روح المعاني - ج ١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

ذلك تشريك في حكم واحد وهو بعيد عن حقيقة الحكم ، و (يَوْمَ) متعلق ب (يَحْكُمُ) وكذا ما بعده ولا ضير لاختلاف المعنى ، وفيه متعلق ب (يَخْتَلِفُونَ) لا ب (كانُوا) وقدم عليه للمحافظة على رءوس الآي.

«ومن باب الإشارة في الآيات» ما ننسخ من آية أي ما نزيل من صفاتك شيئا عن ديوان قلبك أو نخفيه بإشراق أنوارنا عليه إلا ونرغم فيه من صفاتنا التي لا تظن قابليتك لما يشاركها في الاسم والتي تظن وجود ما لا يشاركها فيك (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ) عالم الأرواح وأرض الأجساد وهو المتصرف فيهما بيد قدرته بل العوالم على اختلافها ظاهر شئون ذاته ومظهر أسمائه وصفاته فلم يبق شيء غيره ينصركم ويليكم (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا) رسول العقل من اللذات الدنية والشهوات الدنيوية (كَما سُئِلَ مُوسى) القلب (مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ) الظلمة بالنور فقد ضل الطريق المستقيم وقالت اليهود لن يدخل الجنة المعهودة عندهم وهي جنة الظاهر وعالم الملك التي هي جنة الأفعال وجنة النفس إلا من كان هودا وقالت النصارى لن يدخل الجنة المعهودة عندهم وهي جنة الباطن وعالم الملكوت التي هي جنة الصفات وجنة القلب إلا من كان نصرانيا ، ولهذا قال عيسى عليه‌السلام : لن يلج ملكوت السماوات من لم يولد مرتين (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) أي غاية مطالبهم التي وقفوا على حدها واحتجبوا بها عما فوقها (قُلْ هاتُوا) دليلكم الدال على نفي دخول غيركم (إِنْ كُنْتُمْ) صادقين في دعواكم بل الدليل دل على نقيض مدعاكم فإن (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ) وخلص ذاته من جميع لوازمها وعوارضها لله تعالى بالتوحيد الذاتي عند المحو الكلي وهو مستقيم في أحواله بالبقاء بعد الفناء مشاهد ربه في أعماله راجع من الشهود الذاتي إلى مقام الإحسان الصفاتي الذي هو المشاهدة للوجود الحقاني (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي ما ذكرتم من الجنة وأصفى لاختصاصه بمقام العندية التي حجبتم عنها ولهم زيادة على ذلك هي عدم خوفهم من احتجاب الذات وعدم حزنهم على ما فاتهم من جنة الأفعال والصفات التي حجبتم بالوقوف عندها (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) لاحتجابهم بالباطن عن الظاهر (وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) لاحتجابهم عن الباطن بالظاهر (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) وفيه ما يرشدهم إلى رفع الحجاب ورؤية حقية كل مذهب في مرتبته (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) المراتب (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) فخطأ كل فرقة منهم الفرقة الأخرى ولم يميزوا بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية ولم يعرفوا وجه الحق في كل مرتبة من مراتب الوجود فالله تعالى الجامع لجميع الصفات على اختلاف مراتبها وتفاوت درجاتها (يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) بالحق في اختلافاتهم يوم قيام القيامة الكبرى وظهور الوحدة الذاتية وتجلي الرب بصور المعتقدات حتى ينكرونه فلا يسجد له إلا من لم يقيده سبحانه حتى بقيد الإطلاق (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) نزلت في طيطوس بن إسيانوس الرومي وأصحابه وذلك أنهم غزوا بني إسرائيل فقتلوا مقاتليهم وسبوا ذراريهم وحرقوا التوراة وخربوا بيت المقدس وقذفوا فيه الجيف وذبحوا فيه الخنازير وبقي خرابا إلى أن بناه المسلمون في أيام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في مشركي العرب منعوا المسلمين من ذكر الله تعالى في المسجد الحرام ، وعلى الأول تكون الآية معطوفة على قوله تعالى : (وَقالَتِ النَّصارى) عطف قصة على قصة تقريرا لقبائحهم ، وعلى الثاني تكون اعتراضا بأكثر من جملة بين المعطوف أعني قالوا اتخذوا المعطوف عليه أعني قالت اليهود لبيان حال المشركين الذين جرى ذكرهم بيانا لكمال شناعة أهل الكتاب فإن المشركين الذين يضاهونهم إذا كانوا أظلم الكفرة ، وظاهر الآية العموم في كل مانع وفي كل مسجد وخصوص السبب لا يمنعه ، و «أظلم» أفعل تفضيل خبر عن ـ من ـ ولا يراد بالاستفهام حقيقته وإنما هو بمعنى النفي فيؤول إلى الخبر أي لا أحد أظلم من ذلك واستشكل بأن هذا التركيب قد تقرر في القرآن (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها)

٣٦١

[الكهف : ٥٧] (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِبا) [الإنعام : ٢١ ، ٩٣ ، ١٤٤ ، الأعراف : ٣٧ ، يونس : ١٧] (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ) [الإنعام : ١٥٧ ، الزمر : ٣٢] إلى غير ذلك فإذا كان المعنى على هذا لزم التناقض وأجيب بالتخصيص إما بما يفهم من نفس الصلات أو بالنسبة إلى من جاء بعد من ذلك النوع ويؤول معناه إلى السبق في المانعية أو الافترائية مثلا ، واعترض بأن ذلك بعد عن مدلول الكلام ووضعه العربي وعجمة في اللسان يتبعها استعجام المعنى ، فالأولى أن يجاب بأن ذلك لا يدل على نفي التسوية في الأظلمية وقصارى ما يفهم من الآيات أظلمية أولئك المذكورين فيها ممن عداهم كما أنك إذا قلت لا أحد أفقه من زيد وعمرو وخالد لا يدل على أكثر من نفي أن يكون أحد أفقه منهم وأما أنه يدل على أن أحدهم أفقه من الآخر فلا ، ولا يرد أن من منع مساجد الله مثلا ولم يفتر على الله كذبا أقل ظلما ممن جمع بينهما فلا يكون مساويا في الأظلمية لأن هذه الآيات إنما هي في الكفار وهم متساوون فيها إذ الكفر شيء واحد لا يمكن فيه الزيادة بالنسبة لأفراد من اتصف به وإنما تمكن بالنسبة لهم ولعصاة المؤمنين بجامع ما اشتركوا فيه من المخالفة قاله أبو حيان ، ولا يخفى ما فيه. وقد قال غير واحد إن قولك : من أظلم ممن فعل كذا إنكار لأن يكون أحد أظلم منه أو مساويا له وإن لم يكن سبك التركيب متعرضا لإنكار المساواة ونفيها إلا أن العرف الفاشي والاستعمال المطرد يشهد له فإنه إذا قيل من أكرم من فلان أو لا أفضل من فلان فالمراد به حتما أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل فلعل الأولى الرجوع إلى أحد الجوابين مع ملاحظة الحيثية وإن جعلت ذلك الكلام مخرجا مخرج المبالغة في التهديد والزجر مع قطع النظر عن نفي المساواة أو الزيادة في نفس الأمر كما قيل به محكما العرف أيضا زال الاشكال وارتفع القيل والقال فتدبر (أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) مفعول ثان لمنع أو مفعول من أجله بمعنى منعها كراهية (أَنْ يُذْكَرَ) أو بدل اشتمال من مساجد والمفعول الثاني إذن مقدر أي عمارتها أو العبادة فيها أو نحوه أو الناس مساجد الله تعالى أو لا تقدير ؛ والفعل متعد لواحد وكني بذكر اسم الله تعالى عما يوقع في المساجد من الصلوات والتقربات إلى الله تعالى بالأفعال القلبية والقالبية المأذون بفعلها فيها.

(وَسَعى فِي خَرابِها) أي هدمها وتعطيلها ، وقال الواحدي : إنه عطف تفسير لأن عمارتها بالعبادة فيها (أُولئِكَ) الظالمون المانعون الساعون في خرابها.

(ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) ـ اللام ـ في (لَهُمْ) إما للاختصاص ـ على وجه اللياقة ـ كما في الجل للفرس ، والمراد من ـ الخوف ـ الخوف من الله تعالى ، وإما للاستحقاق كما في ـ الجنة للمؤمن ـ والمراد من ـ الخوف ـ الخوف من المؤمنين ، وإما لمجرد الارتباط بالحصول ، أي (ما كانَ لَهُمْ) في علم الله تعالى وقضائه (أَنْ يَدْخُلُوها) فيما سيجيء (إِلَّا خائِفِينَ) والجملة «على الأول» مستأنفة جواب لسؤال نشأ من قوله تعالى : (وَسَعى فِي خَرابِها) كأنه قيل : فما اللائق بهم؟ والمراد من ـ الظلم ـ حينئذ وضع الشيء في غير موضعه.

«وعلى الثاني» جواب سؤال ناشئ من قوله سبحانه : (مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ) كأنه قيل : فما كان حقهم؟ والمراد من ـ الظلم ـ التصرف في حق الغير «وعلى الثالث» اعتراض بين كلامين متصلين معنى ، وفيه وعد المؤمنين بالنصرة وتخليص ـ المساجد ـ عن الكفار ـ وللاهتمام بذلك وسطه ـ وقد أنجز الله تعالى وعده والحمد لله ؛ فقد روي أنه لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكرا مسارقة ، وقال قتادة : لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا انتهك ضربا ، وأبلغ إليه في العقوبة ولا نقض باستيلاء الأقرع ، وبقاء بيت المقدس في أيدي النصارى أكثر من مائة سنة إلى أن استخلصه الملك صلاح الدين لأن الإنجاز يستدعي تحقيقه في وقت ما ، ولا دلالة فيه على التكرار ، وقيل : النفي بمعنى النهي ـ ومعناه على طريق الكناية ـ النهي عن التخلية والتمكين من دخولهم المساجد ، وذلك يستلزم

٣٦٢

ـ أن لا يدخلوها إلا خائفين ـ من المؤمنين ، فذكر اللازم وأريد الملزوم ، ولا يخفى أن النهي عن التخلية والتمكين المذكور في وقت قوة الكفار ومنعهم المساجد لا فائدة فيه سوى الاشعار بوعد المؤمنين بالنصرة والاستخلاص منهم ، فالحمل عليه من أول الأمر أولى ، واختلف الأئمة في دخول الكفار المسجد ، فجوّزه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه مطلقا للآية ـ فإنها تفيد دخولهم بخشية وخشوع ـ ولأن وفد ثقيف قدموا عليه عليه الصلاة والسلام فأنزلهم المسجد ، ولقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل الكعبة فهو آمن» والنهي محمول على التنزيه أو الدخول للحرم بقصد الحج ، ومنعه مالك رضي الله تعالى عنه مطلقا لقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة : ٢٨] والمساجد يجب تطهيرها عن النجاسات ، ولذا يمنع الجنب عن الدخول ـ وجوّزه لحاجة ـ وفرق الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه بين المسجد الحرام وغيره وقال : الحديث منسوخ بالآية ، وقرأ عبد الله «إلا خيفا» وهو مثل (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أي عظيم بقتل أبطالهم وأقيالهم ، وكسر أصنامهم ، وتسفيه أحلامهم ، وإخراجهم من جزيرة العرب التي هي دار قرارهم ، ومسقط رءوسهم ، أو بضرب الجزية على أهل الذمة منهم (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهو عذاب النار لما أن سببه أيضا ، وهو ما حكي من ظلمهم ـ كذلك في العظم ـ وتقديم الظرف في الموضعين للتشويق لما يذكر بعده.

