تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٨

والإعراض والتولي كلاهما مستعمل هنا في مجازه ؛ فأما الإعراض فهو مستعار لترك المجادلة أو لترك الاهتمام بسلامتهم من العذاب وغضب الله ، وأما التولي فهو مستعار لعدم الاستماع أو لعدم الامتثال.

وحقيقة الإعراض : لفت الوجه عن الشيء لأنه مشتق من العارض وهو صفحة الخد لأن الكاره لشيء يصرف عنه وجهه.

وحقيقة التولي : الإدبار والانصراف ، وإعراض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهم المأمور به مراد به عدم الاهتمام بنجاتهم لأنهم لم يقبلوا الإرشاد وإلا فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمور بإدامة دعوتهم للإيمان فكما كان يدعوهم قبل نزول هذه الآية فقد دعاهم غير مرة بعد نزولها ، على أن الدعوة لا تختص بهم فإنها ينتفع بها المؤمنون ، ومن لم يسبق منه إعراض من المشركين فإنهم يسمعون ما أنذر به المعرضون ويتأملون فيما تصفهم به آيات القرآن ، وبهذا تعلم أن لا علاقة لهذه الآية وأمثالها بالمتاركة ولا هي منسوخة بآيات القتال.

وقد تقدم الكلام على ذلك في قوله : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ) في سورة النساء [٦٣] وقوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) في سورة الأنعام [١٠٦] ، فضم إليه ما هنا.

وما صدق (مَنْ تَوَلَّى) القوم الذين تولوا وإنما جرى الفعل على صيغة المفرد مراعاة للفظ (مَنْ) ألا ترى قوله : (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ) بضمير الجمع.

وجيء بالاسم الظاهر في مقام الإضمار فقيل (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) دون : فأعرض عنهم لما تؤذن به صلة الموصول من علة الأمر بالإعراض عنهم ومن ترتب توليهم عن ذكر الله على ما سبق وصفه من ضلالهم إذ لم يتقدم وصفهم بالتولّي عن الذكر وإنما تقدم وصف أسبابه.

والذكر المضاف إلى ضمير الجلالة هو القرآن.

ومعنى (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) كناية عن عدم الإيمان بالحياة الآخرة كما دل عليه قوله : (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) لأنهم لو آمنوا بها على حقيقتها لأرادوها ولو ببعض أعمالهم.

وجملة (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) اعتراض وهو استئناف بياني بيّن به سبب جهلهم بوجود الحياة الآخرة لأنه لغرابته مما يسأل عنه السائل وفيه تحقير لهم وازدراء بهم بقصور معلوماتهم.

١٢١

وهذا الاستئناف وقع معترضا بين الجمل وعلتها في قوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) الآية.

وأعني حاصل قوله : (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا).

وقوله : (ذلِكَ) إشارة إلى المذكور في الكلام السابق من قوله : (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) استعير للشيء الذي لم يعلموه اسم الحد الذي يبلغ إليه السائر فلا يعلم ما بعده من البلاد.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى).

تعليل لجملة (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى) وهو تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخبر مستعمل في معنى أنه متولي حسابهم وجزائهم على طريقة الكناية ، وفيه وعيد للضالّين. والتوكيد المفاد ب (إِنَ) وبضمير الفصل راجع إلى المعنى الكنائي ، وأما كونه تعالى أعلم بذلك فلا مقتضى لتأكيدها لما كان المخاطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمعنى : هو أعلم منك بحالهم.

وضمير الفصل مفيد القصر وهو قصر حقيقي. والمعنى : أنت لا تعلم دخائلهم فلا تتحسر عليهم.

وجملة (وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) تتميم ، وفيه وعد للمؤمنين وبشارة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والباء في (بِمَنْ ضَلَ) وفي (بِمَنِ اهْتَدى) لتعدية صفتي (أَعْلَمُ) وهي للملابسة ، أي هو أشد علما ملابسا لمن ضل عن سبيله ، أي ملابسا لحال ضلاله ، وتقديم ذكر (بِمَنْ ضَلَ) على ذكر (بِمَنِ اهْتَدى) لأن الضالّين أهمّ في هذا المقام ، وأما ذكر المهتدين فتتميم.

[٣١ ، ٣٢] (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢))

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ).

عطف على قوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) إلخ فبعد أن ذكر أن لله أمور الدارين بقوله : (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) [النجم : ٢٥] انتقل إلى أهم ما يجري في

١٢٢

الدارين من أحوال الناس الذين هم أشرف ما على الأرض بمناسبة قوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) [النجم : ٣٠] المراد به الإشارة إلى الجزاء وهو إثبات لوقوع البعث والجزاء.

فالمقصود الأصلي من هذا الكلام هو قوله : (وَما فِي الْأَرْضِ) لأن المهم ما في الأرض إذ هم متعلق الجزاء ، وإنما ذكر معه ما في السماوات على وجه التتميم للإعلام بإحاطة ملك الله لما احتوت عليه العوالم كلها ونكتة الابتداء بالتتميم دون تأخيره الذي هو مقتضى ظاهر في التتميمات هي الاهتمام بالعالم العلوي لأنه أوسع وأشرف وليكون المقصود وهو قوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) الآية مقترنا بما يناسبه من ذكر ما في الأرض لأن المجزيين هم أهل الأرض ، فهذه نكتة مخالفة مقتضى الظاهر.

فيجوز أن يتعلق قوله : (لِيَجْزِيَ) بما في الخبر من معنى الكون المقدّر في الجار والمجرور المخبر به عن (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي كائن ملكا لله كونا علته أن يجزي الذين أساءوا والذين أحسنوا من أهل الأرض ، وهم الذين يصدر منهم الإساءة والإحسان فاللام في قوله : (لِيَجْزِيَ) لام التعليل ، جعل الجزاء علة لثبوت ملك الله لما في السموات والأرض.

ومعنى هذا التعليل أنّ من الحقائق المرتبطة بثبوت ذلك الملك ارتباطا أوّليّا في التعقل والاعتبار لا في إيجاد فإن ملك الله لما في السماوات وما في الأرض ناشئ عن إيجاد الله تلك المخلوقات والله حين أوجدها عالم أن لها حياتين وأن لها أفعالا حسنة وسيئة في الحياة الدنيا وعالم أنه مجزيها على أعمالها بما يناسبها جزاء خالدا في الحياة الآخرة فلا جرم كان الجزاء غاية لإيجاد ما في الأرض فاعتبر هو العلة في إيجادهم وهي علة باعثة يحتمل أن يكون معها غيرها لأن العلة الباعثة يمكن تعددها في الحكمة.

