تفسير ابن عرفة - ج ٤

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ٤

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٣٩٩

إما موضع الحال أي أترابا حالة كونهن لأصحاب اليمين ، وإما متعلق بأتراب ، أي هن من تراب أصحاب اليمين الرجال ، أي النشأ أتراب الرجال في السن والقد ، فإن قلت : تقييده بأصحاب اليمين على كل تقدير يبقى ذلك على السابقين ، وقد قال في تنعيمهم (وَحُورٌ عِينٌ) ، قلت : أصحاب اليمين أخفض رتبة من السابقين ، فإذا ثبت لهم هذا فأحرى.

قوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ).

أي جماعة من الأولين في الجنة ، وجماعة من هذه الأمة فيها ، قيل : في الجمع بينها على هذا وبين قوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) ، وقليل من الآخرين ، أجيب : احتمال أن يريد أهل الجنة بالنوع لا بالشخص ، أي منكم الثلثان ، ومنكم الثلث ، فأنتم أكثر من كل أمة على حدتها ، قيل : بل ظاهر أنهم أكثر من مجموع الأمم ، أجيب : بأن الثلة مقولة بالتشكيك تطلق على الجماعة الكثيرة والقليلة ، ولا تنافي بين الاثنين.

قوله تعالى : (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ).

هذه الآية وأمثالها حجة لمن جعل الصحبة حقيقة في معناها الأخص لا الأعم ، فإن قلت : نقلها عندهم من التواطؤ أو التشكيك ، فهي في الأخص أولى ، قلت : إذا تعارض حمل اللفظ على معناه حقيقة أو بطريق التواطؤ أو التشكيك ، فحمله على الحقيقة أولى ، فإن قلت : لعله مشترك ، أو منقول اصطلاحا من المعنى الأخص إلى الأعم ، قلت : من شرط النقل اتفاق أهل الاصطلاح على الشيء الذي نقل إليه ، كما في الصلاة والنكاح والغائط ، والمحدثون مختلفون في مسمى الصاحب ، وسماهم أصحاب الشمال ، لما في حديث الإسراء في آدم عليه‌السلام : " أنه عن يمينه أسودة ، وعن يساره أسودة" (١) ، أو لغير ذلك.

قوله تعالى : (فِي سَمُومٍ).

__________________

(١) أخرجه البخاري في صحيحه حديث رقم : ٣١١٦ ، ٣٣٩ ، ومسلم بن الحجاج في صحيحه حديث رقم : ٢٣٨ ، وأحمد بن حنبل في مسنده حديث رقم : ٢٠٧١١ ، والبيهقي في دلائل النبوة حديث رقم : ٦٨٧ ، وأبو نعيم الأصبهاني في المسند المستخرج على صحيح مسلم حديث رقم : ٣٢٥ ، وأبو عوانة الإسفرائيني في مسنده حديث رقم : ٢٦٤ ، وابن حبان في صحيحه حديث رقم : ٧٥٤٥ ، وأبو يعلى الموصلي في مسنده حديث رقم : ٣٥٢١.

١٤١

ابن عطية : هو الريح الحارة ، الزمخشري : أي في حر نار تنفذ في المسام ، انتهى ، هذا أقرب إلى اللفظ ، وهذا مقابل لنعيم أصحاب اليمين ، قائل بثلاثة أوصاف : لأن السدر المخضود ، والطلح المنضود ، كالشيء الواحد ، فإن قلت : لم قدم الظل الممدود هنا على الماء المسكوب ، وأخره هنا على الحميم المقابل للماء المسكوب؟ فالجواب : أن السموم وهي الريح الحارة تحدث وهجا ولهبا في الجسم فيلجئون إلى تبريدها بشرب الماء ، فيجدونه حميما ، فحينئذ يلجئون إلى الظل فالاحتياج إلى الماء أشد منه إلى الظل ، بخلاف حالة النعم ، فإن المأكل فيها رطب لا يلجأ إلى شرب الماء ، فالحاجة إلى الماء تكميلية ، والظل ملازم للجنة والشجر ، فلذلك قدم.

قوله تعالى : (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ).

فإن قلت : هلا قيل (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) ، حال ضار ، فلم أتى به منفيا؟ فأجاب الزمخشري : [٧٣ / ٣٦٢] عليه استعماله في معناها الأخص.

قوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ).

علل عذاب هؤلاء ولم يعلل نعيم هؤلاء ، لأن الثواب عندنا محض تفضل من الله تعالى ، لا جزاء عن العمل والعقاب ، محض عدل وجزاء عن السيئات ، وهذه أجزاء علة واحدة ، وليست عللا متعددة ، والآية حجة لمن يقول : إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، وحجة لمن يقول : إن عذاب أهل النار ونعيم أهل الجنة حسي ، ورد على من زعم أنه معنوي ، وهو قول حكاه الفخر في المعالم بأن [.....] ، فإن قلت : لم قال مترفين فعبر بالاسم؟ قال : يعبرون بالفعل ، قلت : إنه إشارة إلى تزايدهم في الأمر ، أو أنهم مهما أتاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بمعجزة أظهروا لها إصرار يخصها وزاد في تعنتهم ، وإما الإتراف فهو ملازم لهم.

قوله تعالى : (وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا).

هذا فرق ، لأن الوصف الأول تضمن تنعهم بالحرام ، والثاني : الكفر بالألم ، وإضافة الشريك إليه ، وهو أشد ، والثالث : نسبته إلى العجز عن إعادة المعدوم ، وهو أشد من الأولين ، فإن قلت : لم قدم التراب على الطعام مع أن صيرورتهم ترابا في الوجود الخارجي متأخر عن صيرورتهم عظاما؟ فالجواب من وجهين :

الأول : أن التراب بالنسبة إلى لحومهم فقط ، وهو مقارن للعظام.

الثاني : أن الإنكار تعلق بإعادتهم بعد ما صاروا ترابا وعظاما ، فيدل من باب أحرى على إنكار الإعادة من الجسم الذي كله تراب ، فإن قلت : هؤلاء قالوا : أينا نبعث بلفظ

