تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.

وإنما نال ما نال من القرب والكرامة بحقيقة العبودية التي أركانها ثلاثة :

فالعين علمه بالله (١) ، لأنه نفس العلم الفعلي المخلوق الواقع على المعلوم المشار إليه بقوله : فلما خلق الأشياء وقع العلم منه على المعلوم ، والسمع على المسموع ، والبصر على المبصر (٢).

والباء : بونه عن الخلق وانقطاعه عنهم ، لعلمه بأنهم لا يملكون له نفعا ولا ضرا ، وبأنهم فقراء محتاجون أذلاء ، فكيف يسأل محتاج محتاجا ، وأنى يفزع معدوم إلى معدوم.

وبينونة العالي سيما الواقف (٣) على التطنجين ، والناظر في المشرقين عن السافل بينونة صفة وافتقار ، لا بينونة عزلة وانقطاع ، فإن له قوسي الإقبال والإدبار ، وصفتي الاستفاضة والإفاضة.

والدال دنوه من الخلق لأنه باب حطة الوجود ، وأول عابد للمعبود (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (٤) ، وهذه الأركان قد أشار إليها الصادق عليه‌السلام (٥).

__________________

(١) إشارة إلى ما نقل عن الإمام الصادق عليه‌السلام كما في «شرح الزيارة الجامعة» : ج ١ / ٣٠٨ : قال الصادق عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) : «العين علمه بالله ، والباء بونه من الخلق ، والدال دنوه من الخالق بلا إشارة ولا كيف» ٩. ـ ونقل أيضا في مصباح الشريعة باب ١٠٠ في حقيقة العبودية

(٢) بحار الأنوار : ج ٤ / ٧١ ، عن التوحيد وفيه : فلما أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم ...

(٣) المراد به أمير المؤمنين عليه‌السلام كما نقل عنه في «مشارق أنوار اليقين» في خطبة سماها الطتنجية ، لما فيه : «أنا الواقف على طتنجين أنا الناظر إلى المغربين والمشرقين».

(٤) الزخرف : ٨١.

(٥) تقدم نقله عن شرح الزيارة للشيخ أحمد الاحسائي : ج ١ ، ص ٣٠٨ ، ومصباح الشريعة :

٣٨١

وبالجملة فلما كمل الميزان وتمت الأركان وتحقق في مقام العبودية ظهر بصفة الربوبية ، كما قال مولانا الصادق عليه‌السلام : «العبودية جوهرة كنهها الربوبية ، فما فقد من العبودية وجد في الربوبية ، وما خفي عن الربوبية أصيب في العبودية ، قال الله عزوجل : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (١)» (٢) أي موجود في غيبتك وفي حضرتك.

فالعبد إذا تمكن في مقام العبودية وانقطع نظره عن نفسه ودام توجهه إلى ربه اضمحلت ماهيته وإنيته ، ولذا قيل :

بيني وبينك إنّي ينازعني

فادفع بلطفك إنّي من البين

وقد يقال : إن المشية هي الوجود المطلق الذي لا ماهية له أصلا لانقطاع نظره عن نفسه ، فليس إلا ظهور الرب به ومن ثم ظهر بصفة الربوبية إذ مربوب كما ورد في الخبر القدسي :

«عبدي إني أقول للشيء كن فيكون ، أطعني تكن مثلي تقول للشيء كن فيكون» (٣).

نفحات غيبوبيّة في أنّ العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة

قد سمعت في الخبر المتقدم المروي في «مصباح الشريعة» عن مولانا

__________________

باب ١٠٠.

(١) فصلت : ٥٣.

(٢) مصباح الشريعة : باب (١٠٠) في العبودية.

(٣) شرح توحيد الصدوق : ج ١ / ٣١٦ في شرح الحديث السابع عشر لقاضي سعيد القمي المتوفى (١١٠٧) ه.

٣٨٢

الصادق عليه‌السلام : «إن العبودية جوهرة كنهها الربوبية» (١) إلى آخر ما مرّ وحيث قد استصعب فهمه على الأفهام تصدّى لبيانه جمع من علمائنا الأعلام رفع الله قدرهم في دار السلام.

ولا بأس بالتعرض لما ذكروه مع ذكر ما من الله على هذا الفقير الذي لهم من جملة الخدام.

فمنها ما ذكره المجلسي الثاني حيث سئل عن معنى الخبر قال : «إن هذا الخبر مأخوذ من مصباح الشريعة وقد وصل إلينا برواية شقيق البلخي الذي هو من صوفية العامة مع اشتماله على جمله من النقل المعلوم انتفائها عن الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.

وعلى تقدير صحة الخبر لعل المراد أن العبودية والربوبية متقابلان فيعرف كل منهما بمقابله ، كما قيل : «تعرف الأشياء بأضدادها» ، ولذا فسّر الخبر المشهور : «من عرف نفسه فقد عرف ربه» (٢) بما يئول إليه وذلك أن عرف نفسه بالفقر والقصور والحاجة والنقصان وصفات الإمكان فقد عرف ربه بالغنى والكمال والتقدس عن سمة الحدوث والتغير وصفات الإمكان ، وكذلك من عرف نفسه بالدنائة والخسة ، فقد عرف ربه بالعلو والرفعة ، ومن عرف نفسه بالجهل والعلم الخارج عن الذات فقد عرف ربه بالعلم الذي هو عين الذات ، إلى غير ذلك.

