تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

خاصّة؟ أو الضّمائم المتّصلة به من الهاء والكاف والياء وغيرها؟ أو المجموع من حيث المجموع ، أو الجميع بمعنى كلّ منهما على أقوال.

فالجمهور على أنّ إيّا اسم للمضمر المنصوب ، ولواحقه حروف للخطاب وغيره اكّد بها الضّمير لا محلّ لها من الاعراب كما لا محلّ للكاف وأخواته في قولك : ذلك ذلكما ذلكم ، وقولك : أرايتك أرايتكما أرايتكم بمعنى طلب الإخبار عن علم.

حيث إنّه لو كان الكاف مفعولا لزم الجمع بين ضميري الفاعل والمفعول في غير أفعال القلوب ، ولكان قولك أرايتك زيدا ما شانه بمعنى أرايت نفسك زيدا ما شانه ، فيلزم أن يكون معدّى إلى ثلاثة مفاعيل ، مع عدم استقامة المعنى أيضا ، وهذا مذهب الأفضل والمحكي عن البصريّين بل عن الكوفيّين أيضا.

وعن الزّجاج وغيره أنّ إيّا اسم للمضمر المنصوب ، إلّا أنّه ظاهر يضاف إلى سائر المضمرات فتقول : إيّاه ضربت ، وإيّاك أكرمت ، وإيّاي أعطيت ، فموضع إيّا النّصب بالفعل ، وموضع الضّمائم الخفض بالاضافة إلّا أنّه لا يضاف إلى غيرها إلّا شاذّا كما حكى الخليل عن العرب : إذا بلغ الرّجل السّتين فإيّاه وايّا الشّوابّ أى فليحذر من النّسوة الشّابة.

وردّ بأنّ إيّا ليس بظاهر بل مضمر لتغيّر ذاته وامتناع ثباته في حال الرّفع والجرّ والظّاهر يتوارد عليه الحركات في اخره من غير أن يتغيّر بنفسه.

وفيه المنع من تغيّره في ذاته لانّ المتغيّر هو اللّواحق مع إمكان أن يكون لنوع من الضّمير ، وهو المنصوب خاصّة.

فالاولى في الجواب أن يقال : إنّ إيّا إذا كان اسما للمضمر فهو يفيد إفادته فإضافته إليه تكرير أو تأكيد غير مستفاد من اللّفظ ، وبهذا يبطل أيضا ما يحكى عن بعضهم إنّ إيّا اسم مضمر نائب مناب الضّمير ولعلّه يرجع إلى ما مرّ وإن قيل : إنّ

٤٨١

سيبويه إنّما عدل إليه نظرا إلى أنّ الضّمير لا يضاف سيّما مع كونه أعرف المعارف.

وربّما يقال : إنّه اسم مشتقّ من أوى يأوى ، وأصله عند هذا القابل إويا على وزن فعلى فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء لاجتماعهما وسبقة أوّلهما بالسّكون.

وربّما يقال : إنّه اسم ظاهر لازم للإضافة مثل سبحان ، وعن ابن درستويه أنّه متوسّط بين الظّاهر والمضمر كاسم الإشارة.

وعن المبرّد أنّه اسم مبهم أضيف إلى ما بعده كاضافة كلّ وبعض ، وعن سيبويه والأخفش وأكثر المتأخّرين أنّ الضّمير هو إيّاه واللّواحق لمجرّد الدّلالة على الغيبة والخطاب والتكلّم والإفراد والجمع وغير ذلك.

وعن بعضهم أنّ كلّ واحدة من الصّيغ الّتي هي إيّاه وايّاهما إيّاهما الى إيّاى ايّانا صيغة مستقلّة ، والضّمير هو مجموع الكلمة ، ولا داعي إلى جعله بعضها بعد الاستفادة من الكلّ ، سيّما مع عدم مرجّح للبعض على الكلّ وعلى بعض آخر.

وربما يقال : إنّ إيّا اسم بمعنى النفس الّتي تضاف إلى الأشخاص والأعيان فمعنى إيّاك نعبد نفسك نعبد كما قال تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) (١) إلى غير ذلك من الأقوال الضّعيفة الّتي لم نتعرّض لأدلّتها لضعفها جدا ولعل الأقوى وإن خالف المشهور بينهم في الجملة إذ لا بأس به انّ الضّماير هي الهاء والياء وما اشتقّ منها للمثنى والجمع هو بعينها الضّماير المتّصلة المنصوبة في قولك أكرمته وأكرمهما ، إلخ.

وأكرمتك واكرمتكما وأكرمتني وأكرمتنا وبالجملة هذه الضّماير المتّصلة المنصوبة هي بعينها الضّمائر المنفصلة المنصوبة غاية الأمر انّها لما كانت ممّا لا يبتدأ بها توصّلوا إلى الابتداء بها بلفظ أيّا ولذا سمّاه الكوفيّون عمادا لما يأتى

__________________

(١) المائدة : ١١٦.

٤٨٢

بعدها من اللّواحق ، ولعلّه أيضا مراد من سمّاه سلّم اللّسان حيث إنّه سبب التمكّن اللّسان من التّلفظ بها عند ارادة تقديمها على الفعل أو تأخيرها عن ارادة الاستثناء والتفكيك بين حالتي الاتّصال والانفصال بالإعمال والإهمال لا يخلو عن شوب الإشكال ، وعلى كلّ حال فيتوصل بالعماد إلى التكلّم بهذه الضّماير عند ارادة تقديمها على الفعل كما في المقام أو الفصل بالاستثناء نحو ما أردت إلّا إيّاك أو العطف نحو ذكرتك وإيّاه أو التكرار نحو : أدعوك وايّاك أو لضرورة الشّعر.

