تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٨

وعن ابن عباس : أنهم قالوا ذلك يوم بدر. ومعناه : أن هذا نزل قبل يوم بدر لأن قوله : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) إنذار بهزيمتهم يوم بدر وهو مستقبل بالنسبة لوقت نزول الآية لوجود علامة الاستقبال.

وغير أسلوب الكلام من الخطاب الموجه إلى المشركين بقوله : (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ) [القمر : ٤٣] إلخ إلى أسلوب الغيبة رجوعا إلى الأسلوب الجاري من أول السورة في قوله : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) [القمر : ٢] بعد أن قضي حق الإنذار بتوجيه الخطاب إلى المشركين في قوله : (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) [القمر : ٤٣].

والكلام بشارة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعريض بالنّذارة للمشركين مبني على أنهم تحدثهم نفوسهم بذلك وأنهم لا يحسبون حالهم وحال الأمم التي سيقت إليهم قصصها متساوية ، أي نحن منتصرون على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه ليس رسول الله فلا يؤيده الله.

و (جَمِيعٌ) اسم للجماعة الذين أمرهم واحد ، وليس هو بمعنى الإحاطة ، ونظيره ما وقع في خبر عمر مع علي وعباس رضي‌الله‌عنهم في قضية ما تركه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أرض فدك ، قال لهما : «ثم جئتماني وأمركما جميع وكلمتكما واحدة» ، وقول لبيد :

عريت وكان بها الجميع فأبكروا

منها وغودر نؤيها وثمامها

والمعنى : بل أيدّعون أنهم يغالبون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وأنهم غالبونهم لأنهم جميع لا يغلبون.

ومنتصر : وصف (جَمِيعٌ) ، جاء بالإفراد مراعاة للفظ (جَمِيعٌ) وإن كان معناه متعددا.

وتغيير أسلوب الكلام من الخطاب إلى الغيبة مشعر بأن هذا هو ظنهم واغترارهم ، وقد روي أنّ أبا جهل قال يوم بدر : «نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه». فإذا صح ذلك كانت الآية من الإعجاز المتعلق بالإخبار بالغيب.

ولعل الله تعالى ألقى في نفوس المشركين هذا الغرور بأنفسهم وهذا الاستخفاف بالنبيءصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه ليشغلهم عن مقاومته باليد ويقصرهم على تطاولهم عليه بالألسنة حتى تكثر أتباعه وحتى يتمكن من الهجرة والانتصار بأنصار الله.

فقوله : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) جواب عن قولهم : (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) فلذلك لم تعطف الجملة على التي قبلها. وهذا بشارة لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك وهو يعلم أن الله

٢٠١

منجز وعده ولا يزيد ذلك الكافرين إلا غرورا فلا يعيروه جانب اهتمامهم وأخذ العدة لمقاومته كما قال تعالى في نحو ذلك : (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) [الأنفال : ٤٤].

والتعريف في (الْجَمْعُ) للعهد ، أي الجمع المعهود من قوله : (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) والمعنى : سيهزم جمعهم. وهذا معنى قول النحاة : اللام عوض عن المضاف إليه.

والهزم : الغلب ، والسين لتقريب المستقبل ، كقوله : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) [آل عمران : ١٢]. وبني الفعل للمجهول لظهور أن الهازم المسلمون.

و (يُوَلُّونَ) : يجعلون غيرهم يلي ، فهو يتعدى بالتضعيف إلى مفعولين ، وقد حذف مفعوله الأول هنا للاستغناء عنه إذ الغرض الإخبار عنهم بأنهم إذا جاء الوغى يفرون ويولّونكم الأدبار.

و (الدُّبُرَ) : الظهر ، وهو ما أدبر ، أي كان وراء ، وعكسه القبل.

والآية : إخبار بالغيب ، فإن المشركين هزموا يوم بدر ، وولوا الأدبار يومئذ ، وولوا الأدبار في جمع آخر وهو جمع الأحزاب في غزوة الخندق ففرّوا بليل كما مضى في سورة الأحزاب وقد ثبت في «الصحيح» أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خرج لصف القتال يوم بدر تلا هذه الآية قبل القتال ، إيماء إلى تحقيق وعد الله بعذابهم في الدنيا.

وأفرد الدبر ، والمراد الجمع لأنه جنس يصدق بالمتعدد ، أي يولي كل أحد منهم دبره ، وذلك لرعاية الفاصلة ومزاوجة القرائن ، على أن انهزام الجمع انهزامة واحدة ولذلك الجيش جهة تولّ واحدة. وهذا الهزم وقع يوم بدر.

روي عن عكرمة أن عمر بن الخطاب قال : «لما نزلت (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) جعلت أقول : أيّ جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يثب في الدرع ، ويقول : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)» اه ، أي لم يتبين له المراد بالجمع الذي سيهزم ويولّي الدبر فإنه لم يكن يومئذ قتال ولا كان يخطر لهم ببال.

(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦))

(بَلِ) للإضراب الانتقالي ، وهو انتقال من الوعيد بعذاب الدنيا كما حل بالأمم قبلهم ، إلى الوعيد بعذاب الآخرة. قال تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ

٢٠٢

الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة : ٢١] ، وعذاب الآخرة أعظم فلذلك قال : (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) وقال في الآية الأخرى (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) [طه : ١٢٧] وفي الآية الأخرى (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى) [فصلت : ١٦].

و (السَّاعَةُ) : علم بالغلبة في القرآن على يوم الجزاء.

والموعد : وقت الوعد ، وهو هنا وعد سوء ، أي وعيد. والإضافة على معنى اللام أي موعد لهم. وهذا إجمال بالوعيد ، ثم عطف عليه ما يفصّله وهو (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ). ووجه العطف أنه أريد جعله خبرا مستقلا.

و (أَدْهى) : اسم تفضيل من دهاه إذا أصابه بداهية ، أي الساعة أشد إصابة بداهية الخلود في النار من داهية عذاب الدنيا بالقتل والأسر.

