تفسير ابن عرفة - ج ٤

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ٤

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٣٩٩

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الشورى

قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً).

ابن عرفة : كلام متعلق الخبر مستقبلا سمي وصية ، وإن كان حاليا سمي واجبا ، ولما كان دينا مستقبلا عن دين نوح وغيره من الأنبياء ، أطلق على الدين المؤيد إليهم به وصية ، وأطلق على الدين المنزل إلينا وحي لأنه حالي ليس بعده شيء ، ولما كان نوح غائبا عنا ، فقال تعالى (ما وَصَّى) بلفظ الغيبة ، ثم قال : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا) بلفظ التكلم لأنه خطاب للحاضر ، فغلب فيه خطاب الحاضر على الغائب فأدخل بعده فيه ، فقال تعالى (وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ).

قوله تعالى : (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ).

إن قلت : نفيت الحجة مع أنها ثابتة ، بقوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) [سورة الأنعام : ١٤٩] قلت : معناه لا يحاجه.

فإن قلت : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) حصول المحاجة منهم ، فكيف نفيت عنهم؟ قلنا : المنفي عنهم إنما هي المفاعلة والمثبت إنما هو قوله : (يُحَاجُّونَ) ويفاعلون لا يقتضي المفاعلة من الجانبين لأنك إذا قلت : تضارب اقتضى الفاعل منهما ، وإذا قلت : يضارب لم يقتضي التفاعل بل حصول المعرفة البادئ عنهما واختار أن يفاعل يقتضي للمفاعلة ، ويلزم حصول التعب والغضب ، فأما في حق الكافر فصحيح ، وأما في حق المؤمن فيدل على أن النظر يحرم في علم الكلام وقد قال به جمع كبير ، وأيضا يلزم أن يكون الجمع في الضلال.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

لأنها إذا كانت داحضة عنده من حيث كونه رؤفا رحيما ، فأحرى أن تبطل من حيث كونه قادرا قاهرا منتقما.

قوله تعالى : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها).

ابن عرفة : قال بعض شراح سيبويه في باب الإحالة فرق بين الخبر المتهافت في نفسه ، وبين الخبر المتهافت مثال الأول : سأحل لك هذا الطعام أمس ، ومثال الثاني :

٣

هذه الآية لأن استعجالهم بها وطلبهم تقدمها يقتضي إيمانهم بها فهو مناقض للإخبار عنهم بأنهم كذبوا بها.

قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ).

وقال ابن عرفة : لما تضمن الكلام السابق ذمهم بكفرهم بالله عقبه ببيان أنهم ليس لهم في ذلك شبه.

فإن قلت : المطابقة تقتضي أن يقال لهم : شرعوا من الدين ما لم يشرعه الله ، كما قيل : ولكن أكثر الناس لا يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ، وأجيب : بأن الإذن أعم من الشرع ، ونفي الأعم أخص من نفي الأخص ؛ لأن الشرع يقتضي ثبوت ذلك وجعله شريعة مستمرة ، والإذن يقتضي الأمر به.

قوله تعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ).

ابن عرفة : عادتهم يقولون الفرق بين هذا وبين قوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) قال وأجيب : بالفرق بين اعتبار المستقبل من حيث نسبته للفاعل وبين اعتباره من حيث نسبته للمفعول ، فقوله تعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ) أتى فيها الخبر منصوبا للفاعل ، وقوله تعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) الخبر فيه منصوب للمفعول ، أي (وَلَوْ لا كَلِمَةُ) الموجبة للفصل بين الناس فالفصل بين الناس منعزل للكلمة.

قوله تعالى : (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا).

ابن عرفة : عادتهم يقولون : ترتيب الوصف المناسب تشعر بكونه علة له ، فهلا أتى معبرا عنه بلفظه ، فيقال : (مُشْفِقِينَ) من ظلمهم.

قال : وأجيب : بأن الكسب أعم من العلم فهم لأجل ظلمهم يخافون من كل ذنب علموه وإن قل.

وأورد الفخر : أن الإشفاق هو الخوف ومتعلقه مستقبل ، فكيف قال وهو واقع بهم؟ وأجيب : بأنها حال مقدرة ويحتمل أن تكون محصلة ، قيل له : الضمير يعود على قوله تعالى : (مِمَّا كَسَبُوا) أي وما كسبوا واقع بهم فيرد الإشكال ، فقال : يتوقع بهم أو سأله وهم خائفون من تزايده وتراكمه عليهم شيئا بعد شيء فيكور من باب عندي درهم ونصف ، قالوا : وقع بهم عذاب مثله وهم مشفقون من تزايده.

قوله تعالى : (فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ).

٤

أما لكل واحد روضة ، أو لكل واحد روضات ، ويكون الظرف مجازا ، كقولك : زيد في المدينة ، وإنما هو في موضع واحد منها ، فالظرف أوسع من المظروف.