والحاصل إن العبودية يعرف كنهها من معرفة الربوبية ، فما فقد في العبودية من صفات القدس والكمال كوجوب الوجود والتجرد والاستغناء المطلق والعلم الذاتي إلى غير ذلك من الكمالات التي لا حظ للممكن فيها ، وجد في الربوبية وما

__________________

(١) مصباح الشريعة : باب (١٠٠).

(٢) كلام مشهور رواه الفريقان عن نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن علي عليه‌السلام ، وعن عيسى المسيح عليه‌السلام ، وعن بعض الحكماء.

٣٨٣

خفي عن الناس من صفات الربوبية وجد في العبودية ، يعني يعرف من إضافة الصفات إلى العبودية ، أن الله سبحانه بريء منها.

ثم قال : وللخبر معان بعيدة عن الأذهان ، ولذلك تركنا التعرض لها».

أقول : أما القدح في سند الرواية بل الكتاب فهو وإن كان في موضعه إلا أنه لا يخلو من نوع اعتبار ، ولذا ذكر السيد علي بن طاووس في كتاب «أمان الأخطار» قال : «ويصحب المسافر معه كتاب مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة عن الصادق عليه‌السلام ، فإنه كتاب لطيف شريف في التعرض بالتسليك إلى الله جل جلاله والإقبال عليه ، والظفر بالأسرار التي اشتملت عليه.

وأما ما ذكره من أن راويه شقيق البلخي فالوجه فيه ما أشار إليه في أول «البحار» من أن الشيخ روى في مجالسه بعض أخباره هكذا : أخبرنا جماعة عن أبي الفضل الشيباني بإسناده عن شقيق البلخي عمن أخبره من أهل العلم.

قال وهذا يدل على أنه كان عند الشيخ قدس‌سره وفي عصره وكان يأخذ منه ولكن لا يثق به كل الوثوق ، ولم يثبت عنده كونه مرويا عن الصادق عليه‌السلام وأن سنده ينتهي إلى الصوفية ، ولذا اشتمل على كثير من اصطلاحاتهم وعلى الرواية عن مشايخهم ، ومن يعتمدون عليه في رواياتهم». (١). انتهى.

أقول : وإني لم أظفر بمثل هذا السند في «أمالي» الشيخ المنسوب إلى ابنه بعد الفحص البليغ إلا أنه كفى بشيخنا المجلسي عطر الله مرقده ناقلا بصيرا وناقدا خبيرا.

نعم ، ما ذكره جيد بعد ملاحظة الأسلوب والحكاية عن بعض مشايخهم وغير ذلك ، لكنه لا يمنع من الاعتبار في الجملة سيما بعد شهادة السيد له بما سمعت.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١ / ٣٢.

٣٨٤

وأما ما ذكره في معنى الخبر فبعيد جدا خصوصا بعد التعبير بالكنه ، وتفريع الوجدان والفقدان عليه.

ولعل فيما أشار إليه من المعاني البعيدة عن الأذهان كفاية وبلاغا لو وجد مساغا للبيان.

ومنها ما ذكره الفاضل المحقق القمي صاحب «القوانين» قدس‌سره حيث سئل عن ذلك ، فأجاب قدس‌سره عنه بقوله : «إن العبودية يحتمل كونه مصدرا من صفة الذات بمعنى كون الشخص عبدا أو صيرورة الشخص عبدا ، ويمكن أن يكون مصدرا لصفة الفعل مثل عابد ، وحينئذ فالمراد كون الشخص عابدا ، أو صيرورته عابدا متعبدا أو مطيعا.

والربوبية تحتمل المعاني الثلاثة ، فالمعنى أن ماهية العبودية وحقيقة إطاعة العبد وانقياده لمولاه جوهرة ، يعني خصلة نفيسة عزيزة ، تشبيها لها بالجواهر العالية الثمنية ، كنهها يعني ذاتها وجوهرها وما به قوامها الربوبية ، يعني التشبه بالرب والتخلّص بأخلاقه في جميع صفاته وأفعاله حتى في الخلق والإيجاد ، لا بمعنى خلق الأجسام بل بمعنى إحياء النفوس وإيلادها بالتعليم والإرشاد (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) (١) ، أو المراد صيرورته ربا لقواه البهيمية ، ومالكا لها ، ومسلطا عليها بالرياضات والمجاهدات ، فإذا فعل ذلك فيصل له حقيقة العبودية يعني لا يحصل حقيقة العبودية إلا مع حصول حقيقة الربوبية بأحد المعنيين اللذين هما التشبه بالرب في صفاته والتربب على قوتيه الشهوية والغضبية ، فما فقد من العبودية بعد التدبر والتفكر في حقيقتها والفحص عن أركانها ومقدماتها وأجزائها بأن لم يبلغ إليه فطنته ولم تصل إليه معرفته وجد في الربوبية ، فإن معرفة حقيقة

__________________

(١) المائدة : ٣٢.

٣٨٥

العبودية محولة على معرفة حقيقة الربوبية بأحد المعنيين ، فبعد الاطلاع عليها يعثر حينئذ على ما فقده من العبودية ويطلع عليه ويصير خبيرا على ما فقده من شرائطها وأطوارها.

