السيد علي خان المدني الشيرازي
المحقق: الدكتور السيد أبو الفضل سجادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: روح الأمين
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-518-296-8
الصفحات: ٩٤٧
جالسا وأبو بكر خالدا سعيدا منطلقا ، وعلى منع العطف على معمولي أكثر من عاملين ، نحو : إنّ زيدا ضارب أبوه لعمرو وأخاك غلامه بكر.
التأكيد
ص : الثالث : التّأكيد وهو تابع يفيد تقرير متبوعه : أو شمول الحكم لإفراده ، وهو إمّا لفظيّ ، وهو اللفظ المكرّر ، أو معنويّ ، وألفاظه : «النفس» و «العين» ، ويطابقان المؤكّد في غير التثنية ، وهما فيها كالجمع ، تقول : جائني زيد نفسه ، والزيدان أنفسها ، والزيدون أنفسهم ، و «كلا» و «كلتا» للمثنّى ، و «كلّ» و «جميع» و «عامّة» لغيره من ذي أجزاء يصحّ افتراقها ، ولو حكما ، نحو : اشتريت العبد كلّه ، وتتّصل بضمير مطابق للمؤكّد ، وقد يتبع «كلّ» بأجمع وأخواته.
مسألتان : لا تؤكّد النكرة إلا مع الفائدة ، ومن ثمّ امتنع : رأيت رجلا نفسه ، وجاز اشتريت عبدا كلّه ، وإذا أكّد المرفوع المتّصل بارزا أو مستترا بالنّفس والعين فبعد المنفصل ، نحو : قوموا أنتم أنفسكم ، وقم أنت نفسك.
ش : «الثالث» من التوابع «التأكيد» بالهمزة وبإبدالها ألفا على القياس في نحو رأس ويقال : التوكيد أيضا ، وهو الأفصح ، «وهو تابع» ، وهذا كالجنس ، يشتمل جميع التوابع. «يفيد تقرير متبوعه» أي تقرير مفهومه ومدلوله ، «أو» تقرير «شمول الحكم لأفراده» أي أفراد المتبوع ، ومعنى التقريرها هنا أن يكون مفهوم التأكيد ومؤدّاه ثابتا في المتبوع ، ويكون لفظ المتبوع يدلّ عليه صريحا كما كان معنى نفسه ثابتا في زيد في قولك : جاءني زيد نفسه ، إذ يفهم من زيد نفس زيد ، وكذا كان معنى الشمول الّذي في كلّهم مفهوما من القوم في جاءني القوم كلّهم ، إذ لا بدّ أن يكون القوم إشارة إلى جماعة معيّنة ، فيكون حقيقة في مجموعهم ، ثمّ إنّ التاكيد يقرّر ما ثبت في المتبوع ، ودلّ عليه أي يجعله مستقرّا محقّقا ، بحيث لا يظنّ به غيره.
وبهذا خرج ما عدا المحدود من التوابع ، أمّا النعت غير التوكيديّ والعطف بالحرف فظاهر ، وأمّا النعت التوكيدي نحو (نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) [الحاقة / ١٣] ، فإنّ واحدة وإن أفادت (١) تقرير مفهوم المتبوع ، وهو الوحدة ، لكن هذه الإفادة ليست بالوضع ، فإنّ النعت إنّما وضع للدلالة على معنى في متبوعه ، وأمّا عطف البيان فليس جميعه مدلولا عليه بلفظ المتبوع ، فزيد من نحو : جاءني العالم زيد ، لا دلالة للعالم عليه ، بل ربّما دلّ
__________________
(١) سقطت «فإنّ واحدة وإن أفادت» في «ح».
بعض متبوعاته عليه ، وذلك مع قلّة الاشتراك ، نحو : أقسم بالله أبو حفص عمر ، إذا فرضنا أنّه ليس هناك ممن سمّي بأبي حفص إلا اثنان أو ثلاثة ، كذا قيل.
وفي دلالة المتبوع عليه في هذا أيضا نظر ، فإنّ دلالته عليه أنّما استفيدت من خارج ، وهو علم المخاطب أو السامع بوضع هذه الكنيه لمسمّى هذا الاسم ، وإلا فأبو حفض مثلا لا يدلّ على عمر من حيث هو متبوع ، وأمّا البدل فمتبوعه غير مقصود ، فلا يكون تقريره مقصودا ، وقولهم : إنّ الإبدال للتقرير ، معناه أنّه لتقرير ما صدق البدل عليه لا بتقرير المتبوع من حيث هو متبوع.
تنبيه : قوله : «أو شمول الحكم لأفراده» ليس للإحتراز به عن شيء ، بل لبيان فائدة التوكيد. فتقرير المتبوع مقرّرا في ذهن السامع بإزالة غفلته عن سماع اللفظ ، أو بإزالة توهّمه كون ذكر المتبوع غلطا ، أو كونه بمعناه المجازي ، سواء كان منسوبا أو منسوبا إليه ، وتقرير شمول الحكم لأفراده جعله مقرّرا في ذهن السامع بإزالة توهّم أنّ الحكم أنّما هو على بعض أفراد المتبوع ، وحكم على الكلّ تجوّزا لعدم الاعتداد بمن لم يجئ منهم ، فإذا أكّد زال توهّم المجاز ، وثبت الحقيقة ، وسيأتي بيان ما يرفع به كلّ من هذه التوهّمات من ألفاظ التوكيد ، ولا يخف أنّ قوله : «يفيد تقرير المتبوع» يغني عن ذكر الشمول ، لظهور إن جاء القوم كلّهم ، يفيد تقرير المتبوع بإزالة توهّم كون المراد بالقوم بعضهم ، فذكره أنّما هو زيادة توضيح.
التوكيد اللفظيّ والمعنويّ : «وهو» أي التوكيد «إمّا لفظيّ وهو» أي التأكيد اللفظيّ «اللفظ المكرّر» بعينه ، نحو : جاء زيد زيد ، أو بموافقة في المعنى ، نحو : حقيق جدير ، و: (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [البقرة / ٣٥] ، أو في الزنة ، وإن لم يكن له في حال الإفراد معنى ، بل ضمّ إلى الأوّل لتزيين الكلام لفظا وتقويته معنى ، نحو : حسن بسن وشيطان ليطان. ويجب التأكيد اللفظيّ عند إرادة المتكلّم دفع ضرر غفلة السامع وظنّه به الغلط ، ولا يجدي هاهنا التأكيد المعنويّ ، لأنّك لو قلت : ضرب زيد نفسه ، فربّما ظنّ بك أنّك أردت ضرب عمرو ، فقلت نفسه ، بناء على أنّ المذكور عمرو ، وكذا إن ظننت به الغفلة عن سماع لفظ زيد يجب أيضا عند إرادته دفع ظنّ السامع به التجوّز في المنسوب ، نحو : زيد قتيل قتيل ، دفعا لتوهّم السامع أنّ المراد بالقتل الضرب الشديد ، وأمّا عند إرادته دفع ظنّه به التجوّز في المنسوب إليه فيجوز اللفظيّ ، نحو : ضرب زيد زيد ، أي ضرب هو ، لا من يقوم مقامه ، والمعنويّ كما سيأتي.
تنبيهات : الأوّل : إنّ التأكيد اللفظيّ يجرى في الاسم ظاهرا كما مرّ ، ومضمرا كما قام إلا أنت أنت ، وفي الفعل بإعادة لفظه ، نحو : قام زيد ، أو بمرادفه ، نحو : صمت سكت زيد ، وفي الحرف كذلك ، نحو : نعم نعم وقوله [من الطويل] :
٥٦٨ ـ ... |
|
أجل جير إن كانت أبيحت دعاثره (١) |
وفي الجملة كقوله [من الهزج] :
٥٦٩ ـ أيا من لست أقلاه |
|
ولا في البعد أنساه |
لك الله على ذاك |
|
لك الله لك الله (٢) |
فإن كان المؤكّد ضميرا متّصلا أو حرفا غير جواب لم يعد اختيارا إلا مع ما دخل عليه ، نحو : قمت قمت ، أكرمتك أكرمتك ، مررت به مررت به ، إنّ زيدا إنّ زيدا قائم ، أو إنّ زيدا إنّه قائم ، أو مفصولا بفاصل ، ولو حرف عطف أو وقف ، كقوله [من الخفيف] :
٥٧٠ ـ ليت شعري هل ثمّ هل آتينهم (٣) |
|
|
وقوله [من الرجز] :
٥٧١ ـ لا ينسك الأسى تأسّيا فما |
|
ما من حمام أحد معتصما (٤) |
ولا يجوز إعادته وحده دون فصل إلا ضرورة ، كقوله [من الوافر] :
٥٧٢ ـ فلا والله لا يلفي لما بي |
|
ولا للما بهم أبدا دواء (٥) |
أجاز الزمخشريّ وابن هشام والرضيّ نحو : إنّ إنّ زيدا قائم ، قال ابن مالك : وهو مردود لعدم إمام يستند إليه ، أو سماع يعتمد عليه ، ولا حجّة في قوله [من الخفيف] :
٥٧٣ ـ إنّ إنّ الكريم يحلم ما لم |
|
يرين من أجاره قد ضيما (٦) |
فإنّه من الضرورات.
