تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

وأما قوله : (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (١).

فالجعل تكويني بعد الاختيار إذ (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) (٢) ، (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٣) ، (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (٤) ، (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) (٥).

فإذا استحكم عقد الولاء بينهم تنزلوا في الدركات إلى مقام الإيحاء :

(وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) (٦) ، (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) (٧).

فيدخلون في حزب الشيطان ويسلب عنهم اسم الإنسان ، إذ الإنسان بقلبه لا بقالبه ، والشيطان شيطان بمكره وخديعته وتمرده وعصيانه لا بصورته ، هؤلاء هم الذين : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٨).

المبحث الثالث : في المستعاذ به ، وهو الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم لكل شيء علما وصنعا وتربية ، ولذا علق الاستعاذة باسم الذات المستجمع للصفات الكمالية في الآيات الثلاثة المتقدمة ، وفي قوله : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) (٩).

__________________

(١) سورة الأعراف : ٢٧.

(٢) سورة البقرة : ٢٥٦.

(٣) سورة يونس : ٩٩.

(٤) سورة الصف : ٥.

(٥) سورة الحشر : ١٩.

(٦) سورة الأنعام : ١٢١.

(٧) سورة الأنعام : ١١٣.

(٨) سورة المجادلة : ١٩.

(٩) سورة الذاريات : ٥٠.

٨١

إذ بيده ملكوت السموات والأرض وهو يجير ولا يجار عليه ، فلا ملجأ ولا منجى ولا مهرب ولا مناص ولا مفرّ عنه ومن غيره إلّا إليه ، لكنّ الله تعالى جعل لنفسه أبوابا وسبلا ووسائل وشفعاء ، وجعلهم أحسن أسمائه ومظاهر نعوته وصفاته ، وأمرنا بأن نأتي البيوت من أبوابها ، وأن نتوصل إلى الغايات بأسبابها فجعل محمدا وآل محمد صلى الله عليهم أجمعين أبوابه وأسبابه.

ففي الزيارة الجامعة : «من أراد الله بدأ بكم ، ومن وحّده قبل عنكم ، ومن قصده توجه إليكم» (١).

وفيها : «مستجير بكم ، زائر لكم ، لائذ بقبوركم ، مستشفع إلى الله عزوجل بكم ، متقرب بكم إليه ، ومقدمكم أمام طلبتي وحوائجي وإرادتي في كل أحوالي وأموري» (٢).

وعن الصادق عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا علي! والذي بعثني بالنبوة واصطفاني على جميع البرية ، لو أن عبدا عبد الله ألف عام ما قبل الله ذلك منه إلا بولايتك وولاية الأئمة من ولدك ، أخبرني بذلك جبرئيل ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» (٣).

وفي تفسير الإمام عليه الصلاة والسّلام قال :

«قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا فاذكروا يا أمة محمد محمدا وآله عند نوائبكم وشدائدكم لينصر الله بهم ملائكتكم على الشياطين الذي يقصدونكم ، فإن كل واحد منكم معه ملك عن يمينه يكتب حسناته ، وملك عن يساره يكتب سيئاته ، ومعه شيطانان من عند إبليس يغويانه ، فإذا وسوسا في قلبه ذكر الله تعالى وقال : لا حول

__________________

(١) البحار : ج ١٠٢ / ١٣١ ، ح ٤ وفيه : «ومن قصده توجه بكم».

(٢) البحار ج ١٠٢ / ١٣١ ، ح ٤ ، وهذه الجملات متقدمة على الفقرات المذكورة من قبل.

(٣) البحار : ج ٢٧ / ٦٣ ، ح ٢٢ ، وص ١٩٩ ، ح ٦٦ عن كنز الكراجكي ص ١٨٥.

٨٢

ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلى الله على محمد وآله ، حبس الشيطانان ثم صارا (١) إلى إبليس فشكواه وقالا : قد أعيانا أمره فأمددنا بالمرة ، فلا يزال يمدهما حتى يمدهما بألف مارد فيأتونه فكلما راموه ذكر الله وصلّى على محمد وآله الطيبين لم يجدوا إليه طريقا ولا منفذا ، قالوا لإبليس : ليس له غيرك تباشره بجنودك فتغلبه وتغويه ، فيقصده إبليس بجنوده ألا فقاتلوه ، فيقاتلهم بإزاء كل شيطان رجيم منهم مائة ألف ملك وهم على أفراس من نار ، بأيديهم سيوف من نار ورماح من نار وقسي ونشاشيب وسكاكين من نار ، فلا يزالون يخرجونهم ويقتلونهم بها ويأسرون إبليس فيضعون عليه تلك الأسلحة ، فيقول : يا رب! وعدك وعدك قد أجلّتني إلى يوم الوقت المعلوم ، فيقول الله تعالى لملائكة : وعدته ألا أميته ، ولم أعده أن لا أسلّط عليه السلاح والعذاب ، اشتفوا منه ضربا بأسلحتكم فإني لا أميته فيثخنونه بالجراحات ، ثم يدعونه ، فلا يزال سخين العين على نفسه وأولاده المقتولين المقتلين ، ولا يندمل شيء من جراحاته إلا بسماعه أصوات المشركين بكفرهم ، فإن بقي هذا المؤمن على طاعة الله وذكره والصلاة على محمد وآله ، بقي إبليس على تلك الجراحات ، وإن زال العبد عن ذلك وانهمك في مخالفة الله عزوجل ومعاصيه ، اندملت جراحات إبليس ، ثم قوي على ذلك العبد حتى يلجمه فيسرج على ظهره ويركبه ، ثم ينزل عنه ، ويركب ظهره شيطانا من شياطينه ، ويقول لأصحابه : أما تذكرون ما أصابنا من شأن هذا من الذل وانقاد لنا الآن حتى صار هذا ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فإن أردتم أن تديموا على إبليس سخنة عينيه وألم جراحاته ، فداوموا على طاعة الله وذكره والصلاة على محمد وآله ، وإن زلتم عن ذلك كنتم أسراء فيركب أقفيتكم بعض مردته» (٢).