وما خفي عن الربوبية وأشكل عليك الإحاطة بمقامها بأحد المعنيين أصيب العلم به في مرحلة العبودية بأن تعبد وتطيع بقدر علمك ، كما قال عليه‌السلام : «من عمل بما يعلم ورّثه الله علم ما لم يعلم» (١).

فحاصل الكلام أنّ كنه العبودية هو المشي على طريقة الربوبية ، ولو كان على وجه المشابهة فما وصل إليه عقلك في استدراك طريقة الربوبية ، فالعمل عليه هو نفس العبادة ، والمشي عليه هو المشي على طريقة العبودية ، وما لم يصل إليه عقلك من طريقة الربوبية فعليك بالعمل فيما عرفته من العبودية فإنه يوصلك إلى ما لم تعرفه من الربوبية التي هي كنهه وأصله فتصير بعد ذلك كاملا في العبودية واصلا إلى كنهها وهو المشي على طريقة الربوبية بأحد المعنيين.

ثم ذكر أن المراد من الاستشهاد بالآية الاستدلال بقوله : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٢) على أنه سبحانه موجود في غيبتك وحضرتك ، يعني أنّ حقيقة العبودية وكنهه هو التشبّه بالرب ، والتخلّق بأخلاقه ، أو التربب على القوتين كي يحصل بذلك التجرد وقطع العلائق وصرف النظر عما سوى الله والانقطاع إليه بشراشره.

ووجه كون حقيقة العبودية ذلك ولزوم بلوغ العبد في العبادة إلى هذه المرتبة أنه تعالى شهيد على كل شيء وموجود ورقيب في حال حضورك مع الله ، وحال غيبتك وغفلتك منه ، يعني إذا كان الله مع العبد بهذه المثابة من القرب

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤٠ / ١٢٨.

(٢) فصلت : ٥٣.

٣٨٦

والحضور فلا بد للعبد أن يسلك في عبادته هذا المسلك الذي هو التشبه بالرب والتسلك على القوتين.

ولذلك قال عليه‌السلام بعد ذلك : «وتفسير العبودية بذل الكلية وسبب ذلك منع النفس عما تهوى وحملها على ما تكره ومفتاج ذلك ترك الراحة وحب العزلة وطريقة الافتقار إلى الله عزوجل ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (١). (٢)

أقول : هو رحمة الله وإن أجاد فيما أفاد لكنه لم يأت بتمام المراد ، فالتحقيق أن يقال : إن المراد بالربوبية إذ هو الربوبية إذ مربوب التي هي من مراتب الفعل حسب ما مرت إليه الإشارة.

وبالعبودية هي القيام بجميع وظائف الانقياد والطاعة في جميع نشأت الوجود بحيث لا يحصل له الفتور في شيء من العبادات القلبية والقالبية ، بل ولا في شيء من التوجهات الإقبالية العلمية والعملية على ما هو مقتضى الولاية الكلية ولاستقامة في الطريقة الإلهية إلى أن يتحقق في مقام الولاية التي هي الإحاطة والتصرف في الملك والملكوت بإذن الله بعد إجابة نداء : «عبدي أطعني فكن مثلي» (٣) حيث إنه قد وصل حينئذ إلى درجة المحبة وصار محبوبا لله سبحانه «فإذا أحبه كان سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، إن دعاه أجابه ، وإن سأله أعطاه (٤) ، بل قد يمزج بالمحبة لحمه ودمه

__________________

(١) مصباح الشريعة : باب (١٠٠).

(٢)؟؟؟؟

(٣) لم أظفر بهذه العبارة على الحديث ، نعم قد مر مضمونه عن شرح التوحيد للقاضي سعيد القمي : ج ١ ، ص ٣١٦ هكذا : «يا بن آدم! أطعني أجعلك مثلي ، إذا قلت لشيء : كن ، فيكون».

(٤) إشارة إلى الحديث القدسي المروي في «محاسن البرقي» : ص ٢٩١ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

٣٨٧

فضلا عن قلبه وفؤاده إلى أن يغيب عن نفسه ، ويذهل عن حسه فضلا عن غيره فيكون كما قيل :

جنوني فيك لا يخفى وناري فيك لا تخبو

فأنت السمع والأبصار والأركان والقلب

وحينئذ فيضمحلّ من أنانيته ، ويحيى حياة طيبة بالتوجه إلى ربه ، ويصير قلبه وعاء لمشيته ، ومحلا لإرادته ، فيفعل بإرادته ما يشاء في التكوين ، ولا يشاء إلا ما يشاء الله رب العالمين.

وهذا هو تجلي الرب له بصفة الربوبية المشار إليه في العلوي «تجلى لها ربّها فأشرقت ، وطالعها فتلألأت وألقى في هويتها مثاله فأظهر منها أفعاله» (١).

وهذا المقام الذي هو نهاية قوس الإمكان إنما يحصل بالتحقق في مقام العبودية التي كنهها الربوبية إذ مربوب في عالم الملك والملكوت حسبما سمعت ، وهو الفقر الكلي الإقبالي الذاتي الذي افتخر به سيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «الفقر فخري وبه أفتخر على الأنبياء من قبلي» (٢).

ومن ثم اشتقت العبودية من الحروف الثلاثة التي مر تفسيرها في كلام مولانا الصادق عليه‌السلام ، بل إنما ذكر ذلك التفسير في ذيل الكلام المتقدم (٣).