وممّا يؤيّد ما ذكرناه ما ذكره الجوهري حيث قال : إنّه اسم مبهم ويتّصل به جميع المضمرات المتّصلة للنّصب نحو : إيّاى وإيّاك وإيّاه وإيّانا ، وجعلت الكاف والياء والهاء بيانا عن المقصود ليعلم المخاطب من الغايب ، ولا موضع لها من الإعراب ، فهي كالكاف في ذلك وأ رايتك وكالألف والنون الّتي في أنت ، فيكون إيّا الاسم وما بعدها للخطاب (١).

وفي القاموس ما يقرب منه وصرّح فيه بانّ إيّا بالكسر والفتح ، وأنّ همزته تبدل هاء وتارة واوا ففيه ستّ لغات وقد قرئ في المقام بأربعة منها ، وهي ما سوى الواو مكسورة ومفتوحة لكنّ الثلاثة غير الاولى من الشواذّ.

وقرئ بكسر النّون في الفعلين (اى نعبد ونستعين قيل : وهي لغة بنى تميم فإنّهم يكسرون حرف المضارعة سوى الياء إذا لم ينضم ما بعدها ، فإن انضمّ ما بعدها كتقوم لم تكسر لثقل الانتقال عن الكسر إلى الضّم.

وفي الكشّاف قرأ ابن حبيش (٢) نستعين بكسر النّون.

__________________

(١) الصحاح ج ٦ / باب الألف الليّنة.

(٢) هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن حبيش الأندلسى المقرئ ولد سنة (٥٠٤) وتوفّى سنة (٥٨٤). ـ غاية النهاية ج ١ / ٣٧٨.

٤٨٣

قلت : ذكر الشّيخ الّرضى (١) رضى الله عنه أنّ كسر حروف المضارعة إلّا الياء لغة غير الحجازيّين إذا كان الماضي مكسور العين ويكسرون الياء أيضا إذا كان ما بعدها ياء اخرى.

قوله نعبد إمّا من العبادة ، أو من العبوديّة ، فانّ الأتي منهما مضموم العين ، وإن كان الماضي من الأوّل بالفتح ، ومن الثاني بالضّم ، فصاحب العبادة عابد مطيع ، وصاحب العبودية عبد منقاد.

والعبادة أن تفعل ما يرضيه الله ، والعبوديّة أن ترضى بما يفعله الله ، وأصل الباب هو الذّلّة والانقياد تقول : طريق معبّد : أى مذلّل بكثرة الوطي ، والمعبّد على ما في القاموس من الأضداد يطلق على المذلّل وعلى المكرّم ، وذلك لأنّ ذلّة العبوديّة توجب الفوز بالكرامة والسّلامة والاقامة في دار المقامة ، وهذه العبوديّة هي الّتي افتخر بها نبيّنا خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على سائر الأنبياء في قوله : «الفقر فخرى وبه أفتخر على سائر الأنبياء» (٢) ، إذ المراد به هو الافتقار والانقطاع الكلّى إلى الله تعالى. وبالجملة كلّ من العبادة والعبوديّة على فرض تغايرهما تصلح لاشتقاق الفعل منه ، ولذا اثنى الله تعالى على الأنبياء والملئكة في قوله : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) (٣) ، (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) (٤) ، (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) (٥) و (كانُوا لَنا عابِدِينَ) (٦).

__________________

(١) هو محمد بن الحسن رضى الدين الإسترابادى شارح الكافية والشافية لابن الحاجب توفّى سنة (٦٨٦) ه. ـ معجم المؤلفين ج ٩ / ١٨٣.

(٢) بحار الأنوار : ج ٦٩ / ٣٠ وليس فيه : (على سائر الأنبياء).

(٣) الأنبياء : ٢٦.

(٤) الأعراف : ٢٠٦.

(٥) ص : ٤٥.

(٦) الأنبياء : ٧٣.

٤٨٤

وشرّف المؤمنين بانتسابهم إلى عبوديته وكرّمهم وفضّلهم بقوله : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) (١) ، (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ) (٢) ، (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) (٣).

ووصفهم بأحسن الحلية في قوله : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) (٤).

والعبوديّة أصل للعبادة ولذا قال سبحانه : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ) (٥) آه تنبيها على أنّ العبوديّة تقتضي العبادة والاستنكاف عنها استنكاف عن الأولى.

ثمّ إنّ العبوديّة وإن قيل انّها تجيء في اللّغة لمعان خمسة : الذلّة والمقهورية كقوله : (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (٦) اى ذلّلتهم وقهّرتهم ، والتكليف بالأمر والنّهى كقولك تعبّد فلانا أى كلّفه بالأمر والنّهى ، وشدّة نسبح الثّوب وقوّته من قولهم : ثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاءة وقوّة ، وتحمّل العناء من قولك : بعير معبّد إذا كان مطليّا بالقطران ، والانكسار والخضوع عن قولهم طريق معبّد.

إلّا أنّ الحقّ رجوعها إلى ما سمعت وإن كان بين كلّ منها وبين العبوديّة المضافة إلينا من المناسبة ما لا يخفى ، وكذا سائر مستعملاتها ممّا سوى الخمسة ، بل وكذا معاني العبادة الّتي قيل هي التّوحيد في قوله : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) (٧) والدّعاء في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) (٨) والطّاعة في

__________________

(١) الزمر : ٥٣.

(٢) الزخرف : ٦٨.

(٣) الحجر : ٤٢.

(٤) التوبة : ١١٢.

(٥) الأنبياء : ١٧٢.

(٦) الشعراء : ٢٢.

(٧) النساء : ٣٦.

(٨) غافر : ٦٠.

٤٨٥

قوله : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي) (٩).

ولذا قال مولينا عليه‌السلام : من أصغى إلى ناطق فقد عبده فان كان النّاطق ينطق عن الله فقد عبد الله وان كان الناطق ينطق عن الشّيطان فقد عبد الشّيطان (١٠).