__________________

(١) في البحار : سارا.

(٢) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام ط الجديد : ٣٩٨ ، ح ٢٧٠ ، وعنه البحار :

٨٣

فيستفاد من الأخبار المتقدمة وغيرها أن التوسل والاستشفاع بهم موجب للنجاة وأنه لا يمكن الوصول إلى الله تعالى إلا بولايتهم ومحبتهم.

ولذا ورد في الدعاء المهدوية الرجبية على منشئه ألف صلاة وسلام وتحية : «أعضاد وأشهاد وحفظة وروّاد» (١).

وفي الزيارة الجامعة انهم الذادة الحماة (٢).

والذادة جمع الذائد من الذود وهو الدفع والحماة جمع الحامي وهو الحافظ ، فإنهم عليهم‌السلام يحفظون شيعتهم ويدفعون عنهم في الدنيا والآخرة أعدائهم من الجن والإنس والشياطين وحزبهم الظالمين ، فإن من توسل بهم يجعلونه في حفظهم وعنايتهم وصيانتهم وحرزهم وكهفهم.

وفي عوذة يوم الخميس :

«أعيذ نفسي بقدرة الله ، وعزة الله ، وعظمة الله ، وسلطان الله ، وجلال الله ، وكمال الله ، وبجمع الله ، وبرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولاة أمر الله من شر ما أخاف وأحذر» (٣).

والمراد بقوله : «قدرة الله» مع روافدها إنما هو إذ مقدور مع ما يتبعه ، إذ لا تعدد في بحت الذات لا حقيقة ولا مفهوما ولا خارجا ولا اعتبارا ، ولذا قال أمير المؤمنين روحي له الفداء وعليه آلاف التحية والثناء :

«كمال التوحيد نفي الصفات عنه» (٤).

فلا يحمل على إذ لا مقدور ، وذواتهم نفس الفعل ، لأنها المشيّة الكلّية

__________________

ج ٦٣ / ٢٧١ ـ ٢٧٢.

(١) بحار الأنوار : ج ٩٨ / ٣٩٣ ، ح ١.

(٢) البحار : ج ١٠٢ / ١٢٨ ، ح ٤.

(٣) البحار : ج ٩٠ / ٢١٥ ، ح ٤٠.

(٤) نهج البلاغة : الخطبة الأولى.

٨٤

والقدرة الإلهية والعزة الربانية والعظمة الصمدانية ، كما قالوا :

«نحن أسماء الله الحسنى ، وأمثاله العليا» (١).

أو أنهم مظاهر الصفات الفعلية والشؤون الربانية ، والترديد هو إنما هو باعتبار اختلاف مراتبهم.

وأيضا قد ورد : أنهم الأعراف الذي لا يعرف الله إلا بسبيل ولايتهم وانهم وجه الله الذي يؤتى منه.

ففي «البصائر» عن الصادق عليه‌السلام في قوله (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٢) قال : «دينه وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين عليهما‌السلام دين الله ووجهه وعينه في عباده ولسانه الذي ينطق به ونحن وجه الله الذي يؤتى منه» (٣).

وفي زيارة مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : «السّلام على اسم الله الرضي ووجهه المضيء وجنبه العلي ... إلى قوله : وأشهد أنك جنب الله ووجهه الذي يؤتى منه وأنك سبيل الله ....» (٤).

وأيضا قد قال الله تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٥).

والذكر هو النبي كما قال : (ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ) (٦).

أو الوصي ، وهو المراد بالسبيل أيضا ، والترديد باعتبار الجهات والحيثيات والمراتب وإلا فما أمرنا إلا واحدة.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٥ / ٥ ، ح ٧.

(٢) سورة القصص : ٨٨.

(٣) أورده الصدوق «التوحيد» : ١٥١ ، ح ٧ وعنه البحار : ج ٢٤ / ١٩٧ ، ح ٢٣.

(٤) البحار : ج ١٠٠ / ٣٠٦.

