، واكتفاء بذكره مرّة ، بخلاف سائر القصص.
فإن قيل : لم قال تعالى : (وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤)) وهو كان من المرسلين ، قبل زمان التنجية؟
قلنا : قوله تعالى (إِذْ نَجَّيْناهُ) [الآية ١٣٤] لا يتعلّق بما قبله ، بل يتعلّق بمحذوف تقديره : واذكر لهم يا محمّد ، إذ نجّيناه أو أنعمنا عليه إذ نجّيناه ، وكذا السؤال في قوله تعالى : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠)).
فإن قيل : لم قال الله تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧)) و «أو» كلمة شكّ ، والشّكّ على الله محال؟
قلنا : قيل «أو» هنا بمعنى «بل» ، فلا شكّ ؛ وقيل بمعنى «الواو» كما في قوله تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) [النساء : ٤٣] وقوله تعالى : (عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦)) [المرسلات] وقيل معناه ، أو يزيدون في تقديركم ، فلو رآهم أحد منكم لقال : هم مائة ألف أو يزيدون ، فالشّكّ إنّما دخل في حكاية قول المخلوقين ، ونظيره قوله تعالى (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩)) [النجم].
فإن قيل : ما الحكمة في تكرار الأمر بالتولية والإبصار ، في قوله تعالى : (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩)).
قلنا : الحكمة تأكيد التهديد والوعيد.
فإن قيل : لم قال تعالى : (وَأَبْصِرْهُمْ) [الآية ١٧٥] ثمّ قال ثانيا : (وَأَبْصِرْ) [الآية ١٧٩]؟
قلنا : طرح ضمير المفعول تخفيفا واختصارا واكتفاء بسبق ذكره مرّة ؛ وقيل معنى الأوّل : وأبصارهم إذا نزل بهم العذاب ، ومعنى الثاني : وأبصر العذاب إذا نزل بهم ، فلا فرق بينهما في المعنى.
المبحث الثامن
المعاني المجازية في سورة «الصافات» (١)
قوله تعالى : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩)) هذه استعارة. والمراد بالقاصرات الطّرف هاهنا : اللواتي جعلن نظرهنّ مقصورا على أزواجهنّ. أي حبسن النّظر عليهم ، فلا يتعدّينهم إلى غيرهم. وجيء بذكر الطّرف على طريق المجاز. وإلّا فحقيقة المعنى أنهنّ حبسن الأنفس على الأزواج عفّة ودينا ، وخلقا وصونا.
وإنّما وقعت الكناية عن هذا المعنى بقصر الطّرف ، لأنّ طماح الأعين في الأكثر يكون سببا لتتبّع النفوس وتطرّب القلوب ، وعلى هذا قول الشاعر :
وإنّك إن أرسلت طرفك رائدا |
|
لقلبك يوما أتعبتك المناظر (٢) |
والطّرف هاهنا واحد في تأويل
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.
(٢). البيت هو أحد بيتين أنشدتهما امرأة أمام أبي الغصن الأعرابي ، وكان قد خرج حاجّا ، فمرّ بقباء ، وإذا جارية كأنّ وجهها سيف صقيل. والقصة كاملة في الجزء الرابع من «عيون الأخبار» لابن قتيبة ، ص ٢٢. وفي «شرح شواهد الكشّاف» للعلامة محبّ الدّين ص ١٣٤ أنّه من أبيات «الحماسة» وفي «شرح الحماسة» للمرزوقي ج ٣ ص ١٢٣٨ ، لم يذكر اسم قائله ؛ وإنما اكتفى بقوله : وقال آخر. ولم يتعرّض العلّامة المرزوقي لتحقيق اسم هذا الشاعر أو الشاعرة ، وإنما اكتفى بشرح البيتين شرحا أدبيا. وهما :
وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا |
|
لقلبك يوما أتعبتك المناظر |
رأيت الّذي لا كلّه أنت قادر |
|
عليه ، ولا عن بعضه أنت صابر |
الجميع ، ونظيره قوله سبحانه : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) [البقرة : ٧]. أي على أسماعهم ، أو مواضع استماعهم.
