّمة العقليّة.
والسرّ في ذلك صحّة إطلاق المجتهد حقيقة على المجتهد المفروض ، بالإضافة إلى كلّ من المقامات السبعة الاول ، ومدخليّة الاجتهاد على سبيل التحقيق فيها كما لا يخفى ، وعدم مدخليّة الاجتهاد في الثامن ، وعدم صحّة إطلاق المجتهد عليه بالإضافة إليه وصحّة سلبه عنه بحكم العقل وغيره ، وكذلك الحال بالإضافة إلى المقام الأخير ، فلا يصحّ إطلاق المجتهد حقيقة عليه باعتبار كونه في هذا المقام ، ومن حيث كونه عاملا وآتيا ؛ لخروجه عن مقام الاجتهاد ، وعدم مدخليّته فيه أصلا ورأسا.
نعم ، للاجتهاد بجميع مقاماته السبعة وحيثيّته الملحوظة ولو حكما حال العمل ومع الإتيان بذلك مدخليّة في صحّتها وصحّة المعمول والمأتيّ به في الخارج ، وعدم انفكاك صحّة ذلك عن هذه الحيثيّة ، ولا عن لحاظها حينئذ ولو حكما قطعا.
ومن الواضح أيضا أنّ العمل الصادر عن المقلّد من حيث هو مقلّد المحكوم عليه حال الصدور بالصحّة ـ مثلا ـ في ظاهر الشرع ، إنّما هو بعد العلم الحاصل له من السعي والرجوع إلى المجتهد والمفتي الجامع للشرائط بالحكم المتعلّق بهذا العمل ، ومطابقة العمل ولو باعتقاده خاصّة لما هو مقتضى علمه ومؤدّى سعيه وتحصيله وصدوره عنه في الخارج ، من حيث إنّه مطابق له ، ومن جهة أنّه مقتضى ما يحصل له من مفتيه ومؤدّى فتواه.
ففي الحقيقة ، للمقلّد أيضا بعد علمه ولو إجمالا بثبوت الأحكام الشرعيّة وتعلّقها به ووجوب تحصيلها عليه من محالّها ومآخذها مقامات :
منها : مقام تحقيق المحالّ والمآخذ ، أي أصحاب الاجتهاد وأرباب الفتوى الجامعين للشرائط وتحقيق اعتبارهم وحجّيّتهم وتحصيل من هو المعتبر منهم وتعيينه لنفسه.
ومنها : مقام الرجوع إليهم والسؤال والأخذ بما هو المعتبر شرعا عنهم ، وتحصيل الاعتقاد بما أجابوه وأعطوه وقالوا في حقّه في الواقعة. وهو متأخّر عن السابق ومتوقّف على تحقّقه ، كما ينبغي.
منها : مقام تصحيح الاعتقاد وحجّيّة ما تحصل له من الأقوال والفتاوى ، وتحصيل القطع بصحّتها وحجّيّتها بحسب الاعتقاد وفيه. وهو أيضا متأخّر عن السابق ، ومتفرّع على تحقّقه ، كما ينبغي.
ومنها : مقام تحصيل الاعتقاد له بوجوب العمل عليه بما تحصّل له من الاعتقاد بها في الخارج وصحّته. وهو أيضا متأخّر عن السابق ومتفرّع على تحقّقه ، كما ينبغي.
ومنها : مقام تحصيل الاعتقاد له بذلك. وهو أيضا متأخّر عن السابق ومتفرّع على تحصّله ، كما ينبغي.