روح المعاني - ج ١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

أخذ في كلام آخر وكونه عائدا إليه تعالى ـ أي قال الله : (فَأُمَتِّعُهُ) يا قادر يا رازق خطابا لنفسه على طريق التجريد ـ بعيد جدا لا ينبغي أن يلتفت إليه.

(ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) الاضطرار ضد الاختيار وهو حقيقة في كون الفعل صادرا من الشخص من غير تعلق إرادته به كمن ألقى من السطح مثلا مجاز في كون الفعل باختياره لكن بحيث لا يملك الامتناع عنه بأن عرض له عارض يقسره على اختياره كمن أكل الميتة حال المخمصة وبكلا المعنيين قال بعض ، ويؤيد الأول قوله تعالى : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) [الطور : ١٣] و (يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) [القمر : ٤٨] و (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) [الرحمن : ٤١] ويؤيد الثاني قوله تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧١] (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١] الآية و (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) [الأنبياء : ٩٨] والتحقيق أن أحوال الكفار يوم القيامة عند إدخالهم النار شتى وبذلك يحصل الجمع بين الآيات وإن الاضطرار مجاز عن كون العذاب واقعا به وقوعا محققا حتى كأنه مربوط به ، قيل : إن هذا الاضطرار في الدنيا وهو مجاز أيضا كأنه شبه حال الكافر الذي أدرّ الله تعالى عليه النعمة التي استدناه بها قليلا إلى ما يهلكه بحال من لا يملك الامتناع مما اضطر إليه فاستعمل في المشبه ما استعمل في المشبه به وهو كلام حسن لو لا أنه يستدعي ظاهرا حمل (ثُمَ) على التراخي الرتبي وهو خلاف الظاهر ، وقرأ ابن عامر ـ اضطره ـ بكسر الهمزة ، ويزيد بن أبي حبيب ـ اضطره ـ بضم الطاء وأبيّ ـ نضطره ـ بالنون ، وابن عباس. ومجاهد على صيغة الأمر ، وابن محيصن ـ أطره ـ بإدغام الضاد في الطاء خبرا ـ قال الزمخشري ـ وهي لغة مرذولة لأن حروف ضم شفر يدغم فيها ما يجاورها دون العكس ، وفيه أن هذه الحروف أدغمت في غيرها فأدغم أبو عمرو الراء في اللام في (نَغْفِرْ لَكُمْ) [البقرة : ٢٨٤ ، الأعراف : ١٦١] والضاد في الشين في ـ (لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) ـ والشين في السين في (الْعَرْشِ سَبِيلاً) [الإسراء : ٤٢] والكسائي الفاء في الباء في (نَخْسِفْ بِهِمُ) [سبأ : ٩] ونقل سيبويه عن العرب أنهم قالوا ـ مضطجع ومطجع ـ إلا أن عدم الإدغام أكثر ، وأصل اضطر على هذا على ما قيل : اضتر فأبدلت التاء طاء ، ثم وقع الإدغام (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) المخصوص بالذم محذوف لفهم المعنى أي ـ وبئس المصير النار ـ إن كان المصير اسم مكان وإن كان مصدرا على من أجاز ذلك فالتقدير وبئست الصيرورة صيرورته إلى العذاب (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ) عطف على (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) وإذ للمضي وآثر صيغة المضارع مع أن القصة ماضية استحضارا لهذا الأمر ليقتدي الناس به في إتيان الطاعات الشاقة مع الابتهال في قبولها وليعلموا عظمة البيت المبني فيعظموه (الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) القواعد جمع قاعدة وهي الأساس كما قاله أبو عبيدة صفة صارت بالغلبة من قبيل الأسماء الجامدة بحيث لا يذكر لها موصوف ولا يقدر من القعود بمعنى الثبات ، ولعله مجاز من المقابل للقيام ، ومنه قعدك الله تعالى في الدعاء بمعنى أدامك الله تعالى وثبتك ، ورفع القواعد على هذا المعنى مجاز عن البناء عليها إذ الظاهر من رفع الشيء جعله عاليا مرتفعا ، والأساس لا يرتفع بل يبقى بحاله لكن لما كانت هيئته قبل البناء عليه الانخفاض ولما بني عليه انتقل إلى هيئة الارتفاع بمعنى أنه حصل له مع ما بني عليه تلك الهيئة صار البناء عليه سببا للحصول كالرفع فاستعمل الرفع في البناء عليه واشتق من ذلك (يَرْفَعُ) بمعنى يبنى عليها ، وقيل : (الْقَواعِدَ) ساقات البناء وكل ساق قاعدة لما فوقه ، فالمراد برفعها على هذا بناؤها نفسها ، ووجه الجمع عليه ظاهر وعلى الأول لأنها مربعة ولكل حائط أساس ، وضعف هذا القول بأن فيه صرف لفظ (الْقَواعِدَ) عن معناه المتبادر وليس هو كصرف الرفع في الأول ، وقيل : الرفع بمعنى الرفعة والشرف ، و (الْقَواعِدَ) بمعناه الحقيقي السابق فهو استعارة تمثيلية ـ وفيه بعد ـ إذ لا يظهر حينئذ فائدة لذكر (الْقَواعِدَ). و (مِنَ) ابتدائية

٣٨١

متعلقة ب (يَرْفَعُ) أو حال من (الْقَواعِدَ) ولم يقل قواعد البيت لما في الإبهام والتبيين من الاعتناء الدال على التفخيم ما لا يخفى.

(وَإِسْماعِيلُ) عطف على (إِبْراهِيمُ) ، وفي تأخيره عن المفعول المتأخر عنه رتبة إشارة إلى أن مدخليته في رفع البناء ، والعمل دون مدخلية إبراهيم عليه‌السلام ، وقد ورد أنه كان يناوله الحجارة ، وقيل : كانا يبنيان في طرفين أو على التناوب ، وأبعد بعضهم فزعم أن (إِسْماعِيلُ) مبتدأ وخبره محذوف أي يقول : ربنا ، وهذا ميل إلى القول بأن إبراهيم عليه‌السلام هو المتفرد بالبناء ولا مدخلية لإسماعيل فيه أصلا بناء على ما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان إذ ذاك طفلا صغيرا ، والصحيح أن الأثر غير صحيح ، هذا وقد ذكر أهل الأخبار في ماهية هذا البيت وقدمه وحدوثه ، ومن أي شيء كان باباه ، وكم مرة حجه آدم ، ومن أي شيء بناه إبراهيم ، ومن ساعده على بنائه ، ومن أين أتي بالحجر الأسود؟؟؟ أشياء لم يتضمنها القرآن العظيم ، ولا الحديث الصحيح ، وبعضها يناقض بعضا ، وذلك على عادتهم في نقل ما دب ودرج ، ومن مشهور ذلك أن الكعبة أنزلت من السماء في زمان آدم ، ولها بابان إلى المشرق والمغرب فحج آدم من أرض الهند واستقبلته الملائكة أربعين فرسخا فطاف بالبيت ودخله ثم رفعت في زمن طوفان نوح عليه‌السلام إلى السماء ثم أنزلت مرة أخرى في زمن إبراهيم فزارها. ورفع قواعدها وجعل بأبيها بابا واحدا ثم تمخض أبو قبيس فانشق عن الحجر الأسود ، وكان ياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة نزل بها جبريل فخبئت في زمان الطوفان إلى زمن إبراهيم فوضعه إبراهيم مكانه ثم اسود بملامسة النساء الحيض ، وهذا الخبر وأمثاله إن صح ـ عند أهل الله تعالى ـ إشارات ورموز لمن (أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق : ٣٧] فنزولها في زمن آدم عليه‌السلام إشارة إلى ظهور عالم المبدأ والمعاد ومعرفة عالم النور وعالم الظلمة في زمانه دون عالم التوحيد ، وقصده زيارتها من أرض الهند إشارة إلى توجهه بالتكوين ، والاعتدال من عالم الطبيعة الجسمانية المظلمة إلى مقام القلب ، واستقبال الملائكة إشارة إلى تعلق القوى النباتية والحيوانية بالبدن وظهور آثارها فيه قبل آثار القلب في الأربعين التي تكونت فيها بنيته وتخمرت طينته أو توجهه بالسير والسلوك من عالم النفس الظلماني إلى مقام القلب ، واستقبال الملائكة تلقي القوى النفسانية والبدنية إياه بقبول الآداب والأخلاق الجميلة ، والملكات الفاضلة ، والتمرن والتنقل في المقامات قبل وصوله إلى مقام القلب ، وطوافه بالبيت إشارة إلى وصوله إلى مقام القلب وسلوكه فيه مع التلوين ، ودخوله إشارة إلى تمكينه واستقامته فيه ، ورفعه في زمن الطوفان إلى السماء إشارة إلى احتجاب الناس بغلبة الهوى وطوفان الجهل في زمن نوح عن مقام القلب ، وبقاؤه في السماء إشارة إلى البيت المعمور الذي هو قلب العالم ونزوله مرة أخرى في زمان إبراهيم إشارة إلى اهتداء الناس في زمانه إلى مقام القلب بهدايته ، ورفع إبراهيم قواعده وجعله ذا باب واحد إشارة إلى ترقي القلب إلى مقام التوحيد إذ هو أول من أظهر التوحيد الذاتي المشار إليه بقوله تعالى حكاية عنه : (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الإنعام : ٧٩] والحجر الأسود إشارة إلى الروح التي هي أمر الله عز شأنه ويمينه ، وموضع سره ، وتمخض أبي قبيس وانشقاقه عنه إشارة إلى ظهوره بالرياضة وتحرك آلات البدن باستعمالها في التفكر والتعبد في طلب ظهوره ، ولهذا قيل : خبئت أي احتجبت بالبدن ، واسوداده بملامسة الحيض إشارة إلى تكدره بغلبة القوى النفسانية على القلب ، واستيلائها عليه ، وتسويدها الوجه النوراني الذي يلي الروح منه. ولو ترك القطا ليلا لناما (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) أي يقولان (رَبَّنا) وبه قرأ أبيّ والجملة حال من فاعل (يَرْفَعُ) وقيل : معطوفة على ما قبله بجعل القول متعلقا ل (إِذْ) والتقبل مجاز عن الإثابة والرضا لأن كل عمل يقبله الله تعالى فهو يثيب صاحبه ويرضاه منه ، وفي سؤال الثواب على العمل دليل على أن ترتبه عليه ليس واجبا ، وإلا لم يطلب ، وفي اختيار صيغة التفعل اعتراف بالقصور

٣٨٢

لما فيه من الإشعار بالتكلف في القبول ، وإن كان التقبل والقبول بالنسبة إليه تعالى على السواء إذ لا يمكن تعقل التكلف في شأنه عز شأنه ، ويمكن أن يكون المراد من التقبل الرضا فقط دون الإثابة لأن غاية ما يقصده المخلصون من الخدم لوقوع أفعالهم موضع القبول والرضا عند المخدوم ، وليس الثواب مما يخطر لهم ببال ، ولعل هذا هو الأنسب بحال الخليل وابنه إسماعيل عليهما‌السلام (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) تعليل لاستدعاء التقبل ، والمراد السميع لدعائنا ، والعليم بنياتنا ، وبذلك يصح الحصر المستفاد من تعريف المسندين ويفيد نفي السمعة والرياء في الدعاء والعمل الذي هو شرط القبول ، وتأكيد الجملة لاظهار كمال قوة يقينهما بمضمونها وتقديم صفة السمع ، وإن كان سؤال التقبل متأخرا عن العمل للمجاورة ولأنها ليست مثل العلم شمولا.

