السيّدة سكينة

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم

السيّدة سكينة

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

شعر عمر بن أبي ربيعة

حدث أبو الفرج عن يونس عن ابن شبه أن إسحاق الموصلي غنى الرشيد بقوله :

قالت سكينة والدموع ذوارف

منها على الخدين والجلباب

فغضب الرشيد حتى سقط القدح من يده ونهره وقال : لعن الله الفاسق عمر بن أبي ربيعة ولعنك معه ألا تتحفظ وتدري ما يخرج من رأسك (١) .

وهذا البيت مع أبيات رواها الزجاج (٢) من دون إشارة إلى الخلاف الواقع في روايتها ، فإن أبا الفرج مع روايته لها بما عرفت رواها في سعدى بنت عبد الرحمن بن عوف فقال : كانت سعدى بنت عبد الرحمن بن عوف جالسة في البيت الحرام فرأت عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت فأرسلت إليه إذا فرغت من طوافك فأتنا فأتاها فقالت : لا أراك يا ابن أبي ربيعة صادراً عن حرم الله أما تخاف الله ويحك إلى متى هذا السفه ، فقال لها : دعي هذا عنك أما سمعت ما قلت فيك قالت لا . فأنشدها قوله :

____________________

(١) أغاني ج ١٦ ، ص ١٢ . .

(٢) أمالي الزجاج ، ص ١٠٣ .

١٠١
 &

قالت سعيدة والدموع ذوارف

منها على الخدَّين والجلباب

ليت المغريَّ الذي لم أجزه

فيما أطال تصعدي وطلابي

كانت ترد لنا المنى أيامنا

إذ لا نلام على هوى وتصاب

أسعيد ما ماء الفرات وطيبه

مني على ظمأ وحب شراب

بألذ منك وإن نأيت وقلما

يرعى النساء أمانة الغياب

وهذه الأبيات رواها الجاحظ (١) في ابنة عبد الملك بن مروان حين حجت البيت بزيادة أربعة قبلها وسبعة بعدها .

ورجح العلامة الشنقيطي في شرح أمالي الزجاجي ص ١٠٤ المطبعة المحمودية بمصر سنة ١٣٥٤ الطبعة الثانية رواية الأغاني في سعدى بنت عبد الرحمن بن عوف على الرواية في سكينة بنت الحسين (ع) ، وقال هذا هو الصحيح وإنما غيره المغنون فجعلوا سكينة مكان سعيدة ، وفي لفظ آخر وسكين مكان سعيد على الترخيم كما أن الحصري أنكر رواية الشعر في سكينة بنت الحسين (ع) وعبارته ( كذب من روى هذا الشعر في سكينة (ع) ) (٢) .

____________________

(١) المحاسن والأضداد ص ٢١٢ .

(٢) زهر الآداب ج ١ ص ١٠١ .

١٠٢
 &

سكينة بنت الزبير

ومع الغض عن ذلك نقول إن لفظ سكينة في رواية الزجاجي ولفظ سكين في رواية أبي علي القالي في الأمالي (١) لا إشعار فيه على إرادة سكينة بنت الحسين (ع) بل المقصود في شعر ابن أبي ربيعة ( سكينة الزبيرية ) فإن صاحب الأغاني يروي عن رجاله أن سكينة بنت خالد بن مصعب بن الزبير كانت تجتمع مع عمر بن أبي ربيعة ومعهما ابنته ( أمة المجيد ) زوجة محمد بن مصعب بن الزبير وجاريتان يغنيان عندهم يقال لأحدهما البغوم وللأخرى أسماء (٢) وتزوج سكينة بنت خالد بن مصعب بكير بن عثمان بن عفان فولدت بنتاً يقال لها أم عثمان تزوجها عبد الله العرجي (٣) .

ويحدث ابن كثير : أن مصعب بن الزبير أولد سكينة وأمها فاطمة بنت عبد الله بن السائب (٤) .

وإذا كان هذا حال سكينة بنت آل الزبير مع عمر بن أبي ربيعة

____________________

(١) ج ٢ ، ص ٣٠٥ طبع دار الكتب العربية .

(٢) الأغاني ج ١ ، ص ٦٧ .

(٣) الأغاني ج ١ ، ص ١٥٣ .