قوله تعالى : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

ابن عرفة : قد ورد" أن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت" ، فأجيب :

بأنها لا تقتضي الحصر إلا لو قيل : ليس لهم إلا ما يشاءون وما لم يكونوا يشاؤه ، وفي الآية دليل على أن العاصي في الجنة لا يزن المؤمن الصالح في روضات وهي أعلى روضة فيها ، كما فسره الزمخشري والعاصي فيها فقط وهذا تفسير الزمخشري.

قوله تعالى : (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ).

دليل على أن دخول الجنة محض تفضل من الله عزوجل.

قوله تعالى : (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ).

قال الزمخشري : الإشارة إلى التبشير.

قيل لابن عرفة : والضمير المقدر عائد على المصدر المفهوم من بشر ، أي البشرة.

قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً).

إن قلت : هلا قيل : لا أقبل لكم أجرا ، فهو أخص من السؤال لأنه قد [...] الأجر من غير سؤال؟ فأجيب : بأنه إنما يعدل عن ذلك لأجل الاستثناء لأنه سأل منهم تحصيل المودة القرابية.

وذكر الزمخشري هنا أحاديث ولم يتعرض لها الطيبي بوجه.

لكن ذكر الترمذي حديثا يرجع معناه إلى معنى بعضها ، وفيه التوصية على العباس عم النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ورضي عنه ، وأن عم الرجل صنو أبيه.

قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً).

ابن عرفة : المراتب ثلاثة : أدناها الكذب ، وفوقها الافتراء ، وأقبح منه افتراء الكذب.

قوله تعالى : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ).

أي فإن يشاء أن يختم على قلب.

٥

ابن عطية : قيل : بالصبر على آذاهم وصل المسالك القرآن ، وكان بعضهم يقول : الآية دليل على إبطال قولهم وصحة قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقريره أن كل ما أتى به الناقل منسوبا للمنقول عنه بحضرته فهو غير مفتري ، إذ لو كان مفتري لأنكر عليه نسبته إليه ، ولما لم ينكر نسبته إليه دل على أنه من عند الله حقيقة ، لقوله : (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ).

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ).

ابن عرفة : في الدليل الدال على وحدانية الصانع ، فقيل : الحدوث ، وقيل : الإمكان ، ويؤخذ من الآية أن الدليل على وحدانيته هما مقالان ، من قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ) للتبعيض فدل على أن حدوث هذه المخلوقات بعض الدلائل لا كلها.

٦

سورة الزخرف

قوله تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا).

قيل : إنما أمر أن يسأل جبريل عليه‌السلام ، أو يسأل الرسل ليلة الإسراء.

ابن عرفة : الصواب أن يقال : (سْئَلْ) أتباع الرسل تقرير لتقيم به الحجة عليهم وإلا فهو عالم بذلك غير محتاج إلى السؤال عنه ، [٦٧ / ٣٢٧] وسؤال جبريل والرسل لا يصح لقول [...] في الحمل : إن الطلب من الأدنى إلى الأعلى هو مسألة ودعاء ، والنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم أعلى من غيره.

وقد قال بعضهم : إن السؤال يقتضي أن يكون عند المسؤول عنه علما.

قيل لابن عرفة : من يسألهم عن هذا هل وقع في الموجود أم لا؟ وقيل : الأمر بسؤالهم عن جواز هذا عقلا وهو أبلغ ، فقال : تنزل بعضهم على قدر عقولهم.

قوله تعالى : (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها).

أورد الزمخشري فيه سؤال التناقص أو التسلسل إذ الآية الأولى ليس قبلهم آية وإن كانت مما بعدها أكبر منها لزم التناقض ، وأجيب : بمثل ما أجيب في قوله تعالى : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [سورة يوسف : ٧٦] أن هذا يزيد على هذا الشيء ويزيد عليه المفضول لشيء آخر ، فكذلك الآية أكبر من أختها في شيء ، وأختها أكبر من أختها في شيء آخر ، أو بالنسبة إلى المخاطبين ، أو واحد يعتقد أن هذه أكبر وآخر يعتقد أن هذه أكبر وآخر معتقد العكس ، فالمراد من واحدة من أخواتها بالنوع لا بالشخص لأنها أكبر من التي قبلها.

قوله تعالى : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ).

أي فلما غضبوا ، وليس المراد حقيقة الغضب بل هو بمعنى إرادة الانتقام منهم ، أو عبارة عن فعل ذلك بهم.

قيل لابن عرفة : يلزم عليه أن يكون المعنى : فلما انتقمنا منهم ، فقال الأول : انتقام أعم ، أي فلما انتقمنا انتقمنا منهم.

قوله تعالى : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ).

أي يصدوهم من عبادة محمد كما عبدت النصارى عيسى؟ وذلك لما نزل : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) [سورة آل عمران : ٥٩] ، ونزل قوله

٧

تعالى : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) على ما فسروه هناك من أنه كفاية عن الاحتجاج أن الغائط والبول كان ذلك سببا لنفور المشركين عن عبادتهم وترجيحهم عبادة الأصنام على عبادة عيسى عليه‌السلام ، قوله تعالى : (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) [سورة الأنبياء : ٤٤].