والكرامة في قول حاتم الطّائي (١١) : أرى المال عند الباخلين معبّدا (١٢) أى مكرّما.

ويؤيّده ما سمعت من القاموس ، والتجريد في قول الأعشى يجوب البوادي كالبعير المعبّد أى المجرّد بل قد يحكى عن ابن السّكيت إنّ العبادة هي التّجرد.

ومناسبة المعاني الخمسة للمطلوب واضحة أمّا التوحيد فلأنّ أوّل الدّين معرفته وكمال معرفته توحيده (١٣) ، وأمّا الدّعاء فلقول الصّادق عليه‌السلام أنّه العبادة ، وحقيقة العبادة وأفضل العبادة (١٤).

وذلك لما فيه من الانقطاع الكلّى إلى الله ، والاعتراف حالا وبالا وقالا بالعبوديّة والافتقار الكلّى إلى الغنى المطلق والقيّوم الحقّ الّذي هو منتهى مطلب

__________________

(٩) يس : ٦٠ ـ ٦١.

(١٠) في البحار : ج ٢٦ / ٢٣٩ ح ١ عن العيون ص ١٦٨ عن الامام الرضا عليه‌السلام عن آبائه الكرام عليهم‌السلام ، عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : من أصغى الى ناطق فقد عبده ... الى أن قال : وان كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس.

(١١) هو حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي القحطانى ، شاعر ، فارس ، جواد جاهلي مات (٤٦) قبل الهجرة.

(١٢) في تاج العروس ج ٧ ط الكويت : تقول :

ألا تبقى عليك فإنّنى

أرى المال عند الممسكين معبّدا

(١٣) نهج البلاغة أوائل الخطبة الأولى.

(١٤) بحار الأنوار : ج ٩٣ / ٢٩٨ وفيه : هي والله العبادة ، هي والله العبادة ...

٤٨٦

الحاجات ومن عنده نيل الطّلبات ولذا قال سبحانه : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) (١) ، وذلك لأنّه حقيقة العبادة الّتي خلق العباد لأجلها.

وأمّا الطّاعة فلأنّها من مقتضيات التّوحيد ومراتبه ، ولذا يعدّ المخالف فيها مشركا كما في قوله :

(وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (٢) ، وإن ورد في الخبر : انّه شرك طاعة وليس شرك عبادة (٣).

فانّه بالنظر إلى إطلاقها الخاصّ الّذى هو للعامّة لا للعام الّذي هو للخاصّة فالتّوحيد بداية مراتب الطّاعة ، والطّاعة نهاية مراتب التّوحيد ، والعبادة بكلّ من المعنيين تتضمّن الآخر ، وأمّا الكرامة فهو الافتخار النّاشى من الافتخار المشار اليه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «الفقر فخرى وبه افتخر على سائر الأنبياء» لتحقّقه في مقام العبوديّة واستقامته في طريق الجنّة حتّى أقرّ له بالرّبوبيّة والألوهيّة مخلصا صادقا في جميع أفعاله وأقواله وأحواله وخطراته ونيّاته وظاهره وباطنه وسرّه وعلانيته فهو آدم الأوّل الأقدم ، والسيّد المعظم المكرّم ولقد كرّم الله نبيّه ، وذرّيّته بفضل كرامته ، بأن منّ عليهم باشراق أشعة أنوار طاعته وعبادته فقال : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) (٤) ، الآية فاذا أخلص الطّاعة لله ومحّض العبادة له تجرّد عن الإضافات والعلائق الجسمانيّة والعوايق الهيولانيّة والغواسق الظّلمانيّة فيتحقّق في مقام العبوديّة ويجنى من ثمار الرّبوبيّة ويتمكّن على بساط الأنس المستمرّ في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

__________________

(١) الفرقان : ٧٧.

(٢) سورة يوسف : ١٠٦.

(٣) تفسير القمى ج ١ / ٣٥٨ باسناده عن أبى جعفر عليه‌السلام.

(٤) الإسراء : ٧٠.

٤٨٧

ثمّ انّه يستفاد من تفسير الإمام عليه‌السلام أنّ الكلام على تقدير القول حيث قال : قال الله تعالى : قولوا يا أيّها الخلق المنعم عليهم إيّاك نعبد أيّها المنعم علينا ونطيعك مخلصين مع التذلّل والخضوع بلا رياء ولا سمعة ، وإيّاك نستعين منك نسئل المعونة على طاعتك لنؤديها كما أمرت ونتّقي من دنيانا ما نهيت عنه ، ونعتصم من الشّيطان الرّجيم من سائر مردة الجنّ والانس من المضلّين ومن المؤذين الظّالمين بعصمتك (١).

نقل وافادة في تحقيق العبادة

العبادة قيل هي سياسة النفس على تحمّل المشاق في الطّاعة ، وردّ بانّ للملائكة عبادة ليست فيها شيء من المشقّة لكونها على مقتضى كينوناتهم المجرّدة المحضة ولذا ورد أنّ غذائهم التّسبيح بل وكذا غيرهم من الّذين يتبهّجون بالعبادة ويتنعّمون بها وبانّه قد يصدق على طاعة الابن لأبيه والعبد لسيّده والأجير للمستأجر ونحوها ، وقيل : إنّها الطّاعة للمعبود وهو مشتمل على دور ظاهر مضافا إلى انتقاضه طردا بإطاعة كلّ مطيع لكلّ مطاع وعكسا بعبادة الكفّار للأصنام الّتي ليس لها أمر ولا نهى بل لا يتحقّق الامتثال بالنّسبة إليها.