أمّا أحرف الجواب فتعاد وحدها ، نحو : لا لا ، نعم نعم ، والأجود إعادة الجارّ مع الظاهر أو ضميره نحو : مررت بزيد بزيد ، وقوله تعالى : (فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) [هود / ١٠٨] ، (فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [آل عمران / ١٠٧].
__________________
(١) صدره : «وقلن على الفردوس اوّل مشرب» ، وهو لمضرس بن ربعي. اللغة : الفردوس : ماء لبني تميم ، وهو اسم لأعلى مكان في الجنّة ، المشرب : اسم مكان من الشرب ، أجل وجير : حرفا جواب ، أبيحت : حلّلت ، سمح بها ، الدعاثر : جمع دعثور وهو الحوض المتهدّم.
(٢) البيتان بلا نسبة. اللغة : أقلاه : أبغضه وأهجره.
(٣) تمامه «أو يحولنّ من دون ذاك حمام» ، وهو للكميت بن معروف. اللغة : الحمام : المؤنّث.
(٤) لم يذكر قائله. اللغة : الأسى : الحزن ، الحمام : الموت
(٥) هو لمسلم بن معبد الوالبي. اللغة : يلفي : مجهول من ألفيته بمعنى وجدته ، واللام الثانية في للما لتأكيد اللام الأولى.
(٦) لم يعيّن قائله. اللغة : أجاره : حكاء وأنقذه ، ضيم : مبني للمجهول من ضامه ضيما : ظلمه.
والأكثر اقتران الجملة المؤكّدة بعاطف ، وهو ثمّ خاصّة كما في الإرتشاف ، نحو : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) [النبا / ٥ و ٤] ، ويأتي بدونه نحو قوله (ص) : والله لأغزونّ قريشا والله لأغزونّ قريشا (١). ويجب ترك العاطف عند إيهام التعدّد ، نحو : ضربت زيدا ، إذ لو قيل : ثمّ ضربت زيدا لتوهّم أنّ الضرب وجد مرّتين ، وتراخت إحداهما عن الأخرى ، والغرض أنّه لم يقع إلا مرّة واحدة.
فإن قلت : إذا قرن المؤكّد بالعاطف ، فهل يكون توكيدا أو عطف نسق؟ قلت : النّحويّون على أنّه عطف نسق وإن أفاد التوكيد ، وزعم ابن مالك أنّه توكيد لفظيّ ، اغتفر فيه الفصل بالعاطف ، كذا قال ابن عادل (٢) في تفسيره. أقول : والصواب ما ذهب إليه ابن مالك ، فإنّ العطف في ذلك نظير العطف في الأوصاف المتعدّدة ، وقد مرّ أنّ إطلاق العطف عليها مجاز ، فيكون هنا كذلك ، وان كان المؤكّد هنا اسما ظاهرا أو ضميرا منصوبا منفصلا ، فيتكرّر بحسب الإرادة بلا شرط ، نحو قوله (ص) : أيّما امراة نكحت نفسها بغير وليّ فنكاحها باطل باطل باطل (٣) ، وقوله تعالى [من الطويل] :
٥٧٤ ـ وإيّاك إيّاك المراء فإنّه |
|
إلى الشّرّ دعّاء وللشّرّ جالب (٤) |
وإن كان ضميرا منفصلا مرفوعا جاز أن يؤكّد به كلّ ضمير متّصل ، مرفوعا كان أو منصوبا أو مجرورا مع طبقة في التّكلّم والإفراد والتذكير وأضدادها ، كقمت أنا ، وأكرمتني أنا ، وضربتك أنت ، وضربته هو ، ومررت بك أنت ، وبه هو ، وهكذا ، وأجاز بعضهم توكيد المنفصل بالإشارة ، وجعل منه (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ) [البقرة / ٨٥].
الثاني : لا يزيد تكرار اللفظ في التوكيد على ثلاث مرّات ، قال الشيخ عز الدين بن عبد السّلام (٥) : اتّفق الأدباء على أنّ التأكيد في لسان العرب إذا وقع بالتكرار لا يزيد على ثلاث مرّات قال : وأمّا قوله تعالى في سورة المرسلات (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [المرسلات / ١٥] ، في جميع السورة ، فذلك ليس بتوكيد ، بل كلّ آية قيل فيها : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) في هذه السورة ، فالمراد المكذّبون بما تقدّم ذكره قبيل هذا القول ، ثمّ يذكر الله معنى آخر ، ويقول : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ،) أي بهذا ، فلا يجتمعان على معنى واحد فلا تاكيد (٦). وكذلك (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن / ١٣] ، في سورة الرحمن.
__________________
(١) سنن أبي داود ، ص ٦٢٥ ، رقم ٣٢٨٥.
(٢) لم أجد ترجمة حياته.
(٣) الترمذي ، ٣ / ٤٠٨ ، رقم ١١٠٢.
(٤) هو للفضل بن عبد الرحمن. اللغة : المراء : الممّاراة والجدل.
(٥) لم أقع على ترجمه له.
(٦) سقطت «فلا تاكيد» في «ح».
التوكيد المعنويّ وألفاظه : «أو معنويّ» ، هذا قسيم قوله إما لفظيّ ، وإنّما أخّره ، وان كان هو المعتدّ به في التوابع ، كما قال ابن عقيل لطول الكلام فيه ، «وألفاظه» محصورة ، وهي «النفس والعين» ، ويكونان لدفع المتكلّم ظنّ السامع به تجوّزا في المنسوب إليه ، فإنّه إذا قيل : قطع الأمير اللصّ ، احتمل أن يكون باشر قطعه ، وهو المعنى الحقيقيّ ، وأن يكون أمر بقطعه (١) ، ونسب إليه لكونه سبب أمر ، أو هو المعنى المجازيّ ، فإذا قيل : نفسه أو عينه ، ارتفع ظنّ التجوّز ، وثبت الحقيقة.
تنبيه : محلّ كون النفس والعين من ألفاظ التوكيد إذا أريد بهما الحقيقة ، فلو أريد بالنفس الدم ، وبالعين الجارية المخصوصة ، نحو : أرقت زيدا نفسه ، وطرفت زيدا عينه ، لم يكونا من التوكيد ، بل بدل بعض من كلّ ، وهو ظاهر.
«ويطابقان المؤكّد في غير التثنية» وهو الإفراد والجمع «وهما» أي النفس والعين «فيها» أي في التثنية «كالجمع» فيجمعان في توكيد الاثنين ، كما يجمعان في توكيد الجماعة ، تقول : جاء زيد نفسه أو عينه ، وجاءت هند نفسها أو عينها ، والزيدان أنفسهما أو أعينهما ، والهندان أنفسهما أو أعينهما ، والزيدون أنفسهم أو أعينهم ، والهندات أنفسهن أو أعينهنّ.
تنبيهات : الأوّل : ما جزم به من وجوب جمع النفس والعين في توكيد الاثنين هو ما صرّح به ابن مالك في التسهيل ، وجزم به ابن هشام في القطر ، وصرّح به بعضهم بجواز الأوجه الثلاثة ، وبه جزم ابن هشام في شرح الشذور ، قال : إذا أكّد المثنّى بالنفس والعين ففيهما ثلاث لغات : أفصحها الجمع ، ودونه الأفراد ، ودون الإفراد التثنية ، وهي الأوجه الجائزة في قطعت رؤوس الكبشين ، انتهى.