«ومن باب الإشارة في الآية» ومن أبخس حظا وأنقص حقا «ممن منع» مواضع السجود لله تعالى وهي القلوب التي يعرف فيها فيسجد له بالفناء الذاتي (أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) الخاص الذي هو الاسم الأعظم ، إذ لا يتجلى بهذا الاسم إلا في القلب ـ وهو التجلي بالذات مع جميع الصفات ـ أو اسمه المخصوص بكل واحد منها ، أي الكمال اللائق باستعداده المقتضي له (وَسَعى فِي خَرابِها) بتكديرها بالتعصبات وغلبة الهوى ، ومنع أهلها بتهييج الفتن اللازمة لتجاذب قوى النفس ، ودواعي الشيطان والوهم (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها) ويصلوا إليها (إِلَّا خائِفِينَ) منكسرين لظهور تجلي الحق فيها (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) وافتضاح وذلة بظهور بطلان ما هم عليه (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهو احتجابهم عن الحق سبحانه (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي الناحيتان المعلومتان المجاورتان لنقطة تطلع منها الشمس وتغرب ، وكنى بمالكيتهما عن مالكية كل الأرض ، وقال بعضهم : إذا كانت الأرض كروية يكون كل مشرق بالنسبة مغربا بالنسبة ـ والأرض كلها كذلك ـ فلا حاجة إلى التزام الكناية ، وفيه بعد (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) أي ففي أي مكان فعلتم التولية شطر القبلة ، وقرأ الحسن (تُوَلُّوا) على الغيبة (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) أي فهناك جهته سبحانه التي أمرتم بها ، فإذا مكان ـ التولية ـ لا يختص بمسجد دون مسجد ولا مكان دون آخر (فَأَيْنَما) ظرف لازم الظرفية متضمن لمعنى الشرط وليس مفعولا ل (تُوَلُّوا) ـ والتولية ـ بمعنى الصرف منزل منزلة اللازم ، وثم اسم إشارة للمكان البعيد خاصة ـ مبني على الفتح ـ ولا يتصرف فيه يغير ـ من ـ وقد وهم من أعربه مفعولا به في قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً) [الإنسان : ٢٠] وهو خبر مقدم ، وما بعده مبتدأ مؤخر ، والجملة جواب الشرط ـ والوجه ـ الجهة ـ كالوزن والزنة ـ واختصاص الإضافة باعتبار كونها مأمورا بها ، وفيها رضاه سبحانه ، وإلى هذا ذهب الحسن ومقاتل ومجاهد وقتادة ، وقيل : الوجه بمعنى الذات مثله في قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] إلا أنه جعل هنا كناية عن عمله واطلاعه مما يفعل هناك ، وقال أبو منصور : بمعنى الجاه ، ويؤول إلى الجلال والعظمة ، والجملة ـ على هذا ـ اعتراض لتسلية قلوب المؤمنين بحل الذكر والصلاة في جميع الأرض ـ لا في المساجد خاصة ـ وفي الحديث الصحيح «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» ولعل غيره عليه الصلاة والسلام لم تبح له الصلاة في غير البيع والكنائس ، وصلاة عيسى عليه‌السلام ـ في أسفاره ـ في غيرها كانت عن

٣٦٣

ضرورة ـ فلا حاجة إلى القول باختصاص المجموع ـ وجوّز أن تكون «أينما» مفعول (تُوَلُّوا) بمعنى الجهة ، فقد شاع في الاستعمال «أينما» توجهوا ، بمعنى أي جهة توجهوا ـ بناء على ما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ـ أن الآية نزلت في صلاة المسافر (١) والتطوع على الراحلة ، وعلى ما روي عن جابر أنها نزلت في قوم عميت عليهم ـ القبلة ـ في غزوة كانت فيها معهم ، فصلوا إلى الجنوب والشمال ، فلما أصبحوا تبين خطؤهم ، ويحتمل ـ على هاتين الروايتين ـ أن تكون «أينما» كما في الوجه الأول أيضا ، ويكون المعنى في أي مكان فعلتم أي ـ تولية ـ لأن حذف المفعول به يفيد العموم ، واقتصر عليه بعضهم مدعيا أن ما تقدم لم يقل به أحد من أهل العربية ، ومن الناس من قال : الآية توطئة لنسخ القبلة ، وتنزيه للمعبود أن يكون في حين وجهة ، وإلا لكانت أحق بالاستقبال ، وهي محمولة على العموم غير مختصة بحال السفر أو حال التحري ، والمراد ب أينما» أي جهة ، وبالوجه الذات. ووجه الارتباط حينئذ أنه لما جرى ذكر ـ المساجد ـ سابقا أورد بعدها تقريبا حكم ـ القبلة ـ على سبيل الاعتراض ، وادعى بعضهم أن هذا أصح الأقوال ، وفيه تأمل (إِنَّ اللهَ واسِعٌ) أي محيط بالأشياء ملكا أو رحمة ، فلهذا ـ وسع ـ عليكم ـ القبلة ـ ولم يضيق عليكم (عَلِيمٌ) بمصالح العباد وأعمالهم في الأماكن ، والجملة على الأول تذييل لمجموع (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) إلخ وعلى الثاني تذييل لقوله سبحانه (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) إلخ ، ومن الغريب جعل ذلك تهديدا .. لمن منع مساجد الله ـ وجعل الخطاب المتقدم لهم أيضا ، فيؤول المعنى إلى أنه لا مهرب من الله تعالى لمن طغى ، ولا مفر لمن بغى ، لأن فلك سلطانه حدد الجهات ، وسلطان علمه أحاط بالأفلاك الدائرات.

أين المفر ولا مفر لهارب

وله البسيطان الثرى والماء

ومن باب الإشارة أن المشرق عبارة عن عالم النور والظهور وهو جنة النصارى وقبلتهم بالحقيقة باطنه ، والمغرب عالم الأسرار والخفاء وهو جنة اليهود وقبلتهم بالحقيقة باطنه ، أو المشرق عبارة عن إشراقه سبحانه على القلوب بظهور أنواره فيها والتجلي لها بصفة جماله حالة الشهود ، والمغرب عبارة عن الغروب بتستره واحتجابه واختفائه بصفة جلاله حالة البقاء بعد الفناء ولله تعالى كل ذلك فأي جهة يتوجه المرء من الظاهر والباطن (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) المتحلي بجميع الصفات المتجلي بما شاء منزها عن الجهات وقد قال قائل القوم :

وما الوجه إلا واحد غير أنه

إذا أنت عددت المرايا تعددا

(إِنَّ اللهَ واسِعٌ) لا يخرج شيء عن إحاطته (عَلِيمٌ) فلا يخفى عليه شيء من أحوال خليقته ومظاهر صفته.

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) نزلت في اليهود حيث ـ قالوا عزيز ابن الله ـ وفي نصارى نجران حين قالوا (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) وفي مشركي العرب حيث قالوا ـ الملائكة بنات الله ـ فالضمير لما سبق ذكره من النصارى واليهود والمشركين الذين لا يعلمون ، وعطفه على (قالَتِ الْيَهُودُ) وقال أبو البقاء على (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) وجوز أن يكون عطفا على منع أو على مفهوم ـ من أظلم ـ دون لفظه للاختلاف إنشائية وخبرية. والتقدير ظلموا ظلما شديدا بالمنع ، وقالوا : وإن جعل من عطف القصة على القصة لم يحتج إلى تأويل ، والاستئناف حينئذ بياني كأنه قيل بعد ما عدد من قبائحهم هل انقطع خيط إسهابهم في الافتراء على الله تعالى أم امتد؟ فقيل : بل امتد فإنهم قالوا ما هو أشنع وأفظع ، والاتخاذ ـ إما بمعنى الصنع والعمل فلا يتعدى إلا إلى واحد. وإما بمعنى التصيير ، والمفعول الأول محذوف أي صير بعض مخلوقاته ولدا ، وقرأ ابن عباس ، وابن عامر. وغيرهما ـ قالوا ـ بغير واو على الاستئناف أو

__________________

(١) بالمعنى اللغوي أي الخارج عن العمران ا ه منه.

٣٦٤

ملحوظا فيه معنى العطف ، واكتفى بالضمير ، والربط به عن الواو كما في البحر (سُبْحانَهُ) تنزيه وتبرئة له تعالى عما قالوا : بأبلغ صيغة ومتعلق ـ سبحان ـ محذوف كما ترى لدلالة الكلام عليه.

(بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إبطال لما زعموه وإضراب عما تقتضيه مقالتهم الباطلة من التشبيه بالمحدثات في التناسل والتوالد ، والحاجة إلى الولد في القيام بما يحتاج الوالد إليه ، وسرعة الفناء لأنه لازم للتركيب اللازم للحاجة ، وكل محقق قريب سريع ، ولأن الحكمة في التوالد هو أن يبقى النوع محفوظا بتوارد الأمثال فيما لا سبيل إلى بقاء الشخص بعينه مدة بقاء الدهر. وكل ذلك يمتنع على الله تعالى فإنه الأبدي الدائم والغني المطلق المنزه عن مشابهة المخلوقات. واللام في (لَهُ) قيل للملك ، وقيل : إنها كالتي في قولك لزيد ـ ضرب ـ تفيد نسبة الأثر إلى المؤثر ، وقيل : للاختصاص بأي وجه كان ، وهو الأظهر ، والمعنى ليس الأمر كما افتروا بل هو خالق جميع الموجودات التي من جملتها ما زعموه ولدا ، والخالق لكل موجود لا حاجة له إلى الولد إذ هو يوجد ما يشاء منزها عن الاحتياج إلى التوالد (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي كل ما فيهما كائنا ما كان جميعا منقادون له لا يستعصي شيء منهم على مشيئته وتكوينه إيجادا وإعداما وتغيرا من حال إلى حال ، وهذا يستلزم الحدوث والإمكان المنافي للوجوب الذاتي فكل من كان متصفا بهذه الصفة لا يكون والدا لأن من حق الولد أن يشارك والده في الجنس لكونه بعضا منه ، وإن لم يماثله ، وكان الظاهر كلمة من مع (قانِتُونَ) كيلا يلزم اعتبار التغليب فيه ، ويكون موافقا لسوق الكلام فإن الكلام في العزير والمسيح والملائكة وهم عقلاء إلا أنه جاء بكلمة (ما) المختصة بغير أولي العلم كما قاله بعضهم : محتجا بقصة الزبعرى مخالفا لما عليه الرضيّ من أنها في الغالب لما يعلم ، ولما عليه الأكثرون من عمومها كما في التلويح ، واعتبر التغليب في (قانِتُونَ) إشارة إلى أن هؤلاء الذين جعلوهم ولد الله تعالى سبحانه وتعالى في جنب عظمته جمادات مستوية الأقدام معها في عدم الصلاحية لاتخاذ الولد ، وقيل : أتى بما في الأول لأنه إشارة إلى مقام الألوهية ، والعقلاء فيه بمنزلة الجمادات ، وبجمع العقلاء في الثاني لأنه إشارة إلى مقام العبودية ، والجمادات فيه بمنزلة العقلاء.

ويحتمل أن يقدر المضاف إليه كل ما جعلوه ولدا لدلالة المقول لا عاما لدلالة مبطلة ، ويراد بالقنوت الانقياد لأمر التكليف كما أنه على العموم الانقياد لأمر التكوين ، وحينئذ لا تغليب في (قانِتُونَ) وتكون الجملة إلزاما بأن ما زعموه ولدا مطيع لله تعالى مقر بعبوديته بعد إقامة الحجة عليهم بما سبق ، وترك العطف للتنبيه على استقلال كل منهما في الدلالة على الفساد واختلافهما في كون أحدهما حجة والآخر إلزاما ، وعلى الأول يكون الأخير مقررا لما قبله ، وذكر الجصاص أن في هذه الآية دلالة على أن ملك الإنسان لا يبقى على ولده لأنه نفي الولد بإثبات الملك باعتبار أن اللام له فمتى ملك ولده عتق عليه ، وقد حكم صلى الله تعالى عليه وسلم بمثل ذلك في الوالد إذا ملكه ولده ؛ ولا يخفى أن هذا بعيد عما قصد بالآية لا سيما إذا كان الأظهر الاختصاص كما علمت (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مبدعهما فهو فعيل من أفعل وكان الأصمعي ينكر فعيلا بمعنى مفعل ، وقال ابن بري : قد جاء كثيرا نحو مسخن وسخين. ومقعد وقعيد. وموصى ووصي. ومحكم وحكيم. ومبرم وبريم. ومونق وأنيق في أخوات له ، ومن ذلك السميع في بيت عمرو بن معديكرب السابق. والاستشهاد بناء على الظاهر المتبادر على ما هو الأليق بمباحث العربية فلا يرد ما قيل في البيت لأنه على خلافه كما لا يخفى على المنصف ، وقيل : هو من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها للتخفيف أي بديع سماواته. وأنت تعلم أنه قد تقرر أن الصفة إذا أضيفت إلى الفاعل يكون فيها ضمير يعود إلى الموصوف فلا تصح الإضافة إلا إذا صح اتصاف الموصوف بها نحو ـ حسن الوجه ـ حيث يصح اتصاف الرجل بالحسن لحسن وجهه بخلاف حسن الجارية وإنما صح زيد كثير الإخوان لاتصافه بأنه متقوّ بهم. وفيما نحن فيه ـ