وأمرّ : أي أشدّ مرارة. واستعيرت المرارة للإحساس بالمكروه على طريقة تشبيه المعقول الغائب بالمحسوس المعروف.

وأعيد اسم (السَّاعَةُ) في قوله : (وَالسَّاعَةُ أَدْهى) دون أن يؤتي بضميرها لقصد التهويل ، ولتكون الجملة مستقلة بنفسها فتسير مسير المثل.

[٤٧ ، ٤٨] (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨))

هذا الكلام بيان لقوله : (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) [القمر : ٤٦]. واقتران الكلام بحرف (إِنَ) لفائدتين ؛ إحداهما : الاهتمام بصريحه الأخباري ، وثانيهما : تأكيد ما تضمنه من التعريض بالمشركين ، لأن الكلام وإن كان موجها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو لا يشك في ذلك فإن المشركين يبلغهم ويشيع بينهم وهم لا يؤمنون بعذاب الآخرة فكانوا جديرين بتأكيد الخبر في جانب التعريض فتكون (إِنَ) مستعملة في غرضيها من التوكيد والاهتمام.

والتعبير عنهم ب (الْمُجْرِمِينَ) إظهار في مقام الإضمار لإلصاق وصف الإجرام بهم.

والضلال : يطلق على ضد الهدى ويطلق على الخسران ، وأكثر المفسرين على أن المراد به هنا المعنى الثاني. فعن ابن عباس : المراد الخسران في الآخرة ، لأن الظاهر أن (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ) طرف للكون في ضلال وسعر على نحو قوله تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ* تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ* قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) [النازعات : ٦ ـ ٨] ، وقوله : وَيَوْمَ

٢٠٣

الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) [القصص : ٤٢] فلا يناسب أن يكون الضلال ضد الهدى.

ويجوز أن يكون (يَوْمَ يُسْحَبُونَ) ظرفا للكون الذي في خبر (إِنَ) ، أي كائنون في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار. فالمعنى : أنهم في ضلال وسعر يوم القيامة و (سُعُرٍ) جمع سعير ، وهو النار ، وجمع السعير لأنه قوي شديد.

والسحب : الجرّ ، وهو في النار أشد من ملازمة المكان لأنه به يتجدد مماسة نار أخرى فهو أشد تعذيبا.

وجعل السحب على الوجوه إهانة لهم.

و (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) مقول قول محذوف ، والجملة مستأنفة. والذوق مستعار للإحساس.

وصيغة الأمر مستعملة في الإهانة والمجازاة.

والمس مستعمل في الإصابة على طريقة المجاز المرسل.

وسقر : علم على جهنم ، وهو مشتق من السّقر بسكون القاف وهو التهاب في النار ، ف (سَقَرَ) وضع علما لجهنم ، ولذلك فهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث ، لأن جهنم اسم مؤنث معنى اعتبروا فيه أن مسماه نار والنار مؤنثة.

والآية تتحمل معنى آخر ، وهو أن يراد بالضلال ضد الهدى وأن الإخبار عن المجرمين بأنهم ليسوا على هدى ، وأن ما هم فيه باطل وضلال ، وذلك في الدنيا ، وأن يراد بالسّعر نيران جهنم وذلك في الآخرة فيكون الكلام على التقسيم.

أو يكون السّعر بمعنى الجنون ، يقال : سعر بضمتين وسعر بسكون العين ، أي جنون ، من قول العرب ناقة مسعورة ، أي شديدة السرعة كأن بها جنونا كما تقدم عند قوله تعالى : (إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) في هذه السورة [٢٤].

وروي عن ابن عباس وفسر به أبو علي الفارسي قائلا : لأنهم إن كانوا في السعير لم يكونوا في ضلال لأن الأمر قد كشف لهم وإنما وصف حالهم في الدنيا ، وعليه فالضلال والسعر حاصلان لهم في الدنيا.

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩))

٢٠٤

استئناف وقع تذييلا لما قبله من الوعيد والإنذار والاعتبار بما حلّ بالمكذبين ، وهو أيضا توطئة لقوله : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) [القمر : ٥٠] إلخ.

والمعنى : إنا خلقنا وفعلنا كلّ ما ذكر من الأفعال وأسبابها وآلاتها وسلّطناه على مستحقيه لأنا خلقنا كل شيء بقدر ، أي فإذا علمتم هذا فانتبهوا إلى أن ما أنتم عليه من التكذيب والإصرار مماثل لما كانت عليه الأمم السالفة.

واقتران الخبر بحرف (إنّ) يقال فيه ما قلناه في قوله : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) [القمر : ٤٧].

والخلق أصله : إيجاد ذات بشكل مقصود فهو حقيقة في إيجاد الذوات ، ويطلق مجازا على إيجاد المعاني التي تشبه الذوات في التميز والوضوح كقوله تعالى : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) [العنكبوت : ١٧].

فإطلاقه في قوله : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.

و (شَيْءٍ) معناه موجود من الجواهر والأعراض ، أي خلقنا كل الموجودات جواهرها وأعراضها بقدر.

والقدر : بتحريك الدال مرادف القدر بسكونها وهو تحديد الأمور وضبطها.

والمراد : أن خلق الله الأشياء مصاحب لقوانين جارية على الحكمة ، وهذا المعنى قد تكرر في القرآن كقوله في سورة الرعد [٨] (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) ومما يشمله عموم كل شيء خلق جهنم للعذاب.

وقد أشار إلى أن الجزاء من مقتضى الحكمة قوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥] وقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ* إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) [الحجر : ٨٥ ، ٨٦] وقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ* ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ* إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) [الدخان : ٣٨ ـ ٤٠] فترى هذه الآيات وأشباهها تعقّب ذكر كون الخلق كله لحكمة بذكر الساعة ويوم الجزاء. فهذا وجه تعقيب آيات الإنذار والعقاب المذكورة في هذه السورة بالتذييل بقوله: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) بعد قوله : (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) [القمر : ٤٣] وسيقول : (وَلَقَدْ

٢٠٥

أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) [القمر : ٥١].