ابن عرفة : أي هذا إضراب إبطال لأن بقاء الكلمة في عقب إبراهيم سببا في تعلق أصله برجوعهم فهو إبطال تشبيه ، فالكلمة باقية في عقب إبراهيم على أنه لم يخل زمان عن توحيد الله عزوجل لكن بقاء ذلك لم ينفع في إيمان قريش بل لم يزالوا كفارا.

قال : وتقدم لنا هنا سؤال وهو هلا قال : بل متع هؤلاء وآباءهم؟ وأجيب : بأنه إخبار عن أمر ماض ويمتنع الإنباء عن مستقبل.

ابن عرفة : وذكر ابن عطية في غير هذا الموضع : أن قريشا كان منهم سبعون رجلا ملك كل واحد منهم القناطير من الذهب والفضة ، قال : والغاية تقتضي مخالفة ما بعدها لما قبلها ولا سحر ، فالجواب : أن الإيمان بالرسول إنما هو لأجل مجيئهم بالحق فتكذيبهم بالحق الذي هو مقصد يستلزم تكذيبهم بالرسول ، قال : وتقدم لنا هنا سؤال ، وهو أنه قال تعالى في سورة المنافقين : (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ) [سورة المنافقون : ٨] فأجابهم بالقول الموجب ، وهنا لم يخاطبهم بالموجب ، فكان يقول لهم قد نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو أعظم من كل عظيم.

قال : وعادتهم يجيبون : بأنهم لو أجيبوا بذلك لأوهم أن لهم حظا في القسمة كما وافق هنا على العزة والذلة ، فقيل هنا : ليس لهم حظ في القسمة كما وافق هنا على العزة والذلة ، فقيل هنا : ليس للعظيم حظ في القسمة ، وليس لكم قدرة على القسمة بحيث يجعلون ذلك العظيم.

وأجاب بعضهم : بأنهم فهموا العظم في الدنيا باعتبار كثرة المال وكثرة اليسر والحرصة ، وليس كذلك بل المراد العظيم القدرة عند الله.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ).

إن أريد الذكر الابتدائي ، إما بالقلب أو باللسان ، فالمصدر مضاف للفاعل ، فالمراد بالذكريات القرآن للمفعول لاستحالة وقوع ذلك من الله لأنه ليس بجسم ، وإن أريد الذكر الناشىء عن سببه فالمصدر مضاف للفاعل ، فالمراد بالذكريات القرآن ، أي ومن يعش عن سماعها والاتعاظ بها.

٨

قوله تعالى : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ).

قال الحجاج : فرعون افتخر بملك مصر وليست بذلك ، وإنما المحمودة دمشق على مصر أقل البلاد قدرا.

وقد رد ابن طاهر على الحجاج في مقالته هذه ، قيل له : (أَفَلا تُبْصِرُونَ) راجع ، لقوله : (لِي مُلْكُ مِصْرَ) ، ولقوله تعالى : (الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) أو إلى المجموع ، فقال : لا يصح الأول ، وأما الثالث فيلزم فيه استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه ، والثاني ظاهر قوله تعالى : (فَلَمَّا آسَفُونا) ، كقوله تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [سورة الفتح : ١٠] أي آسفوا رسلنا.

قوله تعالى : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً).

يقتضي ذم الجدال في العلم ولا شك في ذمه ، فيقتضي ذم جميع الجدال لأن الآية عامة.

قيل له : الجدال المفهوم ما كان في [...] الحق والمخالطة فيه ، فقال نحو طريق لهما : أعني لإظهار الحق والباطل والذم تسلط على الأعم ، فلا موجب لتخصيصه مع أنه ليس من العلم في شيء لأنه يوجد عالم غير جدلي ، وجدلي غير عالم ، وأيضا فالعلم محله لا يطل عليه مانع لأن محله إما العمل أو التكليف ، والجدل محله استعماله قد يطل عليه مانع بأن ينسل لسانه فيبقى عدمه ووجوده شيئان فالعلم غير معروض ، والجدل معروض.

قال الشيخ : ومن قوله : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ) إلى قوله : (وَلَمَّا جاءَ عِيسى) فإن قلت : لم قال : تشتهيه الأنفس ولم يقل أنفسنا؟ قلت : إشارة التعميم ، فإن كان ما يسمى هو فيها.

فإن قلت : لم ذكر الأنفس والأعين دون الإسماع؟ قلنا : لأن لذة السمع أقرب إلى النفس من البصر ، وجمع الأنفس جمع قلة إشارة إلى قلتها في النسبة إلى كثرة ما أعد الله لها من النعيم ، ولم يجمع في القرآن جمع كثرة ، إلا في قوله تعالى : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) [سورة الإسراء : ٢٥] إشارة إلى عموم علة ، وهي قوله تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) [سورة التكوير : ٧].