سورة ص
٣٨
المبحث الأول
أهداف سورة «ص» (١)
سورة ص سورة مكية نزلت في الفترة المتوسّطة من حياة المسلمين بمكة ، بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء ، وآياتها ٨٨ آية ، وسميت ص لابتدائها بهذا الحرف.
مقاصد السورة
قال الفيروزآبادي : «معظم المقصود من سورة ص : بيان تعجّب الكفّار من نبوّة المصطفى (ص) ووصف الكافرين لرسول الله بالاختلاق والافتراء ، واختصاص الحق تعالى بملك الأرض والسماء ، وظهور أحوال يوم القضاء ، وعجائب حديث داود وأوريا ، وقصة سليمان ، وذكر أيوب في الابتلاء والشفاء ، وذكر إبراهيم وأولاده من الأنبياء ، وحكاية أحوال ساكني جنة المأوى ، وعجز حال الأشقياء في سقر ولظى ، وواقعة إبليس مع آدم وحواء ، وتهديد الكفار على تكذيبهم للمجتبى» قال تعالى :
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)).
قضايا السورة
أثارت سورة ص عددا من القضايا أهمها قضية التوحيد ، وقضية الوحي ، وقضية الحساب في الاخرة ، وقد عرضت هذه القضايا الثلاث في مطلعها ، الّذي يمثل الدهشة والاستغراب من كبار المشركين في مكة ، حين جاءهم محمد (ص)
__________________
(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.
يدعوهم إلى التوحيد ، وساقت السورة شبهات الكافرين حول قضية الوحي.
فقد استكثروا أن يختار الله سبحانه رجلا منهم لينزل عليه الذكر من بينهم ، وأن هذا الرجل هو محمد بن عبد الله الّذي لم تسبق له رئاسة فيهم ، ولا إمارة فقالوا كما ورد في التنزيل :
(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) [الآية ٨].
وبيّنت السورة لهم ، أنّ رحمة الله لا يمسكها شيء ، إذا أراد أن يفتحها على من يشاء ، وأنه ليس للبشر شيء من ملك السماوات والأرض ، وإنّما يفتح الله رزقه ورحمته على من يشاء ، وأنه يختار من عباده من يعلم استحقاقهم للخير ، وينعم عليهم بشتى الإنعامات ، بلا قيد ولا حدّ ولا حساب. في هذا السياق جاء تسخير الجبال والطير ، وتسخير الجن والريح ، فوق الملك وخزائن الأرض والسلطان والمتاع ، وجاء مع القصّتين توجيه النبي (ص) إلى الصبر على ما يلقاه من المكذّبين :
(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧)).
كذلك جاءت قصة أيوب (ع) تصور ابتلاء الله سبحانه للمخلصين من عباده بالضّرّاء ، وصبر أيوب (ع) مثل في الصبر رفيع ؛ وتصور السورة حسن العاقبة للصابرين.
ونلاحظ أن السياق ، في سورة ص ، يربط بين أربعة موضوعات رئيسة : هي شبهات الكافرين ، وقصص الأنبياء ، والمقابلة بين نعيم المتقين وعذاب الكافرين ، ثم قصة خلق آدم (ع) وسجود الملائكة له وإباء إبليس.
١ ـ شبهات الكافرين
تشتمل الآيات [١ ـ ١٦] على شبهات الكافرين حول بشريّة الرسول ، واختصاصه بالوحي ، وإنكار توحيد الالهة في إله واحد ، والرد على هذه المفتريات ، وبيان جزاء المكذّبين ، من قوم نوح وعاد وفرعون وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة.
(إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤)).
٢ ـ قصص الأنبياء
تشتمل الآيات [١٧ ـ ٤٨] على قصص وأمثلة من حياة الرسل صلوات الله عليهم.