(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) أي منقادين قائمين بشرائع الإسلام أو مخلصين موحدين لك ـ فمسلمين ـ إما من استسلم إذا انقاد أو من أسلم وجهه إذا أخلص نفسه أو قصده ولكل من المعنيين عرض عريض ، فالمراد طلب الزيادة فيهما أو الثبات عليهما ، والأول أولى نظرا إلى منصبهما وإن كان الثاني أولى بالنظر إلى أنه أتم في إظهار الانقطاع إليه جل جلاله. وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنه «مسلمين» بصيغة الجمع على أن المراد أنفسهما والموجود من أهلهما كهاجر (١) وهذا أولى من جعل لفظ الجمع مرادا به التثنية ، وقد قيل به هنا ، (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا) عطف على الضمير المنصوب في (اجْعَلْنا) وهو في محل المفعول الأول و (أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) في موضع المفعول الثاني معطوف على (مُسْلِمَيْنِ لَكَ) ولو اعتبر حذف الجعل فلا بد أن يحمل على معنى التصيير لا الإيجاد لأنه وإن صح من جهة المعنى إلا أن الأول لا يدل عليه وإنما خصا ـ الذرية ـ بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة كما قال الله تعالى : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم : ٦] ولأنهم أولاد الأنبياء وبصلاحهم صلاح كل الناس فكان الاهتمام بصلاحهم أكثر ، وخصا البعض لما علما من قوله سبحانه : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ) [الصافات : ١١٣] أو من قوله عزّ شأنه : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) باعتبار السياق ان في ـ ذريتهما ـ ظلمة وأن الحكمة الإلهية تستدعي الانقسام إذ لولاه ما دارت أفلاك الأسماء ولا كان ما كان من أملاك السماء ، والمراد من الأمة الجماعة أو الجيل ، وخصها بعضهم بأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وحمل التنكير على التنويع ، واستدل على ذلك بقوله تعالى : (وَابْعَثْ) إلخ ، ولا يخفى أنه صرف للفظ عن ظاهره واستدلال بما لا يدل ، وجوز أبو البقاء أن يكون (أُمَّةً) المفعول الأول (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا) حال لأنه نعت نكرة تقدم عليها ـ ومسلمة ـ المفعول الثاني وكان الأصل ـ واجعل أمة من ذريتنا مسلمة لك ـ فالواو داخلة في الأصل على (أُمَّةً) وقد فصل بينهما بالجار والمجرور ، و (مِنْ) عند بعضهم على هذا بيانية على حد (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) [النور : ٥٥] ونظر فيه أبو حيان بأن أبا علي وغيره منعوا أن يفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف والفصل بالحال أبعد من الفصل بالظرف ، وجعلوا ما ورد من ذلك ضرورة وبأن كون (مِنْ) للتبيين مما يأباه الأصحاب ويتأولون ما فهم ذلك من ظاهره ، ولا يخفى أن المسألة خلافية وما ذكره مذهب البعض وهو لا يقوم حجة على البعض الآخر (وَأَرِنا مَناسِكَنا) قال قتادة : معالم الحج ، وقال عطاء. وابن جريج : مواضع الذبح ، وقيل : أعمالنا التي نعملها إذا حججنا فالمنسك بفتح السين والكسر شاذ إما مصدر أو مكان وأصل النسك بضمتين غاية العبادة وشاع في الحج لما فيه من الكلفة غالبا والبعد عن العادة ، و (أَرِنا) من رأى البصرية ولهمزة الافعال تعدت إلى مفعولين أو من رأى القلبية بمعنى عرف لا علم ، وإلا لتعدت إلى ثلاثة ، وأنكر ابن الحاجب وتبعه أبو حيان

__________________

(١) بفتح الجيم اسم أم إسماعيل ا ه منه.

٣٨٣

ثبوت رأى بمعنى عرف ، وذكره الزمخشري في المفصل ، والراغب في مفرداته وهما من الثقات فلا عبرة بإنكارهما ، وقرأ ابن مسعود ـ وأرهم مناسكهم ـ باعادة الضمير إلى الذرية ، وقرأ ابن كثير ويعقوب ـ وأرنا ـ بسكون الراء وقد شبه فيه المنفصل بالمتصل فعومل معاملة (فَخُذْ) [البقرة : ٢٦٠ ، الأعراف : ١٤٤ ، يوسف : ٧٨] في إسكانه للتخفيف ، وقد استعملته العرب كذلك ومنه قوله :

أرنا إداوة عبد الله نملؤها

من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا

وقول الزمخشري : إن هذه القراءة قد استرذلت لأن الكسرة منقولة من الهمزة الساقطة دليل عليها فإسقاطها إجحاف مما لا ينبغي لأن القراءة من المتواترات ومثلها أيضا موجود في كلام العرب العرباء (وَتُبْ عَلَيْنا) أي وفقنا للتوبة أو اقبلها منا والتوبة تختلف باختلاف التائبين فتوبة سائر المسلمين الندم والعزم على عدم العود ورد المظالم إذا أمكن ، ونية الرد إذا لم يمكن ، وتوبة الخواص الرجوع عن المكروهات من خواطر السوء ، والفتور في الأعمال ، والإتيان بالعبادة على غير وجه الكمال ، وتوبة خواص الخواص لرفع الدرجات ، والترقي في المقامات ، فإن كان إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام طلبا التوبة لأنفسهما خاصة ، فالمراد بها ما هو من توبة القسم الأخير ، وإن كان الضمير شاملا لهما وللذرية كان الدعاء بها منصرفا لمن هو من أهلها ممن يصح صدور الذنب المخل بمرتبة النبوة منه ، وإن قيل : إن الطلب للذرية فقط وارتكب التجوز في النسبة إجراء للولد مجرى النفس بعلاقة البعضية ليكون أقرب إلى الإباحة ، أو في الطرف حيث عبر عن الفرع باسم الأصل ، أو قيل : بحذف المضاف ـ أي على عصاتنا ـ زال الاشكال كما إذا قلنا : إن ذلك عما فرط منهما من الصغائر سهوا ، والقول بأنهما لم يقصدا الطلب حقيقة ، وإنما ذكرا ذلك للتشريع وتعليم الناس ان تلك المواضع مواضع التنصل ، وطلب التوبة من الذنوب بعيد جدا ، وجعل الطلب للتثبيت لا أراه هنا يجدي نفعا ـ كما لا يخفى ـ وقرأ عبد الله «وتب عليهم» بضمير جمع الغيبة أيضا (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) تعليل للدعاء ومزيد استدعاء للإجابة ، وتقديم التوبة للمجاورة ، وتأخير الرحمة لعمومها ولكونها أنسب بالفواصل.

(رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ) أي أرسل في ـ الأمة المسلمة ـ وقيل : في ـ الذرية ـ وعود الضمير إلى أهل مكة بعيد (رَسُولاً مِنْهُمْ) أي من أنفسهم ، ووصفه بذلك ليكون أشفق عليهم ، ويكونوا أعز به وأشرف ، وأقرب للإجابة ، لأنهم يعرفون منشأه وصدقه وأمانته ، ولم يبعث من ذرية كليهما سوى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، وجميع أنبياء بني إسرائيل من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام ـ لا من ذريتهما ـ فهو المجاب به دعوتهما ، كما روى الإمام أحمد وشارح السنة عن العرباض عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «سأخبركم بأول أمري ، أنا دعوة إبراهيم ، وبشارة عيسى ، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني» وأراد صلى الله تعالى عليه وسلم إثر دعوته ، أو مدعوه ، أو عين دعوته ـ على المبالغة ـ ولما كان إسماعيل عليه‌السلام شريكا في الدعوة كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دعوة إسماعيل أيضا إلا أنه خص إبراهيم لشرافته ، وكونه أصلا في الدعاء ، ووهم من قال : إن الاقتصار في الحديث على إبراهيم يدل على أن المجاب من الدعوتين كان دعوة إبراهيم دون إسماعيل عليهما الصلاة والسلام. وقرأ أبيّ «وابعث فيهم في آخرهم رسولا» وهذا يؤيد أن المراد به نبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «وفي الأثر» أنه لما دعي إبراهيم قيل له : قد استجيب لك ، وهو يكون في آخر الزمان.

(يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) أي يقرأ عليهم ما توحي إليه من العلامات الدالة على التوحيد والنبوة وغيرهما ، وقيل : خبر من مضى ومن يأتي إلى يوم القيامة ، والجملة صفة (رَسُولاً) وقيل : في موضع الحال منه.

٣٨٤

(وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) بأن يفهمهم ألفاظه ويبين لهم كيفية أدائه ، ويوقفهم على حقائقه وأسراره.

«والظاهر» أن مقصودهما من هذه الدعوة أن يكون ـ الرسول ـ صاحب كتاب يخرجهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، وقد أجاب سبحانه هذه الدعوة بالقرآن ، وكونه بخصوصه كان مدعوا به غير بين ولا مبين.

(وَالْحِكْمَةَ) أي وضع الأشياء مواضعها ، أو ما يزيل من القلوب وهج حب الدنيا ، أو الفقه في الدين ، أو السنة المبينة ـ للكتاب ـ أو ـ الكتاب ـ نفسه ، وكرر للتأكيد اعتناء بشأنه ، وقد يقال : المراد بها حقائق الكتاب ودقائقه وسائر ما أودع فيه ، ويكون ـ تعليم الكتاب ـ عبارة عن تفهيم ألفاظه ، وبيان كيفية أدائه ، وتعليم (الْحِكْمَةَ) الإيقاف على ما أودع فيه ، وفسرها بعضهم بما تكمل به النفوس من المعارف والأحكام ؛ فتشمل (الْحِكْمَةَ) النظرية والعملية ، قالوا : وبينها وبين ما في (الْكِتابَ) عموم من وجه لاشتمال القرآن على القصص والمواعيد ، وكون بعض الأمور الذي يفيد كمال النفس ـ علما وعملا ـ غير مذكور في (الْكِتابَ) وأنت تعلم أنت هذا القول بعد سماع قوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الإنعام : ٣٨] وقوله تعالى سبحانه : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل : ٨٩] مما لا ينبغي الاقدام عليه ، اللهم إلا أن تكون هذه النسبة بين ما في (الْكِتابَ) الذي في الدعوة مع قطع النظر عما أجيبت به وبين الحكمة فتدبر (وَيُزَكِّيهِمْ) أي يطهرهم من أرجاس الشرك وأنجاس الشك وقاذورات المعاصي. وهو إشارة إلى التخلية كما أن التعليم إشارة إلى التحلية ـ ولعل تقديم الثاني على الأول لشرافته ـ والقول بأن المراد يأخذ منهم الزكاة التي هي سبب لطهارتهم أو يشهد لهم ـ بالتزكية والعدالة ـ بعيد (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي الغالب المحكم لما يريد ، فلك أن تخصص واحدا منهم بالرسالة الجامعة لهذه الصفات بإرادته من غير مخصص ، وحمل (الْعَزِيزُ) هنا على من لا مثل له ـ كما قاله ابن عباس ـ أو المنتقم ـ كما قاله الكلبي ـ و (الْحَكِيمُ) على العالم ـ كما قيل ـ لا يخلو عن بعد.