ويجوز أن يتعلق بقوله : (أَعْلَمُ) من قوله : (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) [النجم : ٣٠] ، أي من خصائص علمه الذي لا يعزب عنه شيء أن يكون علمه مرتبا عليه الجزاء.

والباءان في قوله : (بِما عَمِلُوا) وقوله : (بِالْحُسْنَى) لتعدية فعلي (لِيَجْزِيَ) و (يَجْزِيَ) فما بعد الباءين في معنى مفعول الفعلين ، فهما داخلتان على الجزاء ، وقوله : (بِما عَمِلُوا) حينئذ تقديره : بمثل ما عملوا ، أي جزاء عادلا مماثلا لما عملوا ، فلذلك جعل بمنزلة عين ما عملوه على طريقة التشبيه البليغ.

١٢٣

وقوله : (بِالْحُسْنَى) أي بالمثوبة الحسنى ، أي بأفضل مما عملوا ، وفيه إشارة إلى مضاعفة الحسنات كقوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) [النمل : ٨٩]. والحسنى : صفة لموصوف محذوف يدل عليه (يَجْزِيَ) وهي المثوبة بمعنى الثواب.

وجاء ترتيب التفصيل لجزاء المسيئين والمحسنين على وفق ترتيب إجماله الذي في قوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) [النجم : ٣٠] على طريقة اللف والنشر المرتب.

وقوله : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) إلخ صفة ل (الَّذِينَ أَحْسَنُوا) ، أي الذين أحسنوا واجتنبوا كبائر الإثم والفواحش ، أي فعلوا الحسنات واجتنبوا المنهيات ، وذلك جامع التقوى. وهذا تنبيه على أن اجتناب ما ذكر يعدّ من الإحسان لأن فعل السيئات ينافي وصفهم بالذين أحسنوا فإنهم إذا أتوا بالحسنات كلها ولم يتركوا السيئات كان فعلهم السيئات غير إحسان ولو تركوا السيئات وتركوا الحسنات كان تركهم الحسنات سيئات.

وقرأ الجمهور (كَبائِرَ الْإِثْمِ) بصيغة جمع (كبيرة). وقرأ حمزة والكسائي كبير الإثم بصيغة الإفراد والتذكير لأن اسم الجنس يستوي فيه المفرد والجمع.

والمراد بكبائر الإثم : الآثام الكبيرة فيما شرع الله وهي ما شدد الدين التحذير منه أو ذكر له وعيدا بالعذاب أو وصف على فاعله حدا.

قال إمام الحرمين : «الكبائر كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين وبرقة ديانته».

وعطف الفواحش يقتضي أن المعطوف بها مغاير للكبائر ولكنها مغايرة بالعموم والخصوص الوجهي ، فالفواحش أخص من الكبائر وهي أقوى إثما.

والفواحش : الفعلات التي يعد الذي فعلها متجاوزا الكبائر مثل الزنى والسرقة وقتل الغيلة ، وقد تقدم تفسير ذلك في سورة الأنعام عند قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) [الأعراف : ٣٣] الآية وفي سورة النساء [٣١] في قوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ).

واستثناء اللمم استثناء منقطع لأن اللمم ليس من كبائر الإثم ولا من الفواحش.

فالاستثناء بمعنى الاستدراك. ووجهه أن ما سمي باللمم ضرب من المعاصي المحذر

١٢٤

منها في الدين ، فقد يظن الناس أن النهي عنها يلحقها بكبائر الإثم فلذلك حق الاستدراك ، وفائدة هذا الاستدراك عامة وخاصة : أما العامة فلكي لا يعامل المسلمون مرتكب شيء منها معاملة من يرتكب الكبائر ، وأما الخاصة فرحمة بالمسلمين الذين قد يرتكبونها فلا يقل ارتكابها من نشاط طاعة المسلم ، ولينصرف اهتمامه إلى تجنب الكبائر. فهذا الاستدراك بشارة لهم ، وليس المعنى أن الله رخص في إتيان اللمم. وقد أخطأ وضاح اليمن في قوله الناشئ عن سوء فهمه في كتاب الله وتطفله في غير صناعته :

فما نوّلت حتى تضرعت عندها

وأنبأتها ما رخّص الله في اللّمم

واللمم : الفعل الحرام الذي هو دون الكبائر والفواحش في تشديد التحريم ، وهو ما يندر ترك الناس له فيكتفى منهم بعدم الإكثار من ارتكابه. وهذا النوع يسميه علماء الشريعة الصغائر في مقابلة تسمية النوع الآخر بالكبائر.

فمثلوا اللمم في الشهوات المحرمة بالقبلة والغمزة. سمي : اللمم ، وهو اسم مصدر ألمّ بالمكان إلماما إذا حلّ به ولم يطل المكث ، ومن أبيات الكتاب :

قريشي منكم وهواي معكم

وإن كانت زيارتكم لماما

وقد قيل إن هذه الآية نزلت في رجل يسمى نبهان التمّار كان له دكان يبيع فيه تمرا (أي بالمدينة) فجاءته امرأة تشتري تمرا فقال لها : إنّ داخل الدكان ما هو خير من هذا ، فلما دخلت راودها على نفسها فأبت فندم فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «ما من شيء يصنعه الرجل إلا وقد فعلته (أي غصبا عليها) إلا الجماع» ، فنزلت هذه الآية ، أي فتكون هذه الآية مدنية ألحقت بسورة النجم المكية كما تقدم في أول السورة.

والمعنى : أن الله تجاوز له لأجل توبته. ومن المفسرين من فسر اللّمم بالهمّ بالسيئة ولا يفعل فهو إلمام مجازي.

وقوله : (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) تعليل لاستثناء اللمم من اجتنابهم كبائر الإثم والفواحش شرطا في ثبوت وصف (الَّذِينَ أَحْسَنُوا) لهم.

وفي بناء الخبر على جعل المسند إليه (رَبَّكَ) دون الاسم العلم إشعار بأن سعة المغفرة رفق بعباده الصالحين شأن الرب مع مربوبه الحق.

وفي إضافة (رب) إلى ضمير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون ضمير الجماعة إيماء إلى أن هذه العناية بالمحسنين من أمته قد حصلت لهم ببركته.

١٢٥

والواسع : الكثير المغفرة ، استعيرت السعة لكثرة الشمول لأن المكان الواسع يمكن أن يحتوي على العدد الكثير ممن يحلّ فيه قال تعالى : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) ، وتقدم في سورة غافر [٧].

(هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى).

الخطاب للمؤمنين ، ووقوعه عقب قوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) ينبئ عن اتصال معناه بمعنى ذلك فهو غير موجه لليهود كما في «أسباب النزول» للواحدي وغيره. وأصله لعبد الله بن لهيعة عن ثابت بن حارث الأنصاري. قال : «كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير يقولون : هو صدّيق ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : كذبت يهود ، ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقي أو سعيد» ، فأنزل الله هذه الآية. وعبد الله بن لهيعة ضعفه ابن معين وتركه وكيع ويحيى القطان وابن مهدي. وقال الذهبي : العمل على تضعيفه ، قلت : لعل أحد رواة هذا الحديث لم يضبط فقال : فأنزل الله هذه الآية ، وإنما قرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذا بعموم قوله : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) إلخ ، حجة عليهم ، وإلّا فإن السورة مكية والخوض مع اليهود إنما كان بالمدينة.

وقال ابن عطية : حكى الثعلبي عن الكلبي ومقاتل أنها نزلت في قوم من المؤمنين فخروا بأعمالهم. وكأنّ الباعث على تطلب سبب لنزولها قصد إبداء وجه اتصال قوله : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) بما قبله وما بعده وأنه استيفاء لمعنى سعة المغفرة ببيان سعة الرحمة واللطف بعباده إذ سلك بهم مسلك اليسر والتخفيف فعفا عمّا لو آخذهم به لأحرجهم فقوله : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) نظير قوله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) [الأنفال : ٦٦] الآية ثم يجيء الكلام في التفريع بقوله : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ).

فينبغي أن تحل جملة (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) إلى آخرها استئنافا بيانيا لجملة (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) لما تضمنته جملة (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) من الامتنان ، فكأن السامعين لما سمعوا ذلك الامتنان شكروا الله وهجس في نفوسهم خاطر البحث عن سبب هذه الرحمة بهم فأجيبوا بأن ربهم أعلم بحالهم من أنفسهم فهو يدبر لهم ما لا يخطر ببالهم ، ونظيره ما في الحديث القدسي قال الله تعالى : «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر خيرا من بله ما اطّلعتم عليه».

١٢٦

وقوله : (إِذْ أَنْشَأَكُمْ) ظرف متعلق ب (أعلم) ، أي هو أعلم بالناس من وقت إنشائه إياهم من الأرض وهو وقت خلق أصلهم آدم.

والمعنى : أن إنشاءهم من الأرض يستلزم ضعف قدرهم عن تحمل المشاق مع تفاوت أطوار نشأة بني آدم ، فالله علم ذلك وعلم أن آخر الأمم وهي أمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أضعف الأمم. وهذا المعنى هو الذي جاء في حديث الإسراء من قول موسى لمحمد عليهما الصلاة والسلام حين فرض الله على أمته خمسين صلاة «إن أمتك لا تطيق ذلك وإني جربت بني إسرائيل»

أي وهم أشد من أمتك قوة ، فالمعنى أن الضعف المقتضي لسعة التجاوز بالمغفرة مقرر في علم الله من حين إنشاء آدم من الأرض بالضعف الملازم لجنس البشر على تفاوت فيه قال تعالى : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) [النساء : ٢٨] ، فإن إنشاء أصل الإنسان من الأرض وهي عنصر ضعيف يقتضي ملازمة الضعف لجميع الأفراد المنحدرة من ذلك الأصل. ومنه قوله النبي : «إن المرأة خلقت من ضلع أعوج».

وقوله : (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) يختص بسعة المغفرة والرفق بهذه الأمة وهو مقتضى قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥].

والأجنة : جمع جنين ، وهو نسل الحيوان ما دام في الرحم ، وهو فعيل بمعنى مفعول لأنه مستور في ظلمات ثلاث.

وفي (بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) صفة كاشفة إذ الجنين لا يقال إلا على ما في بطن أمه. وفائدة هذا الكشف أن فيه تذكيرا باختلاف أطوار الأجنة من وقت العلوق إلى الولادة ، وإشارة إلى إحاطة علم الله تعالى بتلك الأطوار.

وجملة (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) اعتراض بين جملة (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) وجملة (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) [النجم : ٣٣] إلخ ، والفاء لتفريع الاعتراض ، وهو تحذير للمؤمنين من العجب بأعمالهم الحسنة عجبا يحدثه المرء في نفسه أو يدخله أحد على غيره بالثناء عليه بعمله.

و (تُزَكُّوا) مضارع زكى الذي هو من التضعيف المراد منه نسبة المفعول إلى أصل الفعل نحو جهّله ، أي لا تنسبوا لأنفسكم الزكاة.

فقوله : (أَنْفُسَكُمْ) صادق بتزكية المرء نفسه في سره أو علانيته فرجع الجمع في قوله : (فَلا تُزَكُّوا) إلى مقابلة الجمع بالجمع التي تقتضي التوزيع على الآحاد مثل : ركب القوم دوابهم.

١٢٧

والمعنى : لا تحسبوا أنفسكم أزكياء وابتغوا زيادة التقرب إلى الله أو لا تثقوا بأنكم أزكياء فيدخلكم العجب بأعمالكم ويشمل ذلك ذكر المرء أعماله الصالحة للتفاخر بها ، أو إظهارها للناس ، ولا يجوز ذلك إلا إذا كان فيه جلب مصلحة عامة كما قال يوسف : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف : ٥٥]. وعن الكلبي ومقاتل : كان ناس يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجنا وجهادنا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

ويشمل تزكية المرء غيره فيرجع (أَنْفُسَكُمْ) إلى معنى قومكم أو جماعتكم مثل قوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١] أي ليسلم بعضكم على بعض. والمعنى : فلا يثني بعضكم على بعض بالصلاح والطاعة لئلا يغيره ذلك.

وقد ورد النهي في أحاديث عن تزكية الناس بأعمالهم. ومنه

حديث أم عطية حين مات عثمان بن مظعون في بيتها ودخل عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت أم عطية : «رحمة الله عليك أبا السائب (كنية عثمان بن مظعون) فشهادتي عليك لقد أكرمك الله فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وما يدريك أن الله أكرمه ، فقالت : إذا لم يكرمه الله فمن يكرمه الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما هو فقد جاءه اليقين وإني لأرجو له الخير وإني والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي». قالت أم عطية : فلا أزكي أحدا بعد ما سمعت هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد شاع من آداب عصر النبوة بين الصحابة التحرز من التزكية وكانوا يقولون إذا أثنوا على أحد لا أعلم عليه إلا خيرا ولا أزكي على الله أحدا.