(٤) البداية ج ٨ ، ص ٣٢٢ .

١٠٣
 &

والجواري المغنيات فمن القريب جداً أن يزحزح آل الزبير ، ومن سار على أثرهم من الرواة هذه الشائنة عن ابنتهم ويلصقونها بمن شابهتها في الاسم خصوصاً مع العداء المحتدم بينهم وبين العلويين ، وقد عرفت فيما مر عليك أن روايات الأغاني في هذا الباب مروية عن الزبير بن بكار ومصعب الزبيري والمدائني والهيثم بن عدي الكوفي الكذاب بنص جماعة من علماء الرجال وهكذا صالح بن حسان وأشعب الطامع إلى غيرهم ممن يفتعل الحديث أو مجهول الحال لا يؤبه بمروياته .

١٠٤
 &

حديث الصورين

ويتحدث أبو الفرج عن مجلس ( الصورين ) معتمداً على رواية مصعب الزبيري الذي عرفت بغضه لأهل بيت النبي (ص) وروايته فيما يحط من مقامهم فيقول : اجتمع نسوة فذكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه ومجلسه وحديثه وتشوقن إليه وتمنينه ، فقالت سكينة : أنا له وبعثت رسولاً إليه فوافاهن على رواحله وتحدث معهن إلى أن طلع الفجر فقام لينصرف وقال لهن : والله إني لمحتاج إلى زيارة قبر النبي (ص) والصلاة في مسجده ولكني لا أخلط بزيارتكن شيئاً ثم انصرف إلى مكة من مكانه وقال في ذلك :

ألمم بزينب إن البين قد أفدا

قلَّ الثواء لئن كان الرحيل غدا

قد حلفت ليلة الصورين جاهدة

وما على المرء إلا الحلف مجتهدا

لأختها ولأخرى من مناصفها

لقد وجدت به فوق الذي وجدا (١)

هذا نص ما ذكره في الأغاني وصفق لها غيره ممن أراد الطعن في مقام البيت العلوي ونسب ( سكينة ) الموجودة في الحديث إلى الحسين (ع) من دون أية قرينة تشهد بهذه النسبة ، فإن العبارة

____________________

(١) الأغاني ج ١ ، ص ٤٥ .

١٠٥
 &

الموجودة خالية عن نسبتها إلى الحسين (ع) فمن أين صح الحكم على هذه المسماة بهذا الاسم أنها من هذا البيت العلوي فلعلها سكينة ابنة خالد بن مصعب بن الزبير الذي يروي أبو الفرج اجتماعها مع عمر بن أبي ربيعة والجواري يغنين لهم ، أو الأخرى وهي سكينة ابنة مصعب التي أمها فاطمة بنت عبد الله بن السائب .

ثم هذا الشعر ورد مطلعه باسم زينب كما ورد مطلعه في ديوان ابن أبي ربيعة باسم أم طلحة عائشة بنت طلحة المخزومي وهي بنت أخت عائشة أم المؤمنين ونص المطلع في الديوان ص ١٤٠ :

يا أم طلحة إن البين قد أفدا

قلَّ الثواء لئن كان الرحيل غدا

أمسى العراقيّ لا يدري إذا برزت

من ذا تطوف بالأركان أو سجدا

وليس في الأبيات اسم سكينة كما ليس في نص الحديث نسبتها إلى الحسين (ع) والباحث في الأغاني لم يجد التصريح بسكينة ابنة الحسين في شعر عمر بن أبي ربيعة أصلاً ، وكلما وجد في لفظ ( سكين ) أو ( سكينة ) لم يحصل معه الجزم بأنها ابنة الحسين خصوصاً بعد أن عرفنا من نص الأغاني أن التي تجتمع مع ابن أبي ربيعة هي سكينة بنت خالد بن مصعب الزبيري ، ومن هذا الباب ما يرويه أبو علي القالي من قول عمر بن أبي ربيعة (١) :

إنّ طيف الخيال حين ألما

هاج لي ذكره وأحد همّا

جدد الوصل يا سكين وجودى

لمحب رحيله قد أحمّا

فإن لفظ سكين لا يدلنا على أنه ترخيم سكينة ابنة الحسين (ع) على أن أبا الفرج يروي البيت الثاني (٢) :

____________________

(١) أمالي القالي ج ٢ ، ص ٣٠٥ .