١٤٢

الفعل ، فيكون إنكار المطلق البعث ، فيستلزم إنكار البعث المؤكد ، لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص ، فالجواب : أن هذا من الإنكار الأخص لا من إنكار الأخص ، وتقريره أنه إنكار لا يستلزم الأخص ، لأنه إنكار الأخص ، لأن من أنكر قيام زيد المدلول عليه بقول القائل : إن زيدا قائم فأحرى أن ينكر قيامه المدلول عليه بقولك : قام زيد ، فإن قلت : ما الفائدة؟ فلو قدموا إنكار بعث آبائهم لكان أعم فائدة ، لأن إنكارهم بعث آبائهم لا يستلزم إنكارهم بعث أنفسهم ، لأن آبائهم صاروا رميما ، وطالت مدتهم ، فلا يلزم من استنجادهم بعثهم استبعادهم بعث أنفسهم بخلاف العكس ، فالجواب : أن المستحيلات كلها متساوية لا يقال في بعضها : أنه أولى ، كاستحالة اجتماع النقيضين ، فإنه متساو في الجميع ، فإن قلت : إنما ذلك في المستحيلات العقلية التي تكلم فيها الحكماء ، ومن له بصيرة ، وهؤلاء لم يكن لهم معرفة بالعلوم فما نفوا البعث الإعادة ولا شك أن المستحيلات بالإعادة متفاوتة فاستحالة بعث آبائهم أولى وأشد من استحالة بعثهم هم ، فالجواب : أن ما نفوا ذلك إلا عقلاء ولهم إدراك في ذلك ، وأما الوجود فهو بالنسبة إلى الممكن متفاوت فإطلاقه على الأب أولى من إطلاقه على الابن ، وبالنسبة إلى الواجب شيء واحد لا تفاوت فيه ، وكذلك المستحيل عقلا واجب لا تفاوت فيه من تعلقاته ، لكن يجاب عن هذا كله بأن تعليل الحكم يوصل حاصل أقوى من تعليله بوصف مقدر ، فاستحالة بعث المعدوم الحصول أقوى من استحالة بعث ما قدر انعدامه ، وهذا ذكره المنطقيون فقالوا : القضية المحصلة تنعكس كنفيها ، وعكس النقيض ..... (١) أخبار العذاب النازل بهم فناسب مفاجأتهم بالخطاب ، لأنه أقوى أو نقول هذا خطاب لمن قام المبطلين ، كما أن عقوبة أبو الحسين البصري من المعتزلة أشد من عقوبة سائرهم ، لأنه أول من أنكر حجج المبطلين ، وكذلك هنا الخطاب لقريش أهل مكة ، فإنهم الذين ذلك ، وكانوا يأتون بالعظم الرميم ، فيقولون هذا يبعث ويرجع حيا ، والمهلة إما زمانية أو معنوية ، أو هما معا ، فيجيء فيه تعميم المشترك ، إن كانت مشتركة ، أو استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه ، إن كانت حقيقة في أحدهما مجازا للأخر ، أو للقدر المشترك بينهما ، والضال أعم من المكذب ، لأن كل مكذب ضال ، ولا ينعكس فالمعتزلة ضالون مطلقا ، وليسوا مكذبين إلا عند من يكفرهم.

قوله تعالى : (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ).

__________________

(١) طمس في المخطوطة.

١٤٣

الفاء للتعقيب ، وهذا احتراس ، فإن الأكل من الشيء القبيح لا يستقبح منه ما قل ، باعتبار العادة ، إذ قد يكون في الدنيا للتداوى والاستكثار من ذلك غير معهود ، فإن قلت : لم قال : البطون ، ولم يقل بطونكم؟ قلت : إشارة إلى أنهم لا يأكلون في بطونهم المعهودة ، بل في بطون أخر ، لحديث" يعظم خلق الكافر في جهنم" ، وجواب الفخر بحديث : " أن الكافر يأكل في سبعة أمعاء ، والمؤمن يأكل في معى واحد" (١) ، يرد بأن الحالة في هذه الدنيا والآخرة ، ويجاب أيضا : بجواب آخر ، وهو إشارة إلى أنهم لا يراعون أنها بطونهم ، فيتحفظون عليها من كثرة الأكل بل يرضونها ويحثونها ، ولا يتحفظون عليها ، ويتركون فيها فراغا للنفس ، حتى كان بطون غيرهم ، وفي سورة الصافات نظير هذه الآية وتقدم الكلام فيها.

قوله تعالى : (فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ).

يحتمل أن يراد التصديق الأصلي ، أو المنطقي ، فالأصلي من أقسام الخبر ، لأنه هو الخبر المطابق ، والمنطقي هو الحكم على الماهية بنفي أو إثبات ، وهو ضد التصور ، فإن أريد تصديقهم بمقتضى هذا الخبر ، وهو نحن خلقناكم فهو الأصلي كما تصدق زيدا في قوله : قام عمرو فإن أريد اعتقادهم أن لا فاعل إلا الله فهو المنطقي ، وهو أمر عقلي ، والأول سمعي ، ولو لا للتخصيص ، وذكر ابن بابشاذ وفي مقدمته أنها مع العاصي للتوبيخ ، وجعلها ابن عطية : للتفريع والتقرير.

قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ).

قيل : المراد به آدم عليه‌السلام ، لأنه خلق من تراب فالاستدلال به على جواز الإعادة أقوى بالاستدلال من خلقنا نحن من النطفة ، رد بأن خلق غير آدم عن عدم صرف فهو أقوى في الاستدلال مما خلق عن وجود.

قوله تعالى : (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ).

__________________

(١) أخرجه مسلم بن الحجاج في صحيحه حديث رقم : ٣٨٤٣ ، والترمذي في جامعه حديث رقم : ١٧٣٦ ، والنسائي في السنن الكبرى حديث رقم : ٦٥٣٥ ، وابن ماجه في سننه حديث رقم : ٣٢٥٦ ، وإسحاق بن راهويه في مسنده حديث رقم : ١٧٥ ، والطبراني في المعجم الأوسط حديث رقم : ٤٠١٨ ، ١٨٤٤ ، ١٧٧٥ ، ٩٥٨٣ ، وأحمد بن حنبل في مسنده حديث رقم : ٢٦١٥٥ ، ٨٠١٨ ، ١٤٨٩٦ ، ١٤٥٣١ ، ٢٦٥١٣.

١٤٤

وقع الإنكار هذا مردودا بين خلقهم ، وخلق الله تعالى ، وفي سورة الطور (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) [سورة الطور : ٣٥] ، بالترديد بين خلقهم من غير شيء ، وخلق أنفسهم ، والجواب : إن هذه مانعة الجمع ، فإن قلت : لم عبر في الأول بالفعل ، وفي الثاني بالاسم؟ قلت : كان المقصود بالأول نفي الخلق عنهم ، فناسب الفعل ، لأنه مطلق يصدق بصورة ، فإذا انتفى أعم ، لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص ، والمقصود بالثاني : ثبوت الخلق لله تعالى ، فناسب الاسم للثبوت والدوام ، الزمخشري : ومنها دليل لمن يقول بالقياس ، انتهى ، يريد بالقياس المنطقي المضاد للتصور ، وليس مراده الأصلي [٧٣ / ٣٦٣] لأن هذا ليس بقياس تمثيلي ، وإنما هو استدلال.

قوله تعالى : (قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ).

دليل على أن الموت أمر وجودي بناء على أن العدم الإضافي لا يكون أثر للقدرة.

قوله تعالى : (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ).

فيه رد على الطبائعية القائلين : بأن النفوس البشرية ألفت أجسادها بالطبيعة ، ولو تركبت في غيرها لما أمكن ذلك عندهم ، ونحن نقول : الأجساد كلها متساوية في الحد والحقيقة.

قوله تعالى : (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ).

جاء على الأصل في كون الجملة الأولى : فعلية ، لأن المراد نفيها ، والثانية : اسمية لأن المراد ثبوتها.

قوله تعالى : (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً).