وفي هذا القصص بيان لآثار رحمة
الله بالرسل من قبل ، وتذكير بما أغدق الله عليهم من نعمة وفضل ، وبما آتاهم من ملك وسلطان ومن رعاية وإنعام ، وذلك ردا على عجب الكافرين من اختيار الله لمحمد (ص) رسولا من بينهم ، وما هو ببدع من الرسل ، وفيهم من آتاه الله سبحانه إلى جانب الرسالة الملك والسلطان ، وفيهم من سخّر له الجبال يسبّحن معه والطير ، وفيهم من سخّر الله تعالى له الريح والشياطين ، كداود وسليمان (ع). فما وجه العجب أن يختار الله جلّ وعلا محمدا (ص) الصادق ، لينزل عليه الذكر من بين قريش في آخر الزمان.
كذلك يصور هذا القصص رعاية الله تعالى الدائمة لرسله ، وإحاطتهم بتوجيهه وتأديبه فقد كانوا بشرا ، كما أن محمد (ص) بشر ، وكان فيهم ضعف البشر ، وكان الله سبحانه يرعاهم فلا يدعهم لضعفهم ولكن يبين لهم ويوجههم ، ويبتليهم ليغفر لهم ويكرمهم ، وفي هذا ما يطمئن قلب الرسول إلى رعاية ربه له ، وحمايته له من أذى المشركين ؛ وفي تلك القصص سلوى ومواساة لما لقيه النبي من تكذيب واتهام وافتراء ، وفيه دعوة إلى الصبر حتى ينال رضوان الله ، كما ناله السابقون من الأنبياء.
٣ ـ النعيم والجحيم
تعرض الآيات [٤٩ ـ ٦٤] مشهد المؤمنين في الجنة ، وقد فتحت أبوابها ، وجرت أنهارها ، وكثر حورها وولدانها ، وتنوّعت أرزاقها :
(إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤)).
كما تعرض مشهد الطاغين في النار ، وقد اشتد لهيبها وتنوّع عذابها ، واختصم الأتباع والرؤساء فيها ، وأخذوا يبحثون عن ضعفاء المؤمنين بينهم فلا يجدونهم في النار ، لأن هؤلاء الضعفاء في الجنة والرضوان.
سجود الملائكة لآدم
تشتمل الآيات الممتدة من الآية ٦٥ إلى آخر السورة ، على تأكيد وحدانية الله تعالى ، وشمول قدرته وملكه في السماوات والأرض.
وتستعرض قصة آدم (ع) وسجود الملائكة له ، كدليل على أن هؤلاء الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ؛ كما تتضمّن القصة لونا من الحسد في نفس
الشيطان ، وهو الّذي أبعده الله عن رحمته ، وطرده من جنّته ، حينما استكثر على آدم فضل الله الّذي أعطاه ؛ وفي هذا إيحاء لهم ألا يستكثروا على محمد (ص) فضل الرسالة وتبليغ وحي السماء. كذلك تصوّر الآيات المعركة المستمرة بين الشيطان وأبناء آدم ، والّتي لا يهدأ أوارها ، ولا تضع أوزارها ، والّتي يهدف من ورائها إلى إيقاع أكبر عدد منهم في حبائله ، لإيرادهم النار معه ، انتقاما من أبيهم آدم. وقد كان طرد إبليس من الجنة بسبب امتناعه عن السجود له ، فالمعركة بين إبليس وذرية آدم معروفة الأهداف ، ولكن أبناء آدم يستسلمون لعدوهم القديم.
وتختم السورة بتوكيد قضية الوحي ، وإخلاص الرسول في تبليغ الرسالة ، لا يبتغي أجرا ولا يتكلّف قولا ؛ وإنّما يبلّغ القرآن ، وسيكون لهذا القرآن أبلغ الأثر في حياة البشرية.
المبحث الثاني
ترابط الآيات في سورة «ص» (١)
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «ص» بعد سورة «القمر» وقبل سورة «الأعراف» ، ونزلت سورة «الأعراف» بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء ، فيكون نزول سورة «ص» في هذا التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لابتدائها بالقسم به ، وتبلغ آياتها ثماني وثمانين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة إنذار الكافرين بعذاب الدنيا والاخرة ، وقد ابتدأت بإثباته بالقسم عليه ، وبالقياس على من أهلك قبلهم من الأمم ؛ ثم أمر النبي (ص) بالصبر على طلبهم تعجيله استهزاء به ، وقصّ عليه في ذلك قصص من صبر قبله من الأنبياء ، ثم ذكر ما يكون إليه المآب بعد هلاكهم ؛ ثمّ ختمت السورة بالعود إلى تأكيد ذلك الإنذار ، ليكون ختامها مناسبا لابتدائها فيرتبط آخرها بأولها ؛ وهي ، في هذا ، تشبه السورة السابقة فيما أنذر به فيها ، وهذا هو وجه ذكرها بعدها.