(٢) الأغاني ج ١ ، ص ١١٧ .

١٠٦
 &

جددي الوصل يا قريب وجودى

لمحب فراقه قد ألما

ومع هذا الإجمال في اللفظ والخلاف في الرواية كيف يمكن للباحث المتحري للحقائق القطع على أن الشعر وارد في سكينة ابنة الحسين لولا العداء لهؤلاء الأطهار وقصد تشويه سمعة بيتهم الرفيع بما دب ودرج .

ولم يكتف الزبير بن بكار في الطعن على سكينة حتى أزرى ببعض العلويين من أبناء أبيها ، فحدث أبو الفرج في الأغاني ج ١ ، ص ١١٧ عنه أن جعفر بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين أنشد قول عمر :

ليس بين الحياة والموت إلا

أن يردوا جمالهم فتزما

فطرب وارتاح وجرت دموعه وجعل يقول لقد عجلوا البين أفلا يوكون قربة ، أفلا يودعون صديقاً ، أفلا يشدون رحلاً .

أنا لا أريد أن أنزه وأبرئ جميع العلويين عمالاً يلتئم مع آداب الشريعة وأحكامها ولكن أقول : لا يجوز الاعتماد على الزبير بن بكار وأمثاله ممن طعن فيهم العلماء ورموهم بالكذب ، فلا تدون روايتهم الواضعة من قيم الرجال ما لم تدعم بقرينة قوية وجعفر بن محمد بن زيد لم يرد في حقه ما لا يلتئم مع شريعة جده (ص) .

وهنا نرى الأستاذ توفيق الفكيكي قد أخذه الاحتدام على آل الزبير الناشرين لهذه الأكاذيب وعلى من يدونها من دون روية فتخيل أن ( جعفر ) هذا هو الإمام أبو عبد الله الصادق مهذب الأمة بنصائحه وحكمه وناشر الشريعة فأشكل على الرواية ومن دونها ، ولكن صريح نصها أنه حفيد ( زيد الشهيد ) بن الإمام زين العابدين (ع)

١٠٧
 &

وكونه ابن محمد بن زيد على رأي أبي الحسن العمري في المجدي ، وعلى رأي الداودي في عمدة الطالب هو جعفر بن محمد بن محمد بن زيد الشهيد بن زين العابدين (ع) .

وعلى ما ذكرناه من أن روايات الأغاني في حق سكينة أكثرها من آل الزبير تعرف ما يحدث به أبو الفرج في الأغاني ج ١٤ ـ ص ١٥٩ عن الزبير بن بكار عن عمه مصعب من أن سكينة كانت برزة من النساء تجالس الأجلة ، وهذا كحديثه فيه عن مصعب الزبيري أنها كانت تصفف جمتها حتى عرفت بالجمة السكينية .

وكقوله فيه في التحدث عن شعيب بن أشعب الطامع وكان كأبيه في المجون والاستهتار فأصحبه الرشيد مع عمه إبراهيم بن المهدي المعني بقول أبي فراس :

منكم علية أم منهم وكان لكم

شيخ المغنين إبراهيم أم لهم

فطلب منه إبراهيم أن يحدثه عن طمع أبيه ليستريح به في قطع الليل ، ثم سأله إبراهيم عن أقربائه بالمدينة فقال شعيب بن أشعب : إنهم يعدون بالألوف وأكثر ، قال له إبراهيم : ويلك ما بينك وبين أشعب أحد فمن أين هؤلاء فاختلق شعيب حديثاً لإثباته وتهجم به على ابنة سيد شباب أهل الجنة ، فأثبت زواج زيد بن عمر بن عثمان بن عفان منها كما افترى عليها بإسراف المال الممقوت حتى عند العرف ، وأنت بعد أن تتذكر ما مر عليك من كون أشعب من موالي آل الزبير من قبل أبيه وقد تربي في بيت عائشة بنت عثمان ابن عفان يتجلى لك قيمة هذا الحديث المتفكه به ابنه شعيب مضافاً إلى أنه حديث ليل ومسامرة مع الأمراء .