فالباء في (بِقَدَرٍ) للملابسة ، والمجرور ظرف مستقر ، فهو في حكم المفعول الثاني لفعل (خَلَقْناهُ) لأنه مقصود بذاته ، إذ ليس المقصود الإعلام بأن كل شيء مخلوق لله ، فإن ذلك لا يحتاج إلى الإعلام به بله تأكيده بل المقصود إظهار معنى العلم والحكمة في الجزاء كما في قوله تعالى في سورة الرعد [٨] (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ).

ومما يستلزمه معنى القدر أن كل شيء مخلوق هو جار على وفق علم الله وإرادته لأنه خالق أصول الأشياء وجاعل القوى فيها لتنبعث عنها آثارها ومتولّداتها ، فهو عالم بذلك ومريد لوقوعه. وهذا قد سمي بالقدر في اصطلاح الشريعة كما جاء في حديث جبريل الصحيح في ذكر ما يقع به الإيمان : «وتؤمن بالقدر خيره وشره».

وأخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة : «جاء مشركو قريش يخاصمون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في القدر فنزلت : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ* إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر : ٤٨ ، ٤٩]. ولم يذكر راوي الحديث تعيين معنى القدر الذي خاصم فيه كفار قريش فبقي مجملا ويظهر أنهم خاصموا جدلا ليدفعوا عن أنفسهم التعنيف بعبادة الأصنام كما قالوا : (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) [الزخرف : ٢٠] ، أي جدلا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بموجب ما يقوله من أن كل كائن بقدر الله جهلا منهم بمعاني القدر.

قال عياض في «الإكمال» «ظاهره أن المراد بالقدر هنا مراد الله ومشيئته وما سيق به قدره من ذلك ، وهو دليل مساق القصة التي نزلت بسببها الآية» اه. وقال الباجي في «المنتقى» : «يحتمل من جهة اللغة معاني :

أحدها : أن يكون القدر هاهنا بمعنى مقدر لا يزاد عليه ولا ينقص كما قال تعالى : (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) [الطلاق : ٣].

والثاني : أن المراد أنه بقدرته ، كما قال : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) [القيامة : ٤].

والثالث : بقدر ، أي نخلقه في وقته ، أي نقدّر له وقتا نخلقه فيه» اه.

قلت : وإذ كان لفظ (قدر) جنسا ، ووقع معلّقا بفعل متعلق بضمير (كُلَّ شَيْءٍ) الدال على العموم كان ذلك اللفظ عاما للمعاني كلها فكل ما خلقه الله فخلقه بقدر ، وسبب النزول لا يخصص العموم ، ولا يناكد موقع هذا التذييل على أن السلف كانوا يطلقون

٢٠٦

سبب النزول على كل ما نزلت الآية للدلالة عليه ولو كانت الآية سابقة على ما عدّوه من السبب.

واعلم أن الآية صريحة في أن كل ما خلقه الله كان بضبط جاريا على حكمة ، وأما تعيين ما خلقه الله مما ليس مخلوقا له من أفعال العباد مثلا عند القائلين بخلق العباد أفعالهم كالمعتزلة أو القائلين بكسب العبد كالأشعرية ، فلا حجة بالآية عليهم لاحتمال أن يكون مصب الإخبار هو مضمون (خَلَقْناهُ) أو مضمون (بِقَدَرٍ) ، ولاحتمال عموم (كُلَّ شَيْءٍ) للتخصيص ، ولاحتمال المراد بالشيء ما هو ، وليس نفي حجيّة هذه الآية على إثبات القدر الذي هو محل النزاع بين الناس بمبطل ثبوت القدر من أدلة أخرى.

وحقيقة القدر الاصطلاحي خفيّة فإن مقدار تأثر الكائنات بتصرفات الله تعالى وبتسبب أسبابها ونهوض موانعها لم يبلغ علم الإنسان إلى كشف غوامضه ومعرفة ما مكّن الله الإنسان من تنفيذ لما قدّره الله ، والأدلة الشرعية والعقلية تقتضي أن الأعمال الصالحة والأعمال السيئة سواء في التأثر لإرادة الله تعالى وتعلق قدرته إذا تعلقت بشيء ، فليست نسبة آثار الخير إلى الله دون نسبة أثر الشر إليه إلا أدبا مع الخالق لقنه الله عبيده ، ولو لا أنها منسوبة في التأثر لإرادة الله تعالى لكانت التفرقة بين أفعال الخير وأفعال الشر في النسبة إلى الله ملحقة باعتقاد المجوس بأنّ للخير إلها وللشر إلها ، وذلك باطل لقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وتؤمن بالقدر خيره وشره» ، وقوله : «القدرية مجوس هذه الأمة» رواه أبو داود بسنده إلى ابن عمر مرفوعا.

وانتصب (كُلَّ شَيْءٍ) على المفعولية ل (خَلَقْناهُ) على طريقة الاشتغال ، وتقديمه على (خَلَقْناهُ) ليتأكد مدلوله بذكر اسمه الظاهر ابتداء ، وذكر ضميره ثانيا ، وذلك هو الذي يقتضي العدول إلى الاشتغال في فصيح الكلام العربي فيحصل توكيد للمفعول بعد أن حصل تحقيق نسبة الفعل إلى فاعله بحرف إن المفيد لتوكيد الخبر وليتصل قوله : (بِقَدَرٍ) بالعامل فيه وهو (خَلَقْناهُ) ، لئلا يلتبس بالنعت لشيء لو قيل : إنا خلقنا كل شيء بقدر ، فيظن أن المراد : أنا خلقنا كل شيء مقدّر فيبقى السامع منتظرا لخبر إن.

(وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠))

عطف على قوله : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر : ٤٩] فهو داخل في التذييل ، أي خلقناه كل شيء بعلم ، فالمقصود منه وما يصلح له معلوم لنا فإذا جاء وقته الذي أعددناه

٢٠٧

حصل دفعة واحدة لا يسبقه اختبار ولا نظر ولا بداء. وسيأتي تحقيقه في آخر تفسير هذه الآية.