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) إنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء ـ من يرغب عن ملته ـ وهي الحق الواضح غاية الوضوح ، أي لا يرغب عن ذلك أحد (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) أي جعلها مهانة ذليلة. وأصل ـ السفه ـ الخفة ، ومنه زمام سفيه ـ أي خفيف ـ وسفه ـ بالكسر ـ كما قال المبرد. وثعلب : متعد بنفسه ، و (نَفْسَهُ) مفعول به ، وأما (سَفِهَ) بالضم فلازم ، ويشهد له ما جاء في الحديث «الكبر أن تسفه الحق وتغمط الناس» وقيل : إنه لازم أيضا ، وتعدى إلى المفعول لتضمنه معنى ما يتعدى إليه ، أي جهل نفسه لخفة عقله وعدم تفكره ، وهو قول الزجاج ، أو أهلكها ، وهو قول أبي عبيدة ؛ وقيل : إن النصب بنزع الخافض ـ أي في نفسه ـ فلا ينافي اللزوم ـ وهو قول لبعض البصريين ـ وقيل : على التمييز كما في قول النابغة الذبياني :

ونأخذ بعده بذناب عيش

أجبّ الظهر ليس له سنام

وقيل : على التشبيه بالمفعول به ، واعترض الجميع أبو حيان قائلا : إن التضمين والنصب بنزع الخافض لا يتقاسان. وإن التشبيه بالمفعول به مخصوص عند الجمهور بالصفة ـ كما قيل به في البيت ـ وإن البصريين منعوا مجيء التمييز معرفة ، فالحق الذي لا ينبغي أن يتعدى القول بالتعدي. و (مَنْ) إما موصولة أو موصوفة في محل الرفع على المختار بدلا من الضمير في (يَرْغَبُ) لأنه استثناء من غير موجب ، وسبب نزول الآية ما روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام ؛ فقال لهما : قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة : إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد ، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد ، ومن لم يؤمن به فهو ملعون ، فأسلم سلمة وأبى مهاجر ، فنزلت (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا) أي اخترناه بالرسالة بتلك الملة ، واجتبيناه من بين سائر الخلق ، وأصله اتخاذ

٣٨٥

صفوة الشيء أي خالصه (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي المشهود لهم بالثبات على الاستقامة والخير والصلاح ، والجملة معطوفة على ما قبلها ، وذلك من حيث المعنى دليل مبين لكون ـ الراغب عن ملة إبراهيم سفيها ـ إذ الاصطفاء والعز في الدنيا غاية المطالب الدنيوية ـ والصلاح ـ جامع للكمالات الأخروية ولا مقصد للإنسان الغير ـ السفيه ـ سوى خير الدارين ، وأما من حيث اللفظ فيحتمل أن يكون حالا مقررة لجهة الإنكار ـ واللام لام الابتداء ـ أي أيرغب عن ملته ومعه ما يوجب عكس ذلك ، وهو الظاهر لفظا لعدم الاحتياج إلى تقدير القسم ـ وارتضاه الرضيّ ـ ويحتمل أن يكون عطفا على ما قبله ، أو اعتراضا بين المعطوفين ـ واللام ـ جواب القسم المقدر وهو الظاهر معنى لأن الأصل في الجمل الاستقلال ولإفادة زيادة التأكيد المطلوب في المقام والاشعار بأن المدعى لا يحتاج إلى البيان ، والمقصود مدحه عليه‌السلام وإيراد الجملة الأولى ماضوية لمضيها من وقت الاخبار ، والثانية اسمية لعدم تقييدها بالزمان لأن انتظامه في زمرة صالحي أهل الآخرة أمر مستمر في الدارين لا أنه يحدث في الآخرة ، والتأكيد «بأن ، واللام» لما أن الأمور الأخروية خفية عند المخاطبين فحاجتها إلى التأكيد أشد من الأمور التي تشاهد آثارها ، وكلمة (فِي) متعلقة ب (الصَّالِحِينَ) على أن ـ أل ـ فيه للتعريف لا موصولة ليلزم تقديم ب (اصْطَفَيْناهُ) وفي الآية تقديم وتأخير ، أو بمحذوف حالا من المستكن في الوصف بعيد.

(إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ظرف ـ لاصطفيناه ـ والمتوسط المعطوف ليس بأجنبي لأنه لتقدير المتعلق المعطوف تأكيده لأن اصطفاءه في الدنيا إنما هو للرسالة وما يتعلق بصلاح الآخرة فلا حاجة إلى أن يجعل اعتراضا أو حالا مقدرة كما قيل به ، أو تعليل له ، أو منصوب ب «اذكر» كأنه قيل : اذكر ذلك الوقت لتقف على أنه المصطفى الصالح وأنه ما نال ما نال إلا بالمبادرة والانقياد إلى ما أمر به وإخلاص سره حين دعاه ربه ، وجوز جعله ظرفا ل (قالَ) وليس الأمر وما في جوابه على حقيقتهما بل هو تمثيل والمعنى أخطر بباله الدلائل المؤيدة إلى المعرفة ، واستدل بها وأذعن بمدلولاتها إلا أنه سبحانه وتعالى عبر عن ذلك بالقولين تصويرا لسرعة الانتقال بسرعة الإجابة فهو إشارة إلى استدلاله عليه‌السلام بالكوكب والشمس والقمر واطلاعه على أمارات الحدوث على ما يشير إليه كلام الحسن وابن عباس من أن ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ ، ومن ذهب إلى أنه بعد النبوة قال : المراد الأمر بالطاعة والإذعان لجزئيات الأحكام والاستقامة والثبات على التوحيد على حد (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [محمد : ١٩] ولا يمكن الحمل على الحقيقة أعني إحداث الإسلام والإيمان لأن الأنبياء معصومون عن الكفر قبل النبوة وبعدها ولأنه لا يتصور الوحي والاستنباء قبل الإسلام نعم إذا حمل الإسلام على العمل بالجوارح لا على معنى الإيمان أمكن الحمل على الحقيقة ـ كما قيل به ـ وفي الالتفات مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليه عليه‌السلام إظهار لمزيد اللطف به والاعتناء بتربيته ، وإضافة الرب في الجواب إلى (الْعالَمِينَ) للإيذان بكمال قوة إسلامه حيث أتقن حين النظر شمول ربوبيته تعالى للعالمين قاطبة لا لنفسه فقط كما هو المأمور به ظاهرا.

(وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) مدح له عليه‌السلام بتكميله غيره إثر مدحه بكماله في نفسه ، وفيه توكيد لوجود الرغبة في ملته ، والتوصية التقدم إلى الغير بفعل فيه صلاح وقربة سواء كان حالة الاحتضار أو لا وسواء كان ذلك التقدم بالقول أو الدلالة وإن كان الشائع في العرف استعمالها في القول المخصوص حالة الاحتضار وأصلها الوصل من قولهم أرض واصية أي متصلة النبات ، ويقال : وصاه إذا وصله ، وفصاه إذا فصله كأن الموصي يصل فعله بفعل الوصي ، والضمير في (بِها) إما للملة أو لقوله (أَسْلَمْتُ) على تأويل الكلمة أو الجملة ، ويرجح الأول كون المرجح مذكورا صريحا وكذا ترك المضمر إلى المظهر ، وعطف (يَعْقُوبُ) عليه فإن ذلك يدل على أنه شروع في كلام آخر لبيان

٣٨٦

تواصي الأنبياء باستمساك الدين الحق الجامع لجميع أحكام الأصول والفروع ليتوارثوا الملة القويمة والشرع المستقيم نسلا بعد نسل ، وذكر يعقوب الدين في توصيته لبنيه ـ وهو والملة ـ أخوان ولو كان الضمير للثاني لكان الإسلام بدله ، ويؤيد الثاني كون الموصى به مطابقا في اللفظ ل (أَسْلَمْتُ) وقرب المعطوف عليه لأنه حينئذ يكون معطوفا على (قالَ أَسْلَمْتُ) أي ما اكتفى بالامتثال بل ضم توصية بنيه بالإسلام بخلاف التقدير الأول فإنه معطوف على ـ من يرغب ـ لأنه كما أشرنا إليه في معنى النفي ، وخص البنين لأنه عليهم أشفق وهم بقبول وصيته أجدر ولأن النفع بهم أكثر ، وقرأ نافع وابن عامر ـ أوصى ـ ولا دلالة فيها على التكثير كالأولى الدالة عليه لصيغة التفعيل.

(وَيَعْقُوبُ) عطف على إبراهيم ، ورفعه على الابتداء وحذف الخبر أي ـ يعقوب ـ كذلك ، والجملة معطوفة على الجملة الفعلية ، وجعله فاعلا ـ لوصى ـ مضمرا بعيد ، وقرئ بالنصب فيكون عطفا على (بَنِيهِ) والمراد بهم أبناء الصلب وهو عليه الصلاة والسلام كان نافلة ، وإنما سمي يعقوب لأنه وعيصا ـ كانا توأمين ـ فتقدم عيص ، وخرج يعقوب على أثره آخذا بعقبه كذا روي عن ابن عباس ولا أظن صحته (يا بَنِيَ) على إضمار القول عند البصريين ، ويقدر بصيغة الإفراد على تقدير نصب يعقوب أي قال ، أو قائلا وبصيغة التثنية على تقدير الرفع ؛ ووقوع الجملة بعد القول مشروط بأن يكون المقصود مجرد الحكاية ، والكلام المحكي مشترك بين إبراهيم ويعقوب ، وإن كان المخاطبون في الحالين متغايرين ، وذهب الكوفيون إلى عدم الإضمار لأن التوصية لاشتمالها على معنى القول بل هي القول المخصوص كان حكمها حكمه فيجوز وقوع الجملة في حيز مفعولها ، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : أن يا بني ولا حاجة حينئذ إلى تقدير القول عند البصريين بل لا يجوز ذلك عندهم على ما يشير إليه كلام بعض المحققين ، وبنو إبراهيم على ما في الإتقان اثنا عشر ، وهم إسماعيل وإسحاق ومدين وزمزان وسرح. ونقش. ونقشان. وأميم. وكيسان. وسورج. ولوطان ، نافس. وبنو يعقوب أيضا كذلك وهم. يوسف. وروبيل. وشمعون. ولاوي. ويهوذا. وداني. ونفتالي. وكاد. واسبر. وإيساجر. ورايكون وبنيامين (إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) أي جعل لكم الدين الذي هو صفوة الأديان بأن شرعه لكم ووفقكم للأخذ به ، والمراد به دين الإسلام الذي به الإخلاص لله تعالى ، والانقياد له ، وليس المراد ما يتراءى من أن الله تعالى جعله صفوة الأديان لكم لأن هذا الدين صفوة في نفسه لا اختصاص له بأحد ، وليس عند الله تعالى غيره ، ومن هنا يعلم أن الإسلام يطلق على غير ديننا لكن العرف خصصه به ، وزعم بعضهم عدم الإطلاق وألف في ذلك رسالة تكلف بها غاية التكلف.

(فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) نهي عن الاتصاف بخلاف حال الإسلام وقت الموت ، والمفهوم من الآية ظاهرا النهي عن الموت على خلاف تلك الحال ، وليس بمقصود لأنه غير مقدور وإنما المقدور قيده فيعود النهي إليه كما جمعت لما أن الامتناع عن الاتصاف بتلك الحال يستتبع الامتناع عن الموت في تلك الحال فأما أن يقال استعمل اللفظ الموضوع للأول في الثاني فيكون مجازا ، أو يقال استعمل اللفظ في معناه لينتقل منه إلى ملزومه فيكون كناية ، وقال الفاضل اليمني : إن هذا كناية بنفي الذات عن نفي الحال على عكس ما قيل في قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) [البقرة : ٢٨] من أنه كناية بنفي الحال عن نفي الذات ، وفيه أن نفي الذات إنما يصير كناية عن نفي جميع الصفات لا عن صفة معينة فافهم ، والمراد من الأمر الذي يشير إليه ذلك النهي الثبات على الإسلام لأنه اللازم له ، والمقصود من التوصية ، ولأن أصل الإسلام كان حاصلا لهم ، وإنما أدخل حرف النفي على الفعل مع أنه ليس منهيا عنه للدلالة على أن موتهم لا على الإسلام موت لا خير فيه ، وأن حقه أن لا يحل بهم وأنه يجب أن يحذروه غاية الحذر ، وذكر بعضهم أن الإسلام المأمور به هنا ما يكون بالقلب دون العمل بالجوارح لأن ذلك مما لا يكاد يمكن عند الموت

٣٨٧

ولهذا ورد في الحديث «اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان» ولا يخفى ما فيه (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) الخطاب لجنس اليهود أو الموجودين في زمانه صلى الله تعالى عليه وسلم على ما يشير إليه سبب النزول فقد ذكر الواحدي أن الآية نزلت في اليهود حين قالوا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألست تعلم أن يعقوب لما مات أوصى بنيه باليهودية؟ و (أَمْ) إما منقطعة بمعنى بل ، وهمزة الإنكار ، ومعنى بل الإضراب عن الكلام الأول وهو بيان التوصية إلى توبيخ اليهود على ادعائهم اليهودية على يعقوب وأبنائه ، وفائدته الانتقال من جملة إلى أخرى أهم منها أي ما كنتم حاضرين حين احتضاره عليه الصلاة والسلام وسؤاله بنيه عن الدين فلم تدعون ما تدعون؟ ولك أن تجعل الاستفهام للتقرير أي كانت أوائلكم حاضرين حين وصى بنيه عليه الصلاة والسلام بالإسلام والتوحيد وأنتم عالمون بذلك فما لكم تدعون عليه خلاف ما تعلمون؟! فيكون قد نزل عليهم بشهادة أوائلهم منزلة الشهادة فخوطبوا بما خوطبوا ، وإما متصلة وفي الكلام حذف ـ والتقدير أكنتم غائبين أم كنتم شاهدين ـ وليس الاستفهام على هذا على حقيقته للعلم بتحقق الأول وانتفاء الثاني بل هو للإلزام والتبكيت أي أي الأمرين كان فمدعاكم باطل ، أما على الأول فلأنه رجم بالغيب ، وأما على الثاني فلأنه خلاف المشهور ، واعترض أبو حيان على هذا الوجه بأنا لا نعلم أحدا أجاز حذف الجملة المعطوف عليها في (أَمْ) المتصلة وإنما سمع حذف (أَمْ) مع المعطوف لأن الثواني تحتمل ما لا تحتمل الأوائل ، وقيل : الخطاب للمؤمنين ومعنى بل الإضراب عن الكلام الأول والأخذ فيما هو الأهم وهو التحريض على اتباعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإثبات بعض معجزاته وهو الإخبار عن أحوال الأنبياء السابقين من غير سماع من أحد ولا قراءة من كتاب كأنه تعالى بعد ذكر ما تقدم التفت إلى مؤمني الأمة أما شهدتم ما جرى وأ ما علمتم ذلك بالوحي وإخبار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعليكم باتباعه إلا أنه اكتفى بذكر مقاولة يعقوب وبنيه ليعلم عدم حضورهم حين توصية إبراهيم عليه الصلاة والسلام بطريق الأولى ، ولا يخفى أن هذا القائل لم يعتبر سبب النزول ولعله لما فيه من الضعف حتى قال الإمام السيوطي : لم أقف عليه ، و ـ الشهداء ـ جمع شهيد أو شاهد بمعنى حاضر ، وحضر من باب قعد ، وقرئ (حَضَرَ) بالكسر ومضارعه أيضا ـ يحضر ـ بالضم وهي لغة شاذة ، وقيل : إنها على التداخل (إِذْ قالَ لِبَنِيهِ) بدل من (إِذْ حَضَرَ) بدل اشتمال وكلاهما مقصودان كما هو المقرر في إبدال الجمل إلا أن في البدل زيادة بيان ليست في المبدل منه ولو تعلقت (إِذْ) هنا ب (قالُوا) لم ينتظم الكلام.

(ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) أي أي شيء تعبدونه بعد موتي ف (ما) في محل رفع والعائد محذوف ، وكونه في محل نصب على المفعولية مفوت للتقوى المناسب للمقام ؛ ويسأل بها عن كل شيء فإذا عرف خص العقلاء ب (مِنْ) إذا سئل عن تعينه فيجاب بما يفيده ، وإذا سأل عن وصفه قيل (ما) زيد أكاتب أم شاعر ، وفي السؤال عن حالهم بعد موته دليل على أن الغرض حثهم على ما كانوا عليه حال حياته من التوحيد والإسلام ، وأخذ الميثاق منهم عليه فليس الاستفهام حقيقيا وكان هذا بعد أن دخل عليه‌السلام مصر ورأى فيها من يعبد النار فخاف على ولده فحثهم على ما حثهم (قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) استئناف وقع جوابا لسؤال نشأ عن حكاية السؤال وفي إضافة الإله إلى المتعدد إشارة إلى الاتفاق على وجوده وألوهيته وقدم (إِسْماعِيلَ) في الذكر على (إِسْحاقَ) لكونه أسنّ منه وعده من آباء يعقوب مع أنه عمه تغليبا للأكثر على الأقل أو لأنه شبه العم بالأب لانخراطهما في سلك واحد وهو الأخوة فأطلق عليه لفظه ، ويؤيده ما أخرجه الشيخان «عم الرجل صنو أبيه» وحينئذ يكون المراد ـ بآبائك ـ ما يطلق عليه اللفظ كيلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز ، والآية على حد ما أخرجه ابن أبي شيبة وغيره من قوله عليه الصلاة والسلام «احفظوني في العباس فإنه بقية آبائي» وقرأ الحسن ـ أبيك ـ وهو إما مفرد

٣٨٨

(وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) عطف نسق عليه و (إِبْراهِيمَ) وحده عطف بيان ، أو جمع وسقطت نونه للاضافة كما في قوله :

فلما «تبيّن» أصواتنا

بكين وفديننا بالأبينا

(إِلهاً واحِداً) بدل من (إِلهَ آبائِكَ) والنكرة تبدل من المعرفة بشرط أن توصف كما في قوله تعالى : (بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ) [العلق : ١٦] والبصريون لا يشترطون فيها ذلك ، وفائدة الإبدال دفع توهم التعدد الناشئ من ذكر الإله مرتين ، أو نصب على المدح أو الحال الموطئة كما في البحر (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي مذعنون مقرون بالعبودية ، وقيل : خاضعون منقادون مستسلمون لنهيه وأمره قولا وعقدا ، وقيل : داخلون في الإسلام ثابتون عليه ، والجملة حال من الفاعل ، أو المفعول ، أو منهما لوجود ضميريهما ، أو اعتراضية محققة لمضمون ما سبق في آخر الكلام ـ بلا كلام ـ وقال أبو حيان : الأبلغ أن تكون معطوفة على (نَعْبُدُ) فيكونوا قد أجابوا بشيئين وهو من باب الجواب المربي عن السؤال (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) الإشارة إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأولاده و ـ الأمة ـ أتت بمعان ، والمراد بها هنا الجماعة من أمّ بمعنى قصد ، وسميت كل جماعة يجمعهم أمر ما إما دين واحد ، أو زمان واحد ، أو مكان بذلك لأنهم يؤم بعضهم بعضا ويقصده ، و ـ الخلو ـ المضي وأصله الانفراد.

(لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) استئناف ، أو بدل من قوله تعالى : (خَلَتْ) لأنها بمعنى لا تشاركونهم وهي كغير الوافية وهذه وافية بتمام المراد ، أو الأولى صفة أخرى ـ لأمة ـ أو حال من ضمير (خَلَتْ) والثانية جملة مبتدأة ، إذ لا رابط فيها ولا مقارنة في الزمان ، وفي الكلام مضاف محذوف بقرينة المقام ، أي لكل أجر عمله ، وتقديم المسند لقصر المسند إليه على المسند ، والمعنى أن انتسابكم إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم ، وإنما تنتفعون بموافقتهم واتباعهم ، كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم : «يا معشر قريش ، إن أولى الناس بالنبي المتقون ، فكونوا بسبيل من ذلك ، فانظروا أن لا يلقاني الناس يحملون الأعمال وتلقوني بالدنيا فأصد عنكم بوجهي» ولك أن تحمل الجملة الأولى على معنى ـ لها ما كسبته ـ لا يتخطاها إلى غيرها ، والثانية على معنى ولكم ما كسبتموه ـ لا ما كسبه غيرهم ـ فيختلف القصران لاقتضاء المقام ذلك.

(وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) إن أجري ـ السؤال ـ على ظاهره فالجملة مقررة لمضمون ما قبلها وإن أريد به مسببه ـ أعني الجزاء ـ فهو تذييل لتتميم ما قبله ، والجملة مستأنفة أو معترضة ، والمراد تخييب المخاطبين وقطع أطماعهم من الانتفاع بحسنات من مضى منهم ، وإنما أطلق ـ العمل ـ لإثبات الحكم بالطريق البرهاني في ضمن قضية كلية ، وحمل الزمخشري الآية على معنى ـ لا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا تثابون بحسناتهم ـ واعترض بأنه مما لا يليق بشأن التنزيل ، كيف لا وهم منزهون عن كسب السيئات ، فمن أين يتصور تحميلها على غيرهم حتى يتصدى لبيان انتفائه ، وأنت تعلم أنه إذا كان المقصود سوق ذلك بطريق كلي برهاني لا يتوهم ما ذكر.