(٥) سورة الزخرف : ٣٦ ـ ٣٧.

(٦) سورة الطلاق : ١٠ ـ ١١.

٨٥

عباراتنا شتّى وحسنك واحد

وكلّ الى ذاك الجمال يشير

ومن هنا يتّضح وجه ما في الأدعية المعصوميّة تعليما لنا وعبودية لله سبحانه من الاستعاذة بكلمات الله التي هي أسماؤهم الشريفة وحقائقهم الكلية الإلهية كما ورد في تفسير قوله :

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) (١) ، (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) (٢) ، (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) (٣) ، وغير ذلك.

بل بغيرها مما هو بمعناها ، ففي «المتهجد» في الدعاء الخاص عقيب الثامنة من صلاة الليل :

«أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أشرقت له الظلمات وأصلحت عليه أمر الأولين والآخرين» (٤).

وفي عوذة يوم الخميس :

«أعيذ نفسي بقدرة الله وعزة الله ...» (٥) إلى آخر ما مر.

ومثله ما في عقيب الفجر (٦) ، والكل إشارة إلى وجهه الباقي بعد فناء كل شيء ، كما في الأخبار المفسرة للآية وهو وجهه الذي ملأ نوره كل شيء وهو حيث لا يدركه شيء (٧) ، كما في عوذة ليلة الجمعة في المتهجد (٨). فالتوجه إليهم توجه إلى الله والاستعاذة بهم استعاذة بالله ، لأن الله تعالى جعلهم أبوابه وصراطه ونوره

__________________

(١) سورة البقرة : ٣٧.

(٢) سورة البقرة : ١٢٤.

(٣) سورة لقمان : ٢٧.

(٤) مصباح المتهجد ، في نافلة الليل : ص ١٤٨ ، رقم الدعاء : ٢٣٨ / ٣٤.

(٥) مصباح المتهجد : ص ٤٩٠ ، رقم الدعاء : ٥٧٧ / ٣٢.

(٦) مصباح المتهجد : ص ٢٠٤ ، رقم الدعاء : ٢٩٦ / ٣٤.

(٧) في المصدر : حيث لا يراه شيء.

(٨) مصباح المتهجد : ص ٤٩٠ ، رقم الدعاء : ٥٧٨ / ٣٣.

٨٦

وسبيله ، فهم السبيل الأعظم والصراط الأقوام وشهداء دار الفناء ، وشفعاء دار البقاء والرحمة الموصولة ، من أراد الله بدأ بهم ، ومن قصده توجه إليهم صلوات الله عليهم وعلى أنوارهم وعلى أرواحهم وعلى أجسادهم وعلى أجسامهم وعلى ظاهرهم وعلى باطنهم وعلى أولهم وعلى آخرهم ورحمة الله وبركاته.

[المبحث الرابع : في الكشف عن حقيقة الاستعاذة وكيفيتها]

اعلم أن لا يمكن أن يتحقق العبد في مقام الاستعاذة والالتجاء والانقطاع إلا بعد العلم بأمور ثلاثة :

أحدها : أنّ له عدوّا قوّيا قاصدا له مترصّدا لإيصال الضرر إليه في نفسه ودينه وعياله وماله بحيث يعجز العبد عن مقاومته وكفّ ضرره عن نفسه.

ثانيا : أن الملجأ الذي يهرب إليه ويتوسّل به قويّ قاهر قادر على قهر ذلك العدوّ وإذلاله ، ودفع شره عنه ، والحيلولة بينه وبينه بحيث لا يمسّه شره أصلا.

ثالثها : أنّ هذا الملجأ ناصح مشفق برّ لطيف رؤف رحيم ، قد وعد على نفسه أن يجير من استجاره وأن يعيذ من استعاذ به ، وكلّما كانت العلوم المتعلقة بهذه المقاصد الثلاثة أقوى وأصفى وأجلى ، كان التحقق بمقام الاستعاذة والالتجاء أتمّ وأدوم وأكمل سيّما إذا نضمّ إليه العلم بانحصار الملجأ به دون غيره ، وهذه العلوم الثلاثة بل الأربعة حاصلة في المقام ، وإن كان في شيء منها ضعف فمن الشك في الدين ، أو من ضعف اليقين ، وإلّا فينبغي أن تنتهي هذه العلوم من مرتبة علم اليقين إلى عين اليقين ، بل حق اليقين.

أمّا العدوّ القويّ المترصّد فهو الشيطان اللعين بالضرورة من الدين بل بالشهود والعيان واليقين ، مضافا إلى الآيات الكثيرة التي نبّه الله فيها عباده بعداوة هذه العدو وأمرهم بالتجنّب والتحرّز عنه كقوله : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما ، إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ

٨٧

وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) (١).

وقوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) (٢).

وقوله : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) (٣).

(وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٤).

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٥).

هذا كلّه مضافا إلى ملاحظة منشأ عداوته لبني آدم وإنه صار مطرودا مدحورا بترك سجدة آدم ، فأضمر العداوة له ولذريته حتى أقسم على إيصال الضرر إليهم في أشرف ما لديهم وهو دينهم الذي هو حياتهم ، وبه بقاؤهم ونجاتهم ، فقال :

(فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٦).

(قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٧).

بل أمره الله تعالى أمرا تهديديا إمهاليا بقوله :

(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) (٨).

__________________

(١) سورة الأعراف : ٢٧.

(٢) سورة فاطر : ٦.

(٣) سورة الكهف : ٥٠.

(٤) سورة الزخرف : ٦٢.

(٥) سورة يس : ٦٠ ـ ٦١.

(٦) سورة ص : ٨٢ ـ ٨٣.

(٧) سورة الحجر : ٣٩ ـ ٤٠.

(٨) سورة الإسراء : ٦٤.

٨٨

وذلك لأنّه عبد الله تعالى في الجانّ اثنى عشر ألف سنة فلمّا أهلك الله الجانّ ، شكى إلى الله الوحدة ، فعرج به إلى السماء الدنيا فعبد الله تعالى فيها اثنى عشر ألف سنة أخرى في جملة الملائكة ، كما رواه الصدوق في «العلل» و «المجالس» (١) بل في «نهج البلاغة» في خطبة علي أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه عبد الله تعالى سنة آلاف سنة لا يدرى أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة (٢).

وإن كان المستفاد من بعض الأخبار أن عبادته في تلك المدة لم تكن لله تعالى بل لطلب زخارف الدنيا ، كما قال مولانا أمير المؤمنين عليه الصلاة والسّلام في جواب الزنديق على ما في «الإحتجاج» :

«إنه سجد سجدة واحدة أربعة آلاف عام لم يرد بها غير زخرف الدنيا ، والتمكين من النظرة» (٣).

وكيف كان فالطريق صعب ذو خطر ، والعدوّ قويّ مترصّد لإيصال الضرر ، وبعد ذلك لا بدّ للعبد من استشعار ضعفه وعجزه عن جلب شيء من المنافع أو دفع شيء من المضارّ إلّا بحول الله وقوته في المقامات العلمية والعلمية ، وإن كان الأول هو الأصل للثاني ، فالإنسان فيه في غاية العجز ولذا كثيرا ما يهلك من حيث لا يشعر ولا يلتفت ، فيقع في العقائد الباطلة والشبهات والشكوك والوساوس الشيطانية المفضية به إلى إنكار الحق بل الإلحاد والزندقة وهو بزعمه باق على استقامة الفطرة وحسن السليقة ، ولعلّ الجاهل مغرور باستعمال القواعد الميزانية ، مبتهج بإصابته في عقائده ولا يدري أن حال من خالفه في هذه العقيدة أو في سائر العقائد إنما هو كحاله في زعمه في حق نفسه وابتهاجه بإصابته ، ولعل غيره أولى

__________________

(١) علل الشرائع : ج ١ / ١٣٦ ـ ١٣٧ ، المجالس للصدوق : ٢٠٩.

(٢) نهج البلاغة : ج ١ / ٣٩٦ ـ ٣٩٩ في الخطبة القاصعة.

(٣) الإحتجاج : ج ١ / ٣٦٨.

٨٩

بالإصابة منه لقوة نظره ونفوذ بصيرته واستقامة سليقته ، ولهذا ترى أهل العالم بل المتسمين بالعلم منهم مختلفين في العقائد ، بل في الأديان ، وكل فرقة منهم تزعم النجاة لنفسه ويستدل له في زعمه بالبراهين القطعية مع إعمال القوانين المنطقية ، فكل منهم يدفع الخطأ عن نفسه إلى خصمه مع أنهما متساويان في كفتي ميزان الإصابة والبطلان ، بل ربما يصيب الأعمى رشده ويخطئ البصير قصده ، وقد يوفق الغبي للدليل ، وينحرف الفطن عن قصد السبيل ، بل رأينا كثيرا من العلماء المشهورين بالعلم والمعرفة قد أخطئوا في بعض العقائد طول عمرهم أو بقوا في شبهة واحدة أيام دهرهم ، وظنوا الباطل حقا ، والكذب صدقا ، ثم المستبان بنور الهداية والكشف خلاف ما فهموه ، بل كثيرا ما يقع الرجوع والعدول عن بعض العقائد ويحصل لهم صورة ادراكية مشبه ما كان سابقا في طرف الضد ، وحيث إن الأمر كذلك فلا خلاص من هذه الظلمات إلا بإعانة إله الأرض والسموات ، فما أشد احتياج الإنسان بالاستعاذة إلى واهب الحكمة والعرفان ومسدد العقول والأذهان ، ومن بيده ناصية الإنس والجن من الشيطان ، ولذا أمر نبيه بالاستعاذة تعليما للعباد بقوله : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) (١).

قيل : وهذه الاستعاذة مطلقة غير مقيدة بحالة مخصوصة.

وأما قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) (٢).

فهي استعاذة مخصوصة ، حيث إنّ لكلّ أحد ، وفي كل حالة ومقام شيطانا مخصوصا يجب الاستعاذة منه.