وروى مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال : «سميت ابنتي برة فقالت لي زينب بنت بن سلمة إن رسول الله نهى عن هذا الاسم ، وسمّيت برة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تزكوا أنفسكم إن الله أعلم بأهل البر منكم ، قالوا : بم نسميها؟ قال : سموها زينب».

وقد ظهر أن النهي متوجه إلى أن يقول أحد ما يفيد زكاء النفس ، أي طهارتها وصلاحها ، تفويضا بذلك إلى الله لأن للناس بواطن مختلفة الموافقة لظواهرهم وبين أنواعها بون. وهذا من التأديب على التحرز في الحكم والحيطة في الخبرة واتهام القرائن والبوارق.

فلا يدخل في هذا النهي الإخبار عن أحوال الناس بما يعلم منهم وجربوا فيه من ثقة وعدالة في الشهادة والرواية وقد يعبر عن التعديل بالتزكية وهو لفظ لا يراد به مثل ما أريد من قوله تعالى : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) بل هو لفظ اصطلح عليه الناس بعد نزول القرآن

١٢٨

ومرادهم منه واضح.

ووقعت جملة (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) موقع البيان لسبب النهي أو لأهمّ أسبابه ، أي فوضوا ذلك إلى الله إذ هو أعلم بمن اتقى ، أي بحال من اتقى من كمال تقوى أو نقصها أو تزييفها. وهذا معنى ما ورد في الحديث أن يقول من يخبر عن أحد بخير : «لا أزكي على الله أحدا» أي لا أزكى أحدا معتليا حق الله ، أي متجاوزا قدري.

[٣٣ ـ ٣٥] (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥))

الفاء لتفريع الاستفهام التعجيبي على قوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم : ٣١] إذ كان حال هذا الذي تولى وأعطى قليلا وأكدى جهلا بأن للإنسان ما سعى ، وقد حصل في وقت نزول الآية المتقدمة أو قبلها حادث أنبأ عن سوء الفهم لمراد الله من عباده مع أنه واضح لمن صرف حق فهمه. ففرع على ذلك كله تعجيب من انحراف أفهامهم.

فالذي تولى وأعطى قليلا هو هنا ليس فريقا مثل الذي عناه قوله : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) [النجم : ٢٩] بل هو شخص بعينه. واتفق المفسرون والرواة على أن المراد به هنا معين ، ولعل ذلك وجه التعبير عنه بلفظ (الَّذِي) دون كلمة (من) لأن (الَّذِي) أظهر في الإطلاق على الواحد المعين دون لفظ (من).

واختلفوا في تعيين هذا (الَّذِي تَوَلَّى* وَأَعْطى قَلِيلاً) ، فروى الطبري والقرطبي عن مجاهد وابن زيد أن المراد به الوليد بن المغيرة قالوا : كان يجلس إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويستمع إلى قراءته وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعظه فقارب أن يسلم فعاتبه رجل من المشركين (لم يسموه) وقال : لم تركت دين الأشياخ وضلّلتهم وزعمت أنهم في النار كان ينبغي أن تنصرهم فكيف يفعل بآبائك فقال : «إني خشيت عذاب الله» فقال : «أعطني شيئا وأنا أحمل عنك كل عذاب كان عليك» فأعطاه (ولعل ذلك كان عندهم التزاما يلزم ملتزمه وهم لا يؤمنون بجزاء الآخرة فلعله تفادى من غضب الله في الدنيا ورجع إلى الشرك) ولما سأله الزيادة بخل عنه وتعاسر وأكدى.

وروى القرطبي عن السدّي : أنها نزلت في العاصي بن وائل السّهمي ، وعن محمد بن كعب : نزلت في أبي جهل ، وعن الضحاك : نزلت في النضر بن الحارث.

١٢٩

ووقع في «أسباب النزول» للواحدي و «الكشاف» أنها نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح حين صد عثمان بن عفان عن نفقة في الخير كان ينفقها (أي قبل أن يسلم عبد الله بن سعد) رواه الثعلبي عن قوم. قال ابن عطية : وذلك باطل وعثمان منزه عن مثله ، أي عن أن يصغي إلى ابن أبي سرح فيما صده.

فأشار قوله تعالى : (الَّذِي تَوَلَّى) إلى أنه تولى عن النظر في الإسلام بعد أن قاربه.

وأشار قوله : (وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) إلى ما أعطاه للذي يحمله عنه العذاب.

وليس وصفه ب (تَوَلَّى) داخلا في التعجيب ولكنه سيق مساق الذم ، ووصف عطاؤه بأنه قليل توطئة لذمه بأنه مع قلة ما أعطاه قد شحّ به فقطعه. وأشار قوله : و (أَكْدى) إلى بخله وقطعه العطاء يقال : أكدى الذي يحفر ، إذا اعترضته كدية أي حجر لا يستطيع إزالته. وهذه مذمة ثانية بالبخل زيادة على بعد الثبات على الكفر فحصل التعجيب من حال الوليد كله تحقيرا لعقله وأفن رأيه. وقيل المراد بقوله : (وَأَعْطى قَلِيلاً) أنه أعطى من قبله وميله للإسلام قليلا وأكدى ، أي انقطع بعد أن اقترب كما يكدى حافر البئر إذا اعترضته كدية.

والاستفهام في (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ) إنكاري على توهمه أن استئجار أحد ليتحمل عنه عذاب الله ينجيه من العذاب ، أي ما عنده علم الغيب. وهذا الخبر كناية عن خطئه فيما توهمه.

والجملة استئناف بياني للاستفهام التعجيبي من قوله : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) إلخ.

وتقديم (عِنْدَهُ) وهو مسند على (عِلْمُ الْغَيْبِ) وهو مسند إليه للاهتمام بهذه العندية العجيب ادعاؤها ، والإشارة إلى يعده عن هذه المنزلة.

وعلم الغيب : معرفة العوالم المغيبة ، أي العلم الحاصل من أدلة فكأنه شاهد الغيب بقرينة قوله : (فَهُوَ يَرى).

وفرع على هذا التعجيب قوله : (فَهُوَ يَرى) أي فهو يشاهد أمور الغيب ، بحيث عاقد على التعارض في حقوقها. والرؤية في قوله : (فَهُوَ يَرى) بصرية ومفعولها محذوف ، والتقدير : فهو يرى الغيب.