وإنّما أخّرت التثنية لكراهة اجتماع تثنيّتين فيما هو كالكلمة الواحدة ، واختير الجمع على الافراد ، لأنّ التثنية جمع في المعنى. وجوّز ابن مالك وولده تثنية النفس والعين في توكيد الاثنين ، نحو : قام الزيدان نفساهما وعيناهما ، ومنع ذلك أبو حيّان ، وقال : إنّه غلط ، لم يقل به أحد من النّحويّين ، انتهى. وفي شرح الكافية للرضيّ ، وقد يقال : نفساهما وعيناهما على ما حكى ابن كيسان عن بعض العرب.
الثاني : مثل النفس والعين في جوازه الأوجه الثلاثة (٢) ما أضيف إلى متضمّنه ، وهو مثنى لفظا ، نحو : قطعت رؤوس الكبشين ، أي رأساهما ، أو معنى ، كقوله [من الطويل] :
__________________
(١) لم يقطعه «ح».
(٢) في جواز الإضافة «ح».
٥٧٥ ـ ... |
|
كفاغري الأفواه عند عرين (١) |
أي كأسدين فاغرين أفواههما عند عرينهما ، فإنّ مثل ذلك ورد فيه الجمع والإفراد والتثنية ، فمن الأوّل ، نحو : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم / ٤] ، وقراءة ابن مسعود : السارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما [المائدة / ٣٨] ، ومن الإفراد : (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) [الأعراف / ٢٢] ، ومن التثنية قراءة الجمهور : سوءاتاهما.
وطرد ابن مالك قياس الجمع والإفراد أيضا لمفهم المعنى ، وخصّ الجمهور القياس بالجمع ، وقصروا الإفراد على ما ورد ، وإنّما وافق الجمهور على قياس الجمع كراهة اجتماع التثنيتين مع فهم المعنى ، ولذلك شرط أن لا يكون لكلّ واحد من المضاف إليه إلا شيء واحد ، لأنّه إذا كان له أكثر التبس ، فلا يجوز في قطعت أذني الزيدين الإتيان بالجمع ولا الإفراد للإلباس.
الثالث : لا تجمع النفس والعين في التأكيد إلا جمع قلّة ، فلا يؤكّد بنفوس ولا بعيون ، قال المراديّ في شرح التسهيل ، وينبغي أن يقيّد جمع القلّة بأفعل ، فإنّ عينا جمع على أعيان ، ولا يؤكّد به ، واعترضه الدمامينيّ بأنّ في شرح العمدة لابن مالك وفي شرح المفصّل ونهاية ابن الخباز جواز أعيان في هذا الباب.
الرابع : يجوز الجمع بين النفس والعين ، ويجب تقديم النفس على الأصحّ ، كجاء زيد نفسه عينه بخلاف عكسه ، فإنّ النفس هي الذات حقيقة ، والعين مستعارة لها عن الجارحة المخصوصة. قال بعض المتأخّرين : وفي استعارة العين للنفس نظر ، فتأمّل.
الخامس : يجوز أن تزاد الباء فيهما ، كجاء زيد بنفسه وبعينه. ولا يجوز ذلك في غيرهما من ألفاظ التوكيد ، فأمّا جاؤوا بأجمعهم فليس من التوكيد ، لأنّ الباء لازمة ، ولأنّه بالضمير ، ولو كان توكيدا ، لكان الباء زائدة ، وكان يصحّ إسقاطها ، وكان وروده بدونها غالبا وبدون الضمير واجبا ، وإنّما هو بضمّ الميم لا بفتحها ، وهو جمع لقولك (٢) جمع على حدّ قولهم فلس وأفلس ، والمعنى جاؤوا بجماعتهم ، وخرّج بعضهم على زيادة الباء قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) [البقرة / ٢٢٨] ، وفيه نظر ، وسيأتي بيانه.
__________________
(١) صدره «رأيت بني البكريّ في حومة الوغى» ، ولم يعين قائلة ، اللغة : الوغي : الحرب ، فاغري الأفوه : فاتحي الأفواه جمع الفم ، العرين : مأوى الاسد.
(٢) سقط جمع لقولك في «ح».
كلا وكلتا : «وكلا وكلتا للمثنّى» مذكّرا أو مؤنّثا ، ويكونان لتقرير شمول الحكم عند إرادة المتكلّم دفع ظنّ السامع به تجوّزا في الحكم على مدلول المتبوع المتعدّد ، وإنّما المراد بعضه ، نحو : جاء الرجلان كلاهما والمرأتان كلتاهما.
قال التفتازانيّ : وفي كون نحو ذلك لدفع توهّم عدم الشمول نظر ، لأنّ المثنّى نصّ في مدلوله لا يطلق على الواحد أصلا ، فلا يتوهّم فيه عدم الشمول ، أللهمّ إلا أن يقال : إنّ الفعل الصادر عن أحد المتصاحبين قد ينسب إليهما ، كما في قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن / ٢٢] ، وإنّما يخرجان من الملح الأجاج دون العذب الفرات ، فالتأكيد بكلاهما دفع مثل هذا ، انتهى.
ومنعه إطلاق المثنّى على الواحد ممنوع ، فإنّ العرب كثيرا ما تطلقه عليه مجازا ، ألا ترى إلى قول الشاعر [من الكامل] :
٥٧٦ ـ فجعلن مدفع عاقلين أيامنا |
|
وجعلن أمعز رامتين شمالا (١) |
فأطلق عاقلين ورامتين على جبل عاقل ورامة مجازا ، كذا قيل.
قلت : وفيه نظر ، إنّه لم يطلق عاقلين على عاقل ورامتين على رامة من غير اعتبار شيء آخر مع كلّ منهما ، بل الظاهر أنّه سمّي ما حول عاقل ورامة عاقلا ورامة ، ثمّ أطلق عليها عاقلين ورامتين من باب تغليب كالعمرين والقمرين كما قالوه في قول الفرزدق [من الطويل] :
٥٧٧ ـ عشيّة سال المربدان كلاهما |
|
... (٢) |
قالوا : إنّما هو مريد واحد ، لكنّه جعله وما حوله مربدين مجازا ، فلا حجّة في البيت على إطلاق المثنّى على الواحد ، فتدبّر.
تنبيهات : الأوّل : كما يؤكّد بكلا وكلتا المثنّى ، يؤكّد بهما في معناه ، نحو : جاء زيد وعمر كلاهما ، وزينب وهند كلتاهما ، فلو قال : وكلا وكلتا للاثنين بدل قوله للمثنّى ، لكان أولى.
الثاني : ذهب الفرّاء والفارسيّ وهشام إلى أنّ كلا وكلتا لا يؤكّدان ما لا يصلح في محلّه واحد ، فلا يجوز أن يقال : اختصم الزيدان كلاهما ، لأنّه لا يحتمل أن يكون المراد اختصم أحد الزيدين ، فلا فائدة في التوكيد.
__________________
(١) هو لجرير. اللغة : عاقل : جبل ، رامة : اسم موضع.
(٢) تمامه «سحابة يوم بالسيوف الصوارم» ، اللغة : المربد : الموضع الّذي تحبس فيه الابل وغيرها ، سحابة يوم : طوله ، الصوارم : جمع الصارم أي : القاطع.
وذهب الجمهور إلى الجواز ، وتبعهم ابن مالك في التسهيل ، واختلف النقل عن الأخفش ، واحتجّ المجيز بأنّ العرب قد تأتي بالتوكيد حيث لا احتمال ، نحو : جاء القوم كلّهم أجمعون أكتعون ، فالتأكيد بأجمع واكتع بعد كلّ لا يرفع بهما احتمال لرفعه بكلّ. قال أبو حيّان : والجواب أنّ المعنى إذا كان يفيده اللفظ حقيقة ، فلا حاجة للفظ آخر يؤكّده ، إلا إذا قوي برواية من العرب ، ولم يسمع من العرب التوكيد في ذلك.
الثالث : يشترط في التوكيد بهما اتّحاد معنى المسند ، فلا يجوز : مات زيد وعاش عمرو كلاهما. وهل يجوز اختلاف لفظه مع اتّحاد معناه ، نحو : ذهب زيد وانطلق عمرو كلاهما ، جزم بجواز ذلك ابن مالك تبعا للأخفش. وقال أبو حيّان : إنّه يحتاج إلى صريح سماع من كلامهم ، حتى يصير قانونا يبني عليه ، والّذي تقتضيه القواعد المنع ، لأنّه لا يجتمع عاملان على معمول واحد فلا يجتمعان على تابعه.