ويمكن دفع الأوّل بأنّ التّعريف لفظىّ أريد به مجرّد تصوّر المعنى ، والثّانى بعدم صدق المعبود على كلّ مطاع والشّاهد العرف ، والثّالث : بأنّ المعبود حقيقة عند عبادة الأصنام هو الشّيطان ، ولذا قابله بعبادة الرّحمن في قوله : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا

__________________

(١) تفسير الامام العسكري عليه‌السلام ص ١٨.

٤٨٨

صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (١) إلّا أن يقال إنّه لا يمنع من إطلاقه على غيره أيضا.

وقيل : إنّها الخضوع بأعلى مراتب الخضوع مع التعظيم بأعلى مراتب التّعظيم ، ولا يستحقّ ذلك إلّا بأصول النّعم وأعظمها من الوجود والحيوة والأرزاق والإمدادات الجسمانيّة والروحانيّة ممّا لا يقدر عليه أحد إلّا الله ، ولذلك اختصّ سبحانه بأن يعبد دون غيره ، فلا يستحقّ بعضنا على بعض العبادة وإن استحقّ عليه الشّكر والطّاعة.

وهذا التّعريف ذكره أكثر المحقّقين كالطّبرسى والبهائى والصّدر الشّيرازى وغيرهم إلّا أنّه يخرج عنه كثير من أفراد العبادة ممّا ليس في أعلى مراتب الخضوع والتّعظيم ، سواء اعتبر التّفضيل على الإطلاق أو بالاضافة في كلّ أحد بالنّسبة إلى حدّه ومقامه ودرجته.

اللهم إلّا أن يقال : إنّ الطّاعة بأنواعها وإن كانت مشتملة على الخضوع والتّعظيم إلّا أنّ نوعا منها مفضّل على غيره من الأنواع وهو ما كان على وجه العبوديّة للاله الحقّ أو الباطل ممّا يتخذونه آلهة فإنّ هؤلاء وإن لم يكونوا آلهة في الحقيقة ، ولذا لا تحقّ لها العبادة لكن اللّغة بل العرف لا تأبى عن إطلاق العبادة على تعظيم عبدة الأصنام لآلهتها.

وعلى كلّ حال فالأمر سهل هيّن في التّعاريف اللّفظية الّتي هي مجرّد القشور ، ولا يحتوي على شيء من النّور ، وإنّما الخطب في تحقيق حقيقة العبادة بل في التّحقق بها ، ولذا قيل : إنّها خلوص النّفس عن رقّ كلّ حظّ من الحظوظ الدّنيوية والأخرويّة ليعبد الله للحقّ لا للحظّ.

والحقّ أنّ هذا أكمل مراتبها وأرفع درجاتها فلا ترفع التسمية عن غيرها ،

__________________

(١) يس : ٦٠.

٤٨٩

ولذا قال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنّتك بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك (١) ، حيث أنّ ظاهره صدقها على الأوّلين أيضا وان اختصّ عليه‌السلام بالثّالث.

وأظهر منه ما روى عن مولانا الصّادق عليه‌السلام قال : العبّاد ثلاثة قوم عبدوا الله خوفا فتلك عبادة العبيد وقوم عبدوا الله طمعا فتلك عبادة الأجراء ، وقوم عبدوا الله حبّا فتلك عبادة الأحرار (٢).

وأمّا أركان العبادة وحدودها الموجبة للتّحقّق بحقيقتها فهي ما أشار إليه مولانا الصّادق عليه‌السلام في خبر عنوان البصري على ما رواه شيخنا المجلسي في البحار قال عليه‌السلام : ليس العلم بالتّعلّم إنّما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه فان أردت العلم فاطلب أوّلا في نفسك حقيقة العبوديّة واطلب العلم باستعماله واستفهم الله يفهمك قال : قلت : فما حقيقة العبوديّة؟ قال : ثلاثة أشياء أن لا يرى العبد لنفسه ممّا خوّله الله ملكا ، لأنّ العبيد لا يكون لهم ملك يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به ، ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيرا ، وجملة اشتغاله فيما أمره الله به ونهاه عنه ، فاذا لم ير العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكا هان عليه الإنفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق فيه ، وإذا فوّض العبد تدبير نفسه على مدبّره هان عليه مصائب الدّنيا ، وإذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالى ونهاه لا يتفرّغ منهما إلى المراء والمباهاة مع النّاس ، فاذا أكرم الله العبد بهذه الثلاثة هان عليه الدّنيا وإبليس والخلق ، ولا يطلب الدّنيا تكاثرا وتفاخرا ، ولا يطلب ما عند النّاس عزّا وعلوّا ، ولا يدع

__________________

(١) شرح غرر ودرر للخوانسارى ج ٢ / ٥٨٠. شرح التوحيد للقاضي سعيد القمى ج ١ / ٧٣٣.

(٢) الكافي ج ٢ / ٨٤ وعنه البحار : ج ٧٠ / ٢٥٥ ح ١٢.