والمعنى : أنه آمن نفسه من تبعه التولّي عن الإسلام ببذل شيء لمن تحمل عنه تبعة

١٣٠

توليه كأنه يعلم الغيب ويشاهد أن ذلك يدفع عنه العقاب ، فقد كان فعله ضغثا على إبالة لأنه ما افتدى إلا لأنه ظن أن التولي جريمة ، وما بذل المال إلا لأنه توهم أن الجرائم تقبل الحمالة في الآخرة.

وتقديم الضمير المسند إليه على فعله المسند دون أن يقول : فيرى ، لإفادة تقوّي الحكم ، نحو : هو يعطي الجزيل. وهذا التقوّي بناء على ما أظهر من اليقين بالصفقة التي عاقد عليها وهو أدخل في التعجيب من حاله.

[٣٦ ـ ٣٨] (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨))

(أَمْ) لإضراب الانتقال إلى متعجّب منه وإنكار عليه آخر وهو جهله بما عليه أن يعلمه الذين يخشون الله تعالى من علم ما جاء على ألسنة الرسل الأولين فإن كان هو لا يؤمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهلّا تطلب ما أخبرت به رسل من قبل ، طالما ذكر هو وقومه أسماءهم وشرائعهم في الجملة ، وطالما سأل هو وقومه أهل الكتاب عن أخبار موسى ، فهلّا سأل عمّا جاء عنهم في هذا الغرض الذي يسعى إليه وهو طلب النجاة من عذاب الله فينبئه العالمون ، فإن مآثر شريعة إبراهيم مأثور بعضها عند العرب ، وشريعة موسى معلومة عند اليهود. فالاستفهام المقدر بعد (أَمْ) إنكار مثل الاستفهام المذكور قبلها في قوله : (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ) والتقدير : بل ألم ينبأ بما في صحف موسى إلخ.

و (صُحُفِ مُوسى) : هي التوراة ، وصحف (إِبْراهِيمَ) : صحف سجّل فيها ما أوحى الله إليه ، وهي المذكورة في سورة الأعلى [١٨ ، ١٩] (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى * صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى). روى ابن حبّان والحاكم عن أبي ذر أنه سأل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكتب التي أنزلت على الأنبياء فذكر له منها عشرة صحائف أنزلت على إبراهيم ، أي أنزل عليه ما هو مكتوب فيها.

وإنما خص هذه الصحف بالذكر لأن العرب يعرفون إبراهيم وشريعته ويسمونها الحنيفية وربما ادّعى بعضهم أنه على إثارة منها مثل : زيد بن عمرو بن نفيل.

وأما صحف موسى فهي مشتهرة عند أهل الكتاب ، والعرب يخالطون اليهود في خيبر وقريظة والنضير وتيما ، ويخالطون نصارى نجران ، وقد قال الله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) [القصص : ٤٨].

١٣١

وتقديم (صُحُفِ مُوسى) لأنها اشتهرت بسعة ما فيها من الهدى والشريعة ، وأما صحف إبراهيم فكان المأثور منها أشياء قليلة. وقدّرت بعشر صحف ، أي مقدار عشر ورقات بالخط القديم ، تسع الورقة قرابة أربع آيات من آي القرآن بحيث يكون مجموع ملفي صحف إبراهيم مقدار أربعين أية.

وإنما قدم في سورة الأعلى صحف إبراهيم على صحف موسى مراعاة لوقوعهما بدلا من الصحف الأولى فقدم في الذكر أقدمهما.

وعندي أن تأخير ذكر صحف إبراهيم ليقع ما بعدها هنا جامعا لما احتوت عليه صحف إبراهيم فتكون صحف إبراهيم هي الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم المذكورة في قوله في سورة البقرة [١٢٤] : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) بكلمات فأتمهن أي بلغهن إلى قومه ومن آمن به ، ويكون قوله هنا (الَّذِي وَفَّى) في معنى قوله : (فَأَتَمَّهُنَ) في سورة البقرة [١٢٤].

ووصف إبراهيم بذلك تسجيل على المشركين بأن إبراهيم بلّغ ما أوحي إليه إلى قومه وذريته ولكن العرب أهملوا ذلك واعتاضوا عن الحنيفية بالإشراك.

وحذف متعلّق (وَفَّى) ليشمل توفيات كثيرة منها ما في قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) وما في قوله تعالى : (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) [الصافات : ١٠٥].

وقوله : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) يجوز أن يكون بدلا من ما في صحف موسى وإبراهيم بدل مفصّل من مجمل ، فتكون (أن) مخففة من الثقيلة. والتقدير : أم لم ينبّأ بأنه لا تزر وازرة وزر أخرى.

ويجوز أن تكون (أن) تفسيرية فسّرت ما في صحف موسى وإبراهيم لأن ما من الصحف شيء مكتوب والكتابة فيها معنى القول دون حروفه فصلح «ما في صحف موسى» لأن تفسره (أن) التفسيرية. وقد ذكر القرطبي عند تفسير قوله تعالى : (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) [النجم : ٥٦] في هذه السورة عن السدّي عن أبي صالح قال : هذه الحروف التي ذكر الله تعالى من قوله : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى * وَإِبْراهِيمَ) إلى قوله : (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) [النجم : ٥٦] كل هذه في صحف إبراهيم وموسى. و (تَزِرُ) مضارع وزر ، إذا فعل وزرا.

وتأنيث (وازِرَةٌ) بتأويل : نفس ، وكذلك تأنيث (أُخْرى) ، ووقوع «نفس»

١٣٢

و (أُخْرى) في سياق النفي يفيد العموم فيشمل نفي ما زعمه الوليد بن المغيرة من تحمل الرجل عنه عذاب الله.

وهذا مما كان في صحف إبراهيم ، ومنه ما حكى الله في قوله : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ* يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء : ٨٧ ـ ٨٩].

وحكي في التوراة عن إبراهيم أنه قال في شأن قوم لوط : «أفتهلك البارّ مع الآثم».

وأما نظيره في صحف موسى ففي التوراة (١) «لا يقتل الآباء عن الأولاد ولا يقتل الأولاد عن الآباء كل إنسان بخطيئته يقتل». وحكى الله عن موسى قوله : (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) [الأعراف : ١٥٥]. وعموم لفظ (وِزْرَ) يقتضي اطراد الحكم في أمور الدنيا وأمور الآخرة.

وأما قوله في التوراة (٢) أن الله قال : «أفتقد الأبناء بذنوب الآباء إلى الجيل الثالث» فذلك في ترتيب المسببات على الأسباب الدنيوية وهو تحذير.