ومن هنا يظهر وجه أولوية إطلاق العبد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله : (وَأَنَّهُ لَمَّا

__________________

«قال الله : ما تحبب إلى عبدي بشي أأحب إلي مما افترضته عليه ، وإنه ليتحبب إلي بالنافلة حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ، يده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، إذا دعاني أجبته وإذا سألني أعطيته».

(١) البحار : ج ٤٠ / ١٦٥.

(٢) بحار الأنوار : ج ٦٩ ، ص ٣٠ و ٤٩.

(٣) مصباح الشريعة : باب (١٠٠).

٣٨٨

قامَ عَبْدُ اللهِ) (١) وتقديمه على الرسالة التي هي أشرف من كل شرف في الشهادة العامة «وأشهد أن محمدا عبده ورسوله».

بل وأولوية إطلاقه عليه أيضا كما يظهر من أخبار بدو كينونتهم (٢) ومن قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (٣) على أحد الوجوه في الآية.

وبالجملة قد ظهر من تضاعيف ما مر أنّ مطلق العبودية لها عرض عريض أعلاه العبودية المطلقة ، وحينئذ فما فقد من العبودية في شيء من المراتب النازلة من التشبه بالمبادي العالية والاتصاف بالحقائق الملكوتية وجد في الربوبية لأن المفقود من الأعدام الإمكانية والنقصانات الخلقية التي ينجبر بالاتّصاف بالأخلاق الإلهية والتشبه بالمبادي العالية القدسية.

وما خفي من الربوبية لغلبة أحكام الإمكان وظهور النقصان والخسران في الميزان أصيب في العبودية المطلقة بعد التحقق بحقيقتها حسب ما سمعت ، ولهذا استشهد الصادق عليه‌السلام بعد ذلك قوله : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا) (٤) إلى آخر الآية التي أشير في أولها إلى مطلق العبودية الحاصلة بالنظر إلى آياته الآفاقية والأنفسية وفي آخرها إلى العبودية المطلقة التي لا تحصل إلا بعد التحقق بالفناء الأصلي والشهود الكلي.

هذا ما أدى إليه النظر السقيم (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥).

__________________

(١) سورة الجن : ١٩.

(٢) راجع بحار الأنوار : ج ١٥ / ١ ـ ٢٦.

(٣) الزخرف : ٨١.

(٤) فصلت : ٥٣.

(٥) البقرة : ٢١٣.

٣٨٩

إشارة إلى ما يسمونه بربّ النوع

اعلم أنّه قد ذهب جم غفير من الحكماء الإلهيين والعرفاء الربانيين كأفلاطون ومن يحذو حذوه من المتألهين وصاحب حكمة الإشراق و «المطارحات» وغيرهما ، وصدر المتألهين في كتبه ، وغيرهم من أهل الإشراق إلى أن لكل نوع من الأفلاك والكواكب وبسايط العناصر ومركباتها ربا في عالم القدس ، وهو عقل مدبّر لذلك النوع ، وله عناية به وتربية له ، لكونه واسطة له في إيصال الفيوض إليه حتى يوصله إلى كماله النوعي أو الشخصي ، ولذلك يسمونه رب النوع ، ورب الصنم ، ورب الطلسم.

وربما يحكى ذلك عن هرمس (١) ، وأغثاذيمون (٢) وجميع حكماء الفرس فإنهم كانوا أشد مبالغة في أرباب الطلسمات وقد سمّوه أردي بهشت.

وربما يحكى عن معلم الفلاسفة أرسطاطاليس ولعله في كتاب «أثولوجيا» المنسوب إليه المترجم بمعرفة الربوبية.

فإنه أشار إليه في مواضع من هذا الكتاب كقوله : إن في الإنسان الجسماني الإنسان النفساني ، والإنسان العقلي ، ولست أعني أنه هما لكني أعني به أن متصل بهما ، وأنه منه لهما ، وذلك أن يفعل بعض أفاعيل الإنسان العقلي وبعض أفاعيل الإنسان النفساني ، وذلك أن في الإنسان الجسماني كلتا الكلمتين أعني النفسانية والعقلية ، إلا أنهما فيه قليلة ضعيفة نزرة ، لأنه صنم للصنم فقد بان أن الإنسان الأول حساس إلا أنه بنوع أعلى وأفضل من الحس الكائن في الإنسان

__________________

(١) هو إدريس النبي عليه‌السلام ، ولد في مصر واسمه بالعبراني خنوخ. ـ تاريخ الحكماء للقفطي : ص ٧.

(٢) أغثاديمون المصري ، كان أحد الأنبياء اليونانيين قبل هرمس.

٣٩٠

السفلي ، وأن الإنسان السفلي إنما ينال الحس من الإنسان الكاين في العالم الأعلى العقلي.

وقال في موضع آخر : إن البارئ الأول أبدع جميع الأشياء بغير رويّة ولا فكرة ، فأبدع العالم الأعلى ، وفيه جميع الصور تامة كاملة من غير رويّة لأنه أبدعها بأنه فقط لا بصفة أخرى غير الإنية ، ثم أبدع هذا العالم الحسي وصيّره صنما لذلك العالم.