٤٩٠

أيّامه باطلا فهذا أوّل درجة التّقى (١) ، الخبر فهذه الأمور الثّلثة الّتي ذكرها عليه‌السلام منازل ومراحل يقطعها النّساك والئلّاك في التّوصّل إلى حقيقة العبودية لله سبحانه توصّلا مبنيا تحقيقيا وهي مترتبة متدّرجة من الأدنى إلى الأعلى فأوّلها أن لا يرى العبد لنفسه ملكا ممّا خوّله الله تعالى من الوجود والبقاء والإدراكات والإرادات والآلات والأدوات والأفعال والأعمال والأقوال والأموال وغيرها ممّا ينسب إليه ولو بالنّسبة الجعلية أو يضاف إليه بالاضافات الاعتباريّة ، وبالجملة يرى كلّ شيء منه سبحانه وفي قبضته وإرادته كما قال مولينا الرّضا عليه‌السلام هو المالك لما ملكهم والقادر على ما عليه أقدرهم ، وبعد كشف السّبحات وسقوط الإضافات ينفتح باب الفؤاد ويبشّر بنيل السّداد وينتهى إلى المقام الثّاني ويرى نفسه في قبضته فالأرض جميعا قبضته وسموات العقول مطويات بيمينه ، فيرى ذاته وحقيقته فائضا من الله قائما بفعله سبحانه قيام صدور ، ولذا لا يدبّر لنفسه شيئا إذا لأمر كلّه لله ، وهو عبد مملوك لا يقدر على شيء وهو كلّ على مولاه لا يستطيع لنفسه نفعا ولا ضرّا ولا يملك موتا ولا حيوة ولا نشورا ، فاذا لم يهمّه أمر نفسه وشئون ذاته في صقع التمكين والتكوين ومقام الاستعداد وسائر شؤنه في عالم الملك وعرصة التضادّ ، وشمّر من ساق الجدّ والاجتهاد لطاعة ربّ العباد فيجعل جملة اشتغاله فيما أمره الله به ونهاه عنه ، ويصرف كلّ نعمة من النّعم الّتي أنعم الله بها عليه من القوى الباطنة والظّاهرة والآلات والأدوات والأموال وغيرها من الإضافات فيما خلق لأجله ، وهو حقيقة الشكر الّذي يجب للمنعم الحقيقي على العبيد.

ولذا قال غير واحد من المحقّقين : إنّ العبادة ضرب من الشكر ، بل هو أعلاه وأغلاه ، فيرى العبد حينئذ جميع نعمه من الله فيصرفه فيما أمره به ، لأنّ الله تعالى

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١ / ٢٢٤ ـ ٢٢٦ ح ١٧.

٤٩١

استخلفه فيه كما قال : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (١) ، وروى العيّاشى عن مولينا الصّادق عليه‌السلام : قال أترى الله أعطى من أعطى من كرامته عليه ، ومنع من منع من هوان به عليه ، لا ولكنّ المال مال الله يضعه عند الرّجل وودائع ، وجوّز لهم أن يأكلوا قصدا ، ويشربوا قصدا ، ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين ، ويلمّوا به شعثهم ، فمن فعل ذلك كان يأكل حلالا ويشرب حلالا ويركب وينكح حلالا ، ومن عدا ذلك كان عليه حراما ثمّ قال : (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (٢) أترى الله ائتمن رجلا على مال خوّل له أن يشترى فرسا بعشرة آلاف درهم ويجزيه فرس بعشرين درهما ويشترى جارية بألف دينار ويجزيه بعشرين دينارا وقال : ولا تسرفوا إنّه لا يحبّ المسرفين (٣).

وبالجملة إذا تحقّق العبد في مقام العبوديّة حسب ما ذكره عليه‌السلام هانت عليه جميع الطّاعات القلبيّة والقالبيّة والماليّة وهانت عليه جميع الآلام والمصائب لأنّه حينئذ كالميّت بين يدي الغسّال وليس له نظر إلّا إلى العزيز المتعال ، فاندكّت جبل إنيّته واضمحلّت إرادته في إرادته ، فلا يشاء إلّا ما أراد الله ، لصيرورة قلبه وعاء لمشيّة الله ، فيكون سمعه الّذى يسمع به وبصره الّذى يبصر به ، ولسانه الّذى ينطق به كما في الحديث القدسي (٤).

اعلم أنّ الالتفات من الغيبة إلى الخطاب من جملة فنون البلاغة الّتي يتفنّن بها مصاقع البلغاء ، وذلك لأنّه لما كانت الدّنيا دار التّعب والكلال والنّصب والملال وتطوّر الأحوال ، فمن عادة الفصحاء التفنّن في الكلام ، والعدول من طرز إلى طرز ،

__________________

(١) الحديد : ٧.

(٢) الأعراف : ٣١.

(٣) بحار الأنوار : ج ٧٥ / ٣٠٥ ح ٦ عن تفسير العياشي ج ٢ / ١٣.

(٤) البحار : ج ٧٠ / ٢٢ ح ٢١ عن محاسن البرقي ص ٢٩١.

٤٩٢

ومن نمط إلى نمط ، تنشيطا للسّامع ، وتنبيها للغافل والذّاهل.

فمنه العدول عن كلّ من الخطاب والغيبة والتكلّم إلى الآخر ، وهذا أحسن من الجري على نمط واحد ، واللّزوم لمسلك متكرّر ، ومع ذلك فربما يختصّ مواقع الالتفات بزوائد فوائد من النكات ، فانّ الألفاظ إشكال وأشباح ، والأشباح مغناطيس الأرواح ، ولذا ورد عن مولينا أمير المؤمنين : انّ الرّوح في الجسد كالمعنى في اللّفظ ، فكلّ طور من أطوار المبانى مصيدة وشبكة لفنّ من فنون المعاني وقد ذكر الموافقون للنّظر في أنوار التّنزيل واسرار التّأويل للالتفات من الغيبة إلى الخطاب في المقام وجوها من الكلام لعلّ كلّها بعض المقصود من كلام الملك العلّام ، مثل ما قيل من أنّ القراءة ينبغي أن تكون صادرة عن قلب حاضر وتأمّل وافر ، بحيث يجد القارى عند الشّروع فيها محرّكا للإقبال إلى المنعم الحقيقي الّذي أنطق لسانه بتحميده ، ووفّقه للقيام بتمجيده ، ثمّ كلّما مجده بصفة من صفاته العليا وسمّاه باسم من أسمائه الحسنى قوى ذلك المحرّك وازداد ، حتّى إذا انتهى إلى مالكيّة الأمر يوم المعاد ، تناهي في القوّة والاشتداد وآل الأمر بالضّرورة إلى دفع الحجاب ، والإقبال عليه بالخطاب ، وانّ المقام مقام عظيم وخطب جسيم يدهش فيه الإنسان ، ويتلجلج فيه اللّسان ، فيتغيّر الكلام ، ويخرج عن الأسلوب والنّظام ، وهو كما ترى فانّ الكلام كلام الملك العلّام وانّ من أوّل السّورة إلى هذا المقام تعداد لصفاته الّتي لا يليق عدّها في الحضور بل الأنسب طريق الغيبة بلا ريبة لأنّ الثناء في الغيبة أولى منه في الحضور لكنّ العبادة والاستعانة ينبغي إظهارها للمعبود دون غيره.