وليس حمل المتسبب في وزر غيره حملا زائدا على وزره من قبيل تحمّل وزر الغير ، ولكنه من قبيل زيادة العقاب لأجل تضليل الغير ، قال تعالى : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [النحل : ٢٥]. وفي الحديث : «ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ، ذلك أنه أول من سنّ القتل».

(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩))

عطف على جملة (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [النجم : ٣٨] ، فيصح أن تكون عطفا على المجرور بالباء فتكون (أن) مخففة من الثقيلة ، ويصح أن تكون عطفا على (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) فتكون (أَنْ) تفسيرية ، وعلى كلا الاحتمالين تكون (أَنْ) تأكيدا لنظيرتها في المعطوف عليها.

وتعريف الإنسان تعريف الجنس ، ووقوعه في سياق النفي يفيد العموم ، والمعنى : لا يختص به إلا ما سعاه.

__________________

(١) سفر التثنية إصحاح ٢٤.

(٢) سفر الخروج إصحاح ٢٠.

١٣٣

والسعي : العمل والاكتساب ، وأصل السعي : المشي ، فأطلق على العمل مجازا مرسلا أو كناية. والمراد هنا عمل الخير بقرينة ذكر لام الاختصاص وبأن جعل مقابلا لقوله : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [النجم : ٣٨].

والمعنى : لا تحصل لأحد فائدة عمل إلا ما عمله بنفسه ، فلا يكون له عمل غيره ، ولام الاختصاص يرجح أن المراد ما سعاه من الأعمال الصالحة ، وبذلك يكون ذكر هذا تتميما لمعنى (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ، احتراسا من أن يخطر بالبال أن المدفوع عن غير فاعله هو الوزر ، وإنّ الخير ينال غير فاعله.

ومعنى الآية محكي في القرآن عن إبراهيم في قوله عنه : (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء : ٨٩].

وهذه الآية حكاية عن شرعي إبراهيم وموسى ، وإذ قد تقرر أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ ، تدل هذه الآية على أن عمل أحد لا يجزئ عن أحد فرضا أو نفلا على العين ، وأما تحمل أحد حمالة لفعل فعله غيره مثل ديات القتل الخطأ فذلك من المؤاساة المفروضة.

واختلف العلماء في تأويل هذه الآية ومحملها : فعن عكرمة أن قوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) حكاية عن شريعة سابقة فلا تلزم في شريعتنا يريد أن شريعة الإسلام نسخت ذلك فيكون قبول عمل أحد عن غيره من خصائص هذه الأمة.

وعن الربيع بن أنس أنه تأول (الإنسان) في قوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) بالإنسان الكافر ، وأما المؤمن فله سعيه وما يسعى له غيره.

ومن العلماء من تأول الآية على أنها نفت أن تكون للإنسان فائدة ما عمله غيره إذا لم يجعل الساعي عمله لغيره. وكأنّ هذا ينحو إلى أن استعمال (سَعى) في الآية من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه العقليين. ونقل ابن الفرس : أن من العلماء من حمل الآية على ظاهرها وأنه لا ينتفع أحد بعمل غيره ، ويؤخذ من كلام ابن الفرس أن ممن قال بذلك الشافعي في أحد قوليه بصحة الإجارة على الحج.

واعلم أن أدلة لحاق ثواب بعض الأعمال إلى غير من عملها ثابتة على الجملة وإنما تتردد الأنظار في التفصيل أو التعميم ، وقد قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ) ذرياتهم (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الطور : ٢١] ، وقد بيناه في

١٣٤

تفسير سورة الطور. وقال تعالى : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) [الزخرف : ٧٠] ، فجعل أزواج الصالحين المؤمنات وأزواج الصالحات المؤمنين يتمتعون في الجنة مع أن التفاوت بين الأزواج في الأعمال ضروري وقد بيناه في تفسير سورة الزخرف.

وفي حديث مسلم «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له» وهو عام في كل ما يعمله الإنسان ، ومعيار عمومه الاستثناء فالاستثناء دليل على أن المستثنيات الثلاثة هي من عمل الإنسان. وقال عياض في «الإكمال» هذه الأشياء لما كان هو سببها فهي من اكتسابه. قلت : وذلك في الصدقة الجارية وفي العلم الذي بثه ظاهر ، وأما في دعاء الولد الصالح لأحد أبويه فقال النووي لأن الولد من كسبه. قال الأبي : الحديث «ولد الرجل من كسبه» (١) فاستثناء هذه الثلاثة متصل.

وثبتت أخبار صحاح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تدل على أن عمل أحد عن آخر يجزي عن المنوب عنه ، ففي «الموطأ» حديث الفضل بن عباس «أن امرأة من خثعم سألت رسول الله فقالت : إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفيجزئ أن أحج عنه؟ قال : نعم حجّي عنه». وفي قولها : لا يثبت على الراحلة دلالة على أن حجها عنه كان نافلة.

وفي «كتاب أبي داود» حديث بريدة «أن امرأة أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفيجزئ أو يقضي عنها أن أصوم عنها؟ قال : نعم. قالت : وإنها لم تحج أفيجزئ أو يقضي أن أحج عنها؟ قال : نعم».

وفيه أيضا حديث ابن عباس «أن رجلا قال : يا رسول الله إن أمي توفيت أفينفعها إن تصدقت عنها؟ قال : نعم».

وفيه حديث عمرو بن العاص وقد أعتق أخوه هشام عن أبيهم العاص بن وائل عبيدا فسأل عمرو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أن يفعل مثل فعل أخيه فقال له «لو كان أبوك مسلما فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك».

وروي أن عائشة أعتقت عن أخيها عبد الرحمن بعد موته رقابا واعتكفت عنه.

__________________

(١) رواه أبو داود.

١٣٥

وفي «صحيح البخاري» عن ابن عمرو ابن عباس «أنهما أفتيا امرأة جعلت أمّها على نفسها صلاة بمسجد قباء ولم تف بنذرها أن تصلي عنها بمسجد قباء».

وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سعد بن عبادة أن يقضي نذرا نذرته أمه ، قيل كان عتقا ، وقيل صدقة ، وقيل نذرا مطلقا.

وقد كانت هذه الآية وما ثبت من الأخبار مجالا لأنظار الفقهاء في الجمع بينهما والأخذ بظاهر الآية وفي الاقتصار على نوع ما ورد فيه الإذن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو القياس عليه.