والغرض من هذا تحذيرهم من أن يأخذهم العذاب بغتة في الدنيا عند وجود ميقاته وسبق إيجاد أسبابه ومقوماته التي لا يتفطنون لوجودها ، وفي الآخرة بحلول الموت ثم بقيام الساعة.

وعطف هذا عقب (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر : ٤٩] مشعر بترتب مضمونه على مضمون المعطوف عليه في التنبيه والاستدلال حسب ما هو جار في كلام البلغاء من مراعاة ترتب معاني الكلام بعضها على بعض حتى قال جماعة من أئمة اللغة : الفراء وثعلب والربعي وقطرب وهشام وأبو عمرو الزاهد : إن العطف بالواو يفيد الترتيب ، وقال ابن مالك : الأكثر إفادته الترتيب.

والأمر في قوله : (وَما أَمْرُنا) يجوز أن يكون بمعنى الشأن ، فيكون المراد به الشأن المناسب لسياق الكلام ، وهو شأن الخلق والتكوين ، أي وما شأن خلقنا الأشياء.

ويجوز أن يكون بمعنى الإذن فيراد به أمر التكوين وهو المعبر عنه بكلمة «كن» والمآل واحد.

وعلى الاحتمالين فصفة (واحِدَةٌ) وصف لموصوف محذوف دل عليه الكلام هو خبر عن (أَمْرُنا). والتقدير : إلا كلمة واحدة ، وهي كلمة (كن) كما قال تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢].

والمقصود الكناية عن أسرع ما يمكن من السرعة ، أي وما أمرنا إلا كلمة واحدة. وذلك في تكوين العناصر والبسائط وكذلك في تكوين المركبات لأن أمر التكوين يتوجه إليها بعد أن تسبقه أوامر تكوينية بإيجاد أجزائها ، فلكل مكوّن منها أمر تكوين يخصه هو كلمة واحدة فتبين أن أمر الله التكويني كلمة واحدة ولا ينافي هذا قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [ق : ٣٨] ونحوه ، فخلق ذلك قد انطوى على مخلوقات كثيرة لا يحصر عددها كما قال تعالى : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) [الزمر : ٦] فكل خلق منها يحصل بكلمة واحدة كلمح البصر على أن بعض المخلوقات تتولد منه أشياء وآثار فيعتبر تكوينه عند إيجاد أوّله.

وصح الإخبار عن (أمر) وهو مذكّر ب (واحِدَةٌ) وهو مؤنث باعتبار أن ما صدق الأمر هنا هو أمر التسخير وهو الكلمة ، أي كلمة (كن).

٢٠٨

وقوله : (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) في موضع الحال من (أَمْرُنا) باعتبار الإخبار عنه بأنه كلمة واحدة ، أي حصول مرادنا بأمرنا كلمح بالبصر ، وهو تشبيه في سرعة الحصول ، أي ما أمرنا إلا كلمة واحدة سريعة التأثير في المتعلّقة هي به كسرعة لمح البصر.

وهذا التشبيه في تقريب الزمان أبلغ ما جاء في الكلام العربي وهو أبلغ من قول زهير :

فهن ووادي الرسّ كاليد للفم

وقد جاء في سورة النحل [٧٧] (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) فزيد هنالك (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) لأن المقام للتحذير من مفاجأة الناس بها قبل أن يستعدوا لها فهو حقيق بالمبالغة في التقريب ، بخلاف ما في هذه الآية فإنه لتمثيل أمر الله وذلك يكفي فيه مجرد التنبيه إذ لا يتردد السامع في التصديق به.

وقد أفادت هذه الآية إحاطة علم الله بكل موجود وإيجاد الموجودات بحكمة ، وصدورها عن إرادة وقدرة.

واللمح : النظر السريع وإخلاس النظر ، يقال : لمح البصر ، ويقال : لمح البرق كما يقال : لمع البرق. ولما كان لمح البصر أسرع من لمح البرق قال تعالى : (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) كما قال في سورة النحل [٧٧] (إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ).

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١))

التفت من طريق الغيبة إلى الخطاب ومرجع الخطاب هم المشركون لظهور أنهم المقصود بالتهديد ، وهو تصريح بما تضمنه قوله : (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) [القمر : ٤٣] فهو بمنزلة النتيجة لقوله : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) إلى (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر : ٤٩ ، ٥٠].

وهذا الخبر مستعمل في التهديد بالإهلاك وبأنه يفاجئهم قياسا على إهلاك الأمم السابقة ، وهذا المقصد هو الذي لأجله أكد الخبر بلام القسم وحرف (قد). أما إهلاك من قبلهم فهو معلوم لا يحتاج إلى تأكيد.

ولك أن تجعل مناط التأكيد إثبات أن إهلاكهم كان لأجل شركهم وتكذيبهم الرسل.

وتفريع (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) قرينة على إرادة المعنيين فإن قوم نوح بقوا أزمانا فما أقلعوا عن إشراكهم حتى أخذهم الطوفان بغتة. وكذلك عاد وثمود كانوا غير مصدقين بحلول العذاب

٢٠٩

بهم فلما حل بهم العذاب حل بهم بغتة ، وقوم فرعون خرجوا مقتفين موسى وبني إسرائيل واثقين بأنهم مدركوهم واقتربوا منهم وظنوا أنهم تمكنوا منهم فما راعهم إلا أن أنجى الله بني إسرائيل وانطبق البحر على الآخرين.

والمعنى : فكما أهلكنا أشياعكم نهلككم ، وكذلك كان ، فإن المشركين لمّا حلوا ببدر وهم أوفر عددا وعددا كانوا واثقين بأنهم منقذون عيرهم وهازمون المسلمين فقال أبو جهل وقد ضرب فرسه وتقدم إلى الصف «اليوم ننتصر من محمد وأصحابه» فلم تجل الخيل جولة حتى شاهدوا صناديدهم صرعى ببدر : أبا جهل ، وشيبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة ، وأمية بن خلف وغيرهم في سبعين رجلا ولم تقم لهم بعد ذلك قائمة.