٣٦٥

وإن امتنع اتصافه بالصفة المذكورة ـ لكن يصح اتصافه بما دلت عليه وهو كونه مبدعا لهما. وهذا يقتضي أن يكون الأولى بقاء المبدع على ظاهره وهو الذي عليه أساطين أهل اللغة ، والإبداع اختراع الشيء لا عن مادة ولا في زمان ، ويستعمل ذلك في إيجاده تعالى للمبادئ ـ كما قاله الراغب وهو غير الصنع إذ هو تركيب الصورة بالعنصر ؛ ويستعمل في إيجاد الأجسام وغير التكوين فإنه ما يكون بتغير وفي زمان غالبا وإذا أريد من السماوات والأرض جميع ما سواه تعالى من المبدعات والمصنوعات والمكونات لاحتوائها على عالم الملك والملكوت فبعد اعتبار التغليب يصح إطلاق كل من الثلاثة إلا أن لفظ الإبداع أليق لأنه يدل على كمال قدرته تعالى ، والقول بتعين حمل الإبداع على التكوين من مادة أو أجزاء لأن إيجاد السماوات من شيء كما يشير إليه قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) [فصلت : ١١] ناشئ من الغفلة عما ذكرنا ، والآية حجة أخرى لإبطال تلك المقالة الشنعاء ، وتقريرها أنه تعالى مبدع لكل ما سواه فاعل على الإطلاق ، ولا شيء من الوالد كذلك ضرورة انفعاله بانفصال مادة الولد عنه فالله تعالى ليس بوالد ، وقرأ المنصور (بَدِيعُ) بالنصب على المدح ، وقرئ بالجر على أنه بدل من الضمير في (لَهُ) على رأي من يجوز ذلك (وَإِذا قَضى أَمْراً) أي أراد شيئا بقرينة قوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً) [يس : ٨٣] وجاء القضاء على وجوه ترجع كلها إلى إتمام الشيء قولا أو فعلا وإطلاقه على الإرادة مجاز من استعمال اللفظ المسبب في السبب فإن الإيجاد الذي هو إتمام الشيء مسبب عن تعلق الإرادة لأنه يوجبه ، وساوى ابن السيد بينه وبين القدر ، والمشهور التفرقة بينهما بجعل القدر تقديرا لأمور قبل أن تقع ، والقضاء إنفاذ ذلك القدر وخروجه من العدم إلى حد الفعل ، وصحح ذلك الجمهور لأنه قد جاء في الحديث «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مر بكهف مائل للسقوط فأسرع المشي حتى جاوزه فقيل : له أتفر من قضاء الله تعالى؟ فقال : أفر من قضائه تعالى إلى قدره» ففرق صلى الله تعالى عليه وسلم بين القضاء والقدر.

(فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) الظاهر أن الفعلين من ـ كان ـ التامة لعدم ذكر الخبر مع أنها الأصل أي أحدث فيحدث ، وهي تدل على معنى الناقصة لأن الوجود المطلق أعم من وجوده في نفسه أو في غيره والأمر محمول (١) على حقيقته كما ذهب إليه محققو ساداتنا الحنفية والله تعالى قد أجرى سنته في تكوين الأشياء أن يكونها بهذه الكلمة وإن لم يمتنع تكوينها بغيرها ، والمراد الكلام الأزلي لأنه يستحيل قيام اللفظ المرتب بذاته تعالى ولأنه حادث فيحتاج إلى خطاب آخر فيتسلسل وتأخره عن الإرادة وتقدمه على وجود الكون باعتبار التعلق ، ولما لم يشتمل خطاب التكوين على الفهم واشتمل على أعظم الفوائد جاز تعلقه بالمعدوم ، وذهب المعتزلة وكثير من أهل السنة إلى أنه ليس المراد به حقيقة الأمر والامتثال ، وإنما هو تمثيل لحصول ما تعلق به الإرادة بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف فهناك استعارة تمثيلية حيث شبهت هيئة حصول المراد بعد تعلق الإرادة بلا مهلة ، وامتناع بطاعة المأمور المطيع عقيب أمر المطاع بلا توقف وإباء تصويرا لحال الغائب بصورة الشاهد ثم استعمل الكلام الموضوع للمشبه في المشبه به من غير اعتبار استعارة في مفرداته وكان أصل الكلام إذا قضى أمرا فيحصل عقيبه دفعة فكأنما (يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ثم حذف المشبه ، واستعمل المشبه به مقامه ، وبعضهم يجعل في الكلام استعارة تحقيقية تصريحية مبنية على تشبيه حال يقال ، ولعل الذي دعا هؤلاء إلى العدول عن الظاهر زعم امتناعه لوجوه ذكرها بعض أئمتهم «الأول» أن قوله تعالى : (كُنْ) إما أن يكون قديما أو محدثا لا جائز أن يكون قديما لتأخر النون ولتقدم الكاف ، والمسبوق محدث لا محالة ،

__________________

(١) كأن مرادهم أن مدلول اللفظ موجود حقيقة ، وإلا فهذا الأمر تنجيزي وهو مجاز أيضا فافهم ا ه منه.

٣٦٦

وكذا المتقدم عليه بزمان مقدر أيضا ، ولأن (إِذا) للاستقبال فالقضاء محدث و (كُنْ) مرتب عليه بفاء التعقيب ، والمتأخر عن المحدث محدث ، ولا جائز أن يكون محدثا وإلا لدار أو تسلسل ، «الثاني» إما أن يخاطب المخلوق يكن قبل دخوله في الوجود ، وخطاب المعدوم سفه ، وإما بعد دخوله ولا فائدة فيه.

«الثالث» المخلوق قد يكون جمادا وتكليفه لا يليق بالحكمة «الرابع» إذا فرضنا القادر المريد منفكا عن قوله (كُنْ) فإن تمكن من الإيجاد فلا حاجة إليها وإن لم يتمكن فلا يكون القادر قادرا على الفعل إلا عند تكلمه ب (كُنْ) فيلزم عجزه بالنظر إلى ذاته «الخامس» أنا نعلم بالضرورة أنه لا تأثير لهذه الكلمة إذا تكلمنا بها فكذا إذا تكلم بها غيرنا.

«السادس» المؤثر إما مجموع الكاف والنون ولا وجود لهما مجموعين أو أحدهما وهو خلاف المفروض انتهى. وأنت إذا تأملت ما ذكرنا ظهر لك اندفاع جميع هذه الوجوه ، ويا عجبا لمن يقول بالكلام النفسي ويجعل هذا دالا عليه كيف تروعه هذه القعاقع أم كيف تغره هذه الفقاقع؟! نعم لو ذهب ذاهب إلى هذا القول لما فيه من مزيد إثبات العظمة لله تعالى ما ليس في الأول لا لأن الأول باطل في نفسه كان حريا بالقبول ـ ولعلي أقول به ـ والآية مسوقة لبيان كيفية الإبداع ومعطوفة على قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مشتملة على تقرير معنى الإبداع وفيها تلويح بحجة أخرى لإبطال ذلك الهذيان بأن اتخاذ الولد من الوالد إنما يكون بعد قصده بأطوار ومهلة لما أن ذلك لا يمكن إلا بعد انفصال مادته عنه وصيرورته حيوانا ، وفعله تعالى بعد إرادته أو تعلق قوله مستغن عن المهلة فلا يكون اتخاذ الولد فعله تعالى ، وكأن السبب في هذه الضلالة أنه ورد إطلاق الأب على الله تعالى في الشرائع المتقدمة باعتبار أنه السبب الأول وكثر هذا الإطلاق في إنجيل يوحنا ثم ظنت الجهلة أن المراد به معنى الولادة فاعتقدوا ذلك تقليدا وكفروا ، ولم يجوز العلماء اليوم إطلاق ذلك عليه تعالى مجازا قطعا لمادة الفساد ، وقرأ ابن عامر (فَيَكُونُ) بالنصب ، وقد أشكلت على النحاة حتى تجرأ أحمد بن موسى فحكم بخطئها وهو سوء أدب بل من أقبح الخطأ ووجهها أن تكون حينئذ جواب الأمر حملا على صورة اللفظ وإن كان معناه الخبر إذ ليس معناه تعليق مدلول مدخول الفاء بمدلول صيغة الأمر الذي يقتضيه سببية ما قبل الفاء لما بعدها اللازمة لجواب الأمر بالفاء إذ لا معنى لقولنا ليكن منك كون فكون ، وقيل : الداعي إلى الحمل على اللفظ أن الأمر ليس حقيقيا فلا ينصب جوابه وإن من شرط ذلك أن ينعقد منهما شرط وجزاء نحو ـ ائتني فأكرمك ـ إذ تقديره إن تأتني أكرمك وهنا لا يصح ـ إن يكن يكن ـ وإلا لزم كون الشيء سببا لنفسه ، وأجيب بأن المراد إن يكن في علم الله تعالى وإرادته يكن في الخارج فهو على حد «من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» وبأن كون الأمر غير الحقيقي لا ينصب في جوابه ممنوع فإن كان بلفظ فظاهر ولكنه مجاز عن سرعة التكوين وإن لم يعتبر فهو مجاز عن إرادة سرعته فيؤول إلى أن يراد سرعة وجود شيء يوجد في الحال فلا محذور للتغاير الظاهر ولا يخفى ما فيه ، ووجه الرفع الاستئناف أي فهو يكون وهو مذهب سيبويه ، وذهب الزجاج إلى عطفه على (يَقُولُ) وعلى التقديرين لا يكون (فَيَكُونُ) داخلا في المقول ومن تتمته ليوجه العدول عن الخطاب بأنه من باب الالتفات تحقيرا لشأن الأمر في سهولة تكونه ووجهه به غير واحد على تقدير الدخول.

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) عطف على قوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ) ووجه الارتباط أن «الأول» كان قدحا في التوحيد وهذا قدح في النبوة ، والمراد من الموصول جهلة المشركين ، وقد روي ذلك عن قتادة والسدي والحسن وجماعة ، وعليه أكثر المفسرين ويدل عليه قوله تعالى : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠] وقالوا : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥] وقالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) [الفرقان :