لو حرف امتناع ، قال النحويون : امتنع الثاني لامتناع الأول ، ونص عليه ابن السراج ، وابن مالك ، وغيرهما ، وأبو حيان في أول البقرة ، وقيل : بل المراد أن الأول امتنع لامتناع الثاني ، نص عليه ابن التلمساني ، وابن الحاجب في شرح مفصل الزمخشري ، وفي تأليف له خاص لوجد أن عن النحويين ما تقدم واختار هو أن الأول تمنع لامتناع الثاني ، فإذا قلت : لو قام زيد لقام عمرو ، معناه على الامتناع عمرو من القيام دلني على امتناع زيد منه ، فهو باعتبار العلم والاعتقاد ينتفي فيها الأول لانتفاء الثاني ، وباعتبار السببية ، والوجود الخارجي ينفي الثاني لانتفاء الأول ، وقرره ابن الحاجب بأن انتفاء السبب لا يدل على انتفاء المسبب ، لجواز أن يكون ثم أسباب

١٤٥

أخر ، وانتفاء المسبب يدل على انتفاء كل سبب ، فإنما يمتنع الأول لامتناع الثاني ، لأن امتناع الثاني هو السبب ، فيدل انتفاؤه على انتفاء السبب الأول.

قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا).

دل امتناع الفساد على امتناع الإلهية وبدليل جواز ، قولنا : لكان حيوانا فيقتضي كونه إنسانا لانتفاء الحيوانية ، ولو كان كما قاله النحويون : لما جاء أن يتكلم بذلك ، انتهى ، ويلزمه أيضا انتفاء اللازم لانتفاء الملزوم ، لأن كونه حيوانا لازم لكونه إنسانا والحال الكلام عليها في الكتابين لما يرجع إلى هذا ، والمقصود إنما هو العلم لا الوجود الخارجي ، فعلمنا بأن النبات لم يجعل حطاما ، دليل على أن الله تعالى لم يشأ حطاما ، ولو شاءه لوقع كذلك.

قوله تعالى : (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ).

أي تعجبون وتقدمون ، وتقولون (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) ، أي لملزومون غرامه ، ما اثبتنا ، وقيل : أي لمهلكون ، والأول أصوب ، لأن الإضراب يكون فيه الثاني أشد وأقوى من المضروب عنه ، ولا أشد من الهلاك.

قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ).

عين هنا المشروب ، وقال : فيما سبق (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) ، ولم يقل : أفرأيتم الحب الذي تحرثون؟ لأن المحروث شيء واحد ، وهو الحب ، والمشروب متعدد فاللبن مشروب ، وكذلك العسل ، قال تعالى (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ) [سورة النحل : ٦٩] ، فإن قلت : لم قال (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ) بلفظ الماضي ، وقال : قبله (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) بلفظ المستقبل؟ فالجواب : أن المراد أفرأيتم ما الذي أنتم متمكنون من شربه ، والتمكن من شرب الماء متأخر عن لا تلبث حتى تحرث ، فإن قلت : يعارض هذا التقدير بأن الزراعة أيضا متعددة على الحرث ، لأن الحب المحروث كان قبل ذلك زرعا ثم صار حبا ، قلت : يلزم على هذا الدور التسلسل ، وذلك محال ، لأن الحب المحروث متأخر عن كونه زرعا ، وكونه زرعا متأخر عن كونه حبا ، وكونه حبا متأخر عن كونه زرعا ، إلى إلا نهاية ..... (١) عمله فلذلك أكد جعله الزرع حطاما باللام ، ولم يؤكد جعل الماء أجاجا تأكيدا لكمال قدرة الله تعالى ، وإنه لا يعجزه شيء ، وأجاب الزمخشري : بوجهين آخرين :

__________________

(١) طمس في المخطوطة.

١٤٦

أحدهما : أن اللام أدخلت في الأولى جوابا ، ثم حذفت في الثانية ، وهر مرادة في المعنى اكتفى بذكرها أولا ، وأنشد عليه :

حتى إذا الكلاب قال لها

كاليوم مطلوبا ولا طالبا

أراد لم أر كاليوم ، والكلاب صاحبا للأب ، والمطلوب الصيد ، والطالب الكلب يمدح كلابه ، أي لم أر في القوة كالطالب ، وفي الضعف كالمطلوب ، الثاني : أن اللام في المطعوم للتأكيد ، لأن الحاجة إليه أشد من الحاجة إلى المشروب ، ألا ترى إنك إنما تسقي ضعيفك بعد أن تطعمه ، ولو عكست قعدت نحو قول أبي العلاء ، أي دخلت تحت قوله :

إذا سقيت ضيوف الناس محضا

سقوا أضيافهم شيعا زلالا

أي إذا سقيت الضياف اللبن المحض ، وهو غير المخلوط بالماء سقوهم أضيافهم الماء الخالص ، فهو يذمهم على فعلهم ذلك ، فإن قلت : لم عقب نعمة المشروب بالشكر ، ولم عقب نعمة المأكول مع الإنسان مأمور في الشرع بالشكر ، عقيب الأكل وعقيب المشروب؟ فالجواب : إن الأكل والشرب متلازمان ، إذ لا يكون الشرب غالبا إلا عقيب الأكل ، فالأمر بالشكر إليه أمر بالشكر على الجميع ، أي أفلا تشكرون على الأمرين معا ، وخص هذا بالشكر ، وقال قبله (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) ، ذلك محل اعتبار وتذكر ، وهذا محل شكر وحمد.

قوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها).

عبر هنا بالإنشاء ، وقال : قيل (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) ، لأن ذلك الخلق مسبوق بنوع ومثال تقدمه ، وهذا ابتدائي إنشائي لم يسبق بشيء ، فلذلك عبر عنه بالإنشاء ، وقال هنا : (أَنْشَأْتُمْ) بلفظ الماضي ، كما قال تعالى (أَنْزَلْتُمُوهُ) ، فيرد السؤال المتقدم ، والجواب كالجواب ، والنار هل هي الجمرة ، أو عرض قام بها ، أو أي شيء هو الصواب ، إنما هي جواهر لطيفة تحللت بين أجزاء الفحمة ، بدليل أن الجمرة تستقر في الأرض ، والنار من قواعدهم ترتفع إلى فوق كنار السراج ، وبدليل عدم كونها في الحجر ، لأن أجزاءه متراصة لا خلل فيها ، فالنار تحلل أجزاءها ، وتحل فيها كما حلت الروح في الجسم ، مع أنها جوهر لطيف سكنه العلو ، وأما النار التي تخرج من الزناد ، فلم تكن فيه بل خلقها الله تعالى فيه عند القدح لئلا يلزم عليه مذهب القائلين بالكون والظهور ، ويحتمل أن تكون انفصلت من الزناد أجزاء تبدلت أعراضها عند القدح بإعراض النار ، وقول ابن عطية في قوله (شَجَرَتَها) قيل : الشجرة ، هي النار نفسها لا تقال يلزم عليه إضافة الشيء إلى نفسه ، لأنه من إضافة الأعم إلى الأخص ، وهو جائز عندهم.

١٤٧

قوله تعالى : (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً).

الزمخشري : أي تذكركم بنار الآخرة لتعتبروا ، انتهى ، إنما المراد أنها تذكركم بوجود الصانع لها ووحدانيته ، واتصافه بصفات الكمال ، لكونها أخرجها من الشجر الأخضر ، وأنها لا تحرق الطبع ، ولو كانت كذلك لما فارقها الإحراق ، ويبعد لما قال الزمخشري : ومثله لابن عطية ، لأن الدار الآخرة إنما علمناها ، وعلمنا نارها ، وعذابها سمعا لا عقلا ، [٧٤ / ٣٦٤] فعبر بالاسم لملازمتهم للمداهنة ، ثم قال (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) ، فعبر بالفعل لتحدد الرزق ، وتكرره واختلاف أنواعه.