الرابع : قال ابن هشام : الظاهر أنّ التوكيد يبعد إرادة المجاز ، ولا يرفعها ألبتّة ، ولهذا يتأتّي الإتيان بألفاظ متعدّدة ، ولو صار بالأوّل نصّا لم يؤكّد كما لا يقال : اختصم الزيدان كلاهما ، ألا ترى إلى قول الفرزدق [من الطويل] :
٥٧٨ ـ عشيّة سال المربدان كلاهما |
|
... (١) |
وإنّما هو مريد واحد ، فجعله وما حوله مريدين مجازا ، فعلم أنّ التؤكيد لا يمنع أن يكون في المؤكدّ مجازا ما ، انتهى.
قلت : وفيه نظر ، أمّا نحو : اختصم الزيدان كلاهما ، فقد علمت أن الجمهور على جوازه ، وأمّا قول الفرزدق فليس المراد بالتوكيد فيه رفع إرادة المجاز في نفس المؤكّد ، بل رفع إرادته في نسبة الفعل إلى مدلول المؤكّد المتعدّد ، فإنّ التأكيد بكلاهما فيه إفادة شمول الحكم بالسيلان للمريد وما حوله ألبتّة ، فاندفع توهّم أنّ السائل إنّما هو المريد وحده ، لكنّه حكم بالسيلان عليه وعلى ما حوله مجازا ، وهذا نظير قولك : جاء العمران كلاهما ، وكسف القمران كلاهما ، وأمّا إرادة المجاز في المؤكّد نفسه فهي مقصودة للمتكلّم ، فكيف يرفعها.
التوكيد بكلّ وجميع وعامّة : «وكلّ وجميع وعامّة لغيره» أي لغير المثنّى «من ذي أجزاء» ، مفردا كان أو جمعا ، قال بعضهم : إذ الكلّية والاجتماع لا يتحقّقان إلا فيه ، و
__________________
(١) تقدم برقم ٥٧٧.
لا حاجة إلى ذكر الأفراد ، لأنّ الكلّي ما لم يلحظ إفراده مجتمعة ، ولم تصر أجزاء لا يصحّ تأكيده بكلّ وجميع ، انتهى.
«يصحّ افتراقها» أي الأجزاء ، نحو : جاء القوم كلّهم أو جميعهم أو عامّتهم. فالقوم ذو أجزاء يصحّ افتراقها ، وهي زيد وعمرو وبكر وغيرهم. ولا يجب صحّة افتراقها حسّا كهذا المثال ، بل صحّته «ولو» كان «حكما ، نحو : اشتريت العبد كلّه» أو جميعه أو عامّته ، فالعبد ذو أجزاء ، يصحّ افتراقها باعتبار الشراء مثلا ، وإن لم يصحّ افتراقها باعتبار ذاته ، بخلاف جاء زيد كلّه ، فإنّه لا يصحّ افتراق أجزائه ، لا حسّا ولا حكما ، وإنّما يؤكّد بهذه الألفاظ ذو أجزاء كذلك ، لأنّها إنّما تكون لتقرير الشمول الحكم ، فما لم يكن المؤكّد كذلك لم يمكن توهّم أنّ المراد الحكم على البعض ، وإنّما حكم على الكلّ تجوّزا.
«وتتّصل» أي ألفاظ التوكيد المعنويّ «بضمير» عائد إلى المؤكّد لفظا ، ليحصل الربط بين التابع والمتبوع «مطابق للمؤكّد» في تذكيره وتأنيثه وإفراده ، نحو : جاء زيد نفسه ، وهند نفسها ، والزيدان كلاهما والهندان كلتاهما والزيدون كلّهم والهندات كلّهنّ كذا والباقي.
فليس من التوكيد «جميعا» في قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة / ٢٩] ، خلافا لمن وهم ، ولا من التؤكيد بكلّ قراءة بعضهم : إنا كلا فيها [غافر / ٤٨] ، خلافا للفرّاء والزمخشريّ لعدم الضمير فيها ، بل الصواب أنّ جميعا حال من ما الموصولة ، وكلّا بدل من اسم إنّ ، وإبدال الظاهر من ضمير الحاضر بدل كلّ جائز ، إذا كان مفيدا للاحاطة ، نحو : قمتم ثلاثتكم ، وبدل الكلّ لا يحتاج إلى الضمير.
ويجوز في كلّ أن تلي العوامل إذا لم تتّصل بالضمير ، نحو : جاءني كلّ القوم. ويجوز مجيئها بدلا بخلاف جاءني كلّهم ، فلا يجوز إلا في الضرورة ، وخرّجها ابن مالك أنّ كلّا حال من ضمير الظرف ، وفيه ضعفان : تنكير كلّ بقطعها عن الإضافة لفظا ومعنى ، وهو نادر كقول بعضهم : مررت بهم كلّا ، أي جميعا ، وتقديم الحال على عاملها الظرفيّ ، قاله ابن هشام في المغني.
تنبيه : التوكيد بجميع وعامّة غريب ، ولذلك أهملهما أكثر المصنّفين ، ومن التوكيد بجميع قول امرأة من العرب ترقص ولدها [من الرجز] :
٥٧٩ ـ فداك حيّ خولان |
|
جميعهم وهمدان |
والتاء في عامّة لازمة بمترلة هاء في نافلة فتصلح مع المذكّر والمؤنّث ، تقول : اشتريت الأمة عامّتها ، والعبد عامّته ، كما قال تعالى : (وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) [الأنبياء / ٧٢] ،
وفي الإفصاح (١) أنّ المبرّد يفسّر عامّة بأكثر لا بجميع ، فعلى هذا تكون بدل بعض من كلّ لا توكيد ، وتفيد تخصيصا لا تعميما ، وقد يكون جميع بمعنى مجتمع ضدّ مفترق ، فلا تفيد توكيدا كقوله [من الطويل] :
٥٨٠ ـ ... |
|
نهيتك عن هذا وأنت جميع (٢) |
«وقد يتبع» عند إرادة تقوية التوكيد «كلّ بأجمع وأخواته» وهي أكتع وأبصع حال كونها مطابقة للمؤكّد في التذكير والتأنيث والإفراد والجمع ، فيقال : اشتريت العبد كلّه أجمع أكتع أبصع أتبع ، والأمة كلّها جمعاء كتعاء بصعاء بتعاء ، وجاء القوم كلّهم أجمعون أكتعون أبصعون أبتعون ، والنساء كلّهنّ جمع كتع بصع بتع.
وأمّا التثنية فقضية إطلاقه أنّها تطابقه فيها أيضا ، وهو مذهب الأخفش والكوفيّون. قال ابن خروف : ومن منع التثنية فقد تكلّف ، وادّعى ما لا دليل عليه ، والمنع مذهب جمهور البصريّين. قال ابن هشام : وهو الصحيح ، لأنّه لم يسمع ، وفي الهمع ، وممّا لا يثنّى لتعريفه أجمع وجمعاء في التوكيد وأخوته خلافا للكوفيّين.
تنبيهات : الأوّل : الجمهور على أنّه لا يؤكّد بأجمع دون كلّ اختيارا ، كما قال أبو حيّان : جوازه لكثرة وروده في القرآن والكلام الفصيح ، كقوله تعالى : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر / ٣٩] (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر / ٤٣] ، (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود / ١١٩].
وفي الحديث : فله سلبه أجمع ، فصلّوا جلوسا أجمعين (٣). قال أبو حيّان : ولا يقال : دليل المنع وجوب تقديم كلّ عند الاجتماع ، لأنّ النفس يجب تقديمها على العين إذا اجتمعا ، ويجوز التأكيد بالعين على الانفراد ، قاله في الهمع.
الثاني : لا يؤكّد بأخوات أجمع دونه عند الجمهور ، وجوّزه الكوفيّون وابن كيسان محتجّين بقول الشاعر [من الطويل] :
٥٨١ ـ ... |
|
وسائره باد إلى الشّمس أكتع (٤) |
وقول الراجز [من الرجز] :
__________________
(١) هناك كتابان باسم الإفصاح حول النحو : الأوّل الإفصاح في غوامض الإيضاح لأبي الحسن الفارسيّ ، والثاني الإفصاح في إعراب الكافية لواحد من علماء الدولة المرادية. كشف الظنون ١ / ٢١٣ و ٢ / ١٣٧٣.
(٢) صدره «فقدتك من نفس شعّاع فإنّني» ، وهو لقيس بن معاذ وهو مجنون بني عامر.
(٣) سنن أبي داود ، ص ٤٩٦ ، رقم ٢٦٥٤.
(٤) صدره «ترى الثور فيها مدخل الظّل رأسه» ، ولم يسمّ قائله. اللغة : باد : اسم الفاعل من بدا ا بمعنى ظهر.