والأشياع : جمع شيعة. والشيعة : الجماعة الذين يؤيدون من يضافون إليه ، وتقدم في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) في آخر سورة الأنعام [١٥٩].

وأطلق الأشياع هنا على الأمثال والأشباه في الكفر على طريق الاستعارة بتشبيههم وهم منقرضون بأشياع موجودين.

وفرع على هذا الإنذار قوله : (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) وتقدم نظيره في هذه السورة.

(وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢))

يجوز أن يكون الضمير المرفوع في قوله : (فَعَلُوهُ) عائدا إلى (أَشْياعَكُمْ) [القمر : ٥١] ، والمعنى : أهلكناهم بعذاب الدنيا وهيّأنا لهم عذاب الآخرة فكتب في صحائف الأعمال كل ما فعلوه من الكفر وفروعه ، فالكناية في الزبر وقعت هنا كناية عن لازمها وهو المحاسبة به فيما بعد وعن لازم لازمها وهو العقاب بعد المحاسبة.

وهذا الخبر مستعمل في التعريض بالمخاطبين بأنهم إذا تعرضوا لما يوقع عليهم الهلاك في الدنيا فليس ذلك قصارى عذابهم فإن بعده حسابا عليه في الآخرة يعذبون به وهذا كقوله تعالى : (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ) [الطور : ٤٧].

ويجوز عندي أن يكون الضمير عائدا إلى الجمع من قوله : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) [القمر: ٤٥] أو إلى (الْمُجْرِمِينَ) في قوله : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) [القمر: ٤٧] إلخ ، والمعنى كل شيء فعله المشركون من شرك وأذى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمسلمين معدود عليهم مهيأ عقابهم عليه لأن الإخبار عن إحصاء أعمال الأمم الماضين قد أغنى عنه الإخبار عن

٢١٠

إهلاكهم ، فالأجدر تحذير الحاضرين من سوء أعمالهم.

و (الزُّبُرِ) : جمع زبور وهو الكتاب مشتق من الزبر ، وهو الكتابة ، وجمعت الزبر لأن لكل واحد كتاب أعماله ، قال تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً* اقْرَأْ كِتابَكَ) [الإسراء : ١٣ ، ١٤] الآية.

وعموم (كُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ) مراد به خصوص ما كان من الأفعال عليه مؤاخذة في الآخرة.

(وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣))

هذا كالتذييل لقوله : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) [القمر : ٥٢] فكل صغير وكبير أعمّ من كل شيء فعلوه ، والمعنى : وكل شيء حقير أو عظيم مستطر ، أي مكتوب مسطور ، أي في علم الله تعالى أي كل ذلك يعلمه الله ويحاسب عليه ، فمستطر : اسم مفعول من سطر إذا كتب سطورا قال تعالى : (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) [الطور : ٢].

وهذا كقوله تعالى : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٥٩] وقوله : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٣].

فالصغير : مستعار للشيء الذي لا شأن له ولا يهتم به الناس ولا يؤاخذ عليه فاعله ، أو لا يؤاخذ عليه مؤاخذة عظيمة. والكبير : مستعار لضده ويدخل في ذلك ما له شأن من الصلاح وما له شأن من الفساد وما هو دون ذلك ، وذلك أفضل الأعمال الصالحة وما دونه من الأعمال الصالحة ، وكذلك كبائر الإثم والفواحش وما دونها من اللمم والصغائر.

والمستطر : كناية عن علم الله به وذلك كناية عن الجزاء عليه مكان ذلك جامعا للتبشير والإنذار.

[٥٤ ، ٥٥] (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥))

استئناف بياني لأنه لما ذكر أن كل صغير وكبير مستطر على إرادة أنه معلوم ومجازى عليه وقد علم جزاء المجرمين من قوله : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) [القمر : ٤٧] كانت نفس السامع بحيث تتشوف إلى مقابل ذلك من جزاء المتقين وجريا على عادة القرآن من

٢١١

تعقيب النذارة بالبشارة والعكس.

وافتتاح هذا الخبر بحرف (إِنَ) للاهتمام به.

و (فِي) من قوله : (فِي جَنَّاتٍ) للظرفية المجازية التي هي بمعنى التلبس القوي كتلبس المظروف بالظرف ، والمراد في نعيم جنات ونهر فإن للجنات والأنهار لذات متعارفة من اللهو والأنس والمحادثة ، واجتناء الفواكه ، ورؤية جريان الجداول وخرير الماء ، وأصوات الطيور ، وألوان السوابح.

وبهذا الاعتبار عطف (نَهَرٍ) على (جَنَّاتٍ) إذ ليس المراد الإخبار بأنهم ساكنون جنات فإن ذلك يغني عنه قوله بعد : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) ، ولا أنهم منغمسون في أنهار إذ لم يكن ذلك مما يقصده السامعون.

ونهر : بفتحتين لغة في نهر بفتح فسكون. والمراد به اسم الجنس الصادق بالمتعدد لقوله تعالى : (مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) [الأعراف : ٤٣] ، وقوله : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) إما في محل الحال من المتقين وإما في محل الخبر الثاني ل (إِنَ).

والمقعد : مكان القعود. والقعود هنا بمعنى الإقامة المطمئنة كما في قوله تعالى : (اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) [التوبة : ٤٦].

والصدق : أصله مطابقة الخبر للواقع ثم شاعت له استعمالات نشأت عن مجاز أو استعارة ترجع إلى معنى مصادفة أحد الشّيء على ما يناسب كمال أحوال جنسه ، فيقال : هو رجل صدق ، أي تمام رجلة ، وقال تأبط شرا :

إني لمهد من ثنائي فقاصد

به لابن عمّ الصدق شمس بن مالك

أي ابن العم حقا ، أي موف بحق القرابة.