٣٦٧

٢١] وقيل : المراد به اليهود الذي كانوا على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بدليل ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رافع بن خزيمة من اليهود قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن كنت رسولا من عند الله تعالى فقل لله يكلمنا حتى نسمع كلامه فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقوله تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) [النساء : ١٥٣] وقال مجاهد : المراد به النصارى ورجحه الطبري بأنهم المذكورون في الآية ، وهو كما ترى ، ونفي العلم على الأول عنهم على حقيقته لأنهم لم يكن لهم كتاب ولا هم أتباع نبوة ، وعلى الأخيرين لتجاهلهم أو لعدم علمهم بمقتضاه (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) أي هلا يكلمنا بأنك رسوله إما بالذات كما يكلم الملائكة أو بإنزال الوحي إلينا ، وهو استكبار منهم بعد أنفسهم الخبيثة كالملائكة والأنبياء المقدسين عليهم الصلاة والسلام (أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) أي حجة على صدقك وهو جحود منهم قاتلهم الله تعالى لما آتاهم من الآيات البينات ، والحجج الباهرات التي تخر لها صم الجبال ، وقيل : المراد إتيان آية مقترحة ، وفيه أن تخصيص النكرة خلاف الظاهر (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) جواب لشبهتهم يعني أنهم يسألون عن تعنت واستكبار مثل الأمم السابقة والسائل المتعنت لا يستحق إجابة مسألته (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) هذا الباطل الشنيع (فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣] (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً) [المائدة : ١١٢] (اجْعَلْ لَنا إِلهاً) [الأعراف : ١٣٨] وقد تقدم الكلام على هذين التشبيهين ، ولبعضهم هنا زيادة على ما مر احتمال تعلق (كَذلِكَ) ب (تَأْتِينا) وحينئذ يكون الوقف عليه لا على (آيَةٌ) أو جعل (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) متعلقا ب (تَشابَهَتْ) وحينئذ يكون الوقف على (مِنْ قَبْلِهِمْ) وأنت تعلم أنه لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى الكريم على مثل هذه الاحتمالات الباردة (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى والعناد ، وقيل : في التعنت والاقتراح ، والجملة مقررة لما قبلها ، وقرأ أبو حيوة وابن أبي إسحاق بتشديد الشين قال أبو عمرو الداني : وذلك غير جائز لأنه فعل ماض والتاءان المزيدتان إنما يجيئان في المضارع فيدغم أما الماضي فلا ، وفي غرائب التفسير أنهم أجمعوا على خطئه ، ووجه ذلك الراغب بأنه حمل الماضي على المضارع فزيد فيه ما يزاد فيه ولا يخفى أنه بهذا القدر لا يندفع الاشكال ، وقال ابن سهمي في الشواذ : إن العرب قد تزيد على أول تفعل في الماضي تاء فتقول تتفعل وأنشد تتقطعت بي دونك الأسباب وهو قول غير مرضي ولا مقبول فالصواب عدم صحة نسبة هذه القراءة إلى هذين الإمامين وقد أشرنا إلى نحو ذلك فيما تقدم (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ) أي نزلناها بينة بأن جعلناها كذلك في أنفسها فهو على حد سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي يعلمون الحقائق علما ذا وثاقة لا يعتريهم شبهة ولا عناد وهؤلاء ليسوا كذلك فلهذا تعنتوا واستكبروا وقالوا ما قالوا ، والجملة على هذا معللة لقوله تعالى : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كما صرح به بعض المحققين ، ويحتمل أن يراد من الإتيان طلب الحق واليقين و ـ الآية ـ رد لطلبهم الآية وفي تعريف الآيات وجمعها وإيراد التبيين مكان الإتيان الذي طلبوه ما لا يخفى من الجزالة ، والمعنى أنهم اقترحوا (آيَةٌ) فذة ونحن قد بينا الآيات العظام لقوم يطلبون الحق واليقين وإنما لم يتعرض سبحانه لرد قولهم (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) إيذانا بأنه منهم أشبه شيء بكلام الأحمق وجواب الأحمق السكوت (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ) أي متلبسا مؤيدا به فالظرف مستقر ، وقيل : لغو متعلق بأرسلنا أو بما بعده ، وفسر الحق بالقرآن أو بالإسلام وبقاؤه على عمومه أولى (بَشِيراً وَنَذِيراً) حالان من الكاف ، وقيل : من الحق والآية اعتراض لتسلية الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه كان يهتم ويضيق صدره لإصرارهم على الكفر والمراد (إِنَّا أَرْسَلْناكَ) لأن تبشر من أطاع وتنذر من عصى لا لتجبر على الإيمان فما عليك إن أصروا أو كابروا؟ والتأكيد لإقامة غير المنكر مقام المنكر بما لاح عليه من أمارة الإنكار والقصر إفرادي.

٣٦٨

(وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) تذييل معطوف على ما قبله ، أو اعتراض أو حال أي أرسلناك غير ـ مسئول عن أصحاب الجحيم ـ مات لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت ما أرسلت به وألزمت الحجة عليهم؟! وقرأ أبيّ وما بدل و (لا) وابن مسعود «ولن» بدل «ذلك» وقرأ نافع ويعقوب لا تسأل ـ على صيغة النهي إيذانا بكمال شدة عقوبة الكفار وتهويلا لها كما تقول كيف حال فلان وقد وقع في مكروه فيقال لك لا تسأل عنه أي إنه لغاية فظاعة ما حل به لا يقدر المخبر على إجرائه على لسانه أو لا يستطيع السامع أن يسمعه ، والجملة على هذا اعتراض أو عطف على مقدر أي فبلغ ، والنهي مجازي ، ومن الناس من جعله حقيقة ، والمقصود منه بالذات نهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن السؤال عن حال أبويه على ما روي ـ أنه عليه الصلاة والسلام سأل جبريل عن قبريهما فدله عليهما فذهب فدعا لهما وتمنى أن يعرف حالهما في الآخرة وقال : ليت شعري ما فعل أبواي؟ فنزلت ـ ولا يخفى بعد هذه الرواية لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم ـ كما في المنتخب ـ عالم بما آل إليه أمرهما ، وذكر الشيخ ولي الدين العراقي أنه لم يقف عليها ، وقال الإمام السيوطي : لم يرد في هذا إلا أثر معضل ضعيف الإسناد فلا يعول عليه ، والذي يقطع به أن الآية في كفار أهل الكتاب كالآيات السابقة عليها والتالية لها لا في أبويه صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولتعارض الأحاديث في هذا الباب وضعفها قال السخاوي : الذي ندين الله تعالى به الكف عنهما وعن الخوض في أحوالهما والذي أدين الله تعالى به أنا أنهما ماتا موحدين في زمن الكفر ، وعليه يحمل كلام الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إن صح بل أكاد أقول : إنهما أفضل من عليّ القارئ وأضرابه. و ـ الجحيم ـ النار بعينها إذا شب وقودها. ويقال : جحمت النار تجحم جحما إذا اضطربت.

(وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) بيان لكمال شدة شكيمتي هاتين الطائفتين إثر بيان ما يعمهما ، والمشركين مما تقدم ولا بين المعطوفين لتأكيد النفي وللاشعار بأن رضا كل منهما مباين لرضا الأخرى ، والخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وفيه من المبالغة في إقناطه صلى الله تعالى عليه وسلم من إسلامهم ما لا غاية وراءه فإنهم حيث لم يرضوا عنه عليه الصلاة والسلام ، ولو خلاهم يفعلون ما يفعلون بل أملوا ما لا يكاد يدخل دائرة الإمكان ، وهو الاتباع لملتهم التي جاء بنسخها فكيف يتصور اتباعهم لملته صلى الله تعالى عليه وسلم ، واحتيج لهذه المبالغة لمزيد حرصه صلى الله تعالى عليه وسلم على إيمانهم على ما

روي أنه كان يلاطف كل فريق رجاء أن يسلموا فنزلت ، والملة في الأصل اسم من أمللت الكتاب بمعنى أمليته كما قال الراغب ، ومنه طريق ملول ـ أي مسلوك معلوم ـ كما نقله الأزهري ثم نقلت إلى أصول الشرائع باعتبار أنها يمليها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يختلف الأنبياء عليهم‌السلام فيها ، وقد تطلق على الباطل كالكفر ملة واحدة ، ولا تضاف إليه سبحانه فلا يقال ملة الله ، ولا إلى آحاد الأمة ، والدين يرادفها صدقا لكنه باعتبار قبول المأمورين لأنه في الأصل الطاعة والانقياد ولاتحاد ما صدقهما قال تعالى : (دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) [الإنعام : ١٦١] وقد يطلق الدين على الفروع تجوزا ، ويضاف إلى الله تعالى وإلى الآحاد وإلى طوائف مخصوصة نظرا إلى الأصل على أن تغاير الاعتبار كاف في صحة الإضافة ، ويقع على الباطل أيضا ، وأما الشريعة فهي المورد في الأصل ، وجعلت اسما للأحكام الجزئية المتعلقة بالمعاش والمعاد سواء كانت منصوصة من الشارع أو لا لكنها راجعة إليه. والنسخ والتبديل يقع فيها ، وتطلق على الأصول الكلية تجوزا قاله بعض المحققين : ووحدت الملة ، وإن كان لهم ملتان للإيجاز أو لأنهما يجمعهما الكفر ، وهو ملة واحدة ، ثم إن هذا ليس ابتداء كلام منه تعالى بعدم رضاهم بل هو حكاية لمعنى كلام قالوه بطريق التكلم ليطابقه قوله سبحانه.

(قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) فإنه على طريقة الجواب لمقالتهم ولعلهم ما قالوا ذلك إلا لزعمهم أن دينهم

٣٦٩

حق وغيره باطل فأجيبوا بالقصر القلبي ـ أي دين الله تعالى هو الحق ودينكم هو الباطل ، و (هُدَى اللهِ) تعالى الذي هو الإسلام هو الهدى وما يدعون إليه ليس بهدى بل هوى ـ على أبلغ وجه لإضافة الهدى إليه تعالى وتأكيده (إِنَ) وإعادة الهدى في الخبر على حد شعري شعري ، وجعله نفس (الْهُدى) المصدري وتوسيط ضمير الفصل وتعريف الخبر ، ويحتمل أنهم قالوا ذلك فيما بينهم ، والأمر بهذا القول لهم لا يجب أن يكون جوابا لعين تلك العبارة بل جواب ورد لما يستلزم مضمونها أو يلزمه من الدعوة إلى اليهودية أو النصرانية وأن الاهتداء فيهما ؛ وقيل : يصح أن يكون لإقناطهم عما يتمنونه ويطمعونه وليس بجواب (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) أي آراءهم الزائغة المنحرفة عن الحق الصادرة عنهم بتبعية شهوات أنفسهم وهي التي عبر عنها فيما قبل ـ بالملة ـ وكان الظاهر ـ ولئن اتبعتها ـ إلا أنه غير النظم ووضع الظاهر موضع المضمر من غير لفظه إيذانا بأنهم غيروا ما شرعه الله سبحانه تغييرا أخرجوه به عن موضوعه ، وفي صيغة الجمع إشارة إلى كثرة الاختلاف بينهم وأن بعضهم يكفر بعضا.

(بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي المعلوم وهو الوحي أو الدين لأنه الذي يتصف بالمجيء دون العلم نفسه ولك أن تفسر المجيء بالحصول فيجري العلم على ظاهره (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) جواب للقسم الدال عليه اللام الموطئة ولو أجيب به الشرط هنا لوجبت الفاء ، وقيل : إنه جواب له ويحتاج إلى تقدير القسم مؤخرا عن الشرط وتأويل الجملة الاسمية بالفعلية الاستقبالية أي ما يكون لك وهو تعسف إذ لم يقل أحد من النحاة بتقدير القسم مؤخرا مع اللام الموطئة ، وتأويل الاسمية بالفعلية لا دليل عليه ، وقيل : إنه جواب لكلا الأمرين القسم الدال عليه اللام ، وإن الشرطية لأحدهما لفظا وللآخر معنى وهو كما ترى ، والخطاب أيضا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقييد الشرط بما قيد للدلالة على أن متابعة أهوائهم محال لأنه خلاف ما علم صحته فلو فرض وقوعه كما يفرض المحال لم يكن له ولي ولا نصير يدفع عنه العذاب ، وفيه أيضا من المبالغة في الاقناط ما لا يخفى ، وقيل : الخطاب هناك وهنا وإن كان ظاهرا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أن المقصود منه أمته ، وأنت تعلم مما ذكرنا أنه لا يحتاج إلى التزام ذلك (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) اعتراض لبيان حال مؤمني أهل الكتاب بعد ذكر أحوال كفرتهم ولم يعطف تنبيها على كمال التباين بين الفريقين والآية نازلة فيهم وهم المقصودون منها سواء أريد بالموصول الجنس أو العهد على ما قيل : إنهم الأربعون الذين قدموا من الحبشة مع جعفر بن أبي طالب اثنان وثلاثون منهم من اليمن وثمانية من علماء الشام (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) أي يقرءونه حق قراءته وهي قراءة تأخذ بمجامع القلب فيراعى فيها ضبط اللفظ والتأمل في المعنى وحق الأمر والنهي ، والجملة حال مقدرة أي آتيناهم الكتاب مقدرا تلاوتهم لأنهم لم يكونوا تالين وقت الإيتاء وهذه الحال مخصصة لأنه ليس كل من أوتيه يتلوه ، و (حَقَ) منصوب على المصدرية لإضافته إلى المصدر ، وجوز أن يكون وصفا لمصدر محذوف وأن يكون حالا أي محقين والخبر قوله تعالى : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) ويحتمل أن يكون (يَتْلُونَهُ) خبرا لا حالا ، (أُولئِكَ) إلخ خبرا بعد خبر أو جملة مستأنفة ، وعلى أول الاحتمالين يكون الموصول للجنس ، وعلى ثانيهما يكون للعهد أي مؤمنو أهل الكتاب ، وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للحصر والتعريض ، والضمير للكتاب أي ـ أولئك يؤمنون بكتابهم ـ دون المحرفين فإنهم غير مؤمنين به ، ومن هنا يظهر فائدة الاخبار على الوجه الأخير ، ولك أن تقول محط الفائدة ما يلزم الإيمان به من الربح بقرينة ما يأتي ، ومن الناس من حمل الموصول على أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وإليه ذهب عكرمة وقتادة ، فالمراد من (الْكِتابَ) حينئذ القرآن ، ومنهم من حمله على الأنبياء والمرسلين عليهم‌السلام ، وإليه ذهب ابن كيسان ، فالمراد من (الْكِتابَ) حينئذ الجنس ليشمل الكتب المتفرقة ، ومنهم من قال بما قلنا إلا أنه جوز عود ضمير (بِهِ) إلى (الْهُدى) أو إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو إلى الله

٣٧٠

تعالى ، وعلى التقديرين يكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة أو من التكلم إليها. ولا يخفى ما في بعض هذه الوجوه من البعد البعيد.