وإنّ في الالتفات إشعارا بأنّ العبادة السّالمة عن القصور ما يكون العابد حين الإشتغال مستغرقة في بحر الحضور يشاهده بنور العلم والعرفان ويخاطبه بالجنان واللّسان.

٤٩٣

وانّ حقّ الكلام أن يجرى من أوّل الأمر على طريق الخطاب لأنّه تعالى حاضر لا يغيب بل هو أقرب من كلّ قريب ، لكنّه جرى على طريق الغيبة رعاية لقانون الأدب الّذى هو دأب السّالكين ، ومنهاج العارفين ، وطريقة العاشقين كما قيل :

بأدب در طريق عشق كه هست

طرق العشق كلّها آداب

در پس پرده رمزها است بسى

فاسئلوهن من وراء حجاب

فبعد رعاية الأدب تقرّب إليه واقترب ، وتمكّن في بساط الحضور واستنار بإظهار العبوديّة من معدن النّور. وانّ العابد لما حقّر عبادته النّاقصة القاصرة والبائرة وأراد ترويجا لكساده وإصلاحا لفساده أن يمزج عبادته بعبادة جميع العابدين من الأنبياء والمرسلين والملئكة المقرّبين ويعرض الكلّ دفعة واحدة على حريم قدس ربّ العالمين رجاء أن يصير الانضمام سببا لقبول التّمام بفضل ذي الجود والانعام ، فلذا أتى في الفعل بنون المتكلّم مع الغير ، ليندرج عبادته في عبادتهم ، وتصير مقبولة ببركتهم ، فساق الكلام على النّمط اللّايق بحالهم ، والأسلوب المناسب لمقامهم الّذى هو الحضور والخطاب لحضرة المعبود لارتقائهم عن عالم الغيبة إلى مقام الشّهود لو قال إيّاه نعبد لكان كالإزراء بشأنهم ، والإفضاء عن علوّ مكانهم ، وانّ من لزم جادّة الأدب والانكسار ورأى نفسه بعيدا عن ساحة القرب لكمال الاحتقار فهو الحقيق بان تدركه الرّحمة وتناله النّعمة فيتخطى على بساط الاقتراب فائزا بعزّ الحضور وسعادة الخطاب.

وانّ لآيات القرآن المجيد سيّما ما كان مشتملا على التحميد والتّمجيد لشأنا عجيبا وأثرا غريبا في الإيصال إلى مقام القرب والكمال فيستأهل بعد رفع الحجاب للتّشرّف بمقام الحضور حتّى أنّ العبد باجرائه هذا القدر منه على لسانه ونقشه على

٤٩٤

صفحة جنانه يخرج من الظّلمة إلى النّور ومن الغياب إلى الحضور فكيف لو لازم وظائف الأذكار ودوام على تلاوته آناء اللّيل وأطراف النّهار فحينئذ يرتفع الحجب من البين ويصل من الأثر إلى العين كما روى عن الإمام الهمام كشّاف الحقائق جعفر بن محمّد الصّادق عليه‌السلام لقد تجلّى الله لعباده في كلامه ولكن لا يبصرون.

وروى عنه عليه‌السلام : انّه كان يصلّى في بعض الأيّام فخرّ مغشيّا عليه في أثناء الصلاة فسئل عن ذلك فقال : ما زلت اردّد آية من كتاب الله حتّى سمعتها من قائلها (١).

قال بعض أصحاب القلوب انّ الآية كانت هذه الآية بل ذكر شيخنا البهائى قدس‌سره الخبر هكذا ما زلت أردّد هذه الآية إلخ ثمّ حكى عن بعض العارفين : أنّ لسان جعفر الصّادق عليه‌السلام كان في ذلك الوقت كشجرة الطّور عند قول إنّى أنا الله ثمّ قال : وما أحسن قول الشّيخ الشّبسترى (٢) بالفارسيّة نظما :

روا باشد أنا الله از درختى

چرا نبود روا از نيك بختى (٣)

قلت : أمّا التّشبيه فالأظهر فيه التّعكيس لكن مع حفظ الحدود للأمن عن التّلبيس ، وأمّا قول الشّبسترى ففيه إيماء إلى وحدة الوجود ، وتضييع الحدود ، وعدم تميّز العابد عن المعبود ، ولعلّه إشارة إلى تصحيح قول من قال أنا الله ، وليس في جبّتى سوى الله ، وغيرها من المزخرفات الباطلة والتّرهّات العاطلة وبين المقامين بون بعيد لا يخفى على من له قلب أو القى السّمع وهو شهيد (٤).

__________________

(١) كنز الدقائق ج ١ / ٦٠ وفيه : ما زلت أردّد الآية حتى سمعتها من المتكلّم بها.

(٢) هو الشيخ محمود بن عبد الكريم الشبسترى المتوفى (٧٢٠) ه وكان عمره (٣٣) سنة.

(٣) مفتاح الفلاح ص ٧٧٧.