هذا ومن الغريب حمل الإشارة على كل من (إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) وأن المعنى كل واحد منهم (أُمَّةٌ) أي بمنزلتها في الشرف والبهاء (قَدْ خَلَتْ) أي مضت ، ولستم مأمورين بمتابعتهم (لَها ما كَسَبَتْ) وهو ما أمرها الله تعالى به (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) مما يأمركم به سبحانه وتعالى ، ولا ينفعكم مكتسبهم لأنه ليس مقبولا منكم لأنه ليس في حقكم ، إنما ينفعكم ما يجب عليكم كسبه (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) هل عملتم به؟ وإنما تسألون

٣٨٩

عما كان يعمل نبيكم الذي أمرتم بمتابعته ، فإن أعماله ما هو كسبكم المسئول عنه ، فدعوا (١) أن هذا ما أمر به إبراهيم أو غيره ، وتمسكوا بما أمر به نبيكم ، واعتبروا إضافة العمل إليه دونهم ، ولا يخفى أنه لو كانت هذه الآيات كلام هذا المفسر لأمكن حملها على هذا التفسير الذي لا فرع ولا أصل له ، لكنها كلام رب العالمين الذي يجل عن الحمل على مثل ذلك.

«ومن باب الإشارة والتأويل في الآيات السابقة إلى هنا» (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) أي بمراتب الروحانيات كالقلب والسر والروح والخفاء والوحدة والأحوال والمقامات التي يعبر بها على تلك المراتب. كالتسليم والتوكل والرضا وعلومها (فَأَتَمَّهُنَ) بالسلوك إلى الله تعالى وفي الله تعالى حتى الفناء فيه (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) بالبقاء بعد الفناء ، والرجوع إلى الخلق من الحق ، تؤمهم وتهديهم سلوك سبيلي ، ويقتدون بك فيهتدون (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فلا يكونون خلفائي مع ظلمهم وظلمتهم برؤية الأغيار ومجاوزة الحدود (وَإِذْ جَعَلْنَا) بيت القلب مرجعا للناس ، ومحل أمن وسلامة لهم إذا وصلوا إليه وسكنوا فيه من شر غوائل صفات النفس ، وفتك قتال القوى الطبيعية وإفسادها ، وتخييل شياطين الوهم والخيال وإغوائهم. (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ) الذي هو مقام الروح والخلة موطنا للصلاة الحقيقية التي هي المشاهدة والخلة الذوقية (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) أمرناهما بتطهير بيت القلب من قاذورات أحاديث النفس ، ونجاسات وساوس الشيطان ، وأرجاس دواعي الهوى ، وأدناس صفات القوى للسالكين المشتاقين الذين يدورون حول القلب في سيرهم ، والواصلين إلى مقامه بالتوكل الذي هو توحيد الأفعال ، والخاضعين الذين بلغوا إلى مقام تجلي الصفات وكمال مرتبة الرضا ، الغائبين في الوحدة ، الفانين فيها (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا) الصدر الذي هو حريم القلب بلدا (آمِناً) من استيلاء صفات النفس ، واغتيال العدو اللعين ، وتخطف جن القوى البدنية (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ) ثمرات معارف الروح من وحد الله تعالى منهم وعلم المعاد إليه ، قال : ومن احتجب أيضا من الذين يسكنون الصدر ولا يجاوزون حده بالترقي إلى مقام العين لاحتجابهم بالعلم الذي وعاؤه الصدر (فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) من المعاني العقلية والمعلومات الكلية النازلة إليهم من عالم الروح على حسب استعدادهم (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ) نار الحرمان والحجاب (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) مصيرهم لتعذيبهم بنقصانهم وعدم تكميل نشأتهم (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) على الكيفية التي ذكرناها قبل (وَإِسْماعِيلُ) كذلك قائلين (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) مجاهداتنا ومساعينا في السلوك إليك بامداد التوفيق (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لهواجس خواطرنا فيك (الْعَلِيمُ) بنياتنا وأسرارنا (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) لا تكلنا إلى أنفسنا (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا) المنتمين إلينا (أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا) طرق الوصول إلى نفي ما سواك (وَتُبْ عَلَيْنا) لنفنى فيك عن أنفسنا وفنائنا (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ) الموفق للرجوع إليك (الرَّحِيمُ) بمن عول دون السوي عليك (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) وهو الحقيقة المحمدية (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) الدالة عليك (وَيُعَلِّمُهُمُ) كتاب العقل الجامع لصفاتك (وَالْحِكْمَةَ) الدالة على نفي غيرك (وَيُزَكِّيهِمْ) ويطهرهم عن دنس الشرك (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الغالب ، فأنى يظهر سواك المحكم لما ظهرت فيه فلا يرى إلا إياك (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) وهي التوحيد الصرف ، إلا من احتجب عن نور العقل بالكلية ، وبقي في ظلمة نفسه (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ) فكان من المحبوبين المرادين بالسابقة الأزلية في عالم الملك ، وأنه في عالم الملكوت من أهل الاستقامة ، الصالح لتدبير النظام وتكميل النوع (إِذْ قالَ لَهُ

__________________

(١) هكذا ولعل كلمة أن هذا زائدة : تنبيه

٣٩٠

رَبُّهُ أَسْلِمْ) أي وحّد وأسلم لله تعالى ذاتك (قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) وفنيت فيه (وَوَصَّى) بكلمة التوحيد (إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) السالكين على يده وكذلك يعقوب (يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ) دينه الذي لا دين غيره عنده (فَلا تَمُوتُنَ) بالموت الطبيعي وموت الجهل ، بل كونوا ميتين بأنفسكم ، أحياء بالله أبدا ، فيدرككم موت البدن على هذه الحالة (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) فلا تكونوا مقيدين بالتقليد البحت لهم ، فليس لأحد إلا ما كسب من العلم والعمل والاعتقاد والسيرة ، فكونوا على بصيرة في أمركم ، واطلبوا ما طلبوا لتنالوا ما نالوا (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) ومن دق باب الكريم ولجّ ولج.

(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) الضمير الغائب لأهل الكتاب ، والجملة عطف على ما قبلها عطف القصة على القصة ، والمراد منها رد دعوتهم إلى دينهم الباطل إثر رد ادعائهم اليهودية على يعقوبعليه‌السلام ، و (أَوْ) لتنويع المقال ـ لا للتخيير ـ بدليل أن كل واحد من الفريقين يكفر الآخر ، أي قال اليهود للمؤمنين (كُونُوا هُوداً) وقالت النصارى لهم كونوا (نَصارى) و (تَهْتَدُوا) جواب الأمر ، أي إن كنتم كذلك (تَهْتَدُوا). روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في رءوس يهود المدينة ، كعب بن الأشرف. ومالك بن الصيف. ووهب بن يهوذا. وأبي ياسر بن أخطب. وفي نصارى أهل نجران ، وذلك أنهم خاصموا المسلمين في الدين ، كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله من غيرها ، فقالت اليهود : نبينا موسى أفضل الأنبياء ، وكتابنا التوراة أفضل الكتب ، وديننا أفضل الأديان ، وكفرت بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن ، وقالت النصارى : نبينا عيسى أفضل الأنبياء ، وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب ، وديننا أفضل الأديان ، وكفرت بمحمد والقرآن ، وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين : (كُونُوا) على ديننا ، فلا دين إلا ذلك ، في رواية ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما عنه أن عبد الله بن صوريا الأعور قال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم : ما الهدى إلا ما نحن عليه ، فاتبعنا يا محمد تهتد ، وقالت النصارى مثل ذلك فأنزل الله تعالى فيهم الآية (قُلْ) خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، أي قل لأولئك القائلين على سبيل الرد عليهم ، وتبيين ما هو الحق لديهم وإرشادهم إليه (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي لا نكون كما تقولون ، بل نكون (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي أهل ـ ملته ـ أو بل نتبع (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) «والأول» يقتضيه رعاية جانب لفظ ما تقدم ـ وإن احتاج إلى حذف المضاف «والثاني» يقتضيه الميل إلى جانب المعنى إذ يؤول الأول إلى اتبعوا ملة اليهود أو النصارى مع عدم الاحتياج إلى التقدير ، وجوّز أن يكون المعنى بل اتبعوا أنتم ملته ، أو كونوا أهل ملته ، وقيل : الأظهر بل نؤتى ملة إبراهيم ـ ولم يظهر لي وجهه ـ وقرئ (بَلْ مِلَّةَ) بالرفع ، أي بل ملتنا أو أمرنا ملته أو نحن ملته أي أهلها ، وقيل : بل الهداية أو تهدى ملة إبراهيم وهو كما ترى (حَنِيفاً) أي مستقيما أو مائلا عن الباطل إلى الحق ويوصف به المتدين والدين ، وهو حال إما من المضاف بتأويل الدين أو تشبيها له بفعيل بمعنى مفعول كما في قوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦] وهذا على قراءة النصب وتقدير «نتبع» ظاهر ، وأما على تقدير تكون عليها فلأن ملة فاعل الفعل المستفاد من الإضافة أي تكون ملة ثبتت لإبراهيم ، وعلى قراءة الرفع تكون الحال مؤكدة لوقوعها بعد جملة اسمية جزءاها جامدان معرفتان مقررة لمضمونها لاشتهار ملته عليه الصلاة والسلام بذلك فالنظم على حد ـ أنا حاتم جوادا ـ أو من المضاف إليه بناء على ما ارتضوه من أنه يجوز مجيء الحال منه في ثلاث صور : إذا كان المضاف مشتقا عاملا ، أو جزءا ، أو بمنزلة الجزء في صحة حذفه كما هنا فإنه يصح ـ اتبعوا إبراهيم ـ بمعنى اتبعوا ملته ، وقيل : إن الذي سوغ وقوع الحال من المضاف إليه كونه مفعولا لمعنى الفعل المستفاد من الإضافة أو اللام ـ وإليه يشير كلام أبي البقاء ـ ولعله أولى لاطراده في التقدير الأول ، وقيل : هو منصوب بتقدير أعني (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) عطف على حنيفا على طبق (حُنَفاءَ

٣٩١

لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) [الحج : ٣١] فهو حال من المضاف إليه لا من المضاف إلا أن يقدر ـ وما كان دين المشركين ـ وهو تكلف ، والمقصود التعريض بأهل الكتاب والعرب الذين يدعون اتباعه ويدينون بشرائع مخصوصة به من حج البيت والختان وغيرهما فإن في كل طائفة منهم شركاء فاليهود قالوا ـ عزير ابن الله ـ والنصارى ـ المسيح ابن الله ـ والعرب عبدوا الأصنام وقالوا الملائكة بنات الله (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ) خطاب للمؤمنين لا للكافرين ـ كما قيل ـ لما فيه من الكلف والتكلف وبيان للاتباع المأمور به فهو بمنزلة بدل البعض من قوله سبحانه : (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) لأن الاتباع يشمل الاعتقاد والعمل وهذا بيان الاعتقاد أو بدل الاشتمال لما فيه من التفصيل الذي ليس في الأول ، وقيل : استئناف كأنهم سألوا كيف الاتباع؟ فأجيبوا ، بذلك وأمر أولا بصيغة الإفراد ، وثانيا بصيغة الجمع إشارة إلى أنه يكفي في الجواب قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جانب كل المؤمنين بخلاف الاتباع فإنه لا بد فيه من قول كل واحد لأنه شرط الإيمان أو شطره قاله بعض المحققين ، والقول بأنه بمنزلة البيان والتأكيد للقول الأول ـ ولذا ترك العطف ـ لا يخلو عن شيء وقدم الإيمان بالله سبحانه لأنه أول الواجبات ولأنه بتقدم معرفته تصح معرفة النبوات والشرعيات.

(وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) أي القرآن وهو وإن كان في الترتيب النزولي مؤخرا عن غيره لكنه في الترتيب الإيماني مقدم عليه لأنه سبب الإيمان بغيره لكونه مصدقا له ولذا قدمه.

(وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) يعني الصحف وهي وإن نزلت على إبراهيم عليه الصلاة والسلام لكن لما كان ما عطف عليه متعبدين بتفاصيلها داخلين تحت أحكامها صح نسبة نزولها إليهم أيضا كما صحح تعبدنا بتفاصيل القرآن ودخولنا تحت أحكامه نسبة نزوله إلينا ، و (الْأَسْباطِ) جمع سبط كأحمال وحمل وهم أولاد إسرائيل ، وقيل : هم أولاد إسحاق كالقبائل في أولاد إسماعيل مأخوذ من السبط وهو شجرة كثيرة الأغصان فكأنهم سموا بذلك لكثرتهم ، وقيل : من السبوطة وهي الاسترسال ، وقيل : إنه مقلوب البسط ، وقيل : للحسنين سبطا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لانتشار ذريتهم ثم قيل لكل ابن بنت : سبط ، وكذا قيل له : حفيد أيضا ، واختلف الناس في الأسباط أولاد يعقوب هل كانوا كلهم أنبياء أم لا؟ والذي صح عندي الثاني وهو المروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه ـ وإليه ذهب الإمام السيوطي ـ وألف فيه لأن ما وقع منهم مع يوسف عليه الصلاة والسلام ينافي النبوة قطعا وكونه قبل البلوغ غير مسلم لأن فيه أفعالا لا يقدر عليها إلا البالغون ، وعلى تقدير التسليم لا يجدي نفعا على ما هو القول الصحيح في شأن الأنبياء وكم كبيرة تضمن ذلك الفعل وليس في القرآن ما يدل على نبوتهم ، والآية قد علمت ما ذكرنا فيها فاحفظ ذلك هديت.

(وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) أي التوراة والإنجيل ، ولكون أهل الكتاب زادوا ونقصوا وحرفوا فيهما وادعوا أنهما أنزلا كذلك ، والمؤمنون ينكرونه اهتم بشأنهما فأفردهما بالذكر وبين طريق الإيمان بهما ولم يدرجهما في الموصول السابق ، ولأن أمرهما أيضا بالنسبة إلى (مُوسى وَعِيسى) أنهما منزلان عليهما حقيقة ، لا باعتبار التعبد فقط كما في المنزل على (إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) ولم يعد الموصول لذلك في (عِيسى) لعدم مخالفة شريعته لشريعة (مُوسى) إلا في النزر ، ولذلك الاهتمام عبر ـ بالإيتاء ـ دون ـ الإنزال ـ لأنه أبلغ لكونه المقصود منه ، ولما فيه من الدلالة على الإعطاء الذي فيه شبه التمليك والتفويض ، ولهذا يقال : أنزلت الدلو في البئر ، ولا تقول : آتيتها إياها. ولك أن تقول : المراد بالموصول هنا ما هو أعم من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات الظاهرة بأيدي هذين النبيين الجليلين حسبما فصل في التنزيل الجليل ، وإيثار ـ الإيتاء ـ لهذا التعميم ، وتخصيص النبيين بالذكر لما أن الكلام مع ـ اليهود والنصارى ..

٣٩٢

(وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ) وهي الكتب التي خصت من خصته منهم ، أو ما يشمل ذلك والمعجزات ، وهو تعميم بعد التخصيص كيلا يخرج من الإيمان أحد من الأنبياء (مِنْ رَبِّهِمْ) متعلق ب (أُوتِيَ) قبله ، والضمير ـ للنبيين ـ خاصة ، وقيل : ل (مُوسى وَعِيسى) أيضا ، ويكون (ما أُوتِيَ) تكريرا للأولى ، والجار متعلقا بها ، وهو ـ على التقديرين ـ ظرف لغو ، وجوّز أن يكون في موضع الحال من العائد المحذوف ، واحتمال أن يكون (ما) مبتدأ والجار خبره بعيد (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) أي كما فرق أهل الكتاب ، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض ـ بل نؤمن بهم جميعا ـ وإنما اعتبر عدم التفريق بينهم ، مع أن الكلام فيما أوتوه لاستلزام ذلك ـ عدم التفريق ـ فيه بين ـ ما أوتوه ـ و (أَحَدٍ) أصله ـ وحد ـ بمعنى ـ واحد ـ وحيث وقع في سياق النفي عم واستوى فيه ـ الواحد والكثير ـ وصح إرادة كل منهما ـ وقد أريد به هنا الجماعة ـ ولهذا ساغ أن يضاف إليه (بَيْنَ) ويفيد عموم الجماعات ـ كذا قاله بعض المحققين ـ وهو مخالف لما هو المشهور عند أرباب العربية من أن الموضوع في النفي العام أو المستعمل مع كل في الإثبات ـ همزته ـ أصلية بخلاف ما استعمل في الإثبات بدون كل فإن ـ همزته ـ منقلبة عن ـ واو ـ ومن هنا قال العلامة التفتازاني : إن (أَحَدٍ) في معنى الجماعة بحسب الوضع لأنه اسم لمن يصلح أن يخاطب يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع ، ويشترط أن يكون استعماله مع كلمة ـ كل ـ أو مع النفي ، نص على ذلك أبو عليّ وغيره من أئمة العربية ، وهذا غير ـ الأحد ـ الذي هو أول العدد في قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] وليس كونه في معنى الجماعة من جهة كونه نكرة في سياق النفي ـ على ما سبق ـ إلى كثير من الأوهام ، ألا ترى أنه لا يستقيم (لا نُفَرِّقُ) بين رسول من الرسل إلا بتقدير عطف أي رسول ورسول ، و (لَسْتُنَّ ـ كَأَحَدٍ ـ مِنَ النِّساءِ) [الأحزاب : ٣٢] ليس في معنى ـ كامرأة منهن ـ انتهى. وأنت ـ بعد التأمل ـ تعلم أن ما ذكره العلامة لا يرد على ذلك البعض ، وإنما ترد عليه المخالفة في الأصالة وعدمها فقط ـ ولعل الأمر فيها سهل ـ على أن دعوى عدم تلك الاستقامة إلا بذلك التقدير غير مجمع عليه ، فقد ذكر في الانتصاف أن النكرة الواقعة في سياق النفي تفيد العموم لفظا عموما شموليا حتى ينزل المفرد فيها منزلة الجمع في تناوله ـ الآحاد ـ مطابقة ، لا كما ظنه بعض الأصوليين من أن مدلولها بطريق المطابقة في النفي كمدلولها في الإثبات ، وجعل هذا التعدد والعموم وضعا هو المسوّغ لدخول (بَيْنَ) عليها هنا ، ومن الناس من جوّز كون (أَحَدٍ) في الآية بمعنى واحد ، وعمومه بدلي ، وصحة دخول (بَيْنَ) عليه باعتبار معطوف قد حذف لظهوره (بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) وغيره ، وفيه من الدلالة على تحقق التفريق بين كل فرد فرد منهم ، وبين من عداه كائنا من كان ما ليس في أن يقال : (لا نُفَرِّقُ) بينهم ـ ولا يخفى ما فيه ـ والجملة حال من الضمير في (آمَنَّا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي خاضعون لله تعالى بالطاعة ، مذعنون بالعبودية ، وقيل : منقادون لأمره ونهيه ، ومن جعل الضمير المجرور لما تقدم ذكره من الأنبياء فقد أبعد ، والجملة حال أخرى ، أو عطف على (آمَنَّا).

(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ

٣٩٣

ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٤١)

(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) متعلق بقوله سبحانه : (قُولُوا آمَنَّا) إلخ ، أو بقوله عز شأنه : (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) إلخ ، و ـ إن ـ لمجرد الفرض والكلام من باب الاستدراج ، وإرخاء العنان مع الخصم حيث يراد تبكيته ، وهو مما تتراكض فيه خيول المناظرين ـ فلا بأس بحمل كلام الله تعالى عليه ـ يعني نحن لا نقول : إننا على الحق وأنتم على الباطل ، ولكن إن حصلتم شيئا مساويا لما نحن عليه مما يجب الإيمان أو التدين به فقد اهتديتم ومقصودنا هدايتكم كيفما كانت ، والخصم إذا نظر بعين الإنصاف في هذا الكلام وتفكر فيه علم أن الحق ما عليه المسلمون لا غير ، إذ لا مثل لما آمنوا به ، وهو ذاته تعالى وكتبه المنزلة على أنبيائه ـ ولا دين كدينهم ـ ف (آمَنُوا) متعدية ـ بالباء ـ و ـ مثل ـ على ظاهرها ، وقيل : (آمَنُوا) جار مجرى اللازم ـ والباء ـ إما للاستعانة والآلة والمعنى إن دخلوا في الإيمان بواسطة شهادة مثل شهادتكم قولا واعتقادا (فَقَدِ اهْتَدَوْا) أو فإن تحروا ـ الإيمان ـ بطريق يهدي إلى الحق مثل طريقكم ، فإن وحدة المقصد لا تأبى تعدد الطرق ، كما قيل : الطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق ، والمقام مقام تعيين الدين الحق لا مقام تعيين شخص الطريق الموصل إليه ليأتي هذا التوجيه ، وإما زائدة للتأكيد ؛ و (ما) مصدرية ؛ وضمير (بِهِ) لله ، أو لقوله سبحانه : (آمَنَّا بِاللهِ) إلخ بتأويل المذكور ، أو للقرآن ، أو لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، والمعنى (فَإِنْ آمَنُوا) بما ذكر مثل إيمانكم به ، وإما للملابسة ، أي فآمنوا متلبسين (بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ) متلبسين به ، أو فإن آمنوا إيمانا متلبسا بمثل ما آمنتم إيمانا متلبسا به من الإذعان والإخلاص وعدم التفريق بين الأنبياء عليهم‌السلام ، وقيل : المثل مقحم كما في قوله تعالى : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) [الأحقاف : ١٠] أي عليه ، ويشهد له قراءة أبي «بالذي آمنتم به» وقراءة ابن عباس «بما آمنتم به» وكان رضي الله تعالى عنه يقول : اقرءوا ذلك فليس لله تعالى مثل ، ولعل ذلك محمول على التفسير لا على أنه أنكر القراءة المتواترة ـ وخفي عليه معناها ـ ومن الناس من قال : يمكن الاستغناء عن جميع ذلك بأن يقال : فإن آمن اليهود بمثل ما آمنتم كمؤمنيهم قبل التحريف ، فإنهم آمنوا بمثل ما آمن المؤمنون. فإن فيما أوتي به النبيون في زمن محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ما أنزل إليه ـ ولم يكن ذلك قبله ـ إلا أن هذا التوجيه يقتضي إبقاء صيغة الماضي على معناها كما في قولهم : إن أكرمتني فقد أكرمتك ، فتأمل انتهى. وأنت تعلم أن المؤمن به لا يتصور فيه التعدد وإبقاء الكلام على ظاهره ، والاستغناء عن جميع ما ذكر يستدعي وجود ذلك التعدد المحال ، فما ذا عسى ينفع هذا سوى تكثير القيل والقال ، وتوسيع دائرة النزاع والجدال ، فتدبر.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن الإيمان المأمور به ، أو عن قولكم في جواب قولهم.

(فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) أي مخالفة لله تعالى ـ قاله ابن عباس ـ أو منازعة ومحاربة ـ قاله ابن زيد ـ أو عداوة ـ قاله الحسن ـ واختلف في اشتقاق ـ الشقاق ـ فقيل : من الشق أي الجانب ، وقيل : من المشقة ، وقيل : مأخوذ من قولهم : شق العصا إذا أظهر العداوة ـ والتنوين للتفخيم ـ والجملة جواب الشرط إما على أن المراد مشاقتهم الحادثة بعد توليهم عن الإيمان ، وأوثرت الاسمية للدلالة على ثباتهم واستقرارهم على ذلك ، وإما بتأويل فاعلموا.

(فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) تسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم وتفريح للمؤمنين بوعد النصر والغلبة وضمان التأييد والإعزاز على أبلغ وجه للسين الدالة على تحقق الوقوع البتة ، أو للتذييل الآتي حيث إن السين في المشهور لا تدل على أكثر من التنفيس عقب ذكر ما يؤدي إلى الجدال والقتال ، والمراد سيكفيك كيدهم وشقاقهم لأن الكفاية لا تتعلق

٣٩٤

بالأعيان بل بالأفعال ، وتلوين الخطاب بتجريده للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم مع أنه سبحانه أنجز وعده الكريم بما هو كفاية للكل من قتل بني قريظة وسبيهم وإجلاء بني النضير لما أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مع الأصل والعمدة في ذلك وهو سلك حبات أفئدة المؤمنين ومطمح نظر كيد الكافرين ، وللإيذان بأن القيام بأمور الحروب وتحمل المشاق ومقاساة الشدائد في مناهضة الأعداء من وظائف الرؤساء فنعمته تعالى في الكفاية والنصرة في حقه أتم وأكمل (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) تذييل لما سبق من الوعد وتأكيد له أي (هُوَ السَّمِيعُ) لما تدعو به (الْعَلِيمُ) بما في نيتك من إظهار دينه فيستجيب لك ويوصلك إلى مرادك أو وعيد للكفرة بمعنى ـ يسمع ـ ما يبدون ـ ويعلم ـ ما يخفون مما لا خير فيه وهو معاقبهم عليه ، وفيه أيضا تأكيد الوعد السابق فإن وعيد الكفرة وعد للمؤمنين (صِبْغَةَ اللهِ) الصبغة بالكسر فعلة من ـ صبغ ـ كالجلسة من جلس وهي الحالة التي يقع عليها ـ الصبغ ـ عبر بها عن التطهير بالإيمان بما ذكر على الوجه الذي فصل لأنه ظهر أثره عليهم ظهور ـ الصبغ ـ على ـ المصبوغ ـ وتداخل في قلوبهم تداخله فيه وصار حلية لهم فهناك استعارة تحقيقية تصريحية والقرينة الإضافة والجامع ما ذكر ، وقيل : للمشاكلة التقديرية فإن النصارى كانوا ـ يصبغون ـ أولادهم بماء أصفر يسمونه المعمودية يزعمون أنه الماء الذي ولد فيه عيسى عليه الصلاة والسلام ويعتقدون أنه تطهير للمولود كالختان لغيرهم ، وقيل : هو ماء يقدس بما يتلى من الإنجيل ثم تغسل به الحاملات ، ويرد على هذا الوجه أن الكلام عام لليهود غير مختص بالنصارى اللهم إلا أن يعتبر أن ذلك الفعل كائن فيما بينهم في الجملة ونصبها على أنها مصدر مؤكد لقوله تعالى : (آمَنَّا) وهي من المصادر المؤكدة لأنفسها فلا ينافي كونها للنوع والعامل فيها ـ صبغنا ـ كأنه قيل ـ صبغنا الله صبغته ـ وقدر المصدر مضافا إلى الفاعل لتحقق شرط وجوب حذف عامله من كونه مؤكدا لمضمون الجملة إذ لو قدر منكرا لكان مؤكدا لمضمون أحد جزئيه أعني الفعل فقط نحو ضربت ضربا ، وقيل : إنها منصوبة بفعل الإغراء أي الزموا ـ صبغة الله ـ لا عليكم وإلا لوجب ذكره ـ كما قيل ـ وإليه ذهب الواحدي ، ولا يجب حينئذ إضمار العامل لأنه مختص في الإغراء بصورتي التكرار أو العطف كالعهد العهد وكالأهل والولد وذهب الأخفش والزجاج والكسائي. وغيرهم إلى أنها بدل من ملة إبراهيم (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) مبتدأ وخبر ، والاستفهام للإنكار ، وقوله تعالى : (صِبْغَةَ) تمييز منقول من المبتدأ نحو زيد أحسن من عمرو وجها ـ والتقدير ـ ومن صبغته أحسن من صبغة الله تعالى ـ كما يقدر وجه زيد أحسن من وجه عمرو ، والتفضيل جار بين الصبغتين لا بين فاعليهما أي لا صبغة (أَحْسَنُ) من صبغته تعالى على معنى أنه (أَحْسَنُ مِنَ) كل (صِبْغَةَ) وحيث كان مدار التفضيل على تعميم ـ الحسن ـ للحقيقي والفرضي المبني على زعم الكفرة لم يلزم أن يكون في (صِبْغَةَ) غيره تعالى حسن في الجملة ، والجملة معترضة مقررة لما في صبغة الله تعالى من التبجح والابتهاج أو جارية مجرى التعليل للإغراء (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) أي موحدون أو مطيعون متبعون ملة إبراهيم أو خاضعون مستكنون في اتباع تلك الملة ، وتقديم الجار لإفادة اختصاص العبادة له تعالى ، وتقديم المسند إليه لإفادة قصر ذلك الاختصاص عليهم ، وعدم تجاوزه إلى أهل الكتاب فيكون تعريضا لهم بالشرك أو عدم الانقياد له تعالى باتباع ملة إبراهيم ، والجملة عطف على (آمَنَّا) وذلك يقتضي دخول صبغة الله في مفعول (قُولُوا) لئلا يلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالأجنبي ، وإيثار الجملة الاسمية للإشعار بالدوام ، ولمن نصب (صِبْغَةَ) على الإغراء أو البدل أن يضمر (قُولُوا) قبل هذه الجملة معطوفا على الزموا على تقدير الإغراء ، وإضمار القول سائغ شائع ، والقرينة ـ السياق ـ لأن ما قبله مقول المؤمنين وأن يضمر اتبعوا في (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) لا نتبع ويكون (قُولُوا آمَنَّا) بدلا من اتبعوا بدل البعض لأن الإيمان داخل في اتباع ملة إبراهيم فلا يلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، ولا بين البدل والمبدل منه بالأجنبي وما قيل : إنه يلزم الفصل ببدل الفعل بين المفعول ، والمبدل منه ففيه أن (قُولُوا) ليس بدلا من الفعل

٣٩٥

فقط بل الجملة بدل من الجملة فلا محذور ، وأما القول ـ بأنه يمكن أن تجعل هذه الجملة حالا من لفظة الله في قوله سبحانه : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) أي صبغته بتطهير القلب أو الإرشاد أو حفظ الفطرة أحسن الإصباغ حال إخلاص العبادة له ـ فليس بشيء كما لا يخفى (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا) تجريد الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما أن المأمور به من الوظائف الخاصة به عليه الصلاة والسلام ، والهمزة للإنكار ، وقرأ زيد ، الحسن ، وغيرهما بإدغام النون أي تجادلونا.

(فِي اللهِ) أي في دينه وتدعون أن دينه الحق اليهودية والنصرانية وتبنون دخول الجنة والاهتداء عليهما ، وقيل : المراد في شأن الله تعالى واصطفائه نبيا من العرب دونكم بناء على أن الخطاب لأهل الكتاب وسوق النظم يقتضي أن تفسر المحاجة بما يختص بهم ، والمحاجة في الدين ليست كذلك والقرينة على التقييد قوله سبحانه قيل : (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) وبعد (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً) حيث إنه تعريض بكتمان أهل الكتاب شهادة الله سبحانه بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، وما روي في سبب النزول أن أهل الكتاب قالوا الأنبياء كلهم منا فلو كنت نبيا لكنت منا فنزلت ، ولا يخفى عليك أن المحاجة في الدين على ما ذكرنا مختصة بهم على أن ظاهر السوق يقتضي ذمهم بما صار ديدنا لهم وشنشنة فيهم حتى عرفوا فيه ، ومشركو العرب وإن حاجوا في الدين أيضا لكنهم لم يصلوا فيه إلى رتبة أهل الكتاب لما أنهم أميون عارون عن سائر العلوم جاهلون بوظائف البحث بالكلية نظرا إلى أولئك القائمين على ساق الجدال وإن القرينتين السابقة واللاحقة على التقييد في غاية الخفاء وأن ما روي في سبب النزول ليس مذكورا في شيء من كتب الحديث ولا التفاسير المعتبرة كما نص على ذلك الإمام السيوطي وكفى به حجة في هذا الشأن.

(وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) جملة حالية أي أتجادلوننا والحال أنه لا وجه للمجادلة أصلا لأنه تعالى مالك أمرنا وأمركم (وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) عطف على ما قبله أي لنا جزاء أعمالنا الحسنة الموافقة لأمره ولكم جزاء أعمالكم السيئة المخالفة لحكمه (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) في تلك الأعمال لا نبتغي بها إلا وجهه فأنى لكم المحاجة ودعوى حقية ما أنتم عليه والقطع بدخول الجنة بسببه ودعوة الناس إليه. والجملة حالية كالتي قبلها ، وذهب بعض المحققين أن هذه الجملة كجملتي (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) اعتراض وتذييل للكلام الذي عقب به مقول على ألسنة العباد بتعليم الله تعالى لا عطف ، وتحريره أن (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) مناسب ـ لآمنا ـ أي نؤمن بالله وبما أنزل على الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ونستسلم له وننقاد لأوامره ونواهيه وقوله تعالى : (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) ملائم لقوله تعالى : (صِبْغَةَ اللهِ) لأنها بمعنى دين الله فالمصدر كالفذلكة لما سبق ، وهذه الآية موافقة لما قبلها ، ولعل الذوق السليم لا يأباه ، وأما القول بأن معنى (وَهُوَ رَبُّنا) إلخ أنه لا اختصاص له تعالى بقوم دون قوم فيصيب برحمته من يشاء فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا كما أكرمكم بأعمالكم كأنه ألزمهم على كل مذهب يفتحونه إفحاما وتبكيتا فإن كرامة النبوة إما تفضل من الله تعالى فالكل فيه سواء ، وإما إفاضة حق على المستحقين لها بالمواظبة على الطاعة والتحلي بالإخلاص فكما أن لكم أعمالا ربما يعتبرها الله تعالى في إعطائها فلنا أيضا أعمال ونحن له مخلصون بها لا أنتم ، فمع بنائه على ما علمت ركاكته غير ملائم لسباق النظم الكريم وسياقه بل غير صحيح في نفسه كما أفتى به مولانا مفتي الديار الرومية لما أن المراد بالأعمال من الطرفين ما أشير إليه من الأعمال الصالحة والسيئة ولا ريب أن أمر الصلاح والسوء يدور على موافقة الدين المبني على البعثة ومخالفته فكيف يتصور اعتبار تلك الأعمال في استحقاق النبوة واستعدادها المتقدم على البعثة بمراتب هذا؟! وقد اختلف الناس في الإخلاص ، فروي عن النبي صلى

٣٩٦

الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «سألت جبريل عن الإخلاص ما هو؟ فقال : سألت رب العزة عنه فقال : سرّ من أسراري استودعته قلب من أحببته من عبادي» وقال سعيد بن جبير : الإخلاص أن لا تشرك في دينه ولا تراء أحدا في عمله ، وقال الفضيل : ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك ، والإخلاص أن يعافيك الله تعالى منهما ، وقال حذيفة المرعشي : أن تستوي أفعال العبد في الباطن والظاهر ، وقال أبو يعقوب : المكفوف أن يكتم العبد حسناته كما يكتم سيئاته ، وقال سهل : هو الإفلاس ، ومعناه احتقار العمل وهو معنى قول رويم ـ ارتفاع عملك عن الرؤية ـ قيل : ومقابل الإخلاص الرياء ، وذكر سليمان الداراني ثلاث علامات له. الكسل عند العبادة في الوحدة ، والنشاط في الكثرة ، وحب الثناء على العمل.

(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى أَمْ) إما متصلة معادلة للهمزة في (أَتُحَاجُّونَنا) داخلة في حيز الأمر والمراد بالاستفهام إنكارهما معا بمعنى كل من الأمرين منكر ينبغي أن لا يكون إقامة الحجة وتنوير البرهان على حقية ما أنتم عليه ، والحال ما ذكر والتشبث بذيل التقليد والافتراء على الأنبياء عليهم‌السلام ، وفائدة هذا الأسلوب مع أن العلم حاصل بثبوت الأمرين الإشارة إلى أن أحدهما كاف في الذم فكيف إذا اجتمعا كما تقول لمن أخطأ تدبيرا ومقالا : أتدبيرك أم تقريرك ، وبهذا يندفع ما قاله أبو حيان من أن الاتصال يستدعي وقوع إحدى الجملتين والسؤال عن تعيين إحداهما وليس الأمر كذلك إذ وقعتا معا ، وإما منقطعة مقدرة ببل والهمزة دالة على الإضراب والانتقال من التوبيخ على المحاجة إلى التوبيخ على الافتراء على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وقرأ غير ابن عامر ، وحمزة والكسائي وحفص «أم يقولون» ـ بالياء ـ ويتعين كون (أَمْ) حينئذ منقطعة لما فيها من الإضراب من الخطاب إلى الغيبة ولا يحسن في المتصلة أن يختلف الخطاب من مخاطب إلى غيره كما يحسن في المنقطعة ويكون الكلام استئنافا غير داخل تحت الأمر بل وارد منه تعالى توبيخا لهم. وإنكارا عليهم ، وحكى أبو جعفر الطبري عن بعض النحاة جواز الاتصال لأنك إذا قلت ـ أتقوم يا زيد أم يقوم عمرو ـ صح الاتصال ، واعترض عليه ابن عطية بأن المثال غير جيد لأن القائل فيه واحد والمخاطب واحد والقول في الآية من اثنين والمخاطب اثنان غير أن يتجه معادلة (أَمْ) للهمزة على الحكم المعنوي كان معنى (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا) أي يحاجون يا محمد أم يقولون ، ولا يخفى أن القول بالانقطاع إن لم يكن متعينا فلا أقل من أنه أولى.

(قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) أي لستم أعلم بحال إبراهيم عليه‌السلام في باب الدين بل الله تعالى أعلم بذلك وقد أخبر سبحانه بنفي اليهودية والنصرانية عنه ، واحتج على انتفائهما عنه بقوله : (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) [آل عمران : ٦٥] وهؤلاء المعطوفون عليه أتباعه في الدين وفاقا فحالهم حاله فلم تدعون له ولهم ما نفى الله تعالى؟ فما ذلك إلا جهل غال ولجاج محض (وَمَنْ أَظْلَمُ) إنكار لأن يكون أحد أظلم (مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً) ثابتة.

(عِنْدَهُ) واصلة (مِنَ اللهِ) إليه وهي شهادته تعالى لإبراهيم عليه‌السلام بالحنيفية والبراءة عن اليهودية والنصرانية حسبما تلي آنفا ، وجيء بالوصفين لتعليل الإنكار وتأكيده فإن ثبوت ـ الشهادة عنده ـ وكونها من جانب جناب العلي الأعلى عز شأنه من أقوى الدواعي إلى إقامتها وأشد الزواجر عن كتمانها ، وتقديم الأول مع أنه متأخر في الوجود لمراعاة طريق الترقي والمعنى لا أحد أظلم من أهل الكتاب ـ حيث كتموا هذه الشهادة وأثبتوا نقيضها بما ذكر من الافتراء ـ والجملة تذييل يقرر ما أنكر عليهم من ادعاء اليهودية والنصرانية وتعليق الأظلمية بمطلق الكتمان للإيماء إلى أن مرتبة من يردها ويشهد بخلافها في الظلم خارجة عن دائرة البيان ، أو لا أحد ـ أظلم منا لو كتمنا هذه ـ الشهادة ـ ولم نقمها في مقام المحاجة ، والجملة حينئذ تذييل مقرر ما أوقع في قوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) من أنهم

٣٩٧

شاهدون بما شهد الله تعالى به مصدقونه بما أعلمهم ، وجعلها على هذا من تتمة (قُولُوا آمَنَّا) لأنه في معنى إظهار الشهادة. وعلى الأول من تتمة (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا) لأنه في معنى كتمانها ظاهر التعسف ، ولا يخفى أن في الآية تعريضا بغاية أظلمية أهل الكتاب على نحو ما أشير إليه ، وفي إطلاق الشهادة ـ مع أن المراد بها ما تقدم من الشهادة المعينة ـ تعريض بكتمانهم شهادة الله تعالى لنبيه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم في التوراة والإنجيل ، وفي ري الظمآن أن ـ من ـ صلة (أَظْلَمُ) والكلام على التقديم والتأخير كأنه قيل : ومن أظلم من الله ممن كتم شهادة حصلت عنده كقولك ومن أظلم من زيد من جملة الكاتمين للشهادة ، والمعنى لو كان إبراهيم وبنوه يهودا أو نصارى ثم إن الله تعالى كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم الشهادة أظلم منه لكن لما استحال ذلك مع عدله وتنزيهه عما لا يليق علمنا أن الأمر ليس كذلك ، وقيل : إن (مِمَّنْ) صلة (كَتَمَ) والكلام على حذف مضاف ـ أي كتم من عباد الله شهادة عنده ـ ومعناه أنه تعالى ذمهم على منع أن يوصلوا إلى عباد الله تعالى ، ويؤدوا إليهم شهادة الحق ، ولا يخفى ما في هذين الوجهين من التكلف والتعسف وانحطاط المعنى فلينزه كتاب الله تعالى العظيم عنه ، على أنك لو نظرت بعين الإنصاف رأيت الوجه الثاني من الأولين لا يخلو عن بعد لأن الآية إنما تقدمها الإنكار لما نسب إلى إبراهيم عليه‌السلام ، ومن ذكر معه فالذي يليق أن يكون الكلام مع أهل الكتاب لا مع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وأتباعه لأنهم مقرون بما أخبر الله تعالى به وعالمون بذلك فلا يفرض في حقهم كتمانه والتذييل الذي ادعي فيه خلاف الظاهر أيضا.

(وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعيد وتهديد لأهل الكتاب أي إن الله تعالى لا يترك أمركم سدى بل هو محصل لأعمالكم محيط بجميع ما تأتون وتذرون فيعاقبكم بذلك أشد عقاب ، ويدخل في ذلك كتمانهم لشهادته تعالى وافتراؤهم على أنبيائه عليهم‌السلام ، وقرئ ـ عما يعملون ـ بصيغة الغيبة فالضمير إما لمن كتم باعتبار المعنى أو لأهل الكتاب.

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) تكرير لما تقدم للمبالغة في التحذير عما استحكم في الطباع من الافتخار بالآباء والاتكال عليهم كما يقال : اتق الله اتق الله ، أو تأكيد وتقرير للوعيد يعني أن الله تعالى يجازيكم على أعمالكم ولا تنفعكم آباؤكم ولا تسألون يوم القيامة عن أعمالهم بل عن أعمال أنفسكم ، وقيل : الخطاب فيما سبق لأهل الكتاب ، وفي هذه الآية لنا تحذيرا عن الاقتداء بهم ، وقيل : المراد بالأمة في الأول الأنبياء وفي الثاني أسلاف اليهود لأن القوم لما قالوا في إبراهيم وبنيه : إنهم كانوا ما كانوا ـ فكأنهم قالوا ـ إنهم على مثل طريقة أسلافنا فصار سلفهم في حكم المذكورين فجاز أن يعنوا بالآية ، ولا يخفى ما في ذلك من التعسف الظاهر.

تم طبع الجزء الأول ، ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثاني وأوله

٣٩٨

الجزء الثاني

٣٩٩
٤٠٠