٥٨٢ ـ ... |
|
تحملني الذّلفاء حولا أكتعا (١) |
وقول أعشي ربيعة (٢) [من الوافر] :
٥٨٣ ـ تولّوا بالدّوابر واتّقونا |
|
بنعمان بن زرعة أكتعينا (٣) |
وحمله المانعون على الضرورة.
الثالث : اختلف في هذه الكلمات عند اجتماعها ، هل كلّ منها توكيد لما قبله ، أم جميعها توكيد للمؤكّد الأوّل؟ قال الرضيّ ، قال ابن برهان (٤) : إذا قلت : جاءني القوم كلّهم أجمعون اكتعون أبصعون أتبعون ، كلّهم تأكيد للقوم ، وأجمعون تاكيد لكلّهم ، وكذا البواقي ، كلّ واحد منها توكيد لما قبله ، وقال غيره : بل كلّها تأكيد للمؤكد الأوّل كالصفات المتتالية ، انتهى. قلت : ويفهم من كلام بعض النحاة قول ثالث ، وهو أنّ أجمعين توكيد لما قبله وما بعده جمعه توكيد له.
الرابع : قال ابن هشام في شرح الملحة : يجوز أن يجمع بين جميع ألفاظ التوكيد في تركيب واحد ، وذلك للمبالغة في التأكيد ، وما أظنّ العرب فاهت بجميع الجميع ، وإنّما هذا قياس من النّحويّين ، انتهى. وقال في تذكرته نقلا عن ابن عصفور : إذا اجتمعت ألفاظ التوكيد بدأت بالنفس والعين فأجمع وأكتع وأبصع وأبتع ، وأنت مخيّر بين أبصع وأبتع ، فأيّهما شيءت قدّمته ، فإن حذفت النفس ، أتيت بما بعدها مرتّبا ، أو العين فكذلك ، أو أجمع ، لم تأت بأكتع وما بعده ، لأنّ ذلك توكيد لا جمع ، فلا يؤتى بدونها ، انتهى.
وقال الرضيّ : المشهور أنّك إذا أردت ذكر أخوات أجمع وجب الابتداء بأجمع ، ثمّ تجئ بأخواته على هذا الترتيب أجمع أكتع أبصع ، ولا خلاف أنّه لا يجوز تأخير أجمع عن أخواته. وقال ابن كيسان : تبدأ بأيّهنّ شيءت بعد أجمع ، انتهى.
الخامس : قال بعضهم : أخوات أجمع تابعة لها على معنى أنّها إذا أفردت دونها لم يكن لها معنى ، نحو : حسن بسن وشيطان ليطان ، والأكثرون على أنّ أكتع مأخوذ من
__________________
(١) صدره «يا ليتني كنت صبيّا مرضعا» ، ولا يعلم قائله. اللغة : الذلفاء : أصله وصف لمؤنث الأذلف ، وهو مأخوذ من الذلف وهو صغر الأنف واستواء الأرنبة ، ثمّ نقل إلى العلمية فسم
(٢) أعشى ربيعة (٨٥ ه / ٧٠٤ م) : هو عبد الله بن خارجة من شيبان ، كان شديد التعصب لبني أميّة ، وشعره فيهم صادق العاطفة. سهل الاسلوب. تعصف فيه الغيرة على سلطانهم والثورة على خصومهم. الجامع في تاريخ الأدب العربي ، ١ / ٥٠٣.
(٣) اللغة : الدوابر : جمع الدابر : آخر السهام.
(٤) عبد الواحد بن على بن عمر بن إسحاق بن إبراهيم بن برهان ، صاحب العربية واللغة والتواريخ ، ومات سنة ٤٥٦ ه ق. بغية الوعاة ، ٢ / ١٢٠.
حول كتيع ، أي تامّ ، وأبصع من تبصّع العرق ، أي سال. قال الرضيّ : والمشهور أبصع بالصاد المهملة. وقيل : أبضع بالضاد المعجمة ، انتهى.
وفي القاموس تبضّع العرق ، وتبصّع وبالعجمة أصحّ ، وأتبع من التبع بالتحريك ، وتقديم الباء الموحّدة على التاء المثنّاة من فوق ، وهو طول العنق مع شدّة مغرزها. قال بعضهم : ويمكن استنباطات مناسبات خفيّة بين هذه المعاني ومعناها التوكيديّ بالتأمّل الصادق.
السادس : الجمهور على أنّه لا تعرض في أجمعين إلى اتّحاد وقت الفعل ، بل معناه ومعنى كلّ سواء ، وذهب الفرّاء والزجّاج والمازنيّ والمبرّد إلى أنّه يفيد مع التوكيد الاجتماع في وقت الفعل ، فإذا قيل : قام القوم كلّهم ، احتمل قيامهم مجتمعين ومتفرقين ، وإذا قيل : أجمعون أفاد أنّ قيامهم في وقت واحد ، وأنّ هذا هو السبب في ذكر أجمعين بعد كلّ في الآية ، وردّ بقوله تعالى : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر / ٣٩] ، فإنّ إغواء الشيطان لهم ليس في وقت واحد.
قال بعض المحقّقين : ومن قال بإفادة الاجتماع لاحظ أنّه بحسب أصل الاشتقاق يدلّ على الاجتماع ، فلا يبعد قصد ذلك المعنى مع قصد المبالغة تكثيرا للفائدة ، انتهى. وهذا التوجيه لا يسمن ولا يغني من جوع ، ومن توهّمه جوابا عن الردّ عليهم بنحو آيه الاغواء فقد أغرب.
السابع : ألفاظ التوكيد معارف ، أمّا ما أضيف إلى الضمير فظاهر ، وأمّا أجمع وتوابعه ففي تعريفه قولان : أحدهما أنّه بنيّة الإضافة ، ونسب إلى سيبويه والثاني : أنّه بالعلمية علّق على معنى الإحاطة. قال محمد بن مسعود الغزني (١) في البديع : وتعريفها كتعريف أسامة ، انتهى. ولكون هذه الألفاظ معارف منع البصريّون نصبها على الحال ، قاله المراديّ في شرح الألفية.
هاتان «مسألتان» ، الأولى : «لا تؤكّد النكرة» بالتوكيد المعنويّ «إلا مع الفائدة». هذا ما ذهب إليه الكوفيّون والأخفش ، واختاره ابن مالك في جميع كتبه لصحة السماع به ، ولأنّ فيه فائدة ، لأنّ من قال : صمت شهرا ، قد يريد جميع الشهر ، وقد يريد أكثره ، ففي قوله احتمال ، يرفعه التوكيد. قال ابن هشام في الأوضح : وهذا المذهب هو الصحيح.
__________________
(١) محمد بن مسعود الغزنيّ المتوفى سنة ٤٢١ ه سمّاه ابن هشام ابن الزكي ، صاحب كتاب البديع في النحو. بغية الوعاة ١ / ٢٤٥.
«ومن ثمّ» أي من أجل اشتراط الفائدة في توكيد النكرة «امتنع رأيت رجلا نفسه» لعدم الفائدة ، «وجاز اشتريت عبدا كلّه» ، وصمت حولا كلّه ، لحصول الفائدة ، فإنّ الشراء قد يتعلّق ببعض العبد ، والصوم قد يتعلّق ببعض الحول ، فالتوكيد يرفع احتمال ذلك ، قال الرضيّ : فعلى هذا لا يشترط تطابق التأكيد والمؤكّد تعريفا وتنكيرا عندهم خلافا للبصريّين ، انتهى.
والمنع مطلقا مذهب جمهور البصريّين ، قالوا : لأنّ ألفاظ التوكيد معارف ، فلا تجرى على النكرات ، واحتجّ المجيزون بالسماع كقول الراجز [من الرجز] :
٥٨٤ ـ يا ليتني كنت صبيّا مرضعا |
|
تحملني الذلفاء حولا أكتعا (١) |
وقول الآخر [من الرجز] :
٥٨٥ ـ ... |
|
قد صرّت البكرة يوما أجمعا (٢) |
وقول الآخر [من السريع] :
٥٨٦ ـ نلبث حولا كاملا كلّه |
|
... (٣) |
وقوله [من البسيط] :
٥٨٧ ـ لكنّه شاقه أن قيل ذا رجب |
|
يا ليت عدّة حول كلّه رجب (٤) |
قال ابن مالك : لو لم ينقل استعماله عن العرب لكان جديرا بأن يستعمل قياسا ، فكيف به واستعماله ثابت ، انتهى. قال [السيوطيّ] في الهمع : والمانعون مطلقا يجيبون عما ورد من ذلك بأنّه محمول على البدل أو النعت أو الضرورة ، انتهى. وينبغي أن يقال : أو الشذوذ ليشمل ما جاء في الاختيار كقول عايشة : ما رأيت رسول الله (ص) صام شهرا كلّه إلا رمضان.