١٠٨
 &

حديث الأزواج

لم يبرح أبو الفرج يجمع أضغاثاً من القول المزري بكريمة بيت العصمة ويأتي من هنا وهنا كل شائنة هي أولى ببيته يحسب أن الشهوة بلغت منها كل مبلغ حتى فقدت من أجلها القواعد العرفية والشرعية والعادات ، فروى عن الزبير بن بكار أن لها ستة أزواج وكان فيهم من لا كفاءة فيه لهذه الحرة ثم تحدث عن مصعب الزبيري (١) أن الأصبغ بن عبد العزيز لما تزوج منها قال بعضهم :

نكحت سكينة في الحساب ثلاثة

فإذا دخلت بها فأنت الرابع

إن البقيع إذا تتابع زرعه

خاب البقيع وخاب فيه الزارع

هذا ما في علبة الرجل والذي تحدث عنهم من آل الزبير وأنت على يقين من أن ربائب الخدور وبنات البيوت الغيورات على أنفسهن واعتبارهن لا يتنازلن إلى قبول الأزواج بعد أزواجهن الأولين ويرين في ذلك مساً بكرامتهن ، إذا كان من قضى عنهن أكفاء كراماً فلا يبغين بهم بدلاً خصوصاً إذا لم يكن الخطاب أكفاءً لهن ، وكثيراً ما نرى البنات يموت أزواجهن فيبقين بلا زوج حتى الموت وهن في

____________________

(١) نسب قريش لمصعب ص ٥٩ .

١٠٩
 &

مقتبل شبابهن فهذه زوجة هدبة بن حشرم لما قدم زوجها ليقاد منه أخذت مدية وجدعت أنفها حتى لا يكون للرجال طمع فيها (١) .

ومن أجل ذلك امتنعت ( الرباب ) من التزويج بعد سيدها الحسين المظلوم (ع) قالت : لا أتخذ حماً بعد رسول الله (ص) (٢) إذاً فابنتها سكينة سيدة الكرائم أولى بهذه الأحوال من بنات البيوت جمعاء ، لكن ( الزبيري ) حدته أحقاده على أمير المؤمنين علي (ع) إلى أن ذكر لها من الأزواج من لا كفائة فيه ، ومنهم من هو شانىء للبيت العلوي أو شامت به قد دبت فيه جذور الأحقاد أترى أن ابنة سيد الأباة تتطامن لتلك الضعة نزولاً منها على حكم الشهوة .

على أن علماء النسب والتاريخ يشهدون بأن زوجها الأول عبد الله الأكبر ابن الإمام الحسن المجتبى سيد شباب أهل الجنة وهو أخو القاسم أمهما « رملة » استشهد يوم الطف قبل القاسم ، ومن هؤلاء الأعلام النسابة أبو الحسن العمري في القرن السادس في كتابه « المجدي » ، وأبو علي الطبرسي صاحب مجمع البيان في « أعلام الورى » ص ١٢٧ عند ذكر أولاد الحسن ، والشيخ محمد الصبان في أسعاف الراغبين على هامش نور الأبصار للشبلنجي ص ٢٠٢ ، وقال أبو الفرج في الأغاني ج ١٤ ص ١٦٣ أول أزواجها عبد الله ابن الحسن ابن علي بن أبي طالب قتل عنها ولم تلد منه ، وفي أعلام الورى قتل قبل البناء بها ، وقال ابن حبيب في « المحبر » ص ٤٣٨ ، والمدائني في « المترادفات » ص ٦٤ المجموعة الأولى من نوادر المخطوطات كان

____________________

(١) رسالة المغتالين ص ٢٦٢ لابن حبيب في المجموعة الأولى من نوادر المخطوطات .

(٢) كامل ابن الأثير ج ٤ ، ص ٣٦ وتذكرة الخواص ص ١٥٠ .

١١٠
 &

عبد الله بن الحسن أبا عذرها فمات عنها ومقتضاه البناء بها لإرادة هذا المعنى من المثل ، قال الزبيدي في تاج العروس ج ٤ ، ص ٣٨٧ مادة عذر يقال أبو عذرها وأبو عذرتها إذا افترعها وافتضها .