قوله تعالى : (وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ).

لأنها طريق إلى لذة النفس ، لأن النفس لا لذة لها بدون العين بدليل الأعين ولم يذكر حاسة السمع لأنها بالنسبة إلى غيره.

٩

قوله تعالى : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها).

سماعا ميراثا إشارة إلى الجمع بين هذه الآية ، وبين قوله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم : " لن يدخل الجنة أحد بعمله" (١) ، فدل ذلك على أن دخول الجنة من غير عوض فأشبه الميراث الذي هو عن غير عوض.

فإن قلت : الآية نص في دخولها بالعمل؟ قلنا : العمل حق لله تعالى وهو الذي أقدر المكلف عليه فلا وجود له إلا بخلق الله تعالى فليس يعوض بوجه.

وقول ابن عطية : إن دخولها بفضل من الله ، ورفع الدرجات بالعمل باطل بل الجميع بفضل الله عزوجل.

قوله تعالى : (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ).

ابن عطية : بعض بمعنى بل وضعفه ، قال : وذهب الجمهور إلى أن الاختلاف في أمور كثيرة دينية ودنيوية لا مدخل لها في الدين والنبي إنما بين الأديان فقط.

وهو بعض ما يختلف به ابن عرفة ، يقول : الأولى في تفسير هذا أن يقال : الاختلاف قال : الخوض في التناقض أنه اختلاف قضية بالإيجاب والسلب بحيث يقتضي أن آية صدق أحدهما وكذب الآخر فالمختلفان أحدهما يحق والآخر بطل ، فالنبي إنما بعث لتبيين الحق ، فإن بينه علم بالضرورة من ما عداه باطل ، وكذلك قوم عيسى عليهم‌السلام بعضهم يدعى أن مع الله شركاء ، ويثبت له الولد والزوجة ، وبعضهم يوحده وينفي عنه الشريك ، فجاء عيسى عليه‌السلام أن الحق مع من يوحده وهذا بعض من كل معناه ، ولأبين لكم منه ما هو الحق فيتبعونه ويترك ما سواه.

قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ).

ابن عرفة : هذا دليل على أن من شرط الإيمان التمكن من النظر لا نفس النظر ، إذ لو كان كذلك لقال : انظروا.

وأورد ابن عرفة : بأن الأمر بالتقوى يستلزم الأمر بالنظر.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ) [٦٧ / ٣٢٨] (هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ).

أكده هنا بالضمير ولم يؤكده في سورة آل عمران ولا في سورة مريم.

__________________

(١) أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده حديث رقم : ١١٢٧٥ ، والربيع بن حبيب في مسنده حديث رقم : ٧٠٥.

١٠

فأجاب أبو جعفر بن الزبير : بأن آية آل عمران ومريم تقدمها نحو عشرون آية ذكر فيها ما يدل على الربوبية والتوحيد وهذه ليست كذلك فقولهم فيها بزيادة الضمير.

قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا).

هذا أبلغ ، من قوله تعالى في سورة مريم (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) [سورة مريم : ٣٧] لأن ما لزم الأعم لزم الأخص من باب أحرى.

قوله تعالى : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).

أورد الزمخشري : أنه تأكيد لأن إتيانها لهم بغتة يغني عنه ، ثم أجاب : بأن معنى قوله تعالى : (لا يَشْعُرُونَ) أنهم غافلين لاشتغالهم بأمور دنياهم ، ويجوز أن يأتيهم بغتة وهم يظنون.

ونقل الطيبي عن القاضي يريد به البيضاوي على عادته أنه أجاب : بأنهم قبل إتيانها لهم بغتة لا يشعرون أنها تأتيهم بغتة.

قوله تعالى : (بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ).

إن أريد به عداوة الجماعة منهم للشخص الواحد كعداوة قوم فرعون لفرعون ، فالبعض صادق على الأكثر ، وإن أريد به عداوة كل فرد لخليله فلا يلزم فيه ذلك.

قوله تعالى : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ).

إن قلت : لم نفى الخوف بالاسم والحزن بالفعل؟ قلنا : قال ابن عرفة : عادتهم يجيبوا بوجهين :

أحدهما : أن سبب الخوف مستقبل ، والمستقبل ما يعقل فيه التجدد إذ هو غير واقع ، وسبب الحزن ماض والماضي واقع حادث فيعقل فيه التجدد شيئا بعد شيء وحدوث بعد حدوث وهو أنه مما يتذكره الإنسان بتجدد حزنه.

الثاني : أن الماضي متناه والأمور المستقبلة غير متناهية ، والنكرة في سياق النفي عامة فناسبت اقترانها بغير المتناهي ليكون أبلغ في النهي ، وإنما أخر النعت ، ولم يقل : يا عبادي الذين آمنوا لا خوف عليكم ، ليكون أنكى للعدو وأشد حسرة عليهم في العذاب حيث يطمع ويرجو الدخول بهم في ذلك ثم يلبس بعد ذلك ، وفي الآية التفات بالخروج من الخطاب إلى الغيبة ، إذ لم يقل : الذين آمنتم بآياتنا وكنتم مسلمين.