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) أي الكتاب بسبب التحريف والكفر بما يصدقه ، واحتمالات نظير هذا الضمير مقولة فيه أيضا (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) من جهة أنهم اشتروا الكفر بالإيمان ، وقيل : بتجارتهم التي كانوا يعملونها بأخذ الرشا على التحريف.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ).

تكرير لتذكير بني إسرائيل وإعادة لتحذيرهم للمبالغة في النصح ، وللإيذان بأن ذلك فذلكة القصة والمقصود منها ـ وقد تفنن في التعبير فجاءت الشفاعة «أولا» بلفظ القبول متقدمة على ـ العدل ـ «وهنا» بلفظ ـ النفع ـ متأخرة عنه ، ولعله ـ كما قيل ـ إشارة إلى انتفاء أصل الشيء وانتفاء ما يترتب عليه ، وأعطى المقدم وجودا تقدمه ذكرا ، والمتأخر وجودا تأخره ذكرا ، وقيل : إن ما سبق كان للأمر بالقيام بحقوق النعم السابقة ، وما هنا لتذكير ـ نعمة بها فضلهم على العالمين ـ وهي نعمة الإيمان بنبي زمانهم ، وانقيادهم لأحكامه ليغتنموها ويؤمنوا ويكونوا من الفاضلين ـ لا المفضولين ـ وليتقوا بمتابعته عن أهوال القيامة وخوفها ـ كما اتقوا بمتابعة موسى عليه‌السلام.

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ

٣٧١

ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(١٣٦)

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) في متعلق (إِذِ) احتمالات تقدمت الإشارة إليها في نظيرالآية ، واختار أبو حيان تعلقها ب (قالَ) الآتي ، وبعضهم بمضمر مؤخر ، أي كان كيت وكيت «والمشهور» تعلقها بمضمر مقدم تقديره ـ اذكر ـ أو ـ اذكروا ـ وقت كذا ، والجملة حينئذ معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة ، والجامع الاتحاد في المقصد ؛ فإن المقصد من ـ تذكيرهم وتخويفهم ـ تحريضهمعلى قبول دينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واتباع الحق ، وترك التعصب ، وحب الرئاسة ، كذلك المقصد من قصة (إِبْراهِيمَ) عليه‌السلام وشرح أحواله ، الدعوة إلى ملة الإسلام ؛ وترك التعصب في الدين ، وذلك لأنه إذا علم أنه نال ـ الإمامة ـ بالانقياد لحكمه تعالى وأنه لم يستجب دعاءه في (الظَّالِمِينَ) وأن الكعبة كانت مطافا ومعبدا في وقته مأمورا هو بتطهيره ، وأنه كان يحج البيت داعيا مبتهلا ـ كما هو دين النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم ـ وأن نبينا عليه الصلاة والسلام من دعوته ، وأنه دعا في حق نفسه وذريته بملة الإسلام ، كان الواجب على من يعترف بفضله وأنه من أولاده ، ويزعم اتباع ملته ، ويباهي بأنه من ساكن حرمه وحامي بيته ، أن يكون حاله مثل ذلك ، وذهب عصام الملة والدين إلى جواز العطف على (نِعْمَتِيَ) أي (اذْكُرُوا) وقت ـ ابتلاء إبراهيم ـ فإن فيه ما ينفعكم ويرد اعتقادكم الفاسد أن آباءكم شفعاؤكم يوم القيامة ، لأنه لم يقبل دعاء إبراهيم في ـ الظلمة ـ ويدفع عنكم حب الرئاسة المانع عن متابعة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، فإنه يعلم منه أنه لا ينال الرئاسة (الظَّالِمِينَ) واعترض بأنه خروج عن طريق البلاغة مع لزوم تخصيص الخطاب بأهل الكتاب وتخلل (اتَّقُوا) بين المعطوفين ـ والابتلاء ـ في الأصل الاختبار ـ كما قدمنا ـ والمراد به هنا التكليف. أو المعاملة معاملة الاختبار مجازا ، إذ حقيقة الاختبار محالة عليه تعالى ـ لكونه عالم السر والخفيات ـ و (إِبْراهِيمَ) علم أعجمي ، قيل : معناه قبل النقل ـ أب رحيم ـ وهو مفعول مقدم لإضافة فاعله إلى ضميره ، والتعرض لعنوان الربوبية تشريف له عليه‌السلام ، وإيذان بأن ذلك ـ الابتلاء ـ تربية له وترشيح لأمر خطير ، و ـ الكلمات ـ جمع ـ كلمة ـ وأصل معناها ـ اللفظ المفرد ـ وتستعمل في الجمل المفيدة ، وتطلق على معاني ذلك ـ لما بين اللفظ والمعنى من شدة الاتصال ـ واختلف فيها. فقال طاوس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إنها العشرة التي من الفطرة ، المضمضة والاستنشاق وقص الشارب وإعفاء اللحية والفرق ونتف الإبط وتقليم الأظفار وحلق العانة والاستطابة والختان ، وقال عكرمة رواية عنه أيضا : لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه كله إلا إبراهيم ، ابتلاه الله تعالى بثلاثين خصلة من خصال الإسلام ، عشر منها في سورة براءة ، (التَّائِبُونَ) [التوبة : ١١٢] إلخ ، وعشر في الأحزاب [٢٥] (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) إلخ ، وعشر في المؤمنين و (سَأَلَ سائِلٌ) إلى (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) [المعارج : ١ ـ ٢٤] وفي رواية الحاكم في مستدركه أنها ثلاثون ، وعد السور الثلاثة الأول ولم يعد السورة الأخيرة ، فالذي في براءة ، التوبة والعبادة والحمد والسياحة والركوع ، والسجود. والأمر بالمعروف. والنهي عن المنكر. والحفظ لحدود الله تعالى. والإيمان المستفاد من (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِين) أو من (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة : ١١١] في الأحزاب ، الإسلام. والإيمان. والقنوت.

٣٧٢

والصدق. والصبر. والخشوع. والتصدق. والصيام. والحفظ للفروج والذكر ، والذي في المؤمنين الإيمان والخشوع والاعراض عن اللغو والزكاة والحفظ للفروج ـ إلا على الأزواج أو الإماء ثلاثة ـ والرعاية للعهد. والأمانة اثنين والمحافظة على الصلاة ، وهذا مبني على أن لزوم التكرار في بعض الخصال بعد جمع العشرات المذكورة. كالإيمان. والحفظ للفروج لا ينافي كونها ثلاثين تعدادا ـ إنما ينافي تغايرها ذاتا ـ ومن هنا عدت التسمية مائة وثلاث عشرة آية عند الشافعية باعتبار تكررها في كل سورة ، وما في رواية عكرمة مبني على اعتبار التغاير بالذات وإسقاط المكررات ، وعده العاشرة البشارة للمؤمنين في براءة ، وجعل الدوام على الصلاة والمحافظة عليها واحدا (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [المعارج : ٢٤] غير ـ الفاعلين للزكاة ـ لشموله صدقة التطوع وصلة الأقارب ، وما روي أنها أربعون وبينت بما في السور الأربع مبني على الاعتبار الأول أيضا ـ فلا إشكال ـ وقيل : ابتلاه الله تعالى بعدة أشياء بالكوكب والقمرين والختان على الكبر والنار وذبح الولد والهجرة من كوثى إلى الشام. وروي ذلك عن الحسن ، وقيل : هي ما تضمنته الآيات بعد من الإمامة ، وتطهير البيت ، ورفع قواعده ، والإسلام. «وقيل ، وقيل ..» إلى ثلاثة عشر قولا ، وقرأ ابن عامر وابن الزبير وغيرهما «إبراهام» وأبو بكرة «إبراهم» ـ بكسر الهاء وحذف الياء ـ وقرأ ابن عباس. وأبو الشعثاء وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنهم برفع (إِبْراهِيمَ) ونصب (رَبُّهُ) ـ فالابتلاء ـ بمعنى الاختبار حقيقة لصحته من العبد. والمراد دعا (رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) مثل (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [الأعراف : ١٤٣] و (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [إبراهيم : ٣٥] ليرى هل يجيبه؟ ولا حاجة إلى الحمل على المجاز. وأما ما قيل : إنه ـ وإن صح من العبد ـ لا يصح ـ أو لا يحسن تعليقه بالرب ـ فوجهه غير ظاهر سوى ذكر لفظ ـ الابتلاء ـ ويجوز أن يكون ذلك في مقام الأنس ، ومقام الخلة غير خفي (فَأَتَمَّهُنَ) الضمير المنصوب ـ للكلمات ـ لا غير. والمرفوع المستكن يحتمل أن يعود ـ لإبراهيم ـ وأن يعود ـ لربه ـ على كل من قراءتي ـ الرفع والنصب ـ فهناك أربعة احتمالات «الأول» عوده على (إِبْراهِيمَ) منصوبا ، ومعنى (فَأَتَمَّهُنَ) حينئذ أتى بهن على الوجه الأتم وأداهن كما يليق «الثاني» عوده على (رَبُّهُ) مرفوعا ، والمعنى حينئذ يسر له العمل بهن وقواه على ـ إتمامهن ـ أو أتم له أجورهن ، أو أدامهن سنّة فيه وفي عقبه إلى يوم الدين «والثالث» عوده على (إِبْراهِيمَ) مرفوعا ـ والمعنى عليه ـ أتم إبراهيم الكلمات المدعو بها بأن راعى شروط الإجابة فيها ، ولم يأت بعدها بما يضيعها «الرابع» عوده إلى (رَبُّهُ) منصوبا ـ والمعنى عليه ـ فأعطى سبحانه (إِبْراهِيمَ) جميع ما دعاه. وأظهر الاحتمالات الأول والرابع ، (إِذِ) التمدح غير ظاهر في الثاني ـ مع ما فيه من حذف المضاف على أحد محتملاته ـ والاستعمال المألوف غير متبع في الثالث ، لأن الفعل الواقع في مقابلة الاختبار يجب أن يكون فعل المختبر اسم مفعول.

(قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) استئناف بياني إن أضمر ناصب (إِذِ) كأنه قيل : فما ذا كان بعد؟ فأجيب بذلك ، أو بيان ـ لابتلى ـ بناء على رأي من جعل ـ الكلمات ـ عبارة عما ذكر أثره ـ وبعضهم يجعل ذلك من بيان الكلي بجزئي من جزئياته وإذا نصبت (إِذِ) بيقال كما ذهب إليه أبو حيان يكون المجموع جملة معطوفة على ما قبلها على الوجه الذي مرّ تفصيله ، وقيل : مستطردة أو معترضة ، ليقع قوله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) [الإنعام : ١٤٤] إن جعل خطابا لليهود موقعه ، ويلائم قوله سبحانه : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١٣٥] و «جاعل» من ـ جعل ـ بمعنى صير المتعدي إلى مفعولين ، و (لِلنَّاسِ) إما متعلق بجاعل أي لأجلهم ، وإما في موضع الحال لأنه نعت نكرة تقدمت أي إماما كائنا لهم ـ والإمام ـ اسم للقدوة الذي يؤتم به. «ومنه» قيل لخيط البناء : إمام ، وهو مفرد على فعال ، وجعله بعضهم اسم آلة لأن فعالا من صيغها ـ كالإزار ـ واعترض بأن ـ الإمام ـ ما يؤتم به ، والإزار ما يؤتزر

٣٧٣

به ـ فهما مفعولان ـ ومفعول الفعل ليس بآلة لأنها الواسطة بين الفاعل والمفعول في وصول أثره إليه ، ولو كان المفعول آلة لكان الفاعل كذلك ـ وليس فليس ـ ويكون جمع ـ آم ـ اسم فاعل من ـ أم يؤم ـ كجائع وجياع ، وقائم وقيام ، وهو بحسب المفهوم وإن كان شاملا للنبي والخليفة وإمام الصلاة ، بل كل من يقتدى به في شيء ولو باطلا كما يشير إليه قوله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) [القصص : ٤١] إلا أن المراد به هاهنا النبي المقتدى به ، فإن من عداه لكونه مأموم النبي ليست إمامته كإمامته ، وهذه الإمامة إما مؤبدة ـ كما هو مقتضى تعريف الناس ـ وصيغة اسم الفاعل الدال على الاستمرار ولا يضر مجيء الأنبياء بعده لأنه لم يبعث نبي إلا وكان من ذريته ومأمورا باتباعه في الجملة لا في جميع الأحكام لعدم اتفاق الشرائع التي بعده في الكل ، فتكون إمامته باقية بإمامة أولاده التي هي أبعاضه على التناوب ، وإما مؤقتة بناء على أن ما نسخ ـ ولو بعضه ـ لا يقال له مؤبد وإلا لكانت إمامة كل نبي مؤبدة ولم يشع ذلك فالمراد من «الناس» حينئذ أمته الذين اتبعوه ، ولك أن تلتزم القول بتأبيد إمامة كل نبي ـ ولكن في عقائد التوحيد ـ وهي لم تنسخ بل لا تنسخ أصلا كما يشير إليه قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الإنعام : ٩٠] وعدم الشيوع غير مسلم ، ولئن سلم لا يضر ، والامتنان على إبراهيم عليه‌السلام بذلك دون غيره لخصوصية اقتضت ذلك لا تكاد تخفى فتدبر.

ثم لا يخفى أن ظاهر الآية يشير إلى أن الابتلاء كان قبل النبوة لأنه تعالى جعل القيام بتلك الكلمات سببا لجعله إماما ، وقيل : إنه كان بعدها لأنه يقتضي سابقة الوحي ، وأجيب بأن مطلق الوحي لا يستلزم البعثة إلى الخلق وأنت تعلم أن ذبح الولد والهجرة والنار إن كانت من ـ الكلمات ـ يشكل الأمر لأن هذه كانت بعد النبوة بلا شبهة ، وكذا الختان أيضا بناء على ما روي أنه عليه الصلاة والسلام حين ختن نفسه كان عمره مائة وعشرين فحينئذ يحتاج إلى أن يكون ـ إتمام الكلمات ـ سبب الإمامة باعتبار عمومها للناس واستجابة دعائه في حق بعض ذريته ، ونقل الرازي عن القاضي أنه على هذا يكون المراد من قوله تعالى : (فَأَتَمَّهُنَ) أنه سبحانه وتعالى علم من حاله أنه يتمهن ويقوم بهن بعد النبوة فلا جرم أعطاه خلعة الإمامة والنبوة ولا يخفى أن الفاء يأبى عن الحمل على هذا المعنى.

(قالَ) استئناف بياني والضمير لإبراهيم عليه‌السلام (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) عطف على الكاف يقال سأكرمك فتقول وزيدا وجعله على معنى ما ذا يكون (مِنْ ذُرِّيَّتِي) بعيد. وذهب أبو حيان إلى أنه متعلق بمحذوف أي ـ اجعل من ذريتي ـ إماما لأنه عليه‌السلام فهم من (إِنِّي جاعِلُكَ) الاختصاص به ، واختاره بعضهم واعترضوا على ما تقدم بأن الجار والمجرور لا يصلح مضافا إليه فكيف يعطف عليه وبأن العطف على الضمير كيف يصح بدون إعادة الجار وبأنه كيف يكون المعطوف مقول قائل آخر ، ودفع الأولان بأن الإضافة اللفظية في تقدير الانفصال (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) في معنى بعض (ذُرِّيَّتِي) فكأنه قال : وجاعل بعض (ذُرِّيَّتِي) وهو صحيح على أن العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار وإن أباه أكثر النحاة إلا أن المحققين من علماء العربية وأئمة الدين على جوازه حتى قال صاحب العباب : إنه وارد في القراءات السبع المتواترة فمن رد ذلك فقد رد على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، ودفع «الثالث» بأنه من قبيل عطف التلقين فهو خبر في معنى الطلب وكأن أصله واجعل بعض (ذُرِّيَّتِي) كما قدره المعترض لكنه عدل عنه إلى المنزل لما فيه من البلاغة من حيث جعله من تتمة كلام المتكلم كأنه مستحق مثل المعطوف عليه وجعل نفسه كالنائب عن المتكلم والعدول من صيغة الأمر للمبالغة في الثبوت ومراعاة الأدب في التفادي عن صورة الأمر وفيه من الاختصار الواقع موقعه ما يروق كل ناظر ؛ ونظير هذا العطف ما روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «اللهم ارحم المحلقين قالوا :

٣٧٤

والمقصرين يا رسول الله؟ قال : اللهم ارحم المحلقين قالوا : والمقصرين يا رسول الله؟ قال : والمقصرين».

وقد ذكر الأصوليون أن التلقين ورد بالواو وغيرها من الحروف وأنه وقع في الاستثناء كما في الحديث «إن الله تعالى حرم شجر الحرم قالوا إلا الإذخر يا رسول الله» واعترض أيضا بأن العطف المذكور يستدعي أن تكون إمامة ـ ذريته ـ عامة لجميع الناس عموم إمامته عليه‌السلام على ما قيل. وليس كذلك ؛ وأجيب بأنه يكفي في العطف الاشتراك في أصل المعنى ، وقيل : يكفي قبولها في حق نبينا عليه الصلاة والسلام ـ والذرية ـ نسل الرجل وأصلها الأولاد الصغار ثم عمت الكبار والصغار الواحد وغيره ، وقيل : إنها تشمل الآباء لقوله تعالى : (أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [يس : ٤١] يعني نوحا وأبناءه والصحيح خلافه ، وفيها ثلاث لغات ـ ضم الذال وفتحها وكسرها ـ وبها قرئ وهي إما فعولة من ذروت أو ذريت والأصل ذرووة أو ذروية فاجتمع في الأول واوان زائدة وأصلية فقلبت الأصلية ياء فصارت كالثانية فاجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء فصارت ذرية أو فعلية منهما والأصل في الأولى ـ ذريوية ـ فقلبت الواو ياء لما سبق فصارت ـ ذريية ـ كالثانية فأدغمت الياء في مثلها فصارت ذرية ، أو فعلية من الذرء بمعنى الخلق والأصل ذرئية فقلبت الهمزة ياء وأدغمت ، أو فعلية من الذر بمعنى التفريق والأصل ذريرة قلبت الراء الأخيرة ياء هربا من ثقل التكرير كما قالوا في تظننت تظنيت ، وفي تقضضت تقضيت ، أو فعولة منه والأصل ذرورة فقلبت الراء الأخيرة ياء فجاء الإدغام ، أو فعلية منه على صيغة النسبة قالوا : وهو الأظهر لكثرة مجيئها كحرية ودرية ، وعدم احتياجها إلى الاعلال وإنما ضمت ذاله لأن الابنية قد تغير في النسبة خاصة كما قالوا في النسبة إلى الدهر: دهري.

(قالَ) استئناف بياني أيضا ، والضمير لله عز اسمه (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) إجابة لما راعى الأدب في طلبه من جعل بعض ذريته نبيا كما جعل مع تعيين جنس البعض الذي أبهم في دعائه عليه‌السلام بأبلغ وجه وآكده حيث نفى الحكم عن أحد الضدين مع الاشعار إلى دليل نفيه عنه ليكون دليلا على الثبوت للآخر فالمتبادر من العهد الإمامة ، وليست هي هنا إلا النبوة. وعبر عنها «به» للإشارة إلى أنها أمانة الله تعالى وعهده الذي لا يقوم به إلا من شاء الله تعالى من عباده ، وآثر النيل على الجعل إيماء إلى أن إمامة الأنبياء من ذريته عليهم‌السلام ليست بجعل مستقل بل هي حاصلة في ضمن إمامته تنال كلّا منهم في وقته المقدر له ، ولا يعود من ذلك نقص في رتبة نبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه جار مجرى التغليب على أن مثل ذلك لو كان يحط من قدرها لما خوطب صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله تعالى : (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) [النحل : ١٢٣] والمتبادر من ـ الظلم ـ الكفر لأنه الفرد الكامل من أفراده ، ويؤيده قوله تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة : ٢٥٤] فليس في الآية دلالة على عصمة الأنبياء عليهم‌السلام من الكبائر قبل البعثة ولا على أن الفاسق لا يصلح للخلافة ، نعم فيها قطع أطماع الكفرة الذين كانوا يتمنون النبوة ، وسد أبواب آمالهم الفارغة عن نيلها ، واستدل بها بعض الشيعة على نفي إمامة الصديق وصاحبيه رضي الله تعالى عنهم حيث أنهم عاشوا مدة مديدة على الشرك و (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] والظالم بنص الآية لا تناله الإمامة ، وأجيب بأن غاية ما يلزم أن الظالم في حال الظلم لا تناله ، والإمامة إنما نالتهم رضي الله تعالى عنهم في وقت كمال إيمانهم وغاية عدالتهم ، واعترض بأن (مِنْ) تبعيضية فسؤال إبراهيم عليه‌السلام الإمامة إما للبعض العادل من ذريته مدة عمره أو الظالم حال الامامة سواء كان عادلا في باقي العمر أم لا ، أو العادل في البعض الظالم في البعض الآخر أو الأعم ، فعلى الأول يلزم عدم مطابقة الجواب ، وعلى الثاني جهل الخليل ، وحاشاه وعلى الثالث المطلوب وحياه ، وعلى الرابع إما المطلوب أو الفساد وأنت خبير بأن مبنى الاستدلال حمل العهد على الأعم من النبوة والإمامة التي