إن السيدة الكريمة لم تستبد في الرأي في أمورها دون وليها « زين العابدين » ومن المقطوع به أنه لا يرى لأي زبيري أو أموي كفاءة لمصاهرته كيف ونصب عينه أحقاد القوم وتحزباتهم عليه ، وعلى الدين من يوم جده أمير المؤمنين وإلى أبيه الحسين وسيوفهم تنطف من دمائهم الزاكية والشماتة بادية على جباتهم ويقذفونها في فلتات ألسنتهم فهل والحالة هذه يتطامن إلى مصاهرة هؤلاء وكل أحد يجد في قرارة نفسه التباعد عن مصاهرة من يحرش عليه ويطعن بمقدساته وإن بلغ من الشرف أقصاه بل حتى لو كان شقيقه من أبيه وأمه .

وهذا الحجاج الثقفي يعذل خالد بن يزيد بن معاوية لما خطب رملة بنت الزبير أخت مصعب وقال له : كيف خطبت إلى قوم ليسوا لك بأكفاء ، وكذلك قال جدك معاوية وهم الذين قارعوا أباك على الخلافة ورموه بكل قبيحة وشهدوا عليه وعلى جدك بالضلالة فأعرض خالد عن مصاهرة آل الزبير (١) .

ولما تزوج عبيد الله بن زياد بنت أسماء بن خارجة قبل ولايته الكوفة لأمه عمرو بن حريث وقال : تزوجه ولا سلطان له عليك (٢) .

فالإمام زين العابدين أجدر بالتباعد عن مصاهرة من جرع آباءه الغصص ونصبوا لهم الغوائل ، على أن أبا الفرج يحدث أن مصعب

____________________

(١) الأغاني ج ١٦ ، ص ٨٥ .

(٢) أنساب الأشراف للبلاذري ج ٤ ، ص ٨٣ .

١١١
 &

ابن الزبير تزوج منها وهو عامل أخيه بالبصرة (١) ولم يكن مسيطراً على الحجاز ليخاف السجاد (ع) سطوته ولم تكن الظروف تساعد الزبيريين على أخذها اغتصاباً لأن العواطف كانت وقتئذ ثائرة على كل من يمس أهل البيت بسوء حتى أن عبد الله بن الزبير نفسه نصب الهتاف بظلامة السبط الشهيد أبي عبد الله الحسين (ع) شركاً يصطاد به البسطاء ، ولما حسب أنه بلغ من الملك أمنيته ترك ذلك وتجرأ على قدس المنقذ الأكبر رسول الله (ص) فترك الصلاة عليه عند ذكره أربعين جمعة ولما عوتب قال : إن له أهل بيت سوء إذا ذكرته أشرأبت نفوسهم اليه وفرحوا بذلك فلا أحب أن أقر عيونهم (٢) .

وقبله معاوية بن أبي سفيان فقد تجرأ على قدس الرسول (ص) لما سمع المؤذن يشهد بالرسالة فقال لله أبوك يا ابن عبد الله لقد كنت عالي الهمة ما رضيت لنفسك إلا أن تقرن اسمك مع اسم الرب تعالى (٣) وهذا الكلام منه يدلنا على تشكيكه بالرسالة مع أن الرسول في الأحكام الشرعية وغيرها ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ ) (٤) . والأذان من الأحكام المنزلة من إله العالمين ومصعب بن الزبير قتل بالعراق سنة ٧١ هجـ قبل شهادة زين العابدين بأربع وعشرين سنة ، وسكينة مدة حياة أخيها تسكن في بيته لا تفتر عن البكاء على أبيها المظلوم الممنوع من الورود كلما تشاهد

____________________

(١) الأغاني ج ١٤ ، ص ١٦٣ .

(٢) مقاتل الطالبين ص ١٦٥ طبع إيران .

(٣) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ٢ ، ص ٥٣٧ مصر .

(٤) سورة النجم ، الآيات ٣ و ٤ و ٥ .

١١٢
 &

أخاها الحجة زين العباد حزين القلب باكي العين على أبيه سيد شباب أهله الجنة والبهاليل من أهله وصحبه .