تنبيهات : الأوّل : قال غير واحد : تحصل الفائدة في توكيد النكرة بأن يكون المنكّر المؤكّد محدود أو التوكيد من ألفاظ الإحاطة كالشواهد المذكورة ، وفسّر المحدود بما كان موضوعا لمدّة لها ابتداء وانتهاء كيوم وأسبوع وشهر وحول. وقيل : المراد به المعلوم المقدار كدينار ودرهم ويوم وليلة وشهر وسنة ، والحق أنّ الفائدة قد تحصل مع غير ذلك أيضا كمثال المصنّف (ره) ، فلا ينبغي الجمود على ما قالوه ، فتأمّل.
__________________
(١) تقدم برقم ٥٨٢.
(٢) هذا الشاهد مجهول النسبة إلى قائله ، ويروى بعض من يستشهد به قبله : «إنا إذا خطّافنا تقعقعا». اللغة : الخطّاف : الحديدة المعوجة تكون في جانب البكرة ، تقعقعا : تحرّك وسمع له صوت ، صرّت : صوّتت ، البكرة : هنا ما يستقي عليها الماء من البئر.
(٣) تمامه «لا نلتقي إلا على منهج» ، وهو للعرجي. اللغة : الحول : السنة.
(٤) قائله عبد الله بن مسلم بن جندب الهذلي. اللغة : شاقه : أعجبه ، أو أثار شوقه ويروى ساقه من السوق.
الثاني : نقل غير واحد أيضا الاتّفاق على امتناع توكيد النكرة ، إذا لم يفد ، واعترض بما حكاه ابن مالك في شرح التسهيل أنّ بعض الكوفيّين أجاز توكيد النكرة مطلقا ، أفاد ، أو لم يفد ، لكن قال ابن هشام في حاشية التسهيل : هذا النقل من ابن مالك لم أقف عليه من غير جهته ، وفهمت أنّه استنتجه من إعراب بعض الكوفيّين كلمة كلّ توكيدا لعجايا في قوله [من الوافر] :
٥٨٨ ـ ... |
|
عجايا كلّها إلا قليلا (١) |
ولا يسلم أنّ توكيد عجايا لا يفيد ، ثمّ كيف يجيز عاقل التّكلّم بشيء مع اعترافه أنّه لا يفيد ، ثمّ إنّه قد نقل في شرح العمدة الاتّفاق على المنع إذا لم يفد ، انتهى.
والمسالة الثانية ، «إذا أكّد» الضمير «المرفوع المتّصل بارزا كان أو مستترا بالنفس أو العين فبعد» توكيده بالضمير «المنفصل ، نحو : قوموا أنتم أنفسكم» وقاموا هم أنفسهم ، وقمن هنّ أنفسهنّ ، وقمتنّ أنتنّ أنفسكنّ ، «وقم أنت نفسك» وقوما أنتما أنفسكما ، وقاما هما أنفسهما. وذلك كراهة إيهام الفاعلى ة عند استتار الضمير المؤنّث ، إذ لو قيل : خرجت عينها ، وتوهّمت الجارحة ، أو نفسها ، توهّمت نفس الحياة ، وأجروا ما لا لبس فيه على ما ألبس.
وبهذا يبطل قول من قال : إنّ العطف كالتأكيد ، وإنّما ذلك في العطف خاصّة ، إذ الفصل لا يرفع الإبهام المذكور ، ألا ترى أنّه لو قيل : خرجت اليوم نفسها لكان الإبهام باقيا ، وخرج بقيد الضمير بالمرفوع الضمير المنصوب والمجرور ، فيؤكّد أنّ بالنفس والعين بدون المنفصل ، نحو : ضربتهم أنفسهم ومررت بهم أنفسهم ، وبالمتّصل المنفصل ، فيؤكّد بهما بدونه أيضا ، نحو : أنت نفسك قائم ، وبقيد النفس والعين غيرهما ، فيؤكّد به المرفوع المتّصل بغير شرط ، نحو قاموا كلّهم أو أجمعون لعدم اللبس في ذلك كلّه.
__________________
(١) صدره «عداني أن أزورك أنّ بهمي» ، ولم يسمّ قائله. اللغة : البهم : جمع البهمة : الصغير من أولاد الغنم الضأن والمعز والبقر من الوحش وغيرها ، العجايا : جمع العجي وهو الفصيل تموت أمّه ، فيرضعه صاحبه بلبن غيرها.
البدل
ص : الرّابع : البدل وهو التابع المقصود أصالة بما نسب إلى متبوعه ، وهو بدل الكلّ من الكلّ ، والبعض من الكلّ ، والاشتمال : وهو الّذي اشتمل عليه المبدل منه ، بحيث يتشوّق السّامع إلى ذكره ، نحو : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ ،) والبدل المباين : وهو إن ذكر للمبالغة ، سمّي بدل البداء كقولك : حبيبي قمر شمس ، ويقع من الفصحاء ، أو لتدارك الغلط ، فبدل الغلط نحو : جاءني زيد الفرس ، ولا يقع من فصيح.
هداية : لا يبدل الظاهر عن المضمر بدل الكلّ إلا من الغائب ، نحو : ضربته زيدا ، وقال بعض المحقّقين : لا يبدل المضمر من مثله ، ولا من الظاهر ، وما مثّل به لذلك مصنوع على العرب ، ونحو : قمت أنا ، ولقيت زيدا إيّاه تاكيد لفظيّ.
ش : «الرابع» من التوابع «البدل» التعبير به اصطلاح البصريّين ، والكوفيّون يعبّرون عنه بالترجمة والتبيين في نقل الأخفش ، وقال ابن كيسان : يعبّرون عنه بالتكرير ، والغرض منه أن يذكر المقصود بالنسبة بعد التوطئة لذكره بالتصريح بتلك النسبة إلى ما قبله لإفادة تقوية الحكم وتقريره ، لأنّه بمترلة إسناد الحكم إلى المحكوم عليه مرّتين.
«وهو» في اللغة العوض ، وفي الاصطلاح «التابع» هو كالجنس ، يشتمل جميع التوابع ، وقوله : «المقصود أصالة» بفتح الهمزة «بما نسب إلى متبوعه» أخرج ما عدا المحدود من التوابع ، أمّا النعت والتوكيد فظاهر ، وأمّا البيان والمعطوف بالحرف فإنّما وإن كانا مقصودين بما نسب إلى متبوعهما ، إلا أنّهما مقصودان تبعا لا أصالة ، لكن هذا لا يفي بإخراج جميع أقسام المعطوف بالحرف لصدق التعريف على المعطوف ببل في مثل قولنا : جاء زيد بل عمرو ، لأنّه مقصود أصالة بما نسب إلى متبوعه.
وذكر الأوّل أنّما هو غلط أو سهو لسان ، كما تفيده كلمة بل ، والجواب عنه بأنّ المتبوع كان مقصودا أصالة ، لكن لمّا بدا له ، وعرض عنه ، خرج عن تلك الحالة ، وصار المقصود هو التابع ، لا يخفي ما فيه ، ولئن تمّ فإنّما يتمّ إذا كان ذكر المتبوع غلطا ، وأمّا إذا كان سهو لسان فليس المتبوع مقصودا أصلا ، فضلا عن أن يكون أصالة ، فيبقي هذا القسم داخلا في التعريف ، وأيضا فهذا الجواب يخرج التعريف عن عدم الاطّراد إلى عدم الانعكاس ، فإنّ بدل البداء وبدل الغلط يشاركان المعطوف ببل في كون المتبوع كان مقصودا أصالة ، لكن لمّا أبدل منهما أخرجا عن تلك الحالة ، وصار المقصود هو التابع ، فافهم.