وأمّا الملجأ والمنجى والمعاذ فهو الله الحي القيوم القادر القاهر المقتدر الذي قد وعد عباده بحفظهم من شرّ الشيطان ، وضرّه ووسوسته بمجرد الدخول في حصن

__________________

(١) المؤمنون : ٩٧.

(٢) النحل : ٩٨.

٩٠

عبوديته ، ولذا قال : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ...) (١).

وقال بعد الأمر بالاستعاذة به منه : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (٢).

وفي هذه الآية انفصام لظهور أرباب العصيان ، لدلالتها على انتفاء الإيمان بمجرد إطاعة الشيطان ، وإنه ليس له سلطان إلا على المشرك بالرحمن ، وذلك للأخبار المستفيضة الدالة على أنّ «من أصغى إلى ناطق عبده فإن كان الناطق ينطق عن الله فقد عبد الله ، وإن كان الناطق ينطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان» (٣).

و «أن من أطاع المخلوق في معصية الخالق فقد عبده أو فقد أشرك» (٤).

كما قال الله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (٥).

فعن الصادق عليه‌السلام : «أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم لما أجابوهم ، ولكن أحلّوا لهم حراما ، وحرّموا عليهم حلالا ، فعبدوهم من حيث لا يشعرون» (٦).

بل يستفاد من قوله تعالى ، خطابا للمجرمين الممتازين : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ، وَأَنِ اعْبُدُونِي

__________________

(١) الإسراء : ٦٨.

(٢) النحل : ٩٩ ـ ١٠٠.

(٣) بحار الأنوار : ج ٧٢ / ٢٦٤ ، وفيه : وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس.

(٤) بحار الأنوار : ج ٧٢ / ٩٤ ، عن تفسير علي بن إبراهيم عن الصادق عليه‌السلام.

(٥) التوبة : ٣١.

(٦) الكافي : ج ٢ / ٣٩٨.

٩١

هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (١).

بعد ملاحظة عموم الخطاب لأهل العصيان ، وفقد من يزعم ربوبية الشيطان ، أنّ من أطاع الشيطان ، بل من خالف الله تعالى في أمر أو نهي فقد عبد الشيطان ، بقرينة المقابلة ، ولذا قال تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (٢).

وقال سبحانه : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ...) (٣).

وفي النبوي : «أبغض إله عبد في الأرض ، الهوى».

ولعل هذا هو المشار إليه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الشرك أخفى في أمتي من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء» (٤).

وحينئذ تجد نفسك ضعيفة من مقاومة هذا العدو ، إذ الإنسان قد خلق ضعيفا ، ولذا ورد في الدعاء :

«اللهمّ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا ، ولا أقل من ذلك ولا أكثر ، فإنك إن تكلني فإن نفسي هالكة أو تعصمها» (٥).

فخذ حذرك ، وشدد أزرك ، واعرف قدرك ، وفوض أمرك.

فإن التجأت بربك الرؤوف اللطيف ، فاعلم أنّ كيد الشيطان هيّن ضعيف ، وإن

__________________

(١) يس : ٦٠ ـ ٦١.

(٢) يوسف : ١٠٦.

(٣) الجاثية : ٢٣.

(٤) مضمون الحديث مرويّ بعبارات مختلفة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام منها : ما رواه الطبرسي في مجمع البيان ج ٤ ص ٣٥٩ عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الشرك أخفى من دبيب النمل على صفوانة سوداء في ليلة ظلماء ... الخبر ورواه عنه البحار ج ١٨ ص ١٥٨.

(٥) بحار الأنوار ج ١٤ ص ٣٨٧ عن الكافي ج ٢ ص ٥٨١ إلى : (ولا أكثر).

٩٢

احتجبت بحجابه الذي يحتجب به ، وتوجهت إلى بابه الذي يؤتى منه ، وأنت من غيره راجع تائب ، فقد نلت أقصى المطالب ، ومنتهى المآرب.

وإن قصدك الشيطان أتبعه شهاب ثاقب ، لأنّك حينئذ قد أقسمت بذمام الله المنيع الذي لا يطاول ولا يحاول ، وهذا الذمام ولايتهم عليهم الصلاة والسّلام ، ولذا ورد في دعاء الصباح على ما في «المتهجد» :

«أصبحت اللهم معتصما بذمامك المنيع ، الذي لا يطاول ولا يحاول ، من كل غاشم وطارق ، من سائر من خلقت وما خلقت من خلقك الصامت والناطق ، في جنة من كل مخوف بلباس سابغة ، وبأهل بيت نبيك (وفي بعض النسخ): سابغة ولاء أهل بيت نبيك ، محتجبا من كل قاصد لي بأذيّة بجدار حصين الإخلاص في الاعتراف بحقهم ، والتمسك بحبلهم ، موقنا أنّ الحقّ لهم ومعهم وفيهم وبهم ، أوالي من والوا وأجانب من جانبوا ، فأعذني اللهم بهم من شر ما أتقيه ... الدعاء». (١)

ومجمل الإشارة في المقام إلى الاعتصام بذلك الذمام الذي هو ولايتهم عليهم‌السلام أن يتأدّب بالآداب الشرعية ويستقيم على الوظائف الدينية ، ولا ينحرف عنهم في شيء من الأفعال والأقوال والأحوال والخطوات والنيّات والقصود والمقاصد ، فإذا فعل ذلك فهو من شيعتهم الذي خلقوا من فاضل طينتهم ، وسقوا بماء ولايتهم.