ومما يشهد لذلك أن يزيد بن معاوية مع طغيانه وتهتكه وعدم إيمانه برسالة الإسلام والنبي المبعوث بها ، كما أفصح عنه شعره الدائر بين الناس ولأجله استوجب مؤاخذة العلماء عليه وحكمهم بكفره وزندقته واستحقاق اللعن (١) حتى قال العلامة الألوسي : إن مجموع ما فعله مع أهل حرم الله وحرم نبيه (ص) وعترته الطيبين الطاهرين في الحياة وبعد الممات ليس بأضعف دلالة على عدم تصديقه من إلقاء ورقة من المصحف الشريف في قذر ، والظاهر أنه لم يتب واحتمال توبته أضعف من إيمانه فأنا أذهب إلى جواز لعنه على التعيين ، ومن لم يرض بلعنه على التعيين فهو الضلال البعيد الذي يكاد يزيد على ضلال يزيد (٢) .

ومع هذه الأفعال المنكرة وعدم مبالاته بقانون الشريعة المانع منها أوصى مسلم بن عقبة لما سيره لمحاربة أهل المدينة باحترام ( زين العابدين ) وتعزيز مقامه لأن الإسائة إلى أهل هذا البيت توجب الدمار وتورد النكبات فأباح القائد المسرف حرم الرسول (ص) لجيشه التمرد ثلاثة أيام (٣) فافتضت العذارى وولدت عشرة آلاف امرأة من غير زوج (٤) وانتهبوا بيوت المسلمين وأريقت الدماء عند قبر النبي (ص)

____________________

(١) ذكرنا في مقتل الحسين ص ٨ الطبعة الثانية حكم علماء أهل السنة في لعن يزيد لتعديه على حرمات الله .

(٢) تفسير روح المعاني ج ٢٦ ، ص ٧٣ ، آية فهل عسيتم ان توليتم .

(٣) تاريخ الطبري ج ٧ ، ص ٦ .

(٤) تذكرة سبط ابن الجوزي ص ١٦٣ .

١١٣
 &

ولكنه أوصى جيشه ببيت ( علي بن الحسين ) فكان أمناً لمن دخله من أهله المدينة ، حتى أن مروان بن الحكم الذي أثار فتنة الجمل وحرض ( المرأة ) على منع ادخال جنازة الحسن السبط في قبر جده النبي (ص) لتجديد العهد به فنهضت واصحرت عن بغضها بقولها لا تدخلوا بيتي من لا أحب (١) وكان مروان يهتز فرحاً بقتل الحسين لما شاهد الرأس المقدس أمام « ابن ميسون » وهو ينكته بقضيب خيزران فقال متشمتاً :

يا حبذا بردك في اليدين

ولونك الأحمر في الخدين

شفيت نفسي من دم الحسين

أخذت ثاري وقضيت ديني (٢)

فلم يمسكه الحياء من هذه المنكرات التي هي نصب عين السجاد عليّ بن الحسين وأندية أهل البيت تلهج بها ، فجاء بعياله إلى بيت الإمام زين العابدين يوم واقعة الحرة فرقاً من بطش الجيش المتمرد فرأى من ابن ( النبوة والإمامة ) جاهاً عريضاً وخلقاً واسعاً وحلماً راجحاً كما يقتضيه عنصره الطيب الطاهر وهذا بعد أن استجار بعبد الله بن عمر بن الخطاب فزبره وطرده عن بابه ، وقال : لا تحرقني بنارك (٣) وإني لا ستطرف أبيات سعد بن محمد الصيفي المعروف بحيص بيص لعلاقتها بالموضوع وارتباطها به :

ملكنا فكان العفو منا سجية

ولما ملكتم سال بالدم أبطح

وحللتم قتل الأسارى وطالما

غدونا عن الأسرى نعف ونصفح

فحسبكم هذا التفاوت بيننا

وكل إناء بالذي فيه ينضح

____________________

(١) مناقب ابن شهرآشوب ج ٢ ، ص ١٧٥ .

(٢) انظر ما كتبناه في مقتل الحسين ص ٤٢٦ طبعة الثانية .

(٣) تاريخ الطبري ج ٧ ، ص ٧ .

