روح المعاني - ج ١

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

بدلا من اسم (إِنَ) وخبرها (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) واختار أبو حيان أنها بدل من المعاطيف التي بعد اسم (إِنَ) فيصح إذ ذاك المعنى ، وكأنه قيل : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) من غير الأصناف الثلاثة ، ومن آمن من الأصناف الثلاثة (فَلَهُمْ) إلخ. وقد حملت الضمائر الثلاثة باعتبار معنى الموصول ، كما أن إفراد ما في الصلة باعتبار لفظه ، وفي البحر إن هذين الحملين لا يتمان إلا بإعراب (مَنْ) مبتدأ ، وأما على إعرابها بدلا فليس فيها إلا حمل على اللفظ فقط فافهم. ثم المراد من ـ الأجر ـ الثواب الذي وعدوه على الإيمان والعمل الصالح ، فإضافته إليهم واختصاصه بهم بمجرد الوعد لا بالاستيجاب ـ كما زعمه الزمخشري رعاية للاعتزال ـ لكن تسميته ـ أجرا ـ لعدم التخلف ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) المشير إلى أنه لا يضيع لأنه عند لطيف حفيظ ، وهو متعلق بما تعلق به (فَلَهُمْ) ، ويحتمل أن يكون حالا من (أَجْرُهُمْ).

(وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) عطف على جملة (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) وقد تقدم الكلام على مثلها في آخر قصة آدم عليه‌السلام فأغنى عن الإعادة هنا (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) تذكير بنعمة أخرى ، لأنه سبحانه إنما فعل ذلك لمصلحتهم ، والظاهر من الميثاق هنا العهد ، ولم يقل : مواثيقكم ، لأن ما أخذ على كل واحد منهم أخذ على غيره ـ فكان ميثاقا واحدا ـ ولعله كان بالانقياد لموسى عليه‌السلام ، واختلف في أنه متى كان؟ فقيل : قبل رفع الطور ، ثم لما نقضوه رفع فوقهم لظاهر قوله تعالى : (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ) [النساء : ١٥٤] إلخ ، وقيل : كان معه (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) ـ الواو ـ للعطف ، وقيل : للحال ، و (الطُّورَ) قيل : جبل من الجبال ، وهو سرياني معرب ، وقيل : الجبل المعين. وعن أبي حاتم عن ابن عباس أن موسى عليه‌السلام لما جاءهم بالتوراة وما فيها من التكاليف الشاقة كبرت عليهم وأبوا قبولها فأمر جبريل بقلع الطور فظلله فوقهم حتى قبلوا ، وكان على قدر عسكرهم ـ فرسخا في فرسخ ـ ورفع فوقهم قدر قامة الرجل ، واستشكل بأن هذا يجري مجرى الإلجاء إلى الإيمان فينافي التكليف ، وأجاب الإمام بأنه لا إلجاء لأن الأكثر فيه خوف السقوط عليهم ، فإذا استمر في مكانه مدة ـ وقد شاهدوا السماوات مرفوعة بلا عماد ـ جاز أن يزول عنهم الخوف فيزول الإلجاء ويبقى التكليف ، وقال العلامة : كأنه حصل لهم بعد هذا الإلجاء قبول اختياري ، أو كان يكفي في الأمم السالفة مثل هذا الإيمان ـ وفيه كما قال الساليكوتي ـ إن الكلام في أنه كيف يصح التكليف ب (خُذُوا) إلخ مع القسر ، وقد تقرر أن مبناه على الاختيار ـ فالحق أنه إكراه ـ لأنه حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه ولا يختاره ـ لو خلي ونفسه ـ فيكون معدما للرضا لا للاختيار إذ الفعل يصدر باختياره كما فصل في الأصول ، وهذا كالمحاربة مع الكفار ، وأما قوله : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) [البقرة : ٢٥٦] وقوله سبحانه : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس : ٩٩] فقد كان قبل الأمر بالقتال ثم نسخ به (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) هو على إضمار القول أي قلنا أو قائلين (خُذُوا) وقال بعض الكوفيين. لا يحتاج إلى إضماره لأن أخذ الميثاق قول ، والمعنى (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) بأن تأخذوا ما آتيناكم. ـ وليس بشيء ـ والمراد هنا ـ بالقوة ـ الجد والاجتهاد ـ كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، ويؤول إلى عدم التكاسل والتغافل ، فحينئذ لا تصلح الآية دليلا لمن ادعى أن الاستطاعة قبل الفعل إذ لا يقال : خذ هذا بقوة ، إلا والقوة حاصلة فيه لأن القوة بهذا المعنى لا تنكر صحة تقدمها على الفعل (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) أي ادرسوه واحفظوه ولا تنسوه ، أو تدبروا معناه ، أو اعملوا بما فيه من الأحكام ، فالذكر يحتمل أن يراد به الذكر اللساني والقلبي والأعم منهما وما يكون كاللازم لهما ، والمقصود منهما أعني العمل (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) قد تقدم الكلام على الترجي في كلامه تعالى ، وقد ذكر هاهنا أن كلمة ـ لعل ـ متعلقة ـ بخذوا ، واذكروا ـ إما مجاز يؤول معناه بعد الاستعارة إلى تعليل ذي الغاية بغايته أو حقيقة لرجاء المخاطب ، والمعنى (خُذُوا) واذكروا راجين أن