تنبيهات : الأوّل : أورد على هذا الحدّ أنّه لا يتناول المبدل الّذي بعد إلا مثل : ما قام أحد إلا زيد ، فإنّ زيدا بدل من أحد ، وليس نسبة من أنسب إليه من عدم القيام مقصودة بالنسبة إلى زيد ، بل النسبة المقصودة بنسبة ما نسب إلى أحد نسبة القيام إلى زيد ، وأجيب بأنّ ما نسب إلى المتبوع هاهنا القيام ، فإنّه نسب إليه نفيا ، ونسبة القيام بعينه إلى التابع مقصودة ، ولكن إثباتا ، فيصدق على زيد أنّه تابع مقصودة نسبته بنسبة ما نسب إلى المتبوع ، فإنّ النسبة المأخوذة في الحدّ أعمّ من أن تكون بطريق الإثبات أو النفي ، ويمكن أن يقصد بنسبته إلى شيء نفيا نسبته إلى شيء إثباتا ، فيكون الأوّل توطئة للثاني.
الثاني : قال بعض المتأخّرين عدّ البدل تابعا ظاهر على القول بأنّ عامله عامل المبدل منه ، أمّا على القول بأنّ عامله مقدّر من جنس عامل المبدل منه فلا ، إذ لا يصدق عليه حقيقة التابع اصطلاحا ، كما لا يخفي ، فينبغي أن يحمل جعله تابعا على المسامحة لمكان الشبه الصوريّ ، انتهى.
قلت : وإلى هذا أشار شارح المصباح (١) ، حيث قال : إنّ البدل لكونه مقصودا في الكلام ومستقلّا بنفسه ، كأنّه ليس من التوابع إلا من جهة اللفظ دون المعنى ، وهو أربعة أقسام.
أنواع البدل : الأوّل : بدل الكلّ من الكلّ ، وهو الّذي يكون ذاته عين ذات المبدل منه ، وإن كان مفهوما هما متغايرين ، نحو : قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الحمد / ٦ و ٥] ، وقوله : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً* حَدائِقَ وَأَعْناباً) [النبأ / ٣٢ و ٣١].
والتعبير ببدل الكلّ من الكلّ للجمهور ، وعبّر عنه ابن مالك في منظومته بالبدل المطابق ، وقال في شرح الكبرى : وهو أولى ، لأنّها عبارة صالحة لكلّ بدل يساوي المبدل منه في المعنى بخلاف العبارة الأخرى ، فإنّها لا تصدق إلا على ذي أجزاء ، وذلك غير مشترط للإجماع على صحّة البدل في أسماء الله كقراءة غير نافع وابن عامر : (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ* اللهِ) [إبراهيم / ٢ و ١] ، وعبّر عنه في شرح التسهيل ببدل الموافق من الموافق ، وبعض المغاربة يقول : بدل الشيء من الشيء.
__________________
(١) المصباح في النحو للامام ناصر بن عبد السّيّد المطرزي النحويّ المتوفى سنة ٦١ ه ق ، شرحه كثير من العلماء. كشف الظنون ٢ / ١٧٠٨.
الفرق بين بدل الكلّ من الكلّ وعطف البيان : تنبيه : قال الرضيّ : أنا إلى الآن لم يظهر لي فرق جليّ بين بدل الكلّ من الكلّ وعطف البيان ، بل لا أري عطف البيان إلا البدل ، كما هو ظاهر كلام سيبويه ، وما قالوه من أنّ الفرق بينهما أنّ البدل هو المقصود بالنسبة دون متبوعة بخلاف عطف البيان ، فإنّه بيان ، والبيان فرع المبيّن ، فيكون المقصود هو الأوّل ، فالجواب أنّا لا نسلم أنّ المقصود بالنسبة في بدل الكلّ هو الثاني فقط ، ولا في سائر الإبدال إلا الغلط ، فإنّ كون الثاني فيه هو المقصود بها دون الأوّل ظاهر ، انتهى.
قال المحقّق الجرجانيّ : الظاهر أنّهم لم يريدوا أنّه ليس مقصودا بالنسبة أصلا ، بل أرادوا أنّه ليس مقصودا أصليّا ، والحاصل أنّ مثل قولك : جاءني أخوك زيد ، إن قصدت فيه الإسناد إلى الأوّل وجئت بالثاني تتمّة له توضيحا فالثاني عطف بيان ، وإن قصدت الإسناد إلى الثاني ، وجئت بالأوّل توطئة مبالغة له في الإسناد فالثاني بدل ، وحينئذ يكون التوضيح الحاصل به مقصودا تبعا ، والمقصود أصالة هو الإسناد إليه بعد التوطئة ، فالفرق ظاهر ، كما حقّقه المتأخّرون ، انتهى.
وقال شارح التهذيب للمصنّف : إنّ الرضي لمّا فهم من تعريف ابن الحاجب أنّ المتبوع في البدل لا يكون مقصودا أصلا اعترض عليهم بما اعترض ، وحكم بعدم الفرق الجليّ ، ولله درّ المصنّف حيث سلم ممّا وقع فيه ابن الحاجب وأوقع غيره بأوجز عبارة ، انتهى.
يعني أنّ المصنّف أشار إلى الفرق الّذي ذكره المحقّق المذكور في تعريفه للبدل بقوله : المقصود أصالة ، فسلم من تداخل القسمة الّذي اعترض به الرضيّ ، لكنّه قال في اللآلى الدريّة : هذا الفرق لا يجدي نفعا في بعض الأمثلة ، كما إذا كان الثاني لمجرّد التفسير بعد الإبهام مع أنّ في الأوّل فائدة مقصودة ، ليست في الثاني ، وهي الإبهام ، نحو : مررت برجل زيد ، فإنّ زيدا ذكر مفسّرا لرجل ، إذ هو دالّ على ما دلّ عليه رجل مع زيادة التعريف ، فليس الأوّل منهما توطئة للثاني ، بل كلّ منها مقصود ، فإنّ الإبهام مقصود لذاته (١) ، والتفسير كذلك ، فعدم ظهور الفرق الجليّ بين عطف البيان وبدل الكلّ ثابت ، كما ذكره الرضيّ ، انتهى ، فتأمّل.
والثاني : بدل البعض من الكلّ ، وهو الّذي يكون ذاته بعضا من ذات المبدل منه ، وان لم يكن مفهومه بعضا من مفهومه ، سواء كان ذلك البعض نصفا أم أقلّ أم أكثر على الصحيح.
__________________
(١) سقطت «فإنّ الإبهام مقصود لذاته» في «س».
وذهب الكسائيّ وهشام إلى أنّ بدل البعض لا يقع إلا على ما دون النصف ، ولا يسمّى أكلت الرغيف نصفه أو ثلثه أو أكثره ، بدل بعض عندهما ، ولا بدّ في هذا البدل من اتّصاله بضمير يعود إلى المبدل منه ، مذكور ك بعت العبد نصفه ، أو مقدّر كقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران / ٩٧] ، أي منهم ، فمن بدل بعض من الناس ، لأنّ المستطيع بعض الناس لا كلّهم ، وقال ابن برهان : بدل الكلّ ، والمراد بالناس المستطيع ، فهو عامّ أريد به خاصّ ، لأنّ الله لا يكلّف الحجّ من لا يستطيع.
تنبيه : التعبير بلفظ البعض والكلّ بإدخال أل عليها وقع في كلام كثير ، وقد استعملهما الزجاجيّ في جملة ، كذلك واعتذر عنه بأنّه تسامح فيه موافقة للناس ، قال بعض الأئمة : لا يجوز إدخال أل عليها عند الجمهور. قال ابن خالويه في كتاب : يغلط كثير من الخواصّ بإدخال أل على كلّ وبعض ، وليس من لغة العرب ، لأنّهما معرفتان في نيّة الإضافة ، وبذلك نزل القرآن ، وعن الأصمعيّ أنّه قال : قرأت آداب المقفع فلم أر فيه لحنا إلا قوله : العلم أكثر من أن يحاط بالكلّ منه ، فاحفظوا البعض ، قال : وذلك خطأ ، لأنّهما معرفتان ، لا تدخلهما ال ، قال : ومثل ذلك قبل وبعد ، انتهى.
والجواز مذهب الأخفش والفارسيّ : ومن الغريب ما وقع في الكتاب الهادي الشادي (١) نقلا عن الأزهري أنّ النّحويّين أجازوا إدخال الألف واللام في بعض وكلّ ، وإن أباه الأصمعيّ ، وإنّما أباه الأصمعيّ لأنّ مذهب العرب عدم جواز دخول الألف واللام (٢) عليهما ، لأنّها مضافان ألبتّة ، وإمّا ظاهرا وإمّا مضمرا ، انتهى.