قوله تعالى : (الْحُلْقُومَ).

ابن عطية : الحلقوم مجرى الطعام ، وعند الفقهاء : مجرى النفس فقط ، وهي الكرجومة ، ومجرى الطعام هو البلعوم ، وهو أبو حشيشة ، ويسمونه المريء.

قوله تعالى : (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ).

قيل : أي لا تبصروننا ، وقيل : لا تبصرون ملائكتنا ، قال السلمي في التذكرة :

هذه الآية تبطل مذهب المجسمة لا تأخذ أشخاصا متعددين يموتون في مواضع شتى متباعدة في زمن واحد ، فلو كان الله تعالى جسما ، للزم عليه حلول الواحد في الزمن الواحد في أماكن متعددة ، انتهى ، ويجاب بلزوم مثله في ملك الموت ، لأنه جسم ، وهو الذي يتولى قبض الأرواح كلها ، والدنيا بين يديه كالطبق بين يدي من يأكل منه.

قوله تعالى : (مَدِينِينَ).

أي غير مملوكين ، ولا مقهورين.

قوله تعالى : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ).

عبر عنهم بوصفهم ، وقال قبلها (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ، وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) ، فعبر عن الفريقين بحكمهم ، فهلا قيل هنا : وأما إن كان من أصحاب الشمال ، أو نحوه ، والجواب : أنه عبر عن الأولين بحكمهم ، لأنه لو عبر عنهم بوصفهم لا وهم إن ما رتب على ذلك من الثواب جزاء عما اتصفوا به من الطاعة ، ومذهبنا أن الثواب على الأعمال محض تفضيل من الله تعالى ، وعبر عن هؤلاء بوصفهم إشارة إلى أن تعذيب العاصي عدل ، وجزاء عن عمله ، فإن قلت : لم قدم التكذيب على الضلال ، وقال في أول السورة (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ) [سورة الواقعة : ٥٠] ، فقدم الضلال؟ فالجواب : أن الضلال أعم من التكذيب ، فيصدق على الضلال عن نفس الحق وعن الضلال عن طرقه ودلائله فبدأ هناك بالأعم

١٤٨

على الأصل ، وبدأ هنا بالأخص ووصفه بالضلال معرفا بالألف واللام التي للعهد مرادا به أخصه فهم عالمون مباهتون كافرون عنادا ، ضالون عن الحق لا عن دلائله وطرقه ، أجاب الفخر : بجوابين آخرين :

أحدهما : أن المراد هناك بالضلال إصرارهم عن الحنث العظيم ، وهو الشرك بالله تعالى ، والمراد بالتكذيب تكذيبهم الرسول في الحشر ، والبعث بقولهم (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [سورة المؤمنون : ٨٢] ، فجزاء على ترتيبه فيما قبلها جعل المتقدم متقدما ، وأما هنا فالمراد بها المكذبون بالحشر الضالون عن طريق الخلاص والنجاة ، ويرد بأن ذلك كذب لا تكذيب ، ويجاب : بأنه مستلزم للتكذيب.

الجواب الثاني : أن الخطاب في الأول للكفار ، أي (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ) [سورة الواقعة : ٥١] ، بالشرك المكذبون الرسالة ، والخطاب في هذه مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي وإما إن كان من الذين كذبوك فضلوا لسبب ذلك فقدم تكذيبهم تكرمه له حيث بين أقوى سبب في عقابهم ، ويدل على أن الخطاب له.

قوله تعالى : فيها (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ).

وهذا ينتج له بالعكس ، لأنه يكون ترقي في وصف الذم ، فهو أحسن من التدلي ، أو إنما الجواب : ما تقدم.

قوله تعالى : (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ).

فيه سؤال ، وهو أن النزل أول ما تقدم للضيف عند قدومه ، وقد أخبر عنهم أولا أنهم إما يشربون الحميم بعد أكلهم من شجرة الزقوم ، فهو ثان الأول ، وجوابه : إما بأنهم يشربون الحميم أولا ثم يأكلون الزقوم ، ثم يعادون شرب الحميم ، وإما بأن هذا [.....] ، فجعل أول متناولهم الحميم ، كما نجد بعض الناس يضطر على بعض الأشربة ، ثم يأكل الطعام بعد ذلك.

قوله تعالى : (حَقُّ الْيَقِينِ).

أبو حيان : هو من إضافة الصفة إلى الموصوف ، فيجوز عند الكوفيين والبصريون يقدرون مضافا ، أي حق الخبر اليقين ، ابن عطية ، قيل : إنه من باب دار الآخرة ، ومسجد الجامع ، وقيل : مبالغة وتأكيد كقولك هذا يقين اليقين ، وصواب الصواب ، أي نهايته ، وهو أحسن لأن دار الآخرة يقدر فيها مضافا ، أي دار النشأة الآخرة أو الراجعة الآخرة ، وهذا لا يتجه هنا ، بل المعنى أن الخبر هو يقين اليقين ، وحقيقة ، انتهى ، تقرير الفرق بينهما أن الحق إما أعم من اليقين ، أو مساو له ، ولا يصح أن

١٤٩

يكون أخص منه ، فإن كان أعم منه فهو ما قلناه : ولا يحتاج إلى تقدير مضاف ، وإن كان مساويا له لزم أحد الأمرين ، إما كون الأحكام الشرعية كلها يقينية ، وهو باطل ، وإما كونها ليست حقا ، فهو باطل ، فهو أعم من اليقين بلا شك.

قوله تعالى : (فَسَبِّحْ).

هذا الخطاب عام في كل من قرأ هذه الآية ، لأن الآيات العامة التعلق ، إنما يخاطب بها العموم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا" (١) ، انتهى ، هذا الحديث خرجه عبد الحق في الأحكام ، وصححه وضعفه ابن القطان.

__________________

(١) أخرجه الهيثمي في بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث حديث رقم : ٧١٦ ، والقاسم بن سلام الهروي في فضائل القرآن حديث رقم : ٤١٥ ، والحسين بن مسعود البغوي في معالم التتريل حديث رقم : ١٢١٤ ، وابن عبد البر القرطبي في التمهيد حديث رقم : ٧٩٨ ، وابن حجر العسقلاني في المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية حديث رقم : ٣٧٣٣ ، وأبو الفرج ابن الجوزي في العلل المتناهية حديث رقم : ١٤٧ ، وابن السني في عمل اليوم والليلة حديث رقم : ٦٧٤.

١٥٠

سورة الحديد

قوله تعالى : (سَبَّحَ).

الزمخشري ، والطيبي : ورد التسبيح في القرآن بلفظ الماضي ، والمضارع والأمر المصدر ، وقال (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [سورة الأعلى : ١] ، (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) [سورة الإسراء : ١] ، انتهى ، والتسبيح إما حقيقة وقع ما على أنواع ، لأنهم متنوعون إلى ملائكة وأنس وجن ، وإما مجازا ، وقرره بوجهين :

أحدهما : أن هذه الجمادات والأشجار إذا نظر إليها الناظر المعتبر ، وفكر في إبقائها وإحكامها يعتقد أن لها خالقا متصفا بصفات الكمال ، منزها عن النقائص ، فهي سبب في التسبيح ، ولا يصح أن تكون هي مسبحة حقيقة ، لئلا يلزم عليه أحد أمرين ، أفاد وقوع التسبيح من الجماد ، وإما قيام الحياة بالجماد ، وكلاهما باطل ، لأنه حالة التسبيح حي ليس جماد.