١١٤
 &

والقصة في هذا أن نصر بن مجلى من أهل السنة رأى علي بن أبي طالب في المنام فقال له : إنكم لما فتحتم مكة قلتم : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ثم يتم على ولدك الحسين يوم الطف ما تم ، فقال له : أما سمعت أبيات ابن الصيفي في هذا ، قال : لا ، فقال : اسمعها منه ولما استيقظ بادر إلى الحيص بيص فسأله عن الأبيات وحكى له الرؤيا فأجهش بالبكاء وحلف بالله انه نظمها في ليلته وما سمعها منه أحد (١) .

ومن يقرء قصة زواج مصعب من سكينة في عيون الأخبار لابن قتيبة ج ١ ، ص ٢٥٨ يتجلى له أنها من الخيالات ، وهو وإن أثبتها مرسلة إلا أنها لا تعد ، والزبير بن بكار وابن أخيه مصعب وثالثهم عروة بن الزبير لأن أبا الفرج في الأغاني أسندها إليهم .

وأغرب منه ما يرويه أبو منصور البغدادي عن المدائني عن مجالد عن الشعبي أن سكينة نشزت على زوجها عبد الله بن عثمان بن حزام فشكتها أمه رملة بنت الزبير بن العوام إلى عبد الملك (٢) .

وليته نظر قبل أن يسجل هذه الفرية في نص ابن معين ويحيى ابن سعيد وغيرهم من علماء الرجال عما ذكروه في حق ( مجالد ) فيعرف توقفهم عن رواية أحاديثه وإعراضهم عن جميع مروياته ثم

____________________

(١) الأبيات مع القصة في شذرات الذهب لابن العماد لابن العماد الحنبلي ج ٤ ، ص ٢٤٧ ، حوادث سنة ٥٧٤ ، ومعجم الأدباء لياقوت ج ١١ ، ص ٢٠٦ ، ووفيات الأعيان لابن خلكان بترجمته ، وفي البداية لابن كثير ج ١٢ ، ص ٣٠١ توفي ببغداد / ٥ شعبان سنة ٥٧٤ ودفن بباب التبن وليس له عقب .

(٢) بلاغات النساء ص ١٤٦ طبع النجف .

١١٥
 &

يعطف النظرة إلى الشعبي ويدرس أحواله فعندها لا يبقي له ريب في سقوطه عن قبول الرواية .

يتحدث المؤرخون أن الشعبي من صنايع الأمويين يرتع في دنياهم ويسير على رغباتهم ، تولى المظالم بالكوفة من قبل بشر بن مروان أيام ولايته من قبل عبد الملك (١) وتولى القضاء بالكوفة من قبل عمر بن عبد العزيز (٢) فهو مرواني النزعة لا يتحرج من كذبة ولا يتبرم من خطل ولا يعرف حرمة الشريعة المطهرة ، فكان يسمع غناء ابن عائشة فيقول متعجباً منه : يؤتي الله الحكمة من يشاء (٣) وكان ابن سريج يغني له فقيل له : من هذا ؟ قال : هذا الذي أوتي الحكم صبياً (٤) ولم ينكر أبو منصور البغدادي سماعه الغناء (٥) المحرم في الكتاب والسنة وإجماع الشيعة والسنة ولم يخف هذا الحكم على الشعبي ولكن ( مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ ) (٦) ( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) (٧)

ولذلك تراه معرضاً عن الولاء لأمير المؤمنين وأبنائه المعصومين . يحدث ابن مطرف الكناني بسنده عن إسماعيل بن أبي خالد أنه سمع الشعبي يحلف بالله ويقول : دخل علي بن أبي طالب حفرته

____________________

(١) الأغاني ج ٢ ، ص ١٢٠ طبعة ساسي .

(٢) تاريخ الطبري ج ٨ ، ص ١٣١ .

(٣) الأغاني ج ١ ، ص ١٢١ ، ج ٢ ، ص ٧١ .

(٤) نيل الأوطار للشوكاني ج ٨ ، ص ٨٣ .

(٥) نيل الأوطار ج ٨ ، ص ٨٢ .

(٦) سورة الأعراف ، الآية ١٨٦ .

(٧) سورة العنكبوت ، الآية ١٣ .

١١٦
 &

ولم يحفظ القرآن (١) وتقزز ابن فارس من هذه الجرأة على باب مدينة علم الرسول فقال : هذا كلام شنيع جداً فيمن يقول : سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني فما من آية إلا أعلم بليل نزلت أم بنهار في سهل أم في جبل (٢) .