قوله تعالى : (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ).

قال ابن عرفة : فسروه بوجوه :

١١

أحدهما : أنه من الترك على المحال لكن يرد عليه أن القياس يستثنى فيه نقيض التالي تفيد المقدم ، إلا أن [...] قال : يحتمل أن يراد (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) للولد ، فيكون المعنى لكن لست أول العابدين فليس للرحمن ولد.

قوله تعالى : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا).

ابن عرفة : الخوض إما الاشتغال بما لا فائدة فيه فقط ، واللعب الاشتغال بما لا فائدة فيه مع زيادة ضرر فيه ، وأما الخوض المقاولة والمجادلة ، قال تعالى (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) [سورة الأنعام : ٦٨] واللعب بالاشتغال بما لا فائدة فيه فقط.

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ).

قيل لابن عرفة : القاعدة أن الاسم إذا أعيد نكرة يقتضي التعدد وبه يفهم قول عمر ، في قوله تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [سورة الشرح : ٥ ، ٦] لن يغلب عسر يسرين مع أن الإله هنا واحد فكان الأصل مقترنا بالألف واللام.

فأجاب ابن عرفة : بأن التعدد هنا في الصفة لا في الذات ، كقولك : زيد أكل في الدار ضاحك في السوق ، فهما صفتان لموصوف واحد.

قوله تعالى : (وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما).

ابن عرفة : وعادتهم يقولون فيه حجة للفلاسفة القائلين بان السماوات متلاصقة ليس بينهما خرق ، إذ لو كان بينهما خرق ، لقال : وما بينها ، قيل لابن عرفة : لعل مراده ما بين الأرض أعلاها ، وبين الأرض وما بين الثانية بينها وبين الأرض وما بين الثالثة وبينها وبين الأرض فثناها اعتبارا بذلك ، فقال : لو أراد ذلك ، لقال : وما بينهن ، قال : وإنما عادتهم يجيبون : بما في سورة الطلاق (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) [سورة الطلاق : ١٢] قيل : فلم خصت تلك الآية بالجمع وهذه بالتثنية؟ فقال : أجابوا : بأن هذه خرجت مخرج التذكير بالنعمة ، فاعتبر فيها ما فضل منه النعمة إلى الإنسان وهي السماء الدنيا وما بينها وبين الأرض من الأمطار والرياح ، وما ينشأ عن ذلك في الأرض من النبات والفواكه وغير ذلك ، وتلك الآية خرجت مخرج الإعلام بكمال قدرة الله تعالى ، فاعتبر فيها مجموع السماوات وما يكون فيها من الأمور.

قيل لابن عرفة : وفي الآية دليل على نفي الجوهر المفارق ، وهو قسم ثالث لا متحيز ولا قائم بالمتحيز ، فليس هو في السماوات ولا في الأرض بل هو خارج عنها ،

١٢

فلو كان موجودا ، لقال هنا : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) وما يخرج ، لأن الآية خرجت مخرج الإعلام لجميع مملوكات الله تعالى.

قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

نقل ابن عطية ، عن قتادة : أن الاستثناء متصل فاستثنى من عبد من دون الله عيسى ، وعزير ، والملائكة.

وقال مجاهد : من المسموع فيهم أي لا يشفع الملائكة وعيسى إلا فيمن شهد بالحق.

قال ابن عرفة : يحتمل عندي أن يكون منفصلا ، والمراد به ما تضمنه ، قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [سورة آل عمران : ١٨] فهؤلاء لا يملكون الشفاعة.

ابن عرفة : وهذا رد عليهم في قولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا) [سورة يونس : ١٨].

١٣

سورة الدخان

قوله تعالى : (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ).

قال ابن عرفة : جملة الإرسال متقدمة بالنسبة علي الإنذار يجري مجرى العلة فهلا قدمت في الذكر؟ فأجاب : بأن الإنذار يجري مجرى العلة القائمة المتقدمة وهنا المتأخر وجودها.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ).

سئل ابن عرفة عن تكرير القصة في القرآن في مواضع بألفاظ مختلفة يزيد بعضها على بعض؟ فأجاب بثلاثة أوجه :

الأول : أن الأعراب كانت تأتي أفواجا فبعضهم يحضر القصة وبعضهم لم يحضرها.

الثاني : أن بعض الناس قد لا يحفظه كله كما حفظ حصل فيه القصة وما لا فلا.

الثالث : أن ذلك لطف من الله بنا ، فبالغ في الوعظ والتذكير والتحذير رفقا بنا ، فلذلك كرر ذلك لأن مثلا إذا كان له ولد حرامي فإنه يزجره مرة ويعظه مرة أخرى وثالثة ورابعة ، ولا يقتصر في وعظه على مرة واحدة.

قوله تعالى : (فَدَعا).