(٤) قال العلّامة الخواجوئي في تعليقه على المفتاح : قوله : چرا نبود روا از نيك بختى لأنّه يكون من مقولة قول فرعون (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) بل يكون أقبح منه ، لأنّ هذا يمكن تأويله بأنّ المراد بالربّ هنا ملك مصر في قوله (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) في سورة يوسف : ٥٠ ، وبالأعلى انه أعلى شأنا من سائر الملوك ، بخلاف كلمة أنا الله ، فإنّه علم الذات الواجب الوجود ... إلخ.

٤٩٥

وانّه قد تقرّر في العلوم الإلهيّة أنّ شدّة الإدراك وتأكّد الصّورة العلميّة في الوضوح والإنارة وقوّة الشّوق إلى المدرك ورسوخه يوجبان حضور المعلوم ، ولذا قيل : إنّ المشاهدة والرّؤية ثمرة اليقين ، فلمّا ذكر الله سبحانه ووصفه بصفات كماليّة ونعوت جلاليّة وجماليّة وخصائص إلهيّة من كونه حقيقا بالحمد ، ربّا للعالمين ، موجدا للكلّ منعما عليهم بالنّعم كلّها جليلها ودقيقها دنيويّها وأخرويّها ظاهرها وباطنها ، مالكا لأمورهم يوم الجزاء واللّقاء تميّز بها ذاته عن سائر الذّوات ، وتنوّر القلب بأنوار معرفة هذه الصّفات ، وانفتحت عين البصيرة بتلاوة هذه الآيات فينتقل من الغياب إلى الخطاب قائلا يا من هو بالحمد حقيق ، وبهذه الصّفات الكماليّة يليق ، نخصّك بالعبادة والاستكانة ، ونطلب منك السّداد والإعانة.

وأنّ العباد أراد بذلك أن ينخرط في سلك أرباب الشّهود والحضور ، ويجبر ما في عبادته من القصور والفتور ، نظرا إلى أنّ من تشبه بقوم كاد أن يكون منهم ، وأنّه لا حجاب بين المملوك والمالك إلّا حجاب ملك نفس المملوك ، فاذا عبر عن حجاب ملك النّفس وصل إلى مشاهدة مالك النفس.

كما ورد في تفسير قوله تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (١) عن مولينا جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام : انّ التّوبة هي قتل النّفس ، وناجى بعض الأنبياء ربّه كيف الوصول إليك؟ فخوطب دع نفسك.

وللنّفس صفات أربع كلّها حجب لها ظلمانيّة ونورانيّة ، وهي كونها أمّارة (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (٢) لوّامة (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (٣) وملهمة

__________________

(١) سورة البقرة : ٥٤.

(٢) سورة يوسف : ٥٣.

(٣) القيامة : ٢.

٤٩٦

و (نَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (١) ومطمئنّة : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي) (٢) فأمر العبد المملوك بأن يذكر المالك بالصّفات الأربع الّتي هي الإلهيّة والرّبوبيّة والرّحمانيّة والرّحيميّة ، فيعبر بجذبات مدح الإلهيّة وشكر الرّبوبيّة وتمجيد الرحيميّة عن حجب مهالك الصّفات الأربع للنّفس فيتخلّص من ظلمات ليلة نفسه بطلوع صبح صادق مالكيّة يوم الدّين (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (٣) فيذكره بفضله ورحمته إنجازا لوعده كما قال : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (٤) ، ويشرّفه بخطاب يا أيّتها النّفس المطمئنّة ثمّ يجذبه عن غيبة نفسه إلى شهود مالكيّة فيقول له : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) فيشاهد جمال المالك ، ويهيم في بيداء فيافي تلك المسالك ، ويناديه نداء عبد ذليل خاضع خاشع كما قرأ بعضهم مالك يوم الدّين بالنّصب على النّداء.

وانّه لمّا كان الحمد إظهار صفات الكمال لا يتفاوت بالنظر إلى غيبة المحمود وحضوره ، بل هو مع ملاحظة الغيبة أدخل وأتمّ وكانت العبادة لا يليق بها الغائب ، وإنّما يستحقّها من هو حاضر لا يغيب كما حكى سبحانه عن الخليل على نبيّنا وآله وعليه‌السلام (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) (٥) ، لا جرم عبّر سبحانه عن الحمد وإظهار الكمال بطريق الغيبة وعنها بطريق الخطاب إعطاء لكلّ منهما ما يليق به على النّمط المستطاب.

وأنّه لما لم يكن في ذكر صفات الكمال مزيد كلفة بخلاف العبادة الّتي فيها

__________________

(١) الشمس : ٧.

(٢) الفجر : ٢٨.

(٣) الانفطار : ١٩.

(٤) البقرة : ١٥٢.

(٥) الانعام : ٧٦.

٤٩٧

من الكلفة والمشقّة ما لا يخفى ، ومن عادة المحبّ أن لا يحسّ بالمشاقّ في حضور المحبوب بل يتحمل منها في الحضور مع غاية الابتهاج والسّرور مالا يتحمّل جزء منها حال الغفلة والغيبة ، ولذا قرن سبحانه العبادة بما يشعر بحضوره ونظره إلى العابد تداركا وانجبارا لما فيها من الكلفة والمشقة كما قال مولينا الصّادق عليه‌السلام على ما رواه في مجمع البيان في تفسير قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) (١) : لذّة ما في النّداء أزال ما في العبادة من التّعب والعناء (٢).

فحينئذ يأتى بها العابد مع غاية البهجة والسّرور لما أشرق على قلبه من أنوار قدس الشّهود والحضور.

وأنّ مقام الحمد والثّناء مقام البعد عن ساحة الكبرياء فانّه كما قيل : إظهار صفات الكمال على الغير فما دام للأغيار وجود في نظر السّالك فهو يواجههم بإظهار مزايا المحبوب ، وأمّا إذا زال الحجاب من البين ووصل من الأثر إلى العين ، وانكشف له غطاء الخفاء عن وجه قوله : أنا جليس من ذكرني (٣) ، (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٤) فينخرق الأستار ، ويضمحلّ الأقدار وينكشف الأسرار ، فلا جرم ينعطف عنان لسانه إلى جنابه ويصير كلامه منحصرا في خطابه.