والثاني : أنها مسبحة بلسان الحال لافتقادها في كل زمان إلى الاستمداد بالعرض من الطعم ، واللون ، والرائحة ، وهذا هو الذي حكى المازري في الجوز في قضيته مع الشيخ أبي الحسن اللخمي ، لما قال المازري : إن الموجودات كلها تسبح فألزمه اللخمي أن الحصى يسبح ، وقال : نعم ، ويدخل تحت عموم قوله تعالى : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، نفسها ولا رضون إلا الفلك الاعلى المحيط بها ، فإنه ليس مما فيها ، وعطف الأرض على السماوات تأسيس ، وقلنا : والسماء بسيطة لأنها ليست مما في السماوات ، وتأكيد إن قلنا : أنها كروية ، وتنوع التأكيد أن دخولها في السماوات لا تدركه كل الناس ، بل الأفراد منهم والعلماء ، وهل التسبيح معنوي بلسان الحال ، أو بلسان المقال؟ وكما تقرر أن الوجود على أربعة أقسام : وجود في الأعيان ، ووجود في الأذهان ، ووجود في اللسان ، ووجود في البنان ، فإن قلت : التسبيح إنما هو معنوي علمي ، ولو كان بلسان المقال للزم عليه قدم العالم ، لأن العالم ........ (١) قلت : هذا لا يصح ، لانا نقول : وإنه تعالى سبح نفسه بنفسه واللام في لله للعلة ، والمعلول هو الله يقديره سبح لله لأجل الله ، أي نزه ذاته لذاته ، وإن حمل التسبيح على لسان الحال ، فلا تخصيص ، وإن حمل على للسان المقال ، فيخصص بمن ينافي منه التسبيح ، ولهذا أسند التسبيح للمظروف دون الظرف ، في قوله تعالى : (ما فِي الْأَرْضِ).

__________________

(١) طمس في المخطوطة.

١٥١

قوله تعالى : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

العزة الامتناع ، وهو قسمان : إما يكون الشيء قليلا في ذاته لا يمكن أن يكبر كثيرا ، أو إما بكونه لا يقدر أحد على الوصول إليه ، والتسبيح يقتضي اتصاف الله تعالى بصفات الكمال لا بعده عن النقائص ، فهو ممتنع عن النقائص مرتفع عن درجتها فناسب العزة ، ثم إن الصفات قسمان : ثبوتية وسلبية ، والصفات السلبية أسهل من الصفات الثبوتية ، ولأجل هذا لم يخالف أحد في السلبية ، واختلفوا في الثبوتية ، فأنكرها المعتزلة ، وأثبتها أهل السنة ، والحال أيضا اختلفوا فيها فمنهم من أنكرها ، ومنهم من أثبتها ، ومنهم من وقف فيها ، والتسبيح من الصفات السلبية ، فإذا عقبت معانه السلبية بالعزة ، وهو امتناعها من أن تعلم ويدرك كنهها مع سهولتها ، فأحرى الثبوتية المختلفة لها ، فإن قلت : المشاكلة بين المعطوفين ، فإن المعطوف عليه جملة فعلية ، والمعطوف جملة اسمية ، قلت : المشاكلة معنوية ولفظية ، فاللفظية الإعرابية ، وهي مفقودة هنا ، وأما المشاكلة المعنوية فموجودة ، وتقديرها أن التسبيح معلل بمضمون جملة (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، أي سبح لكونه ذا العزة والحكمة ، وهو دليل مدلول وبينهما تناسب في المعنى ، فلذلك حسن العطف دون المشاكلة اللفظية.

قوله تعالى : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ).

المراد بالملك إما المصدر ، أو المملوك.

قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ).

تقرر في المعقول أن الأولية على ثلاثة أقسام : إما بالزمان ، أو بالوجود ، أو بالذات ، فبالزمان كالأب مع الابن ، وبالوجود كالصانع بالنسبة إلى موضوعه ، وبالذات كحركة الإصبع والخاتم في زمان واحد ، إذ لو كان أحدهما قبل الآخر ، للزم عليه تداخل الأجسام ، وهو دخول الإصبع في جسم الخاتم ، فدل على أن أولية الإصبع على الخاتم [٧٤ / ٣٦٥] بالذات والأولية هنا في الآية إما بالذات ، أو بالموجود فقط.

قوله تعالى : (وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ).

الظاهر بما نصب من الأدلة الدالة على وجوده ، وكمال صفاته الباطن ، فلا يدرك أحد كنه صفاته ، ابن عطية : الباطن بلطفه وغوامض حكمته ، وباهر صفاته التي لا تدركها الأوهام ، الزمخشري : الباطن لكونه غير مدرك بالحواس ، ورد بها على أهل السنة الذين جوزوا رؤية الله تعالى في الدار الآخرة بحاسة البصر ، الطيبي : عن صاحب الانتصاف جوابه : أن هذه أدلة سمعية لا تنتج إلا الظن ، فما يصح الاستدلال بها في

١٥٢

الأمور القطعية ، الاعتقادية انتهى ، يرد بلزومه في عز هذا ، لأن كثيرا من قواعد أصول الدين استدلوا فيها بالأدلة السمعية ، ويجب الإيمان بها ، وقبولها إلا أن يقال : إن الأدلة السمعية كثرت وانضاف إلى هذا الدليل السمعي دليل آخر حتى صار قريبا من القطعي ، فحينئذ يتم ذلك ، وإنما جاء هذا من تفسير الباطن لما قال الزمخشري ، وأما على تفسير ابن عطية : فيسقط احتجاجه بالآية ، ويجاب نصا : بأن هذه الصفة عامة في الأشخاص مطلقا في الأزمنة والأحوال ، فيصدق وصفه بالباطن على نفي الرؤية في الدنيا فقط ، وله أن تجب بأن هذه الصفات المعنوية التي لا تقارن الذات فيستحيل عليها التبدل والزوال ، وقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [سورة الأنعام : ١٠٣] ، احتج بها المعتزلة على نفي الرؤية ، وأجاب أصحابنا : بأنه إنما نفى الإدراك ، وهو أخص من مدرك الرؤية ، وإنما يلزم نفي الرؤية ، إن لو قال : لا يناله الأبصار ، فإن قلت : الحكمة إدخال الواو فهلا قيل : (وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) ، فالجواب : أن الصفات عندهم إذا كانت متقاربة المعنى كانت بغير واو ، وإن كانت متضادة المعنى فصل منها الواو في الآية ، قلت : معناها الجمعية ، انتهى ، أراد أنك إذا قلت : رأيت زيدا الخياط الحسن الفاره ، أفاد الجمعية في الذات بمعنى أنه جمع هذه الأوصاف ، وأن قلت : الخياط والنجار والحسن ، أفاد الجمعية في لذات ، بمعنى أنه في كل زمن له حسن ، وخياطه ، وفراهة ، والله سبحان وتعالى موصوف بالأزلية حين اتصافه بالآخرية ، وموصوف بالظهور حين اتصافه بالخفاء ، قالوا : والأولى والثانية للجمع بين الصفتين ، والواو الثانية للجمع بين مجموع الصفتين الأوليين ، وبين مجموع الصفتين الآخرتين ، وهذا احتراز من أن تكون الثانية للجمع بين الصفات الثلاث ، والواو الثالثة للجمع بين الصفات الأربع ، فقوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) ، جملة أصل في نفسها مستقلة ، وقوله (وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) ، جملة أخرى مستقلة ، فعطف الباطن فيها على الظاهر من عطف صفة مفردة على صفة مفردة ، ثم جمعت الواو بين الجملتين ، فتقول : جاء زيد الخياط ، والنجار ، والنساج ، والجزار ، لأنه لا يمكنه الجمع بينها في زمن واحد ، وتقول : جاء زيد المصلي ، الصالح ، الداري ، الخاشع ، لاجتماعها فيه في زمن واحد ، وانظر ما قال الزمخشري في قوله تعالى : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) [سورة غافر : ٣] ، وما ذكروا في قول الشاعر :

النازلين بكل معترك

والطيبون معاقد الأزر

وتكلم عليها السماكي.