ومما يجب تقديمه أن تعلم أن التكاليف الواجبة على العين فرضا أو سنة مرتّبة المقصد من مطالبة المكلف بها ما يحصل بسببها من تزكية نفسه ليكون جزءا صالحا فإذا قام بها غيره عنه فات المقصود من مخاطبة أعيان المسلمين بها ، وكذا اجتناب المنهيات لا تتصور فيها النيابة لأن الكف لا يقبل التكرر فهذا النوع ليس للإنسان فيه إلا ما سعى ولا تجزئ فيه نيابة غيره عنه في أدائها ، فأما الإيمان فأمره بيّن لأن ماهية الإيمان لا يتصور فيها التعدد بحيث يؤمن أحد عن نفسه ويؤمن عن غيره لأنه إذا اعتقد اعتقادا جازما فقد صار ذلك إيمانه. قال ابن الفرس في «أحكام القرآن» : «أجمعوا على أنه لا يؤمن أحد عن أحد».

وأما ما عدا الإيمان من شرائع الإسلام الواجبة فأما ما هو منها من عمل الأبدان فليس للإنسان إلا ما سعى منه ولا يجزئ عنه سعي غيره لأن المقصود من الأمور المعيّنة المطالب بها المرء بنفسه هو ما فيها من تزكية النفس وارتياضها على الخير كما تقدم آنفا.

ومثل ذلك الرواتب من النوافل والقربات حتى يصلح الإنسان ويرتاض على مراقبة ربه بقلبه وعمله والخضوع له تعالى ليصلح بصلاح الأفراد صلاح مجموع الأمة والنيابة تفيت هذا المعنى.

فما كان من أفعال الخير غير معين بالطلب كالقرب النافلة فإن فيه مقصدين مقصد ملحق بالمقصد الذي في الأعمال المعيّنة بالطلب ، ومقصد تكثير الخير في جماعة المسلمين بالأعمال والأقوال الصالحة وهذا الاعتبار الثاني لا تفيته النيابة.

والتفرقة بين ما كان من عمل الإنسان ببدنه وما كان من عمله بماله لا أراه فرقا مؤثرا في هذا الباب ، فالوجه اطراد القول في كلا النوعين بقبول النيابة أو بعدم قبولها :

١٣٦

من صدقات وصيام ونوافل الصلوات وتجهيز الغزاة للجهاد غير المتعين على المسلم المجهّز (بكسر الهاء) ولا على المجهّز (بفتح الهاء) ، والكلمات الصالحة من قراءة القرآن وتسبيح وتحميد ونحوهما وصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبهذا يكون تحرير محل ما ذكره ابن الفرس من الخلاف في نقل عمل أحد إلى غيره.

قال النووي : «الدعاء يصل ثوابه إلى الميت وكذلك الصدقة وهما مجمع عليهما. وكذلك قضاء الدين» اه. وحكى ابن الفرس مثل ذلك ، والخلاف بين علماء الإسلام فيما عدا ذلك.

وقال مالك : «يتطوع عن الميت فيتصدق عنه أو يعتق عنه أو يهدي عنه ، وأما ما كان من القرب الواجبة مركّبا من عمل البدن وإنفاق المال مثل الحج والعمرة والجهاد» فقال الباجي : «حكى القاضي عبد الوهاب عن المذهب أنها تصح النيابة فيها» وقال ابن القصار : «لا تصح النيابة فيها». وهو المشتهر من قول مالك ومبنى اختلافهما أن مالكا كره أن يحج أحد عن أحد إلا أنه إن أوصى بذلك نفذت وصيته ولا تسقط الفرض.

ورجح الباجي القول بصحة النيابة في ذلك بأن مالكا أمضى الوصية بذلك ، وقال : لا يستأجر له إلا من حجّ عن نفسه فلا يحج عنه ضرورة ، فلو لا أن حج الأجير على وجه النيابة عن الموصي لما اعتبرت صفة المباشر للحج. قال ابن الفرس : «أجاز مالك الوصية بالحج الفرض ، ورأى أنه إذا أوصى بذلك فهو من سعيه والمحرر من مذهب الحنفية صحة النيابة في الحج لغير القادر بشرط دوام عجزه إلى الموت فإن زال عجزه وجب عليه الحج بنفسه ، وقد ينقل عن أبي حنيفة غير ذلك في كتب المالكية.

وجوز الشافعي الحج عن الميت ووصية الميت بالحج عنه. قال ابن الفرس : «وللشافعي في أحد قوليه أنه لا يجوز واحتج بقوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) اه.

ومذهب أحمد بن حنبل جوازه ولا تجب عليه إعادة الحج إن زال عذره.

وأما القرب غير الواجبة وغير الرواتب من جميع أفعال البر والنوافل ؛ فأما الحج عن غير المستطيع فقال الباجي : «قال ابن الجلاب في «التفريع» يكره أن يستأجر من يحجّ عنه فإن فعل ذلك لم يفسخ» وقال ابن القصار : «يجوز ذلك في الميت دون المعضوب» (وهو العاجز عن النهوض). وقال ابن حبيب : «قد جاءت الرخصة في ذلك عن الكبير الذي لا

١٣٧

ينهض وعن الميت أنه يحج عنه ابنه وإن لم يوص به».

وقال الأبيّ في «شرح مسلم» : «ذكر أن الشيخ ابن عرفة عام حجّ اشترى حجة للسلطان أبي العباس الحفصي على مذهب المخالف» ، أي خلافا لمذهب مالك.

وأما الصلاة والصيام ، فسئل مالك عن الحج عن الميت فقال : «أما الصلاة والصيام والحج عنه فلا نرى ذلك». وقال في «المدونة» : «يتطوع عنه بغير هذا أحب إليّ : يهدى عنه ، أو يتصدق عنه ، أو يعتق عنه». قال الباجي : «ففصل بينها وبين النفقات».

وقال الشافعي في أحد قوله : لا يصله ثواب الصلوات التطوع وسائر التطوعات. قال صاحب «التوضيح» من الشافعية : «وعندنا يجوز الاستنابة في حجة التطوع على أصح القولين» ، وقال أحمد : «يصله ثواب الصلوات وسائر التطوعات».

والمشهور من مذهب الشافعي : أن قراءة القرآن وإهداء ثوابها للميت لا يصله ثوابها ، وقال أحمد بن حنبل وكثير من أصحاب الشافعي : يصله ثوابها.

وحكى ابن الفرس عن مذهب مالك : أن من قرأ ووهب ثواب قراءته لميت جاز ذلك ووصل للميت أجره ونفعه فما ينسب إلى مالك من عدم جواز إهداء ثواب القراءة في كتب المخالفين غير محرر.