إنذار الكفار بعقاب
الدنيا والاخرة
لآيات [١ ـ ٧٠]
قال الله تعالى : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.
وَشِقاقٍ (٢)) فأقسم بذلك أنهم سيعاقبون على كفرهم في الدنيا والاخرة ، ولكنّهم في غفلة عن هذا وشقاق ، وكم أهلك من قبلهم من الكفّار ، فنادوا ولات حين مناص ؛ ثم ذكر سبحانه أنهم تعجبوا من أن ينذرهم بذلك واحد منهم ، ومن أن يدعو إلى التوحيد وإبطال الالهة ، وهذا يخالف الملّة الاخرة (النصرانية) الّتي تجعل الالهة ثلاثة ؛ ثم ذكر إنكارهم أن يختص بذلك دونهم وهو لا يمتاز بشيء عليهم ؛ ورد عليهم بأن ذلك يرجع إلى اختياره بمقتضى رحمته ، ولا شريك له فيما يملكه من أمر سماواته وأرضه ، فإن ادّعوا لهم ملكا في ذلك فليرتقوا في الأسباب : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١)).
ثم ذكر جلّ وعلا أنه قد كذّب قبلهم من كان أقوى منهم من قوم نوح وعاد وفرعون فعاقبهم وأهلكهم ، وسيكون مصيرهم مثلهم. ثم ذكر أنهم طلبوا تعجيل هذا العذاب استهزاء ، وأمر النبي (ص) أن يصبر على استهزائهم ، ويذكر ما كان من أمر الرسل قبله ليعتبر بما كان منهم ؛ وقد ذكر له في ذلك أخبار داود وسليمان وأيّوب وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذي الكفل (عليهمالسلام) ، وفصّل في بعضهم ما فصّله من أخبارهم ، وأجمل في بعضهم ما أجمله من أمرهم ، ليحمله على ما أمره به من الصبر على قومه. ثم لفت إلى أمر آخر يحمله أيضا على الصبر عليهم ، وهو ما أعدّه سبحانه للمتقين والطاغين من حسن المآب للأولين وشرّه للاخرين ، وقد فصّل فيهما ما فصل من أحوالهما ، وذكر في الثاني ما يكون من التخاصم بين أهل النار وخزنتها ، ثم ختم ذلك كله بتأكيد ما بدأ به من الإنذار ، فقال جلّ وعلا : (قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥)) فإذا أراد إهلاكهم لم يمنعه غيره من آلهتهم ؛ ثم ذكر السياق على لسان الرسول أن ما ينذرهم به نبأ عظيم لا كذب فيه ، وأيّد ذلك بأن ما ذكره من ذلك التخاصم بين أهل النار وخزنتهم ، لم يكن للرسول به علم إذ يختصمون : (إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠)).
العهد القديم بعقاب الكافرين
الآيات [٧١ ـ ٨٨]
ثم قال تعالى : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ
إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١)) ، فذكر قصة خلق آدم وأمره الملائكة بالسجود له ، وأنهم أطاعوه إلا إبليس لعنه الله ؛ وأنه عاقبه على ذلك بإخراجه من الجنة ، وأنه عهد ، وعهده الحقّ ، أن يملأ جهنّم منه وممّن تبعه من الكافرين ؛ ثم ختم السورة بأنه لا يسألهم على هذا الإنذار من أجر ، ولا يكلّفهم منه ما لا يطيقون : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)).