ولذا قال مولانا الرضا عليه التحية والثناء : «شيعتنا المسلّمون لأمرنا ، الآخذون بقولنا ، المخالفون لأعدائنا ، فمن لم يكن كذلك فليس منا» (٢).

وقال الصادق عليه‌السلام : «ليس شيعتنا من قال بلسانه ، وخالفنا في أعمالنا وآثارنا ،

__________________

(١) مصباح الشيخ ص ١٤٨ وعنه البحار ج ٨٦ ص ١٤٨ ح ٣١.

(٢) صفات الشيعة للصدوق : ص ١٦٤ ، وعنه بحار الأنوار : ج ٦٨ / ١٦٧ ، ح ٢٤.

٩٣

ولكن شيعتنا من وافقنا بلسانه وقلبه ، واتبع آثارنا ، وعمل بأعمالنا ، أولئك شيعتنا» (١).

وفي «إرشاد المفيد» و «الأمالي» و «صفات الشيعة» : أن أمير المؤمنين عليه‌السلام خرج ذات ليلة من المسجد ، وكانت ليلة قمراء فأمّ الجبّانة ولحقه جماعة يقفون أثره ، فوقف عليهم ، ثم قال : من أنتم؟

قالوا : شيعتك يا أمير المؤمنين.

فتفرّس في وجوههم ثم قال : فمالي لا أرى عليكم سيماء الشيعة؟

قالوا : وما سيماء الشيعة يا أمير المؤمنين؟

فقال عليه‌السلام : «صفر الوجوه من السهر ، عمش العيون من البكاء ، حديث الظهر من القيام ، خمص البطون من الصيام ، ذبل الشفاه من الدعاء ، عليهم غبرة الخاشعين» (٢).

وروى العياشي عن الصادق عليه‌السلام قال : «نحن أهل بيت الرحمة ، وبيت النعمة ، وبيت البركة ، ونحن في الأرض بنيان ، وشيعتنا عرى الإسلام ، وما كانت دعوة إبراهيم إلّا لنا ولشيعتنا ، ولقد استثنى الله إلى يوم القيامة على إبليس ، فقال : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) (٣)» (٤).

وفي رواية أخرى : «والله ما أراد الله بهذا إلا الأئمة وشيعتهم» (٥).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٦٨ / ١٦٤ ، ح ١٣.

(٢) إرشاد المفيد : ص ١١٤ ، وأمالي الطوسي : ج ١ / ٢١٩. وعنهما بحار الأنوار ج ٦٨ / ١٥٠ ـ ١٥١ ، ح ٤.

(٣) الحجر : ٤٢.

(٤) تفسير العياشي : ج ٢ / ٢٤٣ ، وعنه البحار : ج ٦٨ م ٣٥.

(٥) تفسير الفرات : ص ٨٣ ، وعنه البحار : ج ٦٨ / ٥٧ ، وفيه : والله ما أراد بها إلا الأئمة وشيعتهم.

٩٤

فهذا الصنف من الشيعة ليس للشيطان عليهم سلطان ، كيف وهم في ظلّ ولايتهم يعيشون ، وفي جوار الرحمن يتنعّمون ، ألا إنّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

وأمّا محبّوهم ومواليهم الذين ليسوا من مخلصي شيعتهم لاقترافهم بعض الخطيئات ، وانهماكهم في عاجل اللذات ، فلا ريب أنّ الاستعاذة والالتجاء بهم والاعتصام بحبلهم من شر شياطين الجن والإنس ، والنفس الأمارة الشهوانية والبهيمية والسبعية ، ومن خيلها ورجلها وفتنتها ووسوستها توبة لهم ورجوع إليهم فيوفقون بها لقلة التربص وحسن التخلص ، مع أنهم عليهم‌السلام قد ضمنوا لشيعتهم ذنوبهم ، وأصلحوا لهم عيوبهم.

فعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) (١) قال : «إذا كان يوم القيامة ولّينا حساب شيعتنا ، فمن كان مظلمته فيما بينه وبين الله استوهبناها فوهبت لنا ، ومن كان مظلمته فيما بينه وبيننا كنا أحق من عفى وصفح» (٢).