٢٨١

تكونوا متقين ويرجح المعنى المجازي أنه لا معنى لرجائهم فيما يشق عليهم أعني التقوى ، اللهم إلا باعتبار تكلف أنهم سمعوا مناقب المتقين ودرجاتهم فلذا كانوا راجين للانخراط في سلكهم ، وجوز المعتزلة كونها متعلقة ـ بقلنا ـ المقدر وأولو الترجي بالإرادة أي (قلنا) و ـ اذكروا ـ إرادة أن تتقوا ، وهو مبني على أصلهم الفاسد من أن إرادة الله تعالى لأفعال العباد غير موجبة للصدور لكونها عبارة عن العلم بالمصلحة ، وجوز العلامة تعلقها إذا أول الترجي بالإرادة ـ بخذوا ـ أيضا على أن يكون قيدا للطلب لا للمطلوب ، وجوز الشهاب أن يتعلق بالقول على تأويله بالطلب والتخلف فيه جائز ، وفيه أن القول المذكور وهو (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) بعينه طلب التقوى فلا يصح أن يقال ـ خذوا ما آتيناكم ـ طالبا منكم التقوى إلا بنوع تكلف فافهم (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي أعرضتم عن الوفاء بالميثاق بعد أخذه وخالفتم ، وأصل التولي الإعراض المحسوس ثم استعمل في الإعراض المعنوي كعدم القبول ، ويفهم من الآية أنهم امتثلوا الأمر ثم تركوه.

(فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) الفضل التوفيق للتوبة والرحمة قبولها ، أو الفضل والرحمة بعثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإدراكهم لمدته ، فالخطاب على الأول جار على سنن الخطابات السابقة مجازا باعتبار الإسلاف وعلى الثاني جار على الحقيقة ، والخسران ذهاب رأس المال أو نقصه ، والمراد لكنتم مغبونين هالكين بالانهماك في المعاصي ، أو بالخبط في مهاوي الضلال عند الفترة ، وكلمة ـ لو لا ـ إما بسيطة أو مركبة من لو الامتناعية وتقدم الكلام عليها ، وحرف النفي ـ والاسم الواقع بعدها عند سيبويه ـ مبتدأ خبره محذوف وجوبا لدلالة الحال عليه وسد الجواب مسده ، والتقدير ـ ولو لا فضل الله ورحمته ـ حاصلان ، ولا يجوز أن يكون الجواب خبرا لكونه في الأغلب خاليا عن العائد إلى المبتدأ ، وعند الكوفيين فاعل فعل محذوف أي لو لا ثبت فضل الله تعالى إلخ ، و (لَكُنْتُمْ) جواب ـ لو لا ـ ويكثر دخول اللام على الجواب إذا كان موجبا ، وقيل : إنه لازم إلا في الضرورة كقوله :

لو لا الحياء ولو لا الدين (عبتكما)

ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري

وجاء في كلامهم بعد اللام قد ، كقوله :

لو لا الأمير ولو لا خوف طاعته

(لقد) شربت وما أحلى من العسل

وقد جاء أيضا حذف اللام وإبقاء قد نحو ـ لو لا زيد قد أكرمتك ـ ولم يجىء في القرآن مثبتا إلا باللام إلا فيما زعم بعضهم أن قوله تعالى : (وَهَمَّ بِها) [يوسف : ٢٤] جواب لو لا قدم عليها هذا (من باب الإشارة والتأويل في الآية) (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) المأخوذ بدلائل العقل بتوحيد الأفعال ـ والصفات ورفعنا فوقكم طور ـ الدماغ للتمكن من فهم المعاني وقبولها ، أو أشار سبحانه ـ بالطور ـ إلى موسى القلب ، وبرفعه إلى علوه واستيلائه في جو الإرشاد وقلنا (خُذُوا) أي اقبلوا (ما آتَيْناكُمْ) من كتاب العقل الفرقاني بجد ، وعوا ما فيه من الحكم والمعارف والعلوم والشرائع لكي تتقوا الشرك والجهل والفسق ثم أعرضتم بإقبالكم إلى الجهة السفلية بعد ذلك فلولا حكمة الله تعالى بإمهاله وحكمه بإفضاله لعاجلتكم العقوبة ولحل بكم عظيم المصيبة

إلى الله يدعى بالبراهين من أبى

فإن لم يجب بادته بيض الصوارم

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) اللام واقعة في جواب قسم مقدر ، و ـ علم ـ هنا كعرف فلذلك تعدت إلى واحد ، وظاهر هذا أنهم علموا أعيان المعتدين ، وقدر بعضهم مضافا أي اعتداء الذين ، وقيل : أحكامهم ، و (مِنْكُمْ) في موضع الحال ، و (السَّبْتِ) اسم لليوم المعروف وهو مأخوذ من السبت الذي هو القطع لأنه سبت فيه خلق كل شيء وعمله ، وقيل : من السبوت وهو الراحة والدعة. والمراد به هنا اليوم ، والكلام على حذف

٢٨٢

مضاف أي في حكم السبت لأن الاعتداء والتجاوز لم يقع في اليوم بل وقع في حكمه بناء على ما حكي أن موسى عليه‌السلام أراد أن يجعل يوما خالصا للطاعة وهو يوم الجمعة فخالفوه وقالوا : نجعله يوم السبت لأن الله تعالى لم يخلق فيه شيئا فأوحى الله تعالى إليه أن دعهم وما اختاروا ثم امتحنهم فيه فأمرهم بترك العمل وحرم عليهم فيه صيد الحيتان فلما كان زمن داود عليه‌السلام ـ اعتدوا ـ وذلك أنهم كانوا يسكنون قرية على الساحل يقال لها أيلة. وإذا كان يوم السبت لم يبق حوت في البحر إلا حظر هناك وأخرج خرطومه وإذا مضى تفرقت فحفروا حياضا وأشرعوا إليها الجداول