فإن كان هكذا قلنا : إنه لما أبدع الفرس وغيره من الحيوان لم يبدع ليكون هنا ، لكنه أبدعه ليكون في العالم التام الأعلى الكامل ، وأنه أبدع جميع صور الحيوان وصيّرها هنالك بنوع أعلى وأشرف وأكرم وأفضل ، ثم أتبع ذلك الخلق هذا الخلق إلى غير ذلك من عباراته المكررة في «أثولوجيا» حيث إنه صرح بثبوت الإنسان العقلي ، والفرس العقلي ، والنباتات ، والحبوب ، والحيوانات العقلية ، بل السموات العلى العقلية ، والأرضين السفلى الحية الشاعرة وساير الصور الحية المدركة المجردة الإلهية ، ويجعلها وسائط للفيوض النازلة إلى هذه الأجسام السفلية الناسوتية ومربية لها.

لكن الشيخ الرئيس في كتبه بل وسائر المشائين لما لم يسلكوا مسلكهم ولم يشربوا مشربهم ، لم يذهبوا مذهبهم بل بالغوا في الرد والإنكار عليهم بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله.

ولذا طفق (١) الشيخ الرئيس يقدح على أفلاطون وسقراط قدحا عظيما وكأنه لم ينظر إلى ما ذكره المعلم الأول في «أثولوجيا» أو أنه لم ينسبه إليه بل إلى أفلاطن ، كما قيل لكنه بعيد جدا لأنه يحكي عن أفلاطون كثيرا ، كما في شرح

__________________

(١) طفق : ابتدأ وأخذ.

٣٩١

النفس وغيره فلاحظ ، بل في أوّله التصريح بنسبته إليه.

وعلى كل حال فكلام هذا الفيلسوف العظيم في هذا الكتاب يشير إلى شيئين أحدهما إثبات عالم المثال والمقادير المجردة والهور قليا ، وأن في ذلك العالم جميع ما في هذا العالم من الفلكيات والعنصريات والمواليد بأجناسها وأنواعها وأصنافها على وجه أشرف وألطف وأعلى وأبهى وأصفى وهذا هو الذي أشير إليه في الأخبار بمدينة جابلسا وجابلقا ، وجنة أبينا آدم ، وهما الجنتان المدهامّتان اللتان تظهران في آخر الزمان.

ولعل هذا هو المراد المثل الأفلاطونية التي يحكى عنه القول بها ، حيث ذهب إلى أن بين عالمي المحسوس والمعقول واسطة تسمى عالم المثل وهو برزخ بين العالمين من حيث التجرد والتعلق وفيه لكل موجود من الموجودات مثال قائم بذاته معلق لا في مادة ، وربما يظهر للحس بمعونة مظهر كالمرآة والخيال والماء وغيرها من الأجسام الصيقلية.

والآخر أن الأشياء كلها وإن كانت صدرت وأفيضت من الصانع الحق والمبدع المطلق إلّا أن بعضها صدرت منه بلا واسطة وبعضها بالواسطة ، وهذه الأشياء المحسوسة من جميع ما في هذا العالم لها وسائط عالية ومبادئ متعالية تتلقى بواسطتها الفيوض الإلهية والأنوار الربانية ، وللنفس الإنسانية خاصية الإحاطة والاستيلاء والاطلاع على تلك المبادئ وإن لم يشاهدها بالعين الحاسة الناسوتية.

قال : والدليل على صدق ما قلناه قيدارس الصانع فإنّه لما أراد أن يعمل صنم المشتري لم يره في شيء من المحسوسات ، ولم يلق بصره إلى شيء يشبه به لكنه ترقى توهمه فوق الأشياء المحسوسة فصوّر المشتري بصورة حسنة جميلة فوق كل حسن وجمال من الصور الحسنة ، فلو أنّ المشتري أراد أن يتصور بصورة من

٣٩٢

الصور لتقع تحت أبصارنا لما تقبل إلّا الصورة التي عملها قيدارس الصانع.

وكيف كان فقد استدلّوا لإثبات أرباب الأنواع بوجوه : أحدها : أنّ لكلّ نوع من أنواع النباتات والحيوانات والمعادن أفاعيل خاصة به لا يشاركه فيها غيره ، بل ربما تكون تلك الآثار والخواص مختلفة باختلاف القوابل وسائر المشخصات ، وصدور تلك الأفاعيل من القوى الطبيعية التي لا شعور لها أصلا ممتنعة جدا ، كيف ولو تأمل المتأمل لم يجد فيها شيئا من الاختلاف والنقصان والتخلف بوجه من الوجوه ، فحفظ تلك الا وصدورها على طريقة مستمرة مستقرة دليل على أن لكل نوع من تلك الأنواع ربا ملكوتيا عالما شاعرا مفيضا على الأشخاص الجزئية التي تحت نوعها ممدا لها بأنواع الإمدادات والإفاضات والخيرات ، حافظا لها من الزيادة والنقصان حسب ما يقتضيه نوعه بعد ملاحظة المشخصات الفاعليّة والقابلية.