قال هنا في قصة موسى : (فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) ، وقال تعالى في قصة نوح (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) [سورة القمر : ١٠] مع أن سبب الدعاء فيها عدم إيمان قومهما؟ فالجواب : أن نوحا عليه‌السلام أول رسول بعث إلى الأرض من المؤمنين ولم يقرر لهم أناس فيستعين ، فطلب النصر من الله ليظهر على عدوه ليرجع من يرجع ويهلك من هلك ، ولما تقرر لموسى أناس لم يطلب ذلك.

قوله تعالى : (وَمَقامٍ كَرِيمٍ).

لم يقل : مقامات مجموع كما جمع غيرها ، يكون مقام مصدر يصدق على القليل والكثير.

١٤

سورة الجاثية

قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ).

قال ابن عرفة : الإشارة إما إلى الإيمان والعمل الصالح ، أو إلى إدخالهم في الرحمة ، وكان بعضهم يرجح الثاني ، بوصف الفوز ، بقوله : (الْمُبِينُ) لأن حصول الفوز الأول مظنون وحصوله الثاني محقق.

قوله تعالى : (فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ).

إن قلت : هلا قيل : فأجرمتم وكنتم قوما مستكبرين؟ فالجواب : الاستكبار أمر معنوي والإجرام أمر فعلي حسي فناسب التعبير عنه بالاسم المقتضي للثبوت.

قوله تعالى : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ).

قال الزمخشري : أصله يظن ظنا ، ومعناه إثبات الظن فقط دخل حرف النفي والاستثناء ليفيد إثبات الظن ونفي ما سواه ، ثم أكد نفي ما سوى الظن ، بقوله تعالى : (بِمُسْتَيْقِنِينَ).

وقال أبو حيان : لا يجوز أن تقول : ما ضرب إلا ضربا لعدم الفائدة ، وأجابوا بثلاثة :

أحدها : أنه على حذف الصفة ، أي إلا ظنا ضعيفا.

ابن عرفة : وأول ما ورد في مختصر أبي حيان [...] أبو الفضل ابن أبي مدين ، فنظرنا فيه هذه المسألة.

فقال بعض نحاة التونسيين حينئذ : ما نصر أحد على منع هذا ، وكتاب سيبويه والفارسي وأبي ... (١) ابن عصفور وغيرهم لم أرى أحدا منهم منع أن يقال : ما ضرب إلا ضربا وعلى تقدير تسليم هذا فإنما ذلك في الماضي لوقوعه على صفة واحدة وانقطعت بحيث لا يعلم لها التغيير ، وأما المضارع فيكون تغييره وتبدل صفة المقدرة الوجود لعدم ... (٢) فيتطرق إليه الاختلاف والتنويع ، فلما أكره أفادنا كفرهم أنهم لا

__________________

(١) بياض في المخطوطة.

(٢) بياض في المخطوطة.

١٥

ينقلون عن ذلك الظن ، بل لا يزالون ظانين ، ومنهم من أجاب : بأن تنكيره وتنوينه يفيد التعليل.

قال : وفي الآية اللف والنشر ، فقولهم : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) ، [٦٧ / ٣٢٩] راجع لقوله تعالى : (وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها) ، وقوله تعالى : (وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) راجع لقوله تعالى : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) قال : والعطف يدل أنه لم يجعل لنا منها إلا الظن ، بل لم يجعل إلا لنا عدم اليقين الذي هو أعم من الظن والشك.

قوله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا).

إما مصدرية أو موصولة ، وكان بعضهم يرجح لكونها موصولة ، لأن إضافة الأثر إلى المفعول وهو المؤثر بعد إضافته إلى الفعل ، فإذا أبدت لهم سيئات الشيء الذي عملوا فأحرى أن تبدو لهم سيئات عملهم ، وإن كان أحدها يستلزم الآخر.

قال : وفي الآية حسن الائتلاف ، فاقتران به سيئات عملهم ، واقتران حاق يستهزؤون ، لأن البدأ عبارة عن أول ما يظهر من الشيء ، و (سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) يقتضي مطلق الذنوب الناشئة عن مطلق ما اتصفوا به من العمل ، والاستهزاء عبارة عن شدة ما اتصفوا به من القبيح والحوق الإحاطة ، قلت : ومنه قولهم : الطائفة محوقة بهذا الرقم ففرق الأشد بالأشد والأحق بالأحق.

قوله تعالى : (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ).

قال ابن عرفة : ذكروا في المجاز أنه لا بد له من علاقة ، وإن علاقة ترجح الحمل على المجاز مع جواز الحمل على الحقيقة ، قالوا : وقد تكون العلاقة توجب الحمل على المجاز مع جواز تحريم الحمل على الحقيقة ، ويسمى هذا عندهم الدال البرهاني ، ومنه هذه الآية لأن النسيان بمعنى الذهول فيستحيل على الله تعالى ففسر هنا بمعنى الترك ، واقترانه باليوم يمنع حمله على الحقيقة لاستحالة نسيان الأمر الحالي إذ هو مرئي ومشاهد ، وإنما نسى الغائب والكاف في قوله تعالى : (كَما نَسِيتُمْ) للتعليل ، مثل : (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) [سورة القصص : ٧٧].