المبحث الثالث
أسرار ترتيب سورة «ص» (١)
أقول : هذه السورة بعد «الصافات» ، ك «طس» بعد «الشعراء» ، وك «طه» و «الأنبياء» بعد «مريم» ، وك «يوسف» بعد «هود» ، في كونها متمّمة لها بذكر من بقي من الأنبياء ، ممّن لم يذكروا فيها ؛ فإنه سبحانه ذكر ، في الصافات ، نوحا ، وإبراهيم والذبيح ، وموسى ، وهارون ولوطا ، وإلياس ، ويونس. وذكر ، هنا ، داود ، وسليمان ، وأيوب ، وأشار إلى بقية من ذكر ، فهي بعدها أشبه شيء «بالأنبياء» ، و «طس» بعد «مريم» و «الشعراء».
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه : ١٩٧٨ م.
المبحث الرابع
مكنونات سورة «ص» (١)
١ ـ (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ) [الآية ٦].
قال مجاهد : أي عقبة بن أبي معيط.
زاد السّدّي : وأبو جهل ، والعاصي بن وائل ، والأسود بن المطّلب ، والأسود بن يغوث.
أخرجهما ابن أبي حاتم.
٢ ـ (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) [الآية ٧].
قال محمد بن كعب : يعني ملّة عيسى (ع).
وقال مجاهد : ملّة قريش (٢).
وأخرجهما ابن أبي حاتم (٣).
٣ ـ (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) [الآية ١٦].
قال قتادة : قال ذلك أبو جهل.
أخرجه ابن أبي حاتم (٤).
وقال عطاء : النّضر بن الحارث.
أخرجه عبد بن حميد.
٤ ـ (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) [الآية ٢١].
هما ملكان. أخرجه ابن أبي حاتم من حديث أنس بن مالك مرفوعا بسند ضعيف ، ومن حديث ابن عبّاس
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.
(٢). وفي رواية مسدّد ، كما في «المطالب العالية» ٣ : ٣٦٣ ، عن مجاهد أن الملّة هي النصرانية. وانظر «تفسير ابن كثير» ٤ : ٢٨ ، و «سنن الترمذي» ٨ : ٣٦١.
(٣). والطبري في «تفسيره» ٢٣ : ٨٠.
(٤). و «الطبري» ٢٣ : ٨٥. ونقلا عن «غريب القرآن» أن القط واحد القطوط وهي الكتاب بالجوائز.
موقوفا ، وسمّاهما : جبريل ، وميكائيل.
٥ ـ (الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١)).
أخرج ابن أبي حاتم عن إبراهيم التّيمي (١) : أنها عشرون ألف فرس.
٦ ـ (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) [الآية ٣٤].
قال ابن عباس : هو الشّيطان. أخرجه ابن أبي حاتم.
وأخرج عن قتادة : أنه مارد يقال له : أسيد.
وأخرج من طريق علي ، عن ابن عباس : أنّه صخر الجنّي وعن السّدّي : أنه شيطان اسمه : حقيق.
وروى عبد الرزاق ، عن مجاهد : أنّ اسمه آصف.
وروى ابن جرير عنه : أن اسمه آصر.
٧ ـ (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ) [الآية ٤١].
قال نوف البكالي (٢). الشيطان الّذي مسّ أيّوب يقال له : مسعط. أخرجه ابن أبي حاتم.
٨ ـ (وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً) [الآية ٦٢].
قائل ذلك : أبو جهل ، وسمّي من الرّجال : عمار بن [ياسر] وبلال ، وصهيب ، وخبّاب. أخرج ذلك ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد.
__________________
(١). إبراهيم بن يزيد التيمي ، عابد ، صابر ،. ثقة روى عن أنس رضي الله عنه ، وتوفي نحو (٩٤) ه.
(٢). نوف البكالي بكسر الباء وفتحها نسبة الى بكال بطن من حمير ، تابعيّ من أهل دمشق فاضل ، عالم ، لا سيّما بالقصص والإسرائيليات. ترجمه الحافظ في «التهذيب» ، وانظر تعليق الدكتور نور الدين عتر على كتاب «الرحلة في طلب الحديث» للخطيب البغدادي ص ٩٧.
المبحث الخامس
لغة التنزيل في سورة «ص» (١)
١ ـ وقال تعالى : (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣)).