ثانيها : أن الأفراد التي تحت نوع واحد من الأنواع من اختلافها بحسب المشخصات الفردية بحيث لا يكاد يوجد فيها فردان متفقان في جميع الخصوصيات والمشخصات متفقة في حد عرضي محفوظ عن الزيادة والنقصان ولو مع اعتبار الطواري والعوارض والمقتضيات الخارجة مثلا لأشخاص الإنسان حد من الطول والعرض واللون والقوة والإدراك والفهم وسائر الكمالات ، وكل شخص من أشخاصه متردد بين طرفي حدود نوعه وليس لهذه الحدود حافظ سوى رب النوع ، فهو حافظ الكمالات ومصدرها وممدها.

ولذا قيل : إن هؤلاء يتعجبون ممن يقول : إنّ الألوان العجيبة في ريش من رياش الطواويس إنما كان لاختلاف أمزجة تلك الريشة من غير قانون مضبوط ورب نوع حافظ.

وسبب التعجب أنّك ترى تلك الألوان مترتبة على مناسبات صناعية ومشاكلات تعمدية لا اتفاقية مع توافق المتقابلين منها في المقادير والألوان

٣٩٣

والاشكال وحصول شكل واحد متناسب من ملاحظة المجموع.

ولذا قال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في الخطبة الطاووسية : «ومن أعجبها خلقا الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل ، ونضد ألوانه في أحسن تنضيد» (١).

إلى آخر ما ذكره في «نهج البلاغة».

فلاحظ بل هذه الهيئات العجيبة عندهم ظلال لإشراقات نورية ونسب معنوية في تلك الأرباب النورية ، كما أن الصور والروائح والطعوم والأشكال والمقادير والقوى وغيرها كلها منسوبة إلى تلك الأرباب ، ولعله لذلك قال خاتم الحكماء والمحققين في «التجريد» : «والمصورة عندي باطلة لاستحالة صدور هذه الأفعال المحكمة المركبة من قوة بسيطة ليس لها شعور أصلا» (٢).

بل قيل : إن الغزالي (٣) بالغ في ذلك حتى أبطل القوى مطلقا ، وادعى أن الأفعال المنسوبة إلى القوى صادرة عن ملائكة موكّلة بهذه الأفعال تفعلها بالشعور والاختيار (٤).

نعم ذكر العلامة الحلي رحمه‌الله في شرح «حكمة العين» (٥) أن المصورة تفيد التخليق والتشكيل والقوى الحاملة والأعراض الخاصة.

ثم قال رحمه‌الله : وعندنا أن استناد التصوير إلى الله تعالى ابتداء من غير توسل هذه

__________________

(١) نهج البلاغة : ص ٥٢٠ ، ط فيض.

(٢) تجريد الاعتقاد للخواجة نصير الدين الطوسي في المسألة الثانية عشرة ، في القوى النباتية.

(٣) هو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي المتوفى (٥٠٥) ه.

(٤) شرح تجريد الاعتقاد للقوشجي : ص ٢٠٧.

(٥) مصنف «حكمة العين» هو نجم الدين علي بن عمر القزويني المعروف بدبيران ، توفي سنة (٦٧٨) وكان من أساتذة العلامة الحلي ، والعلامة قدس‌سره أول من شرح «حكمة العين» وسماء إيضاح المقاصد.

٣٩٤

القوة ، فإنه من المستحيل استناد هذه الآثار العجيبة المختلفة الدالة على حكمة تؤثرها إلى قوة تفعل من غير توسط إرادة وشعور.

وقال رحمه‌الله : في كتابه الموسوم ب «الأسرار الخفية» : «إن المولدة هي التي تفصل جزءا من فضل الهضم الأخير ويودعه قوة من جنسه.

قالوا : ومن شأنها تخليق البزر وتطبيعه وإفادة أجزائه هيأت تناسبها مما يصلح لمبدئيّة شخص آخر من نوعه ، وهذا مما يجزم ببطلانه ، فإن القوى الطبيعية يستحيل أن يصدر منها آثار مختلفة.

ثالثها : ما قيل من أن هرمس وسقراط وأفلاطون وأغاذيمون وغيرهم من الحكماء المتألهين بل قاطبة الإشراقيين وإن لم يذكروا الحجة علي إثبات أرباب الأنواع إلا أنهم قد ادعوا فيها المشاهدة الحقة المتكررة المتبينة على رياضاتهم ومجاهداتهم وخلعهم أبدانهم في إرصادهم الروحانية ومعارجهم النورانيّة ، كما أشار إليه المعلم الأول في كلامه المذكور في «أثولوجيا» حيث قال : إني ربما خلوت بنفسي إلى آخر ما ذكره ، وفي كلمة المحكي من قيدارس الصانع كما سمعت ، وعلى هذا فليس لنا أن نناظرهم ، كما أن المشائين لا يناظرون بطلميوس وأبرخس (١) وأضرابهما ، حتى أن أرسطو عوّل على إرصاد بابل.

وإذا اعتبر رصد شخص أو أشخاص معدودة من أصحاب الإرصاد الجسمانية في الأمور الفلكية حتى تبعهم من تلاهم ، وبنوا عليه علوما كالهيئة والنجوم فكيف لا يعتبر قول أساطين الحكمة والتألّه في أمور شاهدوها بإرصادهم الروحانية في خلواتهم ورياضاتهم ، بل هذا أولى ، وليس للمشّائين دليل على حصر

__________________

(١) كان من حكماء الكلدانيّين وماهرا في الرياضيات سيما الأرصاد والنجوم واعتمد عليه بطلميوس اليوناني وذكره كثيرا في «المجسطي».