١٦

سورة الأحقاف

قوله تعالى : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً).

قال ابن عرفة : وجه مناسبتها لما قبلها أنه لما تضمن قوله تعالى : (فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) تقبيحهم إياه بأنه إما كذب في نفسه أو شبيه بما قبله من الأكاذيب ، والاقتران عينه ببيان أنه إما صدق في نفسه ، وشبيه بما قبله من الكتب الصادقة الواردة على يدي الرسل.

قوله تعالى : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

نفى الخوف بالاسم ، والحزن بالفعل لأن سبب الخوف والأمور المستقبلة متكبرة غير متناهية لعدم وقوعها فتذهب النفس بها كل مذهب ، وسبب الحزن ماض والماضي متناه لانقطاعه ، فعبر عن الأبلغ بالأبلغ وعن الأخف بالأخف.

قيل لابن عرفة : هذا صحيح لو كان في الثبوت ، وأما في النفي فنفي الأعم أخص من نفي الأخص ، وأجيب : بأنهم قالوا : هذا إلا في باب الإخبار وهو أن الإخبار بالاسم أخير من الإخبار بالفعل ، والاسم هنا مخير عنه لأنه مخبر به.

قوله تعالى : (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ).

اختلف المحدثون هل من شرط الصحبة طول الملازمة أو لا ، وظاهر الآية حجة لمن لم يشترط ذلك ، لقوله تعالى : (خالِدِينَ) ، وقوله تعالى : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) هو جزاء شرعي تفضلي لا إنه عقلي.

قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً).

عداه هنا بالباء ، وقال تعالى في سورة النساء : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [سورة النساء : ١١] فعداه بفي.

قال ابن عرفة : عادتهم يجيبون بوجهين :

الأول : متعلق الوصية هنا بسيط مفرد وهو بر الوالدين فقط ، ومتعلقها هناك متعدد وهي أمور كثيرة ، والقاعدة أن التعدد يحتاج في حفظه إلى دعاء يكون فيه ، والبسيط لا يحتاج في صورته إلى ظرف كمن عنده أمتعة ، فإنه يستعد لها مسند وقالوا : ومن عنده مقطع واحد في صورته إلى ذلك.

١٧

الثاني : أن متعلق الوصية هنا مطلوب شرعا وهو البر ومتعلقها هناك غير مطلوب لأن الأولاد غير مطلوبين شرعا ، إنما المطلوب الفصل بينهم وما يقع به الفصل وهم محل لذلك الفصل ، فالوصية فيهم بالفصل بينهم بكذا وكذا.

قوله تعالى : (بِوالِدَيْهِ).

ولم يقل : بأبويه إشارة لمن وقعت صفة الولادة ، وتغليبا لحق الأم على حق الأب ، وفيه تنبيه على أن حقها أكثر من حق الأب ، فإذا أمرته أن يكلف لها بحاجة وأمره أبوه بحاجة فإنه يجعل ثلاثة أرباع لأمه وربعه لأبيه.

قوله تعالى : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً).

يريد مشقة الحمل من زمن الإحساس به لا من أوله.

فإن قلت : ذكر أسباب الأمر بطاعة الأب ، فقد قال في سورة البقرة (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [سورة البقرة : ٢٣٣] ، وفي سورة الطلاق (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) [سورة الطلاق : ٦] فهلا قال : وأنفق عليه أبوه وكساه ، فعادتهم يجيبون : بأن أسباب طاعة الأم راجعة إلى مشقة بدنها ، وأسباب طاعة الأب رجعة إلى مشقة بذل المال ، وجنس الأول أشرف من جنس الثاني لأن حفظ النفوس أكد من حفظ الأموال ، ولذلك أكد الأمر بطاعة الأم فذكر سببه لشرف جنسه ، ولم يؤكد الأمر بطاعة الأب بذكر سببه.

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ).

اختلفوا في حد بلوغ الأشد.

فقال ابن إسحاق : ثمانية عشر ، وقيل : عشرون ، ابن عباس وقتادة : ثلاثة وثلاثون ، الجمهور : ستة وثلاثون. وقال : أربعون.

ابن عرفة : فعلى أنه ثمانية عشر يكون المعنى العجز عن القيام بنفسه ، وعلى أنه أكثر يكون التقدير في كامل خلقه (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ).

قوله تعالى : (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً).

عطف تفسير ، لقوله تعالى : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) [سورة التوبة : ٦١] واحتج علي بن أبي طالب بهذه الآية على أن أقل الحمل ستة أشهر ، فأتت امرأة بولد لأقل من ستة أشهر فألحقه عمر بالثاني ، فرد عليه علي فرجع إليه وألحقه بالأول ، واستدل بهذه الآية ، وكذلك حكم عمر بإقامته على امرأة

١٨

حامل ، فقال له علي : كيف تقيم الحد على ما في بطنها وبعد لم يكن شيئا فرجع إليه ، وقال : لو لا علي لهلك عمر.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا).