٣٧٥

يدعونها ـ ودون إثباته خرط القتاد ـ وتصريح البعض كالجصاص لا يبنى عليه إلزام الكل ، وعلى تقدير التنزل يجاب بأنا نختار أن سؤال الإمامة بالمعنى الأعم للبعض المبهم من غير إحضار الاتصاف بالعدالة والظلم حال السؤال ، والآية إجابة لدعائه مع زيادة على ما أشرنا إليه ، وكذا إذا اختير الشق الأول بل الزيادة عليه زيادة ، ويمكن الجواب باختيار الشق الثالث أيضا بأن نقول : هو على قسمين ، أحدهما من يكون ظالما قبل الإمامة ومتصفا بالعدالة وقتها اتصافا مطلقا بأن صار تائبا من المظالم السابقة فيكون حال الإمامة متصفا بالعدالة المطلقة ، والثاني من يكون ظالما قبل الإمامة ومحترزا عن الظلم حالها لكن غير متصف بالعدالة المطلقة لعدم التوبة ، ويجوز أن يكون السؤال شاملا لهذا القسم ولا بأس به إذ أمن الرعية من الفساد الذي هو المطلوب يحصل به ؛ فالجواب بنفي حصول الإمامة لهذا القسم والشيخان وعثمان رضي الله تعالى عنهم ليسوا منه بل هم في أعلى مراتب القسم الأول متصفون بالتوبة الصادقة ، والعدالة المطلقة ، والإيمان الراسخ ، والإمام لا بد أن يكون وقت الإمامة كذلك ، ومن كفر أو ظلم ثم تاب وأصلح لا يصح أن يطلق عليه أنه كافر أو ظالم في لغة وعرف وشرع إذ قد تقرر في الأصول أن المشتق فيما قام به المبدأ في الحال حقيقة ، وفي غيره مجاز ، ولا يكون المجاز أيضا مطردا بل حيث يكون متعارفا وإلا لجاز صبي لشيخ ونائم لمستيقظ وغني لفقير. وجائع لشبعان وحي لميت وبالعكس ، وأيضا لو اطرد ذلك يلزم من حلف لا يسلم على كافر فسلم على إنسان مؤمن في الحال إلا أنه كان كافرا قبل بسنين متطاولة أن يحنث ولا قائل به ، هذا ومن أصحابنا من جعل الآية دليلا على عصمة الأنبياء عن الكبائر قبل البعثة وأن الفاسق لا يصح للخلافة ، ومبنى ذلك حمل العهد على الإمامة وجعلها شاملة للنبوة والخلافة ، وحمل الظالم على من ارتكب معصية مسقطة للعدالة بناء على أن الظلم خلاف العدل ، ووجه الاستدلال حينئذ أن الآية دلت على أن نيل الامامة لا يجامع الظلم السابق فإذا تحقق النيل كما في الأنبياء علم عدم اتصافهم حال النيل بالظلم السابق وذلك إما بأن لا يصدر منهم ما يوجب ذلك أو بزواله بعد حصوله بالتوبة ولا قائل بالثاني إذ الخلاف إنما هو في أن صدور الكبيرة هل يجوز قبل البعثة أم لا؟ فيتعين الثاني وهو العصمة ، أو المراد بها هاهنا عدم صدور الذنب لا الملكة وكذا إذا تحقق الاتصاف بالظلم كما في الفاسق علم عدم حصول الإمامة بعد ما دام اتصافه بذلك واستفادة عدم صلاحية الفاسق للإمامة على ما قررنا من منطوق الآية وجعلها من دلالة النص أو القياس المحوج إلى القول بالمساواة ولا أقل ، أو التزام جامع ، وهما مناط العيوق وإنما يدعو اليه حمل الإمامة على النبوة ، وقد علمت أن المبني الحمل على الأعم وكان الظاهر أن الظلم الطارئ والفسق العارض يمنع عن الإمامة بقاء كما منع عنها ابتداء لأن المنافاة بين الوصفين متحققة في كل آن ـ وبه قال بعض السلف ـ إلا أن الجمهور على خلافه مدعين أن المنافاة في الابتداء لا تقتضي المنافاة في البقاء لأن الدفع أسهل من الرفع ، واستشهدوا له بأنه لو قال لامرأة مجهولة النسب يولد مثلها لمثله : هذه بنتي لم يجز له نكاحها ولو قال لزوجته الموصوفة بذلك لم يرتفع النكاح لكن إن أصر عليه يفرق القاضي بينهما وهذا الذي قالوه إنما يسلم فيما إذا لم يصل الظلم إلى حد الكفر أما إذا وصل إليه فإنه ينافي الإمامة بقاء أيضا بلا ريب وينعزل به الخليفة قطعا ، ومن الناس من استدل بالآية على أن الظالم إذا عوهد لم يلزم الوفاء بعهده وأيد ذلك بما روي عن الحسن أنه قال : إن الله تعالى لم يجعل للظالم عهدا وهو كما ترى ، وقرأ أبو الرجاء وقتادة والأعمش ـ الظالمون ـ بالرفع على أن (عَهْدِي) مفعول مقدم على الفاعل اهتماما ورعاية للفواصل (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ) عطف على (وَإِذِ ابْتَلى)(وَالْبَيْتِ) من الأعلام الغالبة للكعبة كالنجم للثريا (مَثابَةً لِلنَّاسِ) أي مجمعا لهم قاله الخليل. وقتادة ـ أو معاذا وملجأ ـ قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو مرجعا يثوب إليه أعيان الزوار أو أمثالهم ـ قاله مجاهد. وجبير ـ أو مرجعا يحق أن يرجع ويلجأ إليه ـ قاله بعض المحققين ـ أو موضع ثواب يثابون بحجه واعتماره ـ قاله عطاء ـ وحكاه الماوردي عن بعض أهل اللغة والتاء فيه وتركه لغتان كما في مقام ومقامة وهي

٣٧٦

لتأنيث البقعة ـ وهو قول الفراء. والزجاج ـ وقال الأخفش : إن ـ التاء فيه للمبالغة كما في نسابة وعلامة ، وأصله مثوبة على وزن مفعلة مصدر ميمي ، أو ظرف مكان ، واللام في الناس للجنس وهو الظاهر وجوز حمله على العهد أو الاستغراق العرفي ، وقرأ الأعمش ، وطلحة مثابات على الجمع لأنه مثابة كل واحد من الناس لا يختص به أحد منهم (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) [الحج : ٢٥] فهو وإن كان واحدا بالذات إلا أنه متعدد باعتبار الإضافات ، وقيل : إن الجمع بتنزيل تعدد الرجوع منزلة تعدد المحل أو باعتبار أن كل جزء منه مثابة ، واختار بعضهم ذلك زعما منه أن الأول يقتضي أن يصح التعبير عن غلام جماعة بالمملوكين ولم يعرف ، وفيه أنه قياس مع الفارق إذ له إضافة المملوكية إلى كلهم لا إلى كل واحد منهم (وَأَمْناً) عطف على (مَثابَةً) وهو مصدر وصف به للمبالغة ، والمراد موضع أمن إما لسكانه من الخطف ؛ أو لحجاجه من العذاب حيث إن الحج يزيل ويمحو ما قبله غير حقوق العباد والحقوق المالية كالكفارة على الصحيح ، أو للجاني الملتجئ إليه من القتل ـ وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ـ إذ عنده لا يستوفى قصاص النفس في الحرم لكن يضيق على الجاني ولا يكلم ولا يطعم ولا يعامل حتى يخرج فيقتل ، وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه من وجب عليه الحد والتجأ إليه يأمر الإمام بالتضييق عليه بما يؤدي إلى خروجه فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحل فإن لم يخرج جاز قتله فيه ، وعند الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه لا يستوفى من الملتجئ قصاص مطلقا ولو قصاص الأطراف حتى يخرج ومن الناس من جعل ـ أمنا ـ مفعولا ثانيا لمحذوف على معنى الأمر أي ـ واجعلوه أمنا ـ كما جعلناه مثابة وهو بعيد عن الظاهر النظم ، ولم يذكر للناس هنا كما ذكر من قبل اكتفاء به أو إشارة إلى العموم أي أنه أمن لكل شيء كائنا ما كان حتى الطير والوحش إلا الخمس الفواسق فإنها خصت من ذلك على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويدخل فيه أمن الناس دخولا أوليا (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) عطف على جعلنا أو حال من فاعله على إرادة القول أي وقلنا أو قائلين لهم اتخذوا والمأمور به الناس كما هو الظاهر أو إبراهيم عليه‌السلام وأولاده كما قيل ، أو عطف على اذكر المقدر عاملا ل (إِذْ) ، أو معطوف على مضمر تقديره ثوبوا إليه (وَاتَّخِذُوا) وهو معترض باعتبار نيابته عن ذلك بين جعلنا وعهدنا ولم يعتبر الاعتراض من دون عطف مع أنه لا يحتاج إليه ليكون الارتباط مع الجملة السابقة أظهر ، والخطاب على هذين الوجهين لأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وهو صلى الله تعالى عليه وسلم رأس المخاطبين. و (مِنْ) إما للتبعيض أو بمعنى ـ في ـ أو زائدة ـ على مذهب الأخفش ـ والأظهر الأول ، وقال القفال : هي مثل اتخذت من فلان صديقا وأعطاني الله تعالى من فلان أخا صالحا ، دخلت لبيان المتخذ الموهوب وتمييزه ، و ـ المقام ـ مفعل من القيام يراد به المكان أي مكان قيامه وهو الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم عليه‌السلام حين ضعف من رفع الحجارة التي كان ولده إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت ، وفيه أثر قدميه قاله ابن عباس وجابر وقتادة وغيرهم ، وأخرجه البخاري ـ وهو قول جمهور المفسرين ـ وروي عن الحسن أنه الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل عليه‌السلام تحت إحدى رجليه وهو راكب فغسلت أحد شقي رأسه ثم رفعته من تحتها وقد غاصت فيه ووضعته تحت رجله الأخرى فغسلت شقه الآخر وغاصت رجله الأخرى فيه أيضا ، أو الموضع الذي كان فيه الحجر حين قام عليه ودعا الناس إلى الحج ورفع بناء البيت ، وهو موضعه اليوم ـ فالمقام ـ في أحد المعنيين حقيقة لغوية وفي الآخر مجاز متعارف ويجوز حمل اللفظ على كل منهما ـ كذا قالوا ـ إلا أنه استشكل تعيين الموضع بما هو الموضع اليوم لما في فتح الباري من أنه كان المقام أي الحجر من عهد إبراهيم عليه‌السلام لزيق البيت إلى أن أخره عمر رضي الله تعالى عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن أخرجه عبد الرزاق بسند قوي ، وأخرج ابن مردويه بسند ضعيف عن مجاهد أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هو الذي حوله فإن هذا يدل على تغاير الموضعين سواء كان المحول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أو عمر رضي الله تعالى عنه ، وأيضا كيف يمكن رفع البناء حين القيام

٣٧٧

عليه حال كونه في موضعه اليوم؟! وهو بعيد من الحجر الأسود بسبعة وعشرين ذراعا ، وأيضا المشهور أن دعوة الناس إلى الحج كانت فوق أبي قبيس فإنه صعده بعد الفراغ من عمارة البيت ونادى أيها الناس حجوا بيت ربكم فإن لم يكن الحجر معه حينئذ أشكل القول بأنه قام عليه ودعا وإن كان معه وكان الوقوف عليه فوق الجبل ـ كما يشير إليه كلام روضة الأحباب ، وبه يحصل الجمع ـ أشكل التعيين بما هو اليوم وغاية التوجيه أن يقال لا شك أنه عليه‌السلام كان يحول الحجر حين البناء من موضع إلى موضع ويقوم عليه فلم يكن له موضع معين ، وكذا حين الدعوة لم يكن عند البيت بل فوق أبي قبيس فلا بد من صرف عباراتهم عن ظاهرها بأن يقال الموضع الذي كان ذلك الحجر في أثناء زمان قيامه عليه واشتغاله بالدعوة ، أو رفع البناء لا حالة القيام عليه ، ووقع في بعض الكتب أن هذا المقام الذي فيه الحجر الآن كان بيت إبراهيم عليه‌السلام ، وكان ينقل هذا الحجر بعد الفراغ من العمل إليه ، وأن الحجر بعد إبراهيم كان موضوعا في جوف الكعبة ، ولعل هذا هو الوجه في تخصيص هذا الموضع بالتحويل ، وما وقع في الفتح من أنه كان المقام من عهد إبراهيم لزيق البيت معناه بعد إتمام العمارة فلا ينافي أن يكون في أثنائها في الموضع الذي فيه اليوم ـ كذا ذكره بعض المحققين فليفهم ـ وسبب النزول ما أخرجه أبو نعيم من حديث ابن عمر «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أخذ بيد عمر رضي الله تعالى عنه فقال : يا عمر هذا مقام إبراهيم فقال عمر : أفلا نتخذه مصلى فقال : لم أومر بذلك فلم تغب الشمس حتى نزلت هذه الآية» والأمر فيها للاستحباب إذ المتبادر ـ من ـ المصلى ـ موضع الصلاة مطلقا ، وقيل : المراد به الأمر بركعتي الطواف لما أخرجه مسلم عن جابر «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين ، وقرأ الآية» فالأمر للوجوب على بعض الأقوال ، ولا يخفى ضعفه لأن فيه التقييد بصلاة مخصوصة من غير دليل ، وقراءته عليه الصلاة والسلام الآية حين أداء الركعتين لا يقتضي تخصيصه بهما ، وذهب النخعي ومجاهد إلى أن المراد من مقام إبراهيم الحرم كله ، وابن عباس وعطاء إلى أنه مواقف الحج كلها ، والشعبي إلى أنه عرفة ومزدلفة والجمار ، ومعنى ـ اتخاذها مصلى ـ أن يدعى فيها ويتقرب إلى الله تعالى عندها ، والذي عليه الجمهور ، هو ما قدمناه أولا ، وهو الموافق لظاهر اللفظ ولعرف الناس اليوم وظواهر الأخبار تؤيده ، وقرأ نافع وابن عامر «واتخذوا» بفتح الخاء على أنه فعل ماض ، وهو حينئذ معطوف على (جَعَلْنَا) أي ـ واتخذ الناس ـ من مكان إبراهيم الذي عرف به وأسكن ذريته عنده ـ وهو الكعبة قبلة يصلون إليها. فالمقام مجاز عن ذلك المحل وكذا ـ المصلى ـ بمعنى القبلة مجاز عن المحل الذي يتوجه إليه في الصلاة بعلاقة القرب والمجاورة (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) أي وصينا أو أمرنا أو أوحينا أو قلنا ، والذي عليه المحققون أن العهد إذا تعدى ب (إِلى) يكون بمعنى التوصية ، ويتجوز به عن الأمر ، وإسماعيل علم أعجمي قيل : معناه بالعربية مطيع الله ، وحكي أن إبراهيم عليه‌السلام كان يدعو أن يرزقه الله تعالى ولدا ، ويقول : ـ اسمع إيل ـ أي استجب دعائي يا الله فلما رزقه الله تعالى ذلك سماه بتلك الجملة ، وأراه في غاية البعد وللعرب فيه لغتان اللام والنون (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ) أي بأن (طَهِّرا) على أن (أَنْ) مصدرية وصلت بفعل الأمر بيانا للموصى المأمور به ، وسيبويه. وأبو علي جوزا كون صلة الحروف المصدرية أمرا أو نهيا والجمهور منعوا ذلك مستدلين بأنه إذا سبك منه مصدر فات معنى الأمر ، وبأنه يجب في الموصول الاسمي كون صلته خبرية. والموصول الحرفي مثله ، قدروا هنا ـ قلنا ـ ليكون مدخول الحرف المصدري خبرا ، ويردّ عليهم أولا أن كونه مع الفعل بتأويل المصدر لا يستدعي اتحاد معناهما ضرورة عدم دلالة المصدر على الزمان مع دلالة الفعل عليه ، وثانيا أن وجوب كون الصلة خبرية في الموصول الاسمى إنما هو للتوصل إلى وصف المعارف بالجمل وهي لا توصف بها إلا إذا كانت خبرية ، وأما الموصول الحرفي فليس كذلك ، وثالثا أن تقدير ـ قلنا ـ يفضي إلى أن يكون المأمور به القول ، وليس كذلك ، وجوز أن تكون (أَنْ) هذه مفسرة لتقدم ما