الثالث : بدل الاشتمال ولاختلافهم فيه ، بيّنه المصنّف بقوله : وهو الّذي اشتمل عليه المبدل منه لا كاشتمال الظرف على المظروف ، بل من حيث كونه دالّا عليه إجمالا ومتقاضيا له بوجه ما ، بحيث يتشوّق السامع عند ذكر المبدل منه إلى ذكره أي ذكر البدل ، ويكون منتظرا له ، فجئ هو مبيّنا وملخّصا لما أجمل أوّلا نحو : قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) [البقرة / ٢١٧] ، فقتال بدل اشتمال من الشهر لاشتماله عليه بالمعنى المذكور ، فالمشتمل هو الأوّل ، وهو مذهب الفارسيّ والرمانيّ وخطاب ابن مالك.
__________________
(١) الهادي الشادي في النحو لأبي الفضل أحمد بن محمد الميداني المتوفى سنة ٥١٨ ه ق. كشف الظنون ، ٢ / ٢٠٢٦.
(٢) سقطت هذه العبارات في «س».
واختلف في تعليله فقال ابن جعفر (١) : لأنّه مشتمل على الثاني بالمعنى المذكور ، وردّه بعض المتأخّرين بأنّ قولك : سلب زيد ثوبه ، ليس زيد فيه مشتملا على الثوب ، لأنّه لا يدلّ عليه ، ولا يتقاضاه ، كما ذكر في تعريفه ، انتهى. قلت : ليس المراد بكونه يدلّ عليه ويتقاضاه دلالة صريحة ، بل المراد إنّا إذا قلنا : سلب زيد ، دلّ على أنّه سلب شيء ، فهو يتقاضي ذلك المسلوب ، فيتشوّق السامع إلى ذكره إلى أن يجىء مبيّنا له وملخّصا ، فافهم.
وقال الجزوليّ : لأنّ الثاني إمّا صفة للأوّل ، كأعجبتني الجارية حسنها ، أو مكتسب منه صفة ، نحو : سلب زيد ماله ، فإنّ الأوّل اكتسب من الثاني كونه مالكا ، وردّه بأنّه يلزم منه أن يجيز ضربت زيدا عبده على الاشتمال ، وهم قد منعوا ذلك.
قال أبو حيّان في التذكرة (٢) ، وقال طائفة : ووقع لأبي على في الحجّة أنّ المشتمل هو الثاني قال : بدليل سرق زيد ثوبه ، وردّ بسرق زيد فرسه ، وقيل : لا اشتمال لأحدهما على الآخر ، وإنّما المشتمل الإسناد على الأوّل على معنى أنّ الإسناد إلى الأوّل لا يكتفي به من جهة المعنى ، وإنّما أسند إليه على قصد غيره ممّا يتعلّق به ، ويكون المعنى مختصّا بغير الأوّل ، ولهذا لا يجوز ضرب زيد عبده على الاشتمال لاكتفاء المسند بالأوّل ، وهو مذهب المبرّد ، وبه قال ابن جنيّ : وأورد عليه نحو : زيد ماله كثير ، إذا أعرب ماله بدلا من زيد إلا أن يقال : الابتداء مشتمل على زيد مجازا وعلى ماله حقيقة.
وقيل : لا يتعيّن اشتمال أحدهما على الآخر ، بل تارة يكون المشتمل هو الأوّل ، نحو : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ ،) وتارة يكون المشتمل هو الثاني ، نحو : سلب زيد ثوبه ، ويشكل عليه نحو : زيد ماله كثير ، إذا أعرب ماله بدلا ، كما قلنا ، فإنّه لا اشتمال فيه لأحدهما على الآخر.
وأمر هذا البدل في الضمير كما مرّ في بدل البعض ، فمثال الضمير المذكور ما مرّ ، ومثال المقدّر قوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ* النَّارِ) [البروج / ٥ و ٤] ، أي فيه أو الأصل ناره ، ثمّ نابت أل عن الضمير.
تنبيهان : الأوّل : يشكل على قول المصنّف ، وهو بدل الكلّ من الكلّ والبعض من الكلّ الاشتمال لزوم عطف جزء الاسم على جزء الاسم ، لأنّ الاسم هو المركّب الاضافيّ ، وهو بدل البعض وبدل الاشتمال ، ودفعه أنّ تقدير الكلام وبدل البعض من الكلّ وبدل الاشتمال ، فحذف جزء الاسم لانسياق الذهن إليه ، بقي أنّه هل يجوز
__________________
(١) لعلّه أحمد بن جعفر الدينوري ، أحد النحاة المبرزين ، صنّف : المهذّب في النحو ، ضمائر القرآن ومات سنة ٢٨٩ ه ق. بغية الوعاة ، ١ / ٣٠١.
(٢) التذكرة في العربية للشيخ أثير الدين أبي حيان محمد بن يوسف الأندلسي المتوفى سنة ٧٤٥ ه في أربع مجلدات كبار. كشف الظنون ، ١ / ٣٩٣.
حذف جزء الاسم ، أم هو أمر مستحدث فيما بين المصنّفيّن ، لا أصل له في كلام العرب ، والأظهر هو الثاني قاله بعض المحقّقين من شراح الكافيّة.
الثاني : ردّ السهيليّ بدل البعض والاشتمال إلى الكلّ ، فقال : العرب تتكلّم بالعامّ ، وتريد الخاصّ ، وتحذف المضاف ، وتنوينه ، فإذا قلت : أكلت الرغيف ثلثة ، إنّما تريد أكلت بعض الرغيف ، ثمّ بنيت ذلك البعض بقولك : ثلثه ، وإذا قلت : أعجبني زيد علمه ، إنّما تريد أعجبني صفة زيد ، فبنيت بقولك : علمه ، تلك الصفة المحذوفة.
الرابع : «البدل المباين» للمبدل منه ، «وهو» ثلاثة أقسام ، ذكر المصنّف منها قسمين ، فقال : «إن ذكر للمبالغة ، سمّي بدل البداء» بالدّال المهملة والمدّ ، وبدل اضراب أيضا ، وذلك بأن تذكر المبدل منه عن قصد وتعمّد ، ثمّ توهّم أنّك غالط لكون الثاني مباينا للأوّل أجنبيّا عنه ، وهذا معتمد الشعر كثيرا للمبالغة والتفنّن في الفصاحة ، وشرطه أن يرتقي من الأدني إلى الأعلى ، «كقولك : حبيبي قمر شمس» ، كأنّك وإن كنت متعمّدا لذكر القمر توهّم من نفسك الغلط ، وترى أنّك لم تقصد في الأوّل إلا تشبيها بالشمس ، كذا قال الرضي. وقال غيره : إنّما سمّي بدل بداء لأنّ المتكلّم يخبر بشيء ، ثمّ يبدو له أن يخبر بآخر من غير إبطال الأوّل.
«ويقع» بدل البداء «من الفصحاء» ، بل هو من التفنّن في الفصاحة كما علمت ، ولا عبرة بمن أنكره ، فقد ذكره سيبويه ، ويشهد لصحّته قوله (ع) : إنّ الرجل ليصلّى الصلوة ، وما كتب له نصفها ثلثها إلى عشرها (١). وما قيل من أنّه محمول على إضمار بل ، ليس بشيء ، فإنّ بل لم يثبت حذفها.
«أو» ذكر «لتدارك الغلط» ، فاسمه «بدل الغلط» ، أو فيسمّي بدل الغلط ، «نحو : جاء زيد الفرس» ، أردت أن تقول : جاء الفرس ، فسبقك لسانك إلى زيد ، ثمّ تداركت الغلط فقلت : الفرس ، فمعنى قولنا : بدل غلط ، أنّه يدلّ عن اللفظ الّذي هو غلط ، لا أنّ البدل نفسه هو الغلط ، كما قد يتوهّم من ظاهر اللفظ «ولا يقع» بدل الغلط «من فصيح» ، ولا فيما يصدر عن روية فلا يكون في شعر أصلا.
وقد أهمل المصنّف القسم الثالث من أقسام البدل المباين ، وهو بدل النسيان ، وهو أن تعتمد ذكر ما هو الغلط ، ولا يسبقك لسانك إلى ذكره ، لكن تنسي المقصود ، ثمّ بعد ذلك تتداركه بذكر المقصود ، فمعنى قولنا : بدل نسيان أنّه بدل من شيء ذكر نسيانا.
__________________
(١) مسند أحمد بن حنبل ، لاط ، دار احياء الثرات العربي ، بيروت ، ٤ ، ١٩٩٤ / ٣١٩.