وعن رضي الدين بن طاوس أنه قال : سمعت القائم عجل الله فرجه بسر من رأى يدعوا من وراء الحائط وأنا أسمعه ولا أراه وهو يقول : «اللهم إنّ شيعتنا منا ، خلقوا من فاضل طينتنا ، وعجنوا بماء ولايتنا اللهم اغفر لهم من الذنوب ما فعلوه اتكالا على حبّنا وولائنا يوم القيامة ، ولا تؤاخذهم بما اقترفوه من السيئات ، إكراما لنا ، ولا تقاصهم يوم القيامة مقابل أعدائنا ، وإن خفّت موازينهم فثقّلها بفاضل حسناتنا» (٣).

__________________

(١) الغاشية : ٢٥.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ج ٢ / ٥٧ ، وعنه البحار : ج ٦٨ / ٩٨.

(٣) بحار الأنوار : ج ٥٣ / ٣٠٢ و ٣٠٣ ، وفيه هذه الحكاية بعبارتين مختلفتين.

٩٥

تنبيه

يمكن إبطال القول بالجبر بصحة الاستعاذة كما استدلّ به ، نظرا إلى أنّه اعتراف بكون العبد فاعلا لتلك الاستعاذة ، ولو كان الفعل من الله كذب العبد ، وإن الله إذا خلق فعلا في العبد امتنع لكل أحد دفعه ، وإذا لم يخلقه امتنع تحصيله ، وإن الاستعاذة بالله إنما يحسن إذا لم يكن خالقا للأمور التي يستعاذ منها ، ومع كونه خالقا لها يلزم الاستعاذة به منه ، فالوسوسة حينئذ ليست فعلا للشيطان فكيف يستعاذ منه.

ولله در ابن (١) الحجاج حيث قال :

المجبرون يجادلون بباطل

وخلاف ما يجدون في القرآن

كلّ مقالته : الإله أضلّني

وأراد بي ما كان عنه نهاني

أيقول ربك للخلايق آمنوا

جهرا ويجبرهم على العصيان

إن صحّ ذا فتعوذّوا من ربكم

وذروا تعوّذكم من الشيطان

وقال بعض الأجلّاء : إن قريشا كانت في الجاهلية على الجبر ، وقد نزل الكتاب بإبطاله ، لكن أحياه بنو أمية ، فنسبوا شقاوتهم إلى الله ، ولذا قيل : العدل والتوحيد علويّان ، والجبر والتشبيه أمويان.

والحق أن بطلان القول بالجبر مما يقضى به بعد الكتاب والسنة ضرورة وجدان الإختيار في كل ما يصدر منا من الأفعال.

مضافا إلى أنّ فيه انهدام أساس الشرائع والسياسات والأحكام ، بل المعاد وما فيه من الثواب والعقاب.

__________________

(١) هو أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن الحجاج الأديب الشاعر الشيعي البغدادي المتوفي (٣٩١) ه. ـ العبر : ج ٣ / ٥٠.

٩٦

فلا يصغي إلى ما ربما يقال مرة : إنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، ووقوع الشيء على خلاف علمه يقتضي انقلاب علمه جهلا ، وذلك محال والمؤدي إلى المحال محال ، وأخرى أنّ قدرة العبد إن كانت معينة لأحد الطرفين فالجبر لازم وإن كانت حاصلة لهما فمع المرجح إن كان من العبد عاد التقسيم فيه ويتسلسل ، أو الله فيلزم عليكم ما ألزمتمونا ، ومع عدمه لا يمكن حصول الفعل ، مع أن الرجحان حينئذ اتفاقي ، فيعود الجبر.

إذ الوجهان في غاية الضعف وإن استصعبهما بعض الأعلام ، للمنع من كون العلم علة للمعلوم أو مؤثرا فيه بوجه سيّما في العلم الذاتي الذي لا تعلق فيه أصلا ، وقدرة العبد صالحة للطرفين بالضرورة الوجدانية ، والإختيار هو المرجّح لأحدهما ، والعبد إنما يفعل الإرادة ويحدثها بنفسها لا بإرادة حادثة قبلها حتى يلزم التسلسل أو الانتهاء إلى الواجب حسب ما تسمع تمام الكلام في الموضع اللائق به إن شاء الله.

نعم ، من بعض أهل التشكيك في مقام الاستعاذة شكوك واهية :

منها : أن المطلوب من قولك «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ، إنما أن يمنع الله الشيطان من عمل الوسوسة بالنهي والتحذير ، أو على سبيل القهر والجبر.

أما الأول فهو حاصل منه وتحصيله بالطلب محال لأنه تحصيل للحاصل ، والثاني باطل لأنه ينافي التكليف الذي دل الدليل على ثبوته ، ولو بالنسبة إلى الشياطين.

ومنها : أن الله تعالى إن أراد إصلاح حال العبد فالشيطان غير قادر على إغوائه وإلّا فلا يفيد الاعتصام أيضا.

ومنها : أن صدور الوسوسة من الشيطان إن كان بواسطة شيطان آخر

٩٧

لزم التسلسل ، وإلا فلم لا يجوز مثله في البشر ، ولم اختص الشيطان بالاستعاذة منه.

والجواب من الأول : أن المسؤول هو ـ التوفيق للتحقق في مقام العبودية التي ينكشف معها فساد ووساوس الشيطان ، ولذا قال سبحانه : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) (١).