٣٩٥

العقول في عشرة أو عشرين ، بل العقول كما بيّنه شيخ الإشراق (١) يحصل منها مبلغ كثير على الترتيب الطولي ، ويحصل من تلك الطبقة على نسب بينها طبقة اخرى عرضية تجري مجرى الفروع يحصل من الفروع الأجسام الفلكية والعنصرية من البسائط والمركبات.

رابعها : أنّ أرباب الطلسمات إذا بالغوا في التجريد والتفريد والرياضة والانخلاع عن الشواغل الجسمانية والاتصال بالمجردّات النوارنية يحصل لهم قوة الاقتدار على تسخير أرباب النوع فينفذ عليها أمرهم ويجري فيها مشيتهم ولذا ترى أو تسمع أنّ بعضهم رفع الطاعون عن بعض البلاد وحبسه منهم ما دام حكم الطلسم باقيا ، وبعضهم حبس البقّ عن أرض معينة ، وقد صنع بعضهم قدحا مملوا ماء يشرب منه العساكر العظام فلا ينقص منه شيء ، وبعضهم حوضا على باب النوبة من رخام أسود ولا ينقص على الدهر ، وجميع أهل المدينة يشربون منه ولا ينقص ماؤه ، وإنما صنع لهم ذلك لبعدهم عن النيل ، وقربهم من البحر المالح.

والمعروف في الألسنة عن شيخنا البهائي رحمه‌الله أنه حبس الطاعون عن أصبهان.

وسمعت عن بعض الثقات أنّ المير فندرسكي (٢) حبس البقّ عن حجرته التي كان مقيما فيها بأصبهان ، حتى أنّ بعض الأعاظم أراد امتحان ذلك فوضع فيها الحلاوات من العسل وغيره فلم يقربه البقّ أصلا.

__________________

(١) هو شهاب الدين أبو حفص السهروردي ، قتل بقلعة حلب في أواخر سنة (٥٨٦) وله من العمر نحو (٣٦) سنة ، وله تصانيف منها «حكمة الإشراق». ـ معجم المؤلفين : ج ٧ ، ص ٣١٠.

(٢) هو أبو القاسم الميرفندرسكى الفيلسوف المتأله المتوفى سنة (١٠٥٠) ه.

٣٩٦

وقد ذكر الفاضل الجلدكي (١) في كتاب «البرهان في علم الميزان» أنّ من طلاسم جلب المنافع ما في دير الزرازير بالروم ، فإنّه صنع قبة هائلة وحولها محيط كبير بجدران قائمة ، ووضع على رأس القبة زرزورا (٢) له جسم مختلط تحت كل من أرجله صفة زيتونة وهو ماسك لها بأظفاره ، ثم ركّبه على أعلى القبة في وقت رصده وطالع اختاره ، فكلّما ينقضي العام ، ويأتي مثل ذلك اليوم الذي كان في نصب هذا الطلسم تأتي الزرازير من أقطار الدنيا من غامض علم الله تعالى بعدد لا يحصى لكثرته ، وكل طائر منها في منقاره زيتونة سوداء ، وفي رجله زيتونتان ، فيلقي الثلاث زيتونات على رأس الطلسم الذي في أعلى القبة ، فيجتمع من ذلك الزيتون في ذلك اليوم الواحد في ذلك المحيط شيء كثير فيعصرونه زيتا ، ويأكلون منه من العام ـ العام في تلك الأماكن التي ليس بها شيء من شجر الزيتون أصلا لقوة البرد هنالك ، فليت شعري من أين تنقل تلك الزرازير ذلك الزيتون الذي تحمله لذلك الطلسم ، وليت شعري ما السبب المسخر لها والمحرك لأن تفعل ذلك ، وليت شعري هل هن زرازير؟ أم أرواح روحانية متطورة على صفاتها؟ وهل ينقلون ذلك الزيتون من محظور أو مباح؟ وربما أقامت الزرازير تنقل الزيتون إلى ذلك اليوم من اليوم إلى مدة سبعة أيام».

إلى أن قال : ومن جلب المنافع أيضا ما هو مشاهد إلى الآن في ساحل مدينة يافا (٣) من اجتماع الأسماك من جميع أنواعها إلى طلسم موضوع لهم هنالك.

ومن العجب أنّ الجهّال يظنّون أنّ السمك يحجّون إلى ذلك المكان من العام

__________________

(١) هو أيد مر بن علي بن أيدمر الجلدكي عز الدين كان من علماء الكيمياء ، توفي بالقاهرة سنة (٧٤٣) أو (٧٥٠) أو (٧٦٢). ـ معجم المؤلفين : ج ٣ ، ص ٢٨.

(٢) الزرزور ـ بضم الزائين ـ : طائر أكبر من العصفور.

(٣) مدينة في قرب بحر الروم ـ المسمى مديترانة بالفارسي ـ.

٣٩٧

الى العام ، ولا يصيدون منها شيئا ، وإنما كان الناس يصيدون منها الأسماك فيأكلون ويملحون منها ما يكفيهم من الحول إلى الحول.