هذا حال الشعبي مع أمير المؤمنين الذي لم يختلف اثنان في معرفته بنزول القرآن وتأويله وفيمن نزلت ، كما أن الأحاديث كثيرة في جمعه القرآن بعد وفاة النبي (ص) فكيف حاله مع غيره من أهل البيت رجالاً ونساءً فحق له إذا تحدث بما شاء له الهوى .

____________________

(١) القرطين ج ١ ، ص ١٥٨ .

(٢) الصاحبي في فقه اللغة ص ١٧٠ .

١١٧
 &

السيّدة سكينة السيّد عبد الرزّاق المقرّم

١١٨
 &

حديث البيتين

وهناك سقطة أخرى باء بإثمها صاحب الأغاني حيث لم تقنعه هاتيك السفاسف في خدش عواطف الخفرة فطفق يمس بكرامة أبيها الإمام المعصوم (ع) بما ينافي العصمة أو يصادم العظمة والحفاظ ، فذكر في الرواية عن رجال مجاهيل لم يعرفهم علماء الرجال والتراجم أن سكينة قالت : عتب عمي الحسن على أبي في أمي الرباب ، فقال الحسين راداً عليه (١) :

لعمرك إنني لأحب داراً

تحلّ بها سكينة والرباب

أحبهما وأبذل جل مالي

وليس لعاتب عندي عتاب

وزاد ابن جرير الطبري في المنتخب من الذيل ضغثاً على إبالة فذيلهما بثالث :

ولست لهم وإن عتبوا مطيعاً

حياتي أو يغيِّبني التراب

كل هذا جهل بمقام الإمامة وإغضاء عن ناحية العصمة وخفوق عن جهة الشهامة والحفاظ ، فإن الإمام عندنا المنصوب من قبل الله تعالى المعصوم عن كل خطل ، حتى من ترك الأولى لا يصدر منه ما

____________________

(١) الأغاني ج ١٤ ، ص ١٥٧ ، ونسب قريش لمصعب الزبيري ص ٥٩ .

١١٩
 &

يوجب العتاب حتى من معصوم مثله والسبط المجتبى (ع) لا يعاتب أحداً على مجرد حب حليلته المرغوب فيه ، إلا أن يكون خارجاً عن الحدود الشرعية ولا يعقل مثله في الحسين (ع) .

وعلى فرض وقوع العتاب المزعوم « فشهيد الدين » أبر وأتقى من أن يجابه حجة الوقت والإمام على الأمة أجمع بنظم البيتين .

ومما لا يلتئم مع حفاظه المر ووقاره المزري بشم الرواسي وعظمته المشتقة من النبوة مدح حليلته وابنته بشعر يعلم بطبع الحال أنه ستسير به الركبان ، ثم يبث ذلك بين الناس فتلوكه الأشداق حتى يغني به المغنون في منتديات البطر ومجتمعات الفجور .

لكن لم يكن بدعاً من مزاعمهم بعد أن طعنوا في ( آبي الضيم ) الحامل لأعباء الإمامة بما هو أعظم وأنكى ، فذكر ابن حجر العسقلاني أن الحسن (ع) لما عزم على الصلح شاور عبد الله بن جعفر الطيار فيه فلم ير منه خلافاً عليه ، وقال للحسين : يا أخي إني رأيت رأياً وأحب أن تتابعني عليه ثم قصه عليه ، فقال الحسين (ع) : أعيذك بالله أن تكذب عليّاً في قبره وتصدق معاوية .

فقال الحسن (ع) :

والله ما أردت أمراً قط إلا خالفتني إلى غيره ، والله لقد هممت أن أقذفك في بيت فأطينه عليك حتى أقضي أمري (١) .

هكذا يتحدث ابن حجر ويغتر به الساذج من المتأخرين فيعد هذه المخالفة من الحسين من بواعث الشهامة والإباء ، وقد ذهب على المسكين أن الحسين المعصوم لا يجابه إمام الوقت بتلك الشدة المزرية

____________________

(١) تهذيب ج ٢ ، ص ٢٩٩ بترجمة الحسن (ع) .

١٢٠