٣٧٨

يتضمن معنى القول دون حروفه ، وهو العهد ، ويحتاج حينئذ إلى تقدير المفعول إذ يشترط مع تقدم ما ذكر كون مدخولها مفسرا لمفعول مقدر أو ملفوظ أي قلنا لهما شيئا هو (أَنْ طَهِّرا) والمراد من التطهير التنظيف من كل ما لا يليق فيدخل فيه الأوثان والأنجاس وجميع الخبائث وما يمنع منه شرعا كالحائض ؛ وخص مجاهد وابن عطاء ومقاتل وابن جبير التطهير بإزالة الأوثان ، وذكروا أن البيت كان عامرا على عهد نوح عليه‌السلام وأنه كان فيه أصنام على أشكال صالحيهم ، وأنه طال العهد فعبدت من دون الله تعالى فأمر الله تعالى بتطهيره منها ، وقيل : المراد بخّراه ونظفاه وخلقاه وارفعا عنه الفرث والدم الذي كان يطرح فيه ، وقيل : أخلصاه لمن ذكر بحيث لا يغشاه غيرهم فالتطهير عبارة عن لازمه ، ونقل عن السدي أن المراد به البناء والتأسيس على الطهارة والتوحيد وهو بعيد ، وتوجيه الأمر هنا إلى إبراهيم وإسماعيل لا ينافي ما في سورة الحج من تخصيصه بإبراهيم عليه‌السلام فإن ذلك واقع قبل بناء البيت كما يفصح عنه قوله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) [الحج : ٢٦] وكان إسماعيل حينئذ بمعزل من مثابة الخطاب ، وظاهر أن هذا بعد بلوغه مبلغ الأمر والنهي ، وتمام البناء بمباشرته كما ينبئ عنه إيراده إثر حكاية جعله (مَثابَةً) وإضافة البيت إلى ضمير الجلالة للتشريف ك (ناقَةُ اللهِ) [الأعراف : ٧٣ ، هود : ٦٤ ، الشمس : ١٣] لا أنه مكان له تعالى عن ذلك علوا كبيرا (لِلطَّائِفِينَ) أي لأجلهم فاللام تعليلية وإن فسر التطهير بلازمه كانت صلة له ، و ـ الطائف ـ اسم فاعل من طاف به إذا دار حوله ، والظاهر أن المراد كل من يطوف من حاضر أو باد ـ وإليه ذهب عطاء وغيره ـ وقال ابن جبير : والمراد الغرباء الوافدون مكة حجاجا وزوارا.

(وَالْعاكِفِينَ) وهم أهل البلد الحرام المقيمون عند ابن جبير ، وقال عطاء : هم الجالسون من غير طواف من بلدي وغريب ، وقال مجاهد : المجاورون له من الغرباء ، وقيل : هم المعتكفون فيه (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) وهم المصلون جمع راكع وساجد ، وخص الركوع والسجود بالذكر من جميع أحوال المصلي لأنهما أقرب أحواله إليه تعالى وهما الركنان الأعظمان وكثيرا ما يكنى عن الصلاة بهما ولذا ترك العطف بينهما ولم يعبر بالمصلين مع اختصاره إيذانا بأن المعتبر صلاة ذات ركوع وسجود لا صلاة اليهود. وقدم الركوع لتقدمه في الزمان وجمعا جمع تكسير لتغير هيئة المفرد مع مقابلتهما ما قبلهما من جمعي السلامة وفي ذلك تنويع في الفصاحة ، وخالف بين وزني تكسيرهما للتنويع مع المخالفة في الهيئات وكان آخرهما على فعول لأجل كونه فاصلة والفواصل قبل وبعد آخرها حرف قبله حرف مدّ ولين (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) الإشارة إلى الوادي المذكور بقوله تعالى : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) [إبراهيم : ٣٧] أي اجعل هذا المكان القفر بلدا إلخ فالمدعو به البلدية مع الأمن ، وهذا بخلاف ما في سورة إبراهيم [٣٥] (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) ولعل السؤال متكرر ، وما في تلك السورة كان بعد ، والأمن المسئول فيها إما هو الأول وأعاد سؤاله دون البلدية رغبة في استمراره لأنه المقصد الأصلي ، أو لأن المعتاد في البلدية الاستمرار بعد التحقق بخلافه. وإما غيره بأن يكون المسئول أولا مجرد الأمن المصحح للسكنى ، وثانيا الأمن المعهود ، ولك أن تجعل (هَذَا الْبَلَدَ) في تلك السورة إشارة إلى أمر مقدر في الذهن كما يدل عليه (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ) إلخ فتطابق الدعوتان حينئذ ؛ وإن جعلت الإشارة هنا إلى البلد تكون الدعوة بعد صيرورته بلدا والمطلوب كونه آمنا على طبق ما في السورة من غير تكلف إلا أنه يفيد المبالغة أي بلدا كاملا في الأمن كأنه قيل اجعله بلدا معلوم الاتصاف بالأمن مشهورا به كقولك كان هذا اليوم يوما حارا ، والوصف بآمن إما على معنى النسب أي ذا أمن على حد ما قيل : (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة : ٢١ ، القارعة : ٧] وإما على الاتساع والإسناد المجازي ، والأصل آمنا أهله فأسند ما للحال للمحل لأن الأمن والخوف من صفات ذوي الإدراك ، وهل الدعاء بأن يجعله آمنا

٣٧٩

من الجبابرة والمتغلبين ، أو من أن يعود حرمه حلالا ، أو من أن يخلو من أهله. أو من الخسف والقذف ، أو من القحط والجدب ، أو من دخول الدجال ، أو من دخول أصحاب الفيل؟؟ أقوال ، والواقع يرد بعضها فإن الجبابرة دخلته وقتلوا فيه ـ كعمرو بن لحي الجرهمي ، والحجاج الثقفي ، والقرامطة وغيرهم ـ وكون البعض لم يدخله للتخريب بل كان غرضه شيئا آخر لا يجدي نفعا كالقول بأنه ما آذى أهله جبار إلا قصمه الله تعالى ففي المثل :

إذا مت عطشانا فلا نزل القطر

وكان النداء بلفظ الرب مضافا لما في ذلك من التلطف بالسؤال والنداء بالوصف الدال على قبول السائل ، وإجابة ضراعته ، وقد أشرنا من قبل إلى ما ينفعك هنا فتذكر.

(وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ) أي من أنواعها بأن تجعل قريبا منه قرى يحصل فيها ذلك أو تجيء إليه من الأقطار الشاسعة ـ وقد حصل كلاهما ـ حتى أنه يجتمع فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد روي أن الله سبحانه لما دعا إبراهيم أمر جبريل فاقتلع بقعة من فلسطين ، وقيل : من الأردن وطاف بها حول البيت سبعا فوضعها حيث وضعها رزقا للحرم وهي الأرض المعروفة اليوم بالطائف وسميت به لذلك الطواف ، وهذا على تقدير صحته غير بعيد عن قدرة الملك القادر جل جلاله ، وإن أبيت إبقاءه على ظاهره فباب التأويل واسع ، وجمع القلة إظهارا للقناعة ، وقد أشرنا إلى أنه كثيرا ما يقوم مقام جمع الكثرة ، و (مِنَ) للتبعيض ، وقيل : لبيان الجنس.

(مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) بدل من (أَهْلَهُ) بدل البعض وهو مخصص لما دل عليه المبدل منه واقتصر في متعلق الإيمان بذكر المبدأ والمعاد لتضمن الإيمان بهما الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به (قالَ) أي الله تعالى.

(وَمَنْ كَفَرَ) عطف على (مَنْ آمَنَ) أي ـ وارزق من كفر أيضا ـ فالطلب بمعنى الخبر على عكس و (مِنْ ذُرِّيَّتِي) وفائدة العدول تعليم تعميم دعاء الرزق وأن لا يحجر في طلب اللطف وكأن إبراهيمعليه‌السلام قاس الرزق على الإمامة فنبهه سبحانه على أن الرزق رحمة دنيوية لا تخص المؤمن بخلاف الإمامة أو أنه عليه‌السلام لما سمع (لا يَنالُ) إلخ احترز من الدعاء لمن ليس مرضيا عنده تعالى فأرشده إلى كرمه الشامل ، وبما ذكرنا اندفع ما في البحر من أن هذا العطف لا يصح لأنه يقتضي التشريك في العامل فيصير قال إبراهيم : (وَارْزُقْ) فينافيه ما بعد ، ولك أن تجعل العطف على محذوف أي ـ ارزق من آمن ومن كفر ـ بلفظ الخبر ومن لا يقول بالعطف التلقيني يوجب ذلك ويجوز أن تكون (مِنَ) مبتدأ شرطية أو موصولة وقوله تعالى : (فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) على الأول معطوف على (كَفَرَ) وعلى «الثاني» خبر للمبتدإ ـ والفاء ـ لتضمن المبتدأ معنى الشرط ولا حاجة إلى تقدير ـ أنا ـ لأن ابن الحاجب نص على أن المضارع في الجزاء يصح اقترانه بالفاء إلا أن يكون استحسانا ، وإلى عدم التقدير ذهب المبرد ، ومذهب سيبويه وجوب التقدير وأيد بأن المضارع صالح للجزاء بنفسه فلو لا أنه خبر مبتدأ لم يدخل عليه الفاء ، ثم الكفر وإن لم يكن سببا للتمتع المطلق لكنه يصلح سببا لتقليله وكونه موصولا بعذاب النار ـ وقليلا ـ صفة لمحذوف أي متاعا أو زمانا (قَلِيلاً) وقرأ ابن عامر (فَأُمَتِّعُهُ) مخففا على الخبر ، وكذا قرأ يحيى بن وثاب إلا أنه كسر الهمزة ، وقرأ أبيّ ـ فنمتعه ـ بالنون ، وابن عباس ومجاهد (فَأُمَتِّعُهُ) على صيغة الأمر ، وعلى هذه القراءة يتعين أن يكون الضمير في (قالَ) عائدا إلى إبراهيم ، وحسن إعادة (قالَ) طول الكلام وأنه انتقل من الدعاء لقوم إلى الدعاء على آخرين فكأنه

٣٨٠