وقال تعالى : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) [يونس : ٩٣] وقال في دعاء إبراهيم عليه‌السلام (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء : ٨٤] ويسمى الحبيب الثابت المحبة صديقا وصدّيقا.

فمقعد صدق ، أي مقعد كامل في جنسه مرضي للمستقر فيه فلا يكون فيه استفزاز ولا زوال ، وإضافة (مَقْعَدِ) إلى (صِدْقٍ) من إضافة الموصوف إلى صفته للمبالغة في تمكن الصفة منه.

٢١٢

والمعنى : هم في مقعد يشتمل على كل ما يحمده القاعد فيه.

والمليك : فعيل بمعنى المالك مبالغة وهو أبلغ من ملك ، ومقتدر : أبلغ من قادر ، وتنكيره وتنكير مقتدر للتعظيم.

والعندية عندية تشريف وكرامة ، والظرف خبر بعد خبر.

٢١٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٥٥ ـ سورة الرحمن

وردت تسميتها «بسورة الرحمن» في أحاديث منها ما رواه الترمذي عن جابر بن عبد الله قال : «خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أصحابه فقرأ سورة الرحمن» الحديث.

وفي «تفسير القرطبي» أن قيس بن عاصم المنقري قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتل عليّ ما أنزل عليك ، فقرأ عليه سورة الرحمن ، فقال : أعدها ، فأعادها ثلاثا ، فقال : إن له لحلاوة» إلخ.

وكذلك سميت في كتب السنة وفي المصاحف.

وذكر في «الإتقان» : أنها تسمى «عروس القرآن» لما رواه البيهقي في «شعب الإيمان» عن علي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لكل شيء عروس وعروس القرآن سورة الرحمن». وهذا لا يعدو أن يكون ثناء على هذه السورة وليس هو من التسمية في شيء كما روي أن سورة البقرة فسطاط القرآن (١).

ووجه تسمية هذه السورة بسورة الرحمن أنها ابتدئت باسمه تعالى : (الرَّحْمنُ) [الرحمن : ١].

__________________

(١) الظاهر أن معنى : لكل شيء عروس ، أي لكل جنس أو نوع واحد من جنسه يزينه تقول العرب : عرائس الإبل لكرائمها فإن العروس تكون مكرمة مزينة مرعية من جمع الأهل بالخدمة والكرامة ، ووصف سورة الرحمن بالعروس تشبيه ما تحتوي عليه من ذكر الحبرة والنعيم في الجنة بالعروس في المسرة والبذخ ، تشبيه معقول بمحسوس ومن أمثال العرب : لا عطر بعد عروس (على أحد تفسيرين للمثل) أو تشبيه ما كثر فيها من تكرير (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) بما يكثر على العروس من الحلي في كل ما تلبسه.

٢١٤

وقد قيل : إن سبب نزولها قول المشركين المحكي في قول تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) في سورة الفرقان [٦٠] ، فتكون تسميتها باعتبار إضافة «سورة» إلى «الرحمن» على معنى إثبات وصف الرحمن.

وهي مكية في قول جمهور الصحابة والتابعين ، وروى جماعة عن ابن عباس : أنها مدنية نزلت في صلح القضية عند ما أبى سهيل بن عمرو أن يكتب في رسم الصلح «بسم الله الرحمن الرحيم».

ونسب إلى ابن مسعود أيضا أنها مدنية. وعن ابن عباس : أنها مكية سوى آية منها هي قوله : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن : ٢٩]. والأصح أنها مكية كلها ، وهي في مصحف ابن مسعود أول المفصل. وإذا صح أن سبب نزولها قول المشركين (وَمَا الرَّحْمنُ) تكون نزلت بعد سورة الفرقان.

وقيل سبب نزولها قول المشركين (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) المحكي في سورة النحل [١٠٣]. فرد الله عليهم بأن الرحمن هو الذي علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن.

وهي من أول السور نزولا فقد أخرج أحمد في «مسنده» بسند جيّد عن أسماء بنت أبي بكر قالت : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر والمشركون يسمعون يقرأ : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ). وهذا يقتضي أنها نزلت قبل سورة الحجر. وللاختلاف فيها لم تحقق رتبتها في عداد نزول سور القرآن. وعدّها الجعبري ثامنة وتسعين بناء على القول بأنها مدنيّة وجعلها بعد سورة الرعد وقبل سورة الإنسان.

وإذ كان الأصح أنها مكية وأنها نزلت قبل سورة الحجر وقبل سورة النحل وبعد سورة الفرقان ، فالوجه أن تعد ثالثة وأربعين بعد سورة الفرقان وقبل سورة فاطر.

وعد أهل المدينة ومكة آيها سبعا وسبعين ، وأهل الشام والكوفة ثمانيا وسبعين لأنهم عدوا الرحمن آية ، وأهل البصرة ستا وسبعين.

أغراض هذه السورة

ابتدئت بالتنويه بالقرآن قال في «الكشاف» : «أراد الله أن يقدم في عدد آلائه أول شيء ما هو أسبق قدما من ضروب آلائه وأصناف نعمائه وهي نعمة الدين فقدّم من نعمة الدين ما هو أعلى مراتبها وأقصى مراقبها وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه ، وأخّر ذكر

٢١٥

خلق الإنسان عن ذكره ثم أتبعه إياه ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان من البيان» اه.

وتبع ذلك من التنويه بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله هو الذي علمه القرآن ردّا على مزاعم المشركين الذين يقولون : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) [النحل : ١٠٣] ، وردا على مزاعمهم أن القرآن أساطير الأولين أو أنه سحر أو كلام كاهن أو شعر.

ثم التذكير بدلائل قدرة الله تعالى فيما أتقن صنعه مدمجا في ذلك التذكير بما في ذلك كله من نعم على الناس.

وخلق الجن وإثبات جزائهم.

والموعظة بالفناء وتخلص من ذلك إلى التذكير بيوم الحشر والجزاء. وختمت بتعظيم الله والثناء عليه.