قوله تعالى : (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

١٥٣

ابن عطية : هذا من العام الباقي على عمومه ، انتهى ، قال شيخنا : وكانوا يحكون عن الفقيه أبي فارس الزروالي عن الإمام أبي عمرو بن الحاجب ، أنه قال : الأحسن يمتثل ذلك بآية يؤخذ منها حكم شرعي ، قال : ومثاله قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) [سورة البقرة : ٢٢١] ، قال : وأخبرت به شيخنا أبا عبد الله محمد السبطي ، فقال : الآية مخصوصة بمسلم له اختار ابنة نصرانية ، فالمشهور أنه لا يزوجها من نصراني ، لقوله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [سورة الأنفال : ٧٢] ، وقيل : إن له ذلك فعلى هذا القول تكون الآية مخصوصة بهذا ، قيل للسبطي : إنما معنى الآية ولا تنكحوا المشركات المسلمات ، فأجاب : بأنهم ذكروا في صورة التخصيص كونه بالبدل أو بالاستثناء ، أو بالصفة ، والمسلمات هنا صفة لأن تقريره ولا تنكحوا النساء المسلمات ، قيل : وهي أيضا مخصوصة بإنكاح المسلم ابنة الكتابية من مشرك ، على أن هذا قد اتفق عليه ، وكذا قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) [سورة النساء : ٢٢] ، بأن على عمومه إلا أن يقال : إنه مخصوص قوله من النساء ، فيجاب : بأن ذلك ليس استثناء بل هو من أصل اللفظ ، وكذا قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) [سورة الإسراء : ٣٢] ، عام ومثله بعضهم بقوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما) [سورة النور : ٢] ، ورد عليه بالمنكرة على الزنا ، لأنه لا يجلد ، قال شيخنا : ومثاله الحقيقي عندي قوله تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) [سورة الأعراف : ١٨٦].

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ).

إسناد الفعل بطريق الخبر يتضمن الدعوى في أمرين :

أحدهما : مجرد إسناد كمن قام به ، والثاني : برهان كون هذا المسند إليه أهل للإسناد الحقيقي كقولك : صنع فلان قوسا يرى ، أو تقول : صنع فلان قوسا ، فالأول : يقتضي الإسناد ، والبرهان ، وهو كونه محكما في صنعته غاية بحيث لا يصدر عن غيره ، والثاني : ليس إلا مجرد الإسناد ، فهل الآية من الأول ، والثاني؟ فإن قال المجيب من الأول أخطأ ، وإن قال من الثاني أخطأ ، ولا بد من التفصيل ، فيقال : إن نظرنا إلى أول الآية فمن الثاني ، وإن نظرنا إلى آخرها ، لقوله تعالى : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ، فمن الأول ، وخص الستة.

قال القرافي : لأنها أول الأعداد التامة ، لأن لها نصف وثلث وسدس ، وذلك يساوي جملتها ، إذا جمعت تلك الأجزاء ، والعدد على ثلاثة أقسام تام الأجزاء كالستة ، وناقص الأجزاء فثمانية لأن ثمنها ونصفها وربعها سبعة ، وزائد الأجزاء كاثني

١٥٤

عشر نصفها وربعها وسدسها ، وحذف سدسها خمسة عشر حسبما ذكره العدديون ، وذكر القرافي في قواعده : والخلق في مقدار هذه الأيام لا فيها إذ لا أيام حينئذ ، ولا شمس ولا قمر ، وتحديد الخلق بهذا المقدار مع قدرته تعالى على أن يخلقها كلها في زمن واحد منهم وقف فيه ، وقال : لا يدرك حكمته إلا الله عزوجل ، وفيه تنبيه للإنسان على الثاني في أموره ، والاهتداء والطمأنينة ، كما ورد في الشرع ذم العجلة ، قال تعالى (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) [سورة الأنبياء : ٣٧] ، وقال : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) [سورة الإسراء : ١١].

قوله تعالى : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ).

أي يولج الليل في زمن النهار ، أي أن الزمان الذي كان نهارا يصير بعضه ليلا ، والزمان الذي كان ليلا يصير بعضه نهارا ، وهذا إن قلنا : إن الأرض بسيطة ، فهو متحد في كل البلاد ، وإن قلنا : أنها كروية فهو بحسب الأقطار ، فإيلاج كل قطر بحسبه ، ونظير هذه الآية في سورة لقمان ، وسيأتي الكلام فيها ........ (١)

قوله تعالى : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ).

إما خطاب للمشركين أو للمؤمنين ، أي ما لكم لا تدوموا على إيمانكم ، ويحتمل أن يكون خطابا للمنافقين الذين آمنوا في الظاهر ، وكفروا في الباطن ، الفخر : فيها دليل المعتزلة على أن العبد له قدرة واختيار ، إذ لا يقال ذلك إلا لمن يتمكن من العقل كما لا يقال ما لك لا تطول ولا تقتصر نقله عن القاضي عن الجبار ، ويجاب : بأن ذلك إنما يقتضي أن للعبد في الفعل الكسب ، وهو العلم بما في الفعل من مصلحة ، أو مفسدة ، وهو مذهبنا وحقه أن يقول فيها رد على المجبرة القائلين : بأن الإنسان حركته كحركة العرضي ، الفخر : وفيها دليل على أن معرفة الله تعالى ، والإيمان به لا يحسان إلا بالسمع ، انتهى ، أما ما يرجع إلى ذات الله تعالى وصفاته فمستفاد من العقل ، وما يرجع إلى المعاد والدار الآخرة مستفاد من السمع.

قوله تعالى : (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ).

__________________

(١) وردت في الحاشية : قوله تعالى فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ، قيل : ما أفاد المجرور وهو منكم ، أجيب بأن ذكره يتضمن إزالة وحشة عن المخاطب ، إذ كان سبق منه كثرة الرد والطعن في الإسلام فصرح به ليقضي شوق المخاطب فإن ما كان صدر منه مستعار له الإسلام ، وقد أثبتناها.