وقد ورد في حديث عائشة قالت : «كان رسول الله يعوّذ نفسه بالمعوذات فلما ثقل به المرض كنت أنا أعوذه بهما وأضع يده على جسده رجاء بركتها» فهل قراءة المعوذتين إلا نيابة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما كان يفعله بنفسه ، فإذا صحت النيابة في التعوذ والتبرك بالقرآن فلما ذا لا تصح في ثواب القراءة.

واعلم أن هذا كله في تطوع أحد عن أحد بقربة ، وأما الاستئجار على النيابة في القرب : فأما الحج فقد ذكروا فيه جواز الاستئجار بوصية ، أو بغيرها ، لأن الإنفاق من مقومات الحج ، ويظهر أن كل عبادة لا يجوز أخذ فاعلها أجرة على فعلها كالصلاة والصوم لا يصح الاستئجار على الاستنابة فيها ، وأن القرب التي يصح أخذ الأجر عليها يصح الاستئجار على النيابة فيها مثل قراءة القرآن ، فقد أقر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعل الذين أخذوا أجرا على رقية الملدوغ بفاتحة الكتاب.

وإذا علمت هذا كله فقوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) هو حكم كان في شريعة سالفة ، فالقائلون بأنه لا ينسحب علينا لم يكن فيما ورد من الأخبار بصحة

١٣٨

النيابة في الأعمال في ديننا معارض لمقتضى الآية ، والقائلون بأن شرع غيرنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ ، منهم من أعمل عموم الآية وتأول الأخبار المعارضة لها بالخصوصية ، ومنهم من جعلها مخصّصة للعموم ، أو ناسخة ، ومنهم من تأول ظاهر الآية بأن المراد ليس له ذلك حقيقة بحيث يعتمد على عمله ، أو تأول السعي بالنية. وتأول اللام في قوله :(لِلْإِنْسانِ) بمعنى (على) ، أي ليس عليه سيئات غيره.

وفي تفسير سورة الرحمن من «الكشاف» : أن عبد الله بن طاهر قال للحسين بن الفضل : أشكلت عليّ ثلاث آيات. فذكر له منها قوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) فما بال الأضعاف ، أي قوله تعالى : (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [البقرة : ٢٤٥] ، فقال الحسين : معناه أنه ليس له إلا ما سعى عدلا ، ولي أن أجزيه بواحدة ألفا فضلا (١).

[٤٠ ، ٤١] (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١))

يجوز أن تكون عطفا على جملة (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [النجم : ٣٨] فهي من تمام تفسير (بِما فِي صُحُفِ مُوسى * وَإِبْراهِيمَ) [النجم : ٣٦ ، ٣٧] فيكون تغيير الأسلوب إذ جيء في هذه الآية بحرف (أَنَ) المشددة لاقتضاء المقام أن يقع الإخبار عن سعي الإنسان بأنه يعلن به يوم القيامة (وذلك من توابع أن ليس به إلّا ما سعى) ، فلما كان لفظ (سَعْيَهُ) صالحا للوقوع اسما لحرف (أَنَ) زال مقتضي اجتلاب ضمير الشأن فزال مقتضي (أن) المخففة. وقد يكون مضمون هذه الجملة في شريعة إبراهيم ما حكاه الله عنه من قوله : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) [الشعراء : ٨٧].

ويجوز أن لا يكون قوله مضمون قوله : (وَأَنَّ سَعْيَهُ) مشمولا لما في صحف موسى وإبراهيم فعطفه على (ما) الموصولة من قوله : (بِما فِي صُحُفِ مُوسى * وَإِبْراهِيمَ) [النجم : ٣٦ ، ٣٧] ، عطف المفرد على المفرد فيكون معمولا لباء الجر في قوله : (فِي صُحُفِ مُوسى) إلخ ، والتقدير : لم ينبأ بأن سعي الإنسان سوف يرى ، أي لا بد أن يرى ، أي يجازى عليه ، أي لم ينبأ بهذه الحقيقة الدينية وعليه فلا نتطلب ثبوت مضمون هذه الجملة في شريعة إبراهيم عليه‌السلام.

و (سَوْفَ) حرف استقبال والأكثر أن يراد به المستقبل البعيد.

__________________

(١) انظر ما يأتي عند قوله تعالى : كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ في سورة الرحمن [٢٩].

١٣٩

ومعنى (يُرى) يشاهد عند الحساب كما في قوله تعالى : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) [الكهف : ٤٩] ، فيجوز أن تجسم الأعمال فتصير مشاهدة وأمور الآخرة مخالفة لمعتاد أمور الدنيا. ويجوز أن تجعل علامات على الأعمال يعلن بها عنها كما في قوله تعالى : (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) [التحريم : ٨]. وما في الحديث «ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة فيقال : هذه غدرة فلان» فيقدر مضاف تقديره : وأن عنوان سعيه سوف يرى.

ويجوز أن يكون ذلك بإشهار العمل والسعي كما في قوله تعالى : (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) [الأعراف : ٤٩] الآية ، وكما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سمع بأخيه فيما يكره سمع الله به سامع خلقه يوم القيامة» ، فتكون الرؤية مستعارة للعلم لقصد تحقق العلم واشتهاره.

وحكمة ذلك تشريف المحسنين بحسن السمعة وانكسار المسيئين بسوء الأحدوثة.

وقوله : (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) هو المقصود من الجملة.

و (ثُمَ) للتراخي الرتبي لأن حصول الجزاء أهم من إظهاره أو إظهار المجزي عنه.

وضمير النصب في قوله : (يُجْزاهُ) عائد إلى السعي ، أي يجزى عليه ، أو يجزى به فحذف حرف الجر ونصب على نزع الخافض فقد كثر أن يقال : جزاه عمله ، وأصله : جزاه على عمله أو جزاه بعمله.

والأوفى : اسم تفضيل من الوفاء وهو التمام والكمال ، والتفضيل مستعمل هنا في القوة ، وليس المراد تفضيله على غيره. والمعنى : أن الجزاء على الفعل من حسن أو سيئ موافق للمجزيّ عليه ، قال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء : ١٧٣] وقال : (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) [هود : ١٠٩] وقال : (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) [النور : ٣٩] وقال : (فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) [الإسراء : ٦٣].

وانتصب (الْجَزاءَ الْأَوْفى) على المفعول المطلق المبين للنوع.

وقد حكى الله عن إبراهيم (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) [الشعراء : ٨٧].

(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢))

١٤٠