وتخلل ذلك إدماج التنويه بشأن العدل ، والأمر بتوفية أصحاب الحقوق حقوقهم ، وحاجة الناس إلى رحمة الله فيما خلق لهم ، ومن أهمها نعمة العلم ونعمة البيان ، وما أعد من الجزاء للمجرمين ومن الثواب والكرامة للمتقين ووصف نعيم المتقين.

ومن بديع أسلوبها افتتاحها الباهر باسمه (الرَّحْمنُ) وهي السورة الوحيدة المفتتحة باسم من أسماء الله لم يتقدمه غيره.

ومنه التعداد في مقام الامتنان والتعظيم بقوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) إذ تكرر فيها إحدى وثلاثين مرة وذلك أسلوب عربي جليل كما سنبينه.

[١ ، ٢] (الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢))

هذه آية واحدة عند جمهور العادّين. ووقع في المصاحف التي برواية حفص عن عاصم علامة آية عقب كلمة (الرَّحْمنُ) ، إذ عدّها قراء الكوفة آية فلذلك عد أهل الكوفة آي هذه السورة ثمانيا وسبعين. فإذا جعل اسم (الرَّحْمنُ) آية تعين أن يكون اسم «الرحمن»: إما خبرا لمبتدإ محذوف تقديره : هو الرحمن ، أو مبتدأ خبره محذوف يقدر بما يناسب المقام.

ويجوز أن يكون واقعا موقع الكلمات التي يراد لفظها للتنبيه على غلط المشركين إذ أنكروا هذا الاسم قال تعالى : (قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) كما تقدم في سورة الفرقان [٦٠] ، فيكون موقعه شبيها بموقع الحروف المقطّعة التي يتهجّى بها في أوائل بعض السور على

٢١٦

أظهر الوجوه في تأويلها وهو التعريض بالمخاطبين بأنهم أخطئوا في إنكارهم الحقائق.

وافتتح باسم (الرَّحْمنُ) فكان فيه تشويق جميع السامعين إلى الخبر الذي يخبر به عنه إذ كان المشركون لا يألفون هذا الاسم قال تعالى : (قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) [الفرقان : ٦٠] ، فهم إذا سمعوا هذه الفاتحة ترقبوا ما سيرد من الخبر عنه ، والمؤمنون إذا طرق أسماعهم هذا الاسم استشرفوا لما سيرد من الخبر المناسب لوصفه هذا مما هم متشوقون إليه من آثار رحمته.

على أنه قد قيل : إن هذه السورة نزلت بسبب قول المشركين في النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) [النحل : ١٠٣] ، أي يعلمه القرآن فكان الاهتمام بذكر الذي يعلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن أقوى من الاهتمام بالتعليم.

وأوثر استحضار الجلالة باسم (الرَّحْمنُ) دون غيره من الأسماء لأن المشركين يأبون ذكره فجمع في هذه الجملة بين ردّين عليهم مع ما للجملة الاسمية من الدلالة على ثبات الخبر ، ولأن معظم هذه السورة تعداد للنعم والآلاء فافتتاحها باسم (الرَّحْمنُ) براعة استهلال.

وقد أخبر عن هذا الاسم بأربعة أخبار متتالية غير متعاطفة رابعها هو جملة (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) [الرحمن : ٥] كما سيأتي لأنها جيء بها على نمط التعديد في مقام الامتنان والتوقيف على الحقائق والتبكيت للخصم في إنكارهم صريح بعضها ، وإعراضهم عن لوازم بعضها كما سيأتي ، ففصل جملتي (خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ) [الرحمن : ٣ ، ٤] عن جملة (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) خلاف مقتضى الظاهر لنكتة التعديد للتبكيت.

وعطف عليها أربعة أخر بحرف العطف من قوله : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) إلى قوله : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) [الرحمن : ٦ ـ ١٠] وكلها دالة على تصرفات الله ليعلمهم أن الاسم الذي استنكروه هو اسم الله وأن المسمى واحد.

وجيء بالمسند فعلا مؤخرا عن المسند إليه لإفادة التخصيص ، أي هو علّم القرآن لا بشر علمه وحذف المفعول الأول لفعل (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) لظهوره ، والتقدير : علّم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم ادعوا أنه معلّم وإنما أنكروا أن يكون معلّمه القرآن هو الله تعالى وهذا تبكيت أول.

وانتصب (الْقُرْآنَ) على أنه مفعول ثان لفعل (عَلَّمَ) ، وهذا الفعل هنا معدّى إلى مفعولين فقط لأنه ورد على أصل ما يفيده التضعيف من زيادة مفعول آخر مع فاعل فعله

٢١٧

المجرد ، وهذا المفعول هنا يصلح أن يتعلق به التعليم إذ هو اسم لشيء متعلق به التعليم وهو القرآن ، فهو كقول معن بن أوس :

أعلّمه الرماية كلّ يوم

وقوله تعالى : (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ) في سورة العقود [١١٠] وقوله : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) في سورة يس [٦٩] ، ولا يقال : علّمته زيدا صديقا ، وإنما يقال : أعلمته زيدا صديقا ، ففعل علم إذا ضعّف كان بمعنى تحصيل التعليم بخلافه إذ عدّي بالهمزة فإنه يكون لتحصيل الإخبار والإنباء.

وقد عدد الله في هذه السورة نعما عظيمة على الناس كلهم في الدنيا ، وعلى المؤمنين خاصة في الآخرة وقدم أعظمها وهو نعمة الدين لأن به صلاح الناس في الدنيا ، وباتباعهم إياه يحصل لهم الفوز في الآخرة. ولما كان دين الإسلام أفضل الأديان ، وكان هو المنزّل للناس في هذا الإبّان ، وكان متلقى من أفضل الوحي والكتب الإلهية وهو القرآن ، قدمه في الإعلام وجعله مؤذنا بما يتضمنه من الدين ومشيرا إلى النعم الحاصلة بما بين يديه من الأديان كما قال: (هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) [الأنعام : ٩٢].