إلى غير ذلك من الطلاسم الكثيرة التي منها دثر ومضى وتعطلت منافعها ، ومنها باق إلى الآن مثل طلسم العقارب وطلسم الحيات في مدينة حمص ، وهما باقيتان إلى الآن ، فالعقارب لا تؤذي ولا الحيّات في إقليم حمص من الجانب الشرقي من النهر أبدا ، وأمّا في الجانب الغربي فهي قاتلة.

وكان بمدينة حمص طلسم للنمل في قبة منيعة ففتحها جاهل من الجهّال ووجد في صدرها صفّة مبنية ، ومن فوقها مكان مربع ، ومن فوقه طبق من فضة ، وفيه نمل من ذهب صغار ، ومن فوقها نملة من فضّة ، وعليها أخرى من ذهب ، فلمّا رفع الطبق من مكانه تسلّط النمل على الناس في مدينة حمص.

وفي إقليم الهرمل طلاسم عظيمة باقية وكذلك الأهرامات والبراني من إقليم مصر وغير ذلك في كثير من الأقاليم.

وأما طلاسم الكنوز والموانع فإنها من العجائب التي لا يكاد أن يصدّق الأخبار عنها إلّا من له نظر وعقل وجنان فافهم ذلك ، وتعجب مما صنع الرحمن» انتهى.

إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى ، ولعلّ وقوع نوعه من المقطوعات ، وذلك إنما هو بتسخير ربّ هذا النوع والحكم عليه بما يريد.

بل ولعلّ من هذا الباب الاطّلاع على الأعمال العجيبة والصنائع الدقيقة التي ربّما يعدّ في السحر وخوارق العادات وكذا الاستشراف على العلوم والمعارف.

ولذا يحكى عن هرمس : أنه كان يقول : إن ذاتا روحانية ألقت إليّ المعارف فقلت لها : من أنت؟ فقال : أنا طباعك التام.

لكنك لا يخفى عليك أن ما ذكرناه في هذا البحث إنما هو مع الجري على

٣٩٨

مقاصد القوم ، فإنّه لمّا كانوا مختلطين مع أوساخ الدهرية والطباعية زعموا أن الأفاعيل الصادرة عن العناصر والمعادن والنباتات منسوبة إلى قوى طبيعية صادرة عنها من دون شعور واختيار وإرادة ، بل لم يثبتوا الشعور والإرادة إلّا للحيوان من حيث إنّه حيوان ، أي حسّاس متحرك بالإرادة.

وأما من حيث كونه جسما أو ناميا فلم يثبتوا له الإرادة بل زعموا أنّ أفعاله طبيعية ، ولذا وقعوا في مثل المصوّرة في حيص وبيص ، حيث إنّ القوة البسيطة العديمة الشعور كيف يمكن أن يصدر عنها أفعال مختلفة وأشكال وتخاطيط متناسبة فالتجئوا في خصوص المصوّرة أو في مطلق القوى حسب ما سمعت إلى إثبات الملائكة.

والذي يظهر من التأمّل التامّ في الكتاب العزيز وكلمات أهل البيت عليهم‌السلام أنّ كل شيء دخل في صقع الوجود فله نحو من الشعور.

ولذا قيل : إنّ الوجود كله شعور واختيار وإرادة وتمييز وفهم وحياة ، فهذه الصفات ثابتة لكل شيء من الأشياء على حسب رتبتها في الوجود فما كان قريبا بالمبدء كانت فيه هذه الأوصاف أقوى وأظهر وأشد كالإنسان الكامل الذي هو خليفة الرحمن وما كان بعيدا عنه كانت في أضعف وأخفى كالحركات والألوان سائر الأعراض والجمادات والأفاعيل الصادرة عنها إنما تصدر بالشعور والإرادة أيضا ولذا نطقت الشريعة الحقّة بتسبيح الأشياء كلها من الدرة إلى الذرة ، كما قال الله سبحانه : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (١).

وقال : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا

__________________

(١) الجمعة : ١.

٣٩٩

يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (١).

وقال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ...) (٢).

وقال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) (٣).

وقال : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) (٤).

وورد في موضعين من القرآن شهادة الأدوات والجوارح كالأيدي والأرجل (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (٥).

ولذا قال شيخنا المجلسي رحمه‌الله على ما حكاه عن بعضهم في الآية الثالثة : «إنّ هذه الآية تدلّ على أنّ العالم كلّه في مقام الشهود والعبادة إلا كلّ مخلوق له قوة التفكر ، وليس إلّا النفوس الناطقة الإنسانية والحيوانية خاصة من حيث أعيان أنفسهم ، لا من حيث هياكلهم ، فإنّ هياكلهم كسائر العالم في التسبيح له والسجود ، فأعضاء البدن كلّها مسبّحة ناطقة ، ألا تراها تشهد على النفوس المسخّرة لها يوم القيامة من الجلود والأيدي والأرجل والألسنة والسمع والبصر وجميع القوى.

ثم قال المجلسي قدس‌سره : والأرواح والنفوس أيضا لها جهتان : فمن جهة مسخرة منقادة لربها في جميع ما أراد منها ، ومن جهة أخرى عاصية مخالفة لربها بل من هذه الجهة أيضا مسخرة ساجدة خاضعة لإرادة ربها حيث أقدرها على ما

__________________

(١) الإسراء : ٤٤.

(٢) الحج : ١٨.

(٣) النور : ٤١.

(٤) سبأ : ١٠.

(٥) فصلت : ٢١.

٤٠٠