قالوا في «لات» :
هي لا المشبهة ب «ليس» زيدت عليها تاء التأنيث ، كما زيدت على «ربّ» و «ثمّ» للتوكيد.
وتغيّر بذلك حكمها حيث لم تدخل إلّا على الأحيان ، ولم يبرز إلا أحد مقتضييها ، إمّا الاسم وإمّا الخبر ، وامتنع بروزهما جميعا.
هذا مذهب الخليل ، وتبعه سيبويه.
وعند الأخفش أنها «لا» النافية للجنس زيدت عليها التاء ، وخصّت بنفي الأحيان.
هذا مجمل كلام ليس لنا أن نقبله بيسر ، فما معنى قولهم إنّ «التاء» للتأنيث ، وتاء التأنيث ساكنة مع الفعل ، ومحركة بالحركات مع الاسم. وما معنى قولهم : إنها للتوكيد؟ وهل كل زيادة توكيد؟ وما معنى التوكيد؟
وما المؤكّد في ذلك؟ وإذا كانت للتأنيث فكيف يراد التوكيد؟ وما رأينا تاء للتأنيث تفيد التوكيد! وهل التاء في «ربّت» و «ثمّت» المفتوحتان للتأنيث والتوكيد؟
وأما اختصاصها بنفي الأحيان ، فهذا قائم لأنها سمعت كذلك في لغة العرب.
ولعلّنا نستطيع أن نقول شيئا آخر في هذه التاء.
ومن ذلك تصوّرنا أن هذه «التاء» هي شيء من «ايت» السريانية. و «ايت»
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.
السريانية هذه تعني «ايش» أي : الشيء في العربية. وقد ركبت مع «لا» فصارت «لا ايت» ، ثم خفّفت فصار «لات» ، واستعملت استعمالا خاصّا.
وهي نظير «ليس» الّتي قال الخليل بتركيبها من «لا أيس» أي : لا وجود. وكنا قد شرحنا هذا الشيء بتفصيل في الكلام على قوله تعالى : (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) [طه : ١٠٠].
ولنعد إلى «لات» لنقول : إن «ايت» بمعنى «شيء» بقي شيء منها في العربية ، وذلك في مادة «أثث». وإذا رجعنا إلى «أثاث» و «أثاثة» في المعجم ، وجدنا أن عموم الدلالة فيهما يشير إلى أنها مطلق الشيء ، ومن غير تخصيص ، ثم جاء الاستعمال فقيّد وخصّص وصرفها إلى أشياء معيّنة.
وقد بقي لنا أن نقول : إن العرب ربما أدخلوا على «حين» التاء وقالوا : لات حين بمعنى ليس حين.
وأما قول أبي وجزة :
العاطفون تحين ما من عاطف والمفضلون يدا إذا ما أنعموا فقال ابن سيده : قيل إنه أراد «العاطفون» مثل «القائمون» و «القاعدون» ، ثم زاد التاء في «حين» كما زادها الاخر في قوله :
نولّي قبل نأي داري جمانا وصلينا كما زعمت تلانا أراد الآن ، فزاد التاء ، وألقى حركة الهمزة على ما قبلها.
أقول : هذا قول المتقدّمين في كلمة «حين» ، وزيادة التاء في أولها. وعلى هذا يكون قولنا : «لات حين» من باب نفي «تحين» ب «لا» قبلها.
وأرى أن هذا المنقول من كلامهم قد يشعرنا أن «للتاء» ، في لغة قديمة ، ما للألف واللام في أول الاسم ، ولعل هذا شيء مما ورثته العربية من اللغات الّتي سبقتها!
٢ ـ وقال تعالى : (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦)).
والقطّ : القسط من الشيء ، لأنه قطعة منه.
أقول : القطّ هو القسم ، أي : القطعة ، وهو من الفعل ، قطّ يقطّ أي : قطع يقطع. والمصدر القطّ على فعل.
وقد أشرنا إلى كثير من المصادر الثلاثية على «فعل» ، أن الاسم منها يكون بكسر الفاء كالسّقط والنّقض