ومناسبة اسم (الرَّحْمنُ) لهذه الاعتبارات منتزعة من قوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧].

و (الْقُرْآنَ) : اسم غلب على الوحي اللفظي الذي أوحي به إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم للإعجاز بسورة منه وتعبّد ألفاظه.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣))

خبر ثان ، والمراد بالإنسان جنس الإنسان وهذا تمهيد للخبر الآتي وهو (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) [الرحمن : ٤].

وهذه قضية لا ينازعون فيها ولكنهم لما أعرضوا عن موجبها وهو إفراد الله تعالى بالعبادة ، سيق لهم الخبر بها على أسلوب التعديد بدون عطف كالذي يعد للمخاطب مواقع أخطائه وغفلته ، وهذا تبكيت ثان.

ففي خلق الإنسان دلالتان : أولاهما : الدلالة على تفرد الله تعالى بالإلهية ،

٢١٨

وثانيتهما : الدلالة على نعمة الله على الإنسان.

والخلق : نعمة عظيمة لأن فيها تشريفا للمخلوق بإخراجه من غياهب العدم إلى مبرز الوجود في الأعيان ، وقدّم خلق الإنسان على خلق السماوات والأرض لما علمت آنفا من مناسبة إردافه بتعليم القرآن.

ومجيء المسند فعلا بعد المسند إليه يفيد تقوّي الحكم. ولك أن تجعله للتخصيص بتنزيلهم منزلة من ينكر أن الله خلق الإنسان لأنهم عبدوا غيره.

(عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤))

خبر ثالث تضمن الاعتبار بنعمة الإبانة عن المراد والامتنان بها بعد الامتنان بنعمة الإيجاد ، أي علّم جنس الإنسان أن يبين عما في نفسه ليفيده غيره ويستفيد هو.

والبيان : الإعراب عما في الضمير من المقاصد والأغراض وهو النطق وبه تميز الإنسان عن بقية أنواع الحيوان فهو من أعظم النعم.

وأما البيان بغير النطق من إشارة وإيماء ولمح النظر فهو أيضا من مميزات الإنسان وإن كان دون بيان النطق.

ومعنى تعليم الله الإنسان البيان : أنه خلق فيه الاستعداد لعلم ذلك وألهمه وضع اللغة للتعارف ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) في سورة البقرة [٣١].

وفيه الإشارة إلى أن نعمة البيان أجل النعم على الإنسان ، فعدّ نعمة التكاليف الدينية وفيه تنويه بالعلوم الزائدة في بيان الإنسان وهي خصائص اللغة وآدابها.

ومجيء المسند فعلا بعد المسند إليه لإفادة تقوّي الحكم.

وفيه من التبكيت ما علمته آنفا ، ووجهه أنهم لم يشكروه على نعمة البيان إذ صرفوا جزءا كبيرا من بيانهم فيما يلهيهم عن إفراد الله بالعبادة وفيما ينازعون به من يدعوهم إلى الهدى.

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥))

جملة هي خبر رابع عن الرحمن وإلّا كان ذكره هنا بدون مناسبة فينقلب اعتراضا. ورابط الجملة بالمبتدإ تقديره : بحسبانه ، أي حسبان الرحمن وضبطه.

٢١٩

وهذا استدلال على التفرد بخلق كوكب الشمس وكرة القمر وامتنان بما أودع فيهما من منافع للناس ، ونظام سيرهما الذي به تدقيق نظام معاملات الناس واستعدادهم لما يحتاجون إليه عند تغيرات أجوائهم وأرزاقهم. ويتضمن الامتنان بما في ذلك من منافعهم. وفي كون هذا الخبر جاريا على أسلوب التعديد ما قد علمت آنفا من التبكيت ، ووجهه أنهم غفلوا عما في نظام الشمس والقمر من الحكمة وما يدل عليه ذلك النظام من تفرد الله بتقديره ، فاشتغل بعضهم بعبادة الشمس وبعضهم بعبادة القمر كما قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [فصلت : ٣٧].

وجيء بهذه الجملة اسمية للتهويل بالابتداء باسم الشمس والقمر ، وللدلالة على أن حسبانهما ثابت لا يتغير منذ بدء الخلق مؤذن بحكمة الخالق. واستغني بجعل اسم الشمس والقمر مسندا إليهما عن تفكيك المسند إلى مسندين : أحدهما : يدل على الاستدلال ، والآخر يدل على الامتنان ، كما وقع في قوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ) [الرحمن : ٣ ، ٤].

والحسبان : مصدر حسب بمعنى عد مثل الغفران.

والباء للملابسة وهي ظرف مستقر هو خبر عن الشمس والقمر ، والتقدير : كائنان بحسبان ، أي بملابسة حسبان ، أي لحساب الناس مواقع سيرهما.

وإسناد هذه الملابسة إلى الشمس والقمر مجازي عقلي لأن الشمس والقمر سبب لتلبس الناس بحسابهما كما تقول : أنت بعناية مني ، جعلت عنايتك ملابسة للمخاطب ملابسة اعتبارية ، وقوله تعالى : (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [الطور : ٤٨] ، وقد تقدم في قوله تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) في سورة الأنعام [٩٦]. والحسبان كناية عن انتظام سيرهما انتظاما مطردا لا يختل حساب الناس له والتوقيت به.

واقتصر على ذكر الشمس والقمر دون بقية الكواكب وإن كان فيها حسبان الأنواء ، والحرّ والبرد ، مثل الجوزاء ، والشعرى ، ومنزلة الأسد ، والثريا ، لأن هذين الكوكبين هما الباديان لجميع الناس لا يحتاج تعقل أحوالهما إلى تعليم توقيت مثل الكواكب الأخرى.

ولأن السورة هذه بنيت على ذكر الأمور المزدوجة والشمس والقمر مزدوجان في معارف عموم الناس فالشمس : كوكب سماوي لأنه أعلى من الأرض والأرض تدور حوله

٢٢٠