١٥٥

أعربوه حالا ، ولا يرد عليه أن الشيخ في دلائل الإعجاز صرح بأن الموصوف يوصف إذا توجه نحو الإنكار ، لا يلزم ثبوت الإنكار عليه مع عدم ذلك الوصف ، مثاله قولنا : مالك يضرب زيدا ، وعمرو حاضر ، فلا يلزم منه إنكار ضربه مع غيبة عمرو عنه ، وهنا في الآية أنكر عليهم عدم الإيمان مع الرسول داعيا لهم ، ولا يلزم منه ذلك مع عدم الدعوة ، فالجواب : أن الرسالة لما كانت لازمة الإيمان لا ينفك عنه لم يتصور حصول إيمان بدونها ، الزمخشري : الرسول يدعوكم إليه وينهاكم عليه ، انتهى ، اعتزل في لفظ ينهاكم ، لأنه يقول : أن العقل وحده لا يستقل بالدلائل على معرفة الله تعالى مع السمع ، ونحن نقول : واحد منهما دليل على ذلك مستقل ، فجعل هنا السمع منبها على ما فات العقل ، ومذكرا لما نقصه.

قوله تعالى : (وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ).

الزمخشري : حيث ركبت فيكم العقول وقصد [٧٤ / ٣٦٦] لكم الأدلة ، ومكنكم النظر ، وأزاح عللكم فما لكم لا تؤمنون ، ابن عطية : أخذ عليكم العهد حين الإخراج من ظهر آدم يوم قال (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [سورة الأعراف : ١٧٢] ، انتهى ، هذا ظاهر من لفظ الميثاق بعيد من المعنى ، والأول ظاهر في المعنى بعيد من لفظ الميثاق ، ونقل الفخر هذا التفسير عن عطاء ، ومجاهد ، والكلبي ، وضعفه بأنه تعالى ذكر أخذ الميثاق عليهم إبطالا لما قد يعتذرون به عن عدم الإيمان ، وأخذ الميثاق حين الإخراج من ظهر آدم لا تعلم إلا بقول الرسول ، فقيل : معرفة صدق الرسول لا يكون ذلك سببا في وجوب تصديق الرسول ، أما نصب الدلائل فمعلوم لكل أحد ، فإن قلت : ما قاله ابن عطية يلزم عليه الدور ، فإن أخذ عليهم في ظهر آدم إنما علموه من السمع لا من العقل ، وهم يكذبون للسمع مخالفون فيه فالجواب : بأن ذلك إنما يلزم أن لو قيل لهم وما لكم لا تؤمنون بالله ورسوله ، وهم إنما وبخوا على ترك الإيمان بالله حالة دعاء الرسول لهم ، وإعلامه إياهم بتقدم وأخذ العهد عليهم يوم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [سورة الأعراف : ١٧٢] ، الطيبي : ويحتمل أن يريد أخذ ميثاقكم جميعكم إياه على السمع والطاعة والخطاب للمؤمنين ، انتهى ، وقرأ الجمهور أخذ مبنيا للفاعل ، وقرأ أبو عمرو مبنيا للمفعول ، ابن عطية : والمخاطبة بالبناء للمفعول أشد غلظة على المخاطب ، ونحوه قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) [سورة هود : ١١٢] ، وكما تقول لا تفعل ما قيل لك ، فهو أبلغ من قولك افعل ما قلت لك ، انتهى ، بل الصواب لعكس بدليل أن ابن الحاجب : إذا أراد ترى من قول يقول قالوا : كذا وكذا ، وإذا ارتضاه يقول قولنا : كذا.

١٥٦

قوله تعالى : (عَلى عَبْدِهِ).

في لفظ العبد رد على الحكماء القائلين : بأن للأنبياء اختصاصا زيادة في ذاتهم بالطبع ، ونحن نقول النبوة ، إنما هي فضل الله يؤتيه من يشاء ، ولا خصوصية لهم في ذواتهم ، فعبر بلفظ العبد تنبيها على أنه من جنس العبيد.

قوله تعالى : (آياتٍ بَيِّناتٍ).

ويحتمل أن يريد القرآن والمعجزات ، فإن قلت : كيف يفهم هذا مع قوله تعالى :

(مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) [سورة آل عمران : ٧] ، هي تنبيه على الجملة من حيث فصاحتها ورصافتها ودلالتها على حكمة منزلها.

قوله تعالى : (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ).

أفعال الله الراجعة لذاته ، غير معللة ، وأما ما يتعلق بالمكلفين فهي معللة عند المعتزلة عقلا ، وعندنا نحن يجوز تعليلها شرعا ، فأتى هذا على أحد الجائزين فهو من باب ربط شيء بشيء ، لا على معنى التعليل ، الفخر : قال القاضي : فيها حجة للمعتزلة القائلين بأن الله تعالى لم يرد الكفر ، بقوله تعالى : (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ) ، فظاهرها أنه أنزل الآيات ليؤمن الجميع ، فآمن البعض ، ودام الآخرون على كفرهم ، انتهى ، يجاب : بأن المراد آيات بينات صالحة لأن يخرجكم بها من الظلمات إلى النور ، أو هي سبب لإخراجكم من الظلمات إلى النور.

قوله تعالى : (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).

تقدم في سورة براءة تقديم الرءوف على الرحيم في الذكر من كلام الفخر ابن الخطيب في شرح الأسماء الحسنى.

قوله تعالى : (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ).

إن قلت : لم قال قيل : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ) بلفظ المضارع المحتمل للحال ، والانتقال ، وقال هنا : لكم أن تنفقوا بلفظ المستقبل ، لأن أن تخلص الفعل للاستقبال بلا خلاف ، وإما لا فختلف فيها هل تلخصه للاستقبال أو لا؟ وعلى تقدير تسليم أن لا تخلص الفعل للاستقبال اكتفائها في الآيتين ، فلم زيدت معها هنا أن ، فالجواب : أن الإيمان يمكن حصوله من المكلف في الحال ، لأنه من أفعال القلوب ، فناسب لفظ الحال ، والنفقة في سبيل الله لا يقدر المكلف على فعلها حين الأمر بها ، بل في الاستقبال ، ولا سيما مع قولهم إن المراد النفقة في الجهاد ، وهذا معلوم بالضرورة لأنا الآن في زمن جلوسنا إذا أمرنا أحدنا باعتقاد رجل أو تصديقه أو تكذيبهم ، يمكننا

١٥٧

تحصيل ذلك فأجزأ في الحال ، وإذا قال لنا : انفقوا كذا في كذا لا يمكننا إيقاعه ، إلا بعد تراخ ، فناسب دخول أن هنا مخلصة للاستقبال ، ومؤكدة له.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

إشارة إلى أن المال الذي عندهم إنما هو عارية فعليهم بإنفاقه في سبيل الخيرات ، لأنه زائل عنهم.

قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي).