فإنهم دخلوا في حزب الرحمن ، فلا يؤثر فيهم تلك الوساوس ، فالمطلوب هو العصمة الحاصلة بالاعتصام والالتجاء إليه سبحانه.

ومن الثاني : أنه يريد ذلك إرادة عزيمة لا حتمية ، ولذا صحّ عندنا تكليف الكفار.

ومن الثالث : أنّ المراد بالشيطان هو كل ما يدعو إلى غيره سبحانه من الجن والإنس ، ولذا جعل عبادته في مقابلة عبادته سبحانه في قوله :

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٢).

مع أنك لا تكاد ترى أحدا يزعم أنه يعبد الشيطان ، لأن جميع الأمم يتبرءون منه ، فدواعي الشرور من كل موجود منتهية إليه انتهاء فطريا أو فعليا.

__________________

(١) الحجر : ٤٢.

(٢) يس : ٦٠.

٩٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا خلاف في أنّ البسملة بعض آية في سورة النمل. ولا في أنّ بعضها بعضها في هود ، ولا في أنها ليست بآية ولا بعضها في برائة ، إما لأنها سورة السيف ، ونزلت لرفع الأمان ، وبسم الله أمان ، أو لأنها مع الأنفال سورة واحدة ، ولذا عدّتا معا سابعة السبع الطول.

وإنما الخلاف في أنها جزء من سائر السور أم لا؟

فالشيعة الإمامية على أنها جزء من الفاتحة وغيرها من السور ، يجب قراءتها معها ، وهو مذهب أهل البيت روحي لهم الفداء وعليهم آلاف التحية والثناء ، وتبعهم بعض فقهاء العامة كأحمد ، وإسحاق (١) ، وأبي ثور (٢) ، وأبي عبيدة (٣) ، وعطاء ، والزهري (٤) وعبد الله بن المبارك (٥).

وهو مذهب ابن عباس ، وأهل مكة ، وأهل الكوفة كعاصم ، والكسائي ، وغيرهما ، سوى حمزة ، وغالب أصحاب الشافعي.

وقال بعض الشافعية وحمزة : إنها جزء في الفاتحة فقط دون بقية السور. لكن حكى العلامة في «المنتهى» عن الشافعي : أنها بعض آية من أول الحمد بلا خلاف ، وفي كونها آية من كل سورة قولان :

__________________

(١) هو إسحاق بن إبراهيم المروزي المعروف بابن راهويه المتوفى سنة (٢٣٧) ه.

(٢) هو إبراهيم بن خالد صاحب الشافعي أبو ثور الكلبي المتوفى (٢٤٠) أو (٢٤٦) ه.

(٣) هو أبو عبيدة معمر بن المثنى البصري المتوفى (٢١٠) ه.

(٤) هو محمد بن مسلم المدني الزهري المتوفى (١٢٤) ه.

(٥) عبد الله بن المبارك الفقيه المروزي المتوفى (١٨١) ه.

٩٩

أحدهما : أنها آية من كل سورة.

والآخر : أنها بعض آية من أول كل سورة وتتم بما بعدها آية.

وعن أبي حنيفة ، ومالك (١) ، والأوزاعي (٢) ، وداود (٣) : أنها ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور ، وهو المشهور بين المتأخرين من الحنفية ، بل من أهل المدينة ، والشام والبصرة.

نعم ، ذكر البيضاوي (٤) أن أبا حنيفة لم ينص بشيء ، فظنّ أنها ليست من السورة عنده والظّان صاحب (٥) الكشاف وأتباعه.

وعن مالك وتالييه (٦) : يكره أن يقرءها في الصلاة ، وربما يجعل محل الخلاف أنها آية واحدة غير متعلقة بشيء من السور ، أو مائة وثلاث عشر آية من مائة وثلاث عشر سورة كالآيات المكررة في بعض السور ، مثل (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

وعلى كل حال ، فالذي ينبغي القطع به أنها آية من كل سورة من الفاتحة وغيرها لإجماع الإمامية ، بل وإجماع أهل البيت عليهم‌السلام الذي هو الحجة عند المخالف فضلا عن المؤالف لآية التطهير وأخبار الفريقين ، وغير ذلك مما حرر في الأصول ،

__________________

(١) هو مالك بن أنس الأصبحي المدني المتوفى (١٧٩) ه. ـ العبر : ج ١ / ٢٧٢.

(٢) هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي الفقيه الشامي المتوفى (١٥٧) ه. ـ العبر : ج ١ / ٢٢٧.

(٣) هو داود بن علي الأصبهاني الظاهري المتوفى (٢٧٠) ه ، تقدم ذكره.

(٤) البيضاوي : القاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر الشافعي المتوفى (٦٨٥) ه. ـ سفينة البحار : ج ١ / ٤٣٥.

(٥) هو أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري المتوفي (٥٣٨) ه.

(٦) هما الشافعي وأحمد بن محمد بن حنبل.

١٠٠