قال ابن عرفة : تقدم لنا فيها سؤالان : الأول : (أَحْسَنَ) أفعل من فيقتضي أن في عمله أحسن ، وحسن لا يتقبل منه إلا الأحسن مع أن الحسن قد يتقبل؟ قال : والجواب : أن المراد بالحسن هنا سند الشيء وهو المباح ، فهو غير متقبل إذ لا ثواب فيه ، قيل له : تم حسن وأحسن منه ، وأحسن منهما ، كقولك : أوصى فلان [.....] ، فإنها تعطى لمن هو في الدرجة العليا من العلم لا لمن هو أعلم من غيره بالإطلاق ، وإن كان هناك من هو أعلم منه.

فقال ابن عرفة : فرق بين قولك : اعط هذا لأعلم الناس ، وقولك : أعط هذا للأعلم من الناس ، فالأول : يقتضي أن يعطى لأعلاهم درجة في العلم ، والثاني : يقتضي أن يعطى لمن هو أعلم من غيره بالإطلاق ، ومن في قوله : من الناس في موضع الحال دخلت على المفعول بل هي للتبعيض لابتداء الغاية ، أي اعطيه للأعلم من غيره حالة كونه من الناس.

قيل لابن عرفة : الآية من القسم الأول : وهو مثل قوله : أعط هذا لأعلم الناس فيلزم أن لا يتقبل إلا ما هو أحسن أعمالهم على التوزيع في كل زمن ، فإذا عمل في صبح يوم الخميس عملين مباحا ومندوبا قبل المندوب لأنه أحسن العملين ، ثم إذا عمل بعد ذلك عملين مباحا وواجبا ، قبل : الواجب فيهما ، ثم إذا عمل مباحا وغيره قبل المطلوب دون المباح ، فالمراد أنه يتقبل من كل مسلم في كل زمن أحسن ما عمل في ذلك الزمان بعينه ، وليس المراد أنهم يتقبل عنهم أحسن ما عملوه ، وأعمالهم كلها.

السؤال الثاني : أن يتقبل إنما يتعدى بمن قال : [٦٨ / ٣٣٠] (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) [سورة البقرة : ١٢٧] ، وقالت : (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي) [سورة آل عمران : ٣٥] وأجيب : بأن عن أفادت قبول مطلق العمل الحسن وإن كان فيه نقص ما ، لأن عن تقتضي المجازاة ولم عداه بمن لما أفادت هذا المعنى.

وأجاب ابن حمدون : أنه عداه بفي مطابقة لقوله تعالى : (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) لأنه عداء أيضا بمن ، وتضمن هذه الآية قوله تعالى : في سورة التوبة (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة التوبة : ١٢١] ، وكذا في الزمر.

١٩

قوله تعالى : (أَصْحابِ الْجَنَّةِ).

فمن هم أصحابها؟ فقال الملائكة والنبيون.

قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا).

قال ابن عرفة : اختلفوا في الإيمان هل يزيد وينقص على ثلاثة أقوال :

ثالثهما : أنه يزيد ولا ينقص ولم يذكروا ما في الكفر خلافا بل هو سكوت عنه ، وظاهر الآية أنه يزيد وينقص ، لقوله : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا)

قيل له : إن ابن عطية قال : الدرجات قريبة في أنها للمؤمنين ، وأما الكافرون فإنما لهم دركات ، فقال : لا بل لفظ الدرجات أعم بدليل قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ).

قلت : وكذلك قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [سورة التوبة : ١٢٥].

قوله تعالى : (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ).

ظاهر التوفية هنا الإتيان بالمطلوب من غير زيادة عليه.

قوله تعالى : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا).

قيل : المراد بالطيبات المستلذات أي الأسباب التي توصلون بها إلى سبل المستلذات في الدار الآخرة ، أذهبتموها في الدنيا أي تركتموها في الدنيا ولم تفعلوها.

قوله تعالى : (بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ).

ابن عرفة : مفهومه صحة الاستكبار بالحق ، قلنا : نعم وهو كذلك وهو أن نستكبر على الظالم والجائر.

فإن قلت : ما فائدة قوله تعالى : (فِي الْأَرْضِ) ، قلنا : فائدته تحقير المستكبر إشارة إلى استكباره في الأرض التي توطأ بالأقدام وتوضع فيها الأقذار والنجاسات ، وقد خلق منها ويعود إليها فكيف يستكبر فيها.

قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً).

إن قلت : هلا قال : هو (مُمْطِرُنا) ، قلت : إشارة إلى أنه في نفس الأمر على خلاف اعتقادهم لأنهم اعتقدوا أنه رحمة وهو عذاب.

قوله تعالى : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ).

٢٠