ومثل ما قلت مضافا إلى بعض ما سبق من أن في سوق الكلام على الغيبة في مقام الحمد والثّناء ، وعلى الخطاب في مقام إظهار العبوديّة وطلب الاستعانة إشعارا بأنّ العبد وإن بالغ في الثّناء على ربّه حتّى لو مجّده بكلامه المنزل عن عزّ جلاله ، فهو بعد ذلك قاصر عن ذلك ، بعيد عمّا هنالك ، أين التّراب وثناء ربّ

__________________

(١) البقرة : ١٨٣.

(٢) مجمع البيان ج ١ / ٢٧١.

(٣) خاتمة مفتاح الفلاح ص ٧٧٦.

(٤) البقرة : ١١٥.

٤٩٨

الأرباب وكمال التنزيه عن الكمال ، وكمال التّوحيد نفى الصّفات ، والله أكبر من أن يوصف ، فما دام العبد في مقام الحمد فهو بعد بعيد ، غائب عن ساحة الكبرياء.

وأمّا العبادة فينبغي أن تكون مع كمال التّوجّه والإقبال إلى حضرة ذي العزّ والجلال ، ولذا ورد «أنّ الصّلوة معراج المؤمن» (١) ، و «المصلّى مناج ربّه» (٢) ، و «انّه لا يقبل منها إلّا ما أقبلت عليه بقلبك» (٣) ، و «انّ من الصّلوة ما يقبل نصفه وثلثه وربعه» (٤) ، وذلك على حسب التّوجّه والإقبال ولذا علّمنا الله تعالى وادّبنا بالانتقال والإياب إلى حالة الحضور والخطاب عند عبادة ربّ الأرباب ، وانّ حمده سبحانه ينبغي أن يكون بما حمد به نفسه لتنزّهه عن وصف الواصفين ونعت النّاعتين ، سبحان الله عمّا يصفون إلّا عباد الله المخلصين الّذين لا يصفونه إلّا بما وصف به نفسه ، ولذا قال بعد ذلك مثنيا على المرسلين الّذين يصفونه بما وصف به نفسه ، وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين ، ومن هذا قال سيّد الكونين وختم المصطفين سبحانك لا أحصى ثناء عليك كما أثنيت على نفسك فالحمد ثناء من المحمود على نفسه والعبادة تذلّل وخضوع من العابد للمعبود.

وانّ من أوّل السّورة إلى هذه الآية بيان لمراتب الوجود التكويني الّذى يقال له الشّرع الكونى ، ومن هذه الآية إلى آخر السّورة بيان لمراتب الوجود التّشريعى الّذي يقال له الكون الشّرعى ، ولا ريب أنّ الاختيار في الأوّل جبلي فطري ، وفي الثّانى إرادى وشعورى ظهورىّ قد قام به كون التشريع في هذا العالم الّذى ما دام

__________________

(١) مستدرك سفينة البحار ج ٦ ص ٣٣٣.

(٢) عوالي اللئالى ج ٤ ص ٣٩.

(٣) بحار الأنوار : ج ٨٤ / ٢٣٧.

(٤) عوالي اللئالى ج ١ / ٤١١ ح ٧٨.

٤٩٩

المكلّف فيه ناظرا إليه فهو غائب من الأوّل ، والأوّل غائب عنه ، وإن لم يكن الحجاب عنه إلّا التطورات الوجوديّة الثّابتة النّاشية في هذا العالم ، وإنّ فيه تعليما له لتحقيق مسلك التّوحيد والخروج عن ربقة التّقليد والتّحقّق بحقيقة العبادة والفوز بشهود المعبود الّذي هو تمام السّعادة وذلك انّ الله سبحانه لم يخلق الجنّ والإنس إلّا للعبادة الّتي لا بدّ فيها من معرفة المعبود كى يستقيم التّوجّه إليه بعين الشّهود والسّبيل العاري عن شوب التقليد إلى معرفة المعبود للعامة إنّما هو ملاحظة الآيات الافاقيّة والأنفسيّة ولذا قال : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) (١) ، الآية (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ) (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من عرف نفسه (٣) ، وأعرفكم بنفسه (٤) إلى غير ذلك.

فالعابد الدّاعى لمّا أراد التّوجّه إليه بالعبادة والدّعاء الّذى هو مخّها وحقيقتها ، نظر بقلبه إلى العالم بجميع أجزائه وجزئيّاته فرأى فيه اثار الألوهيّة ومراتب الرّبوبيّة ، والرّحمة الكلّية التّامّة العامة الواسعة ، والخاصّة المكتوبة المقتضى كلّ ذلك نظرا إلى العدل وإتمام الدّورة لانشاء النشأة الآخرة ، فلمّا انتقل من البرهان إلى العيان تحوّل من الغياب إلى الخطاب ، فالتّمجيد الّذى من أوّل السّورة إلى هنا كأنّه ليس حمدا للثّابت بل إثباتا للمحمود.

وهذه الوجوه وان اشتمل بعضها على ضعف أو تكرار ، إلّا أنّه لا بأس بالالتفات إليها للتّأدّب بآداب العبوديّة بين يدي الله سبحانه وان كانت بمراحل عمّا هو المقصود بالذّات من الالتفات.

__________________

(١) فصّلت : ٥٣.

(٢) الذاريات : ٢٠ ـ ٢١.

(٣) عوالي اللئالى ج ٤ / ١٠٢ ح ١٤٩.

(٤) معارج اليقين للسبزوارى ص ٣٥ ح ١٢.

٥٠٠