الآية إن كانت نزلت قبل الفتح فواضح كونها تحريضا على الإنفاق ، والقتال في تحصيل ثوابها ، وإن كانت بعد الفتح ففهم كونها تحريضا فيه صعوبة ، بل المتبادر للمفهوم أنها تحرض على تلافي ما مضى ، فالجواب : أن الآية لما تضمنت تشريف القسم المقابل كان تحريضا ، إذ هم عام في البعدية إلى يوم القيامة أو مقابل قوله (مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) ، وهذه البعدية صادقة في سائر الأزمان فينبغي للمكلف تحصيل صادقيتها ليكون أحد المقابلين للأفضل ، ونص في الآية على نفي مساواة من جمع الوصفين ، قبل الفتح لفعل مثله بعده ، فمن أنفق قبله ، ولم يقاتل ، هل يساوي من قاتل بعده ولم ينفق؟ لأن بذل النفس أعظم ثوابا من بذل المال ، فهل يعدل فضيلة ذلك فضل السبقية أولا فيه نظر ، فإن قلت : من في قوله (مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) ، وقوله (مِنْ بَعْدُ) لابتداء الغاية ، فهي لأول أزمنة القبلية والبعدية ، وتضمنت الآية نفي مساواة من أنفق في أول الأزمنة المتقدمة على الفتح ، لمن أنفق في أول الأزمنة المتأخرة عنه ، مع أن المساواة منتفية بين من أنفق قبله مطلقا ، وبين من أنفق بعده مطلقا ، فالجواب : أن كل ما ثبت لأحد المتساوين ثبت للآخر ، ومن إنما دخلت لتأكيد معنى السبقية ، وهذا يقع في القرآن على وجهين ، فتارة تنفي المساواة ويعين وجه المفاضلة بينهما كهذه الآية ، وكقوله تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [سورة الحشر : ٢٠] ، وتارة لا يعين وجه التفاوت بينهما ، كقوله تعالى : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) [سورة المائدة : ١٠٠] ، وقوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) [سورة فاطر : ١٩ ـ ٢١] ، الفخر في المحصول : قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) [سورة الحشر : ٢٠] ، لفظ المساواة بينهم في الآية مطلق ، فهو أعم من عدم استوائهم في الأحكام الأخروية من النعم والعذاب ، أو في الأحكام الدنيوية من القصاص ، والإجرام وغيره ، والأعم لا شعار له بالأخص ، وبنى عليه مساواة الكافر للمؤمن في

١٥٨

القصاص ، وأورد عليه السراج تنكيتا بأن نفي الأعم أخص من نفي الأخص ، فالنفي عام في جميع صور المساواة كقولك : لا حيوان في الدار انتهى ، ويرد أيضا على الفخر بهذه الآية لإجماعنا على مساواة من أنفق من قبل الفتح ، لمن أنفق بعده في حكم القصاص ، فترى نفس المساواة بينهما لم يعم جميع الوجوه ، قلنا : يستدل بهذا على عدم تلك الآية ، فينتج مساواة الكافر للمؤمن في القصاص.

قوله تعالى : (أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً).

فإن قلت : قاعدة البيانيين في حسن الإيلاف مراعاة المشاكلة في الألفاظ ، والمناسب للدرجات العلو ، فيقال : درجة فلان ، ومنزلته أعلى من درجة فلان ، ويقال : قدر فلان أعظم من قدر فلان ، فهلا قيل : هنا أولئك أعلى درجة ، فالجواب : أن قوله أعظم اقتضى التفاوت بينهما في القدر وعلو الدرجات ، فهو أعم فائدة.

قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ).

إثباته بلفظ الاستفهام دليل على عظم هذه الفضيلة ، لأن الغني بذاته إذا طلب شيئا بلفظ السؤال فهو تنبيه على عظم الثواب المعد عليه ، وأنه محبوب له مرغب فيه ، بحيث يسأل عمن يفعله مع علمه به حسنا أي لوقوعه بنية مخلصة ، وذكر الفخر فيه وجوها كلها راجع إلى حسن النية ، وهو مناسب لما تقدم ، لأن أولئك إنما علت منزلتهم بالسبقية في الإيمان لبذلهم نفوسهم وأموالهم في نصرة دين الله ، حيث لا يأمر فدل على قوة إخلاصهم ، وحسن نيتهم ، وهذه الآية تذييل وتبيان لما أشعرت به الآية السابقة.

قوله تعالى : (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ).

قيل : أخر النور هنا ، وقدمه في سورة التحريم ، أجيب : بأن المقصود هناك الذوات بخلاف هذه ، فإن المقصود فيها بيان شرف المؤمنين ، فناسب الاعتناء بذكر الصفة وغلب الإيمان على الشمائل ، والمراد أن نورهم يعم جميع جهاتهم يمينا وشمالا ، أو يقال : أن بين أيديهم يعم اليمين والشمال ، وعطف عليه بإيمانهم تشريفا لجهة اليمين بالذكر ، قيل : وفي الآية رد على ابن حزم القائل : إن العاصي يأخذ كتابه بشماله ، لأنه تعالى جعل مجرد وصف سببا لأخذ الكتاب باليمين قوله تعالى : (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ) ، [٧٤ / ٣٦٧] أي دخول جنات.

قوله تعالى : (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ).

فيها سؤالان :

١٥٩

الأول : لم عبر عن المنافقين بالاسم ، وعن المؤمنين بالفعل؟ وهلا قال : الذين نافقوا كما قال : (لِلَّذِينَ آمَنُوا).

السؤال الثاني : لم أسند الفعل في المنافقين للمذكر والمؤنث؟ وأسنده في المؤمنين للمذكر خاصة؟ وهلا قال (لِلَّذِينَ آمَنُوا) واللاتي آمن ، والجواب : عن الأول من ثلاثة أوجه :

الأول : مراعاة المشاكلة بقوله فيما تقدم (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ).

الثاني : أنهم طلبوا ذلك ممن اتصف بمطلق الإيمان ، فيتناول على المؤمنين ، وأدناهم ، ولو قال (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ) ، للمؤمنين ، لما تناول الأول من اتصف بأعلى مراتب الإيمان واعترض هذا بأنه يلزم عليه في الظرف الآخر ألا يكون طلب هذا إلا من اتصف بإنفاق بمطلق لإنفاق لاحتاج إلى طلب ذلك ، أو بطلب ذلك ، فيستعف به مع أن الكل لا ينفعهم ذلك ،

الجواب الثالث : أن المؤمنين على مراتب ، والمنافقون لا يستطيعون الوصول إلى أعلاهم لبعدهم عنه ، وإنما يصلون إلى أدناهم لقربهم منهم ، فذلك قال : (لِلَّذِينَ آمَنُوا) فعلقه بمطلق الإيمان لكن يبقى فيه إن كان يقول يوم يقول الذين نافقوا ، والجواب عن السؤال الثاني : إما بأن المذكور أعلى منزلة ، والنساء لسن من جنس من يطلب منهن ذلك ، وإما بأنهن محجوبات عنهن ، فلا يصلون إليهن.

قوله تعالى : (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ).

ليس المراد الحقيقة ، بل المجاز أي نستضيء بنوركم ، لأن الاقتباس من السراج هو أن [...] سراجك ، وهم ليس عندهم سراج يقدونه ، فإنما هو ينهونهم أو أمر بالرجوع ورائهم حقيقة.

قوله تعالى : (فَالْتَمِسُوا نُوراً).

صيغة افعل هنا إما للإهانة أو للتعجيز ، وهو الظاهر ، والتنكير في نور للتعليل أو تحقيرا لهم ، وأنهم في التماسهم له غير صائبين ، فإن قلت : عدل عن المطابقة ، ولم يقل اقتبسوا نورا ، وهو المطابقة لقولهم (نَقْتَبِسْ) ، قلت : لأن الاقتباس يقتضي وجود المقتبس منه ، وهو ثابت في حق المؤمنين موجود ، ولما كان معدوما في جانب المنافقين خاطبهم بقوله (فَالْتَمِسُوا) لأن الالتماس لا يقتضي الوجود.

قوله تعالى : (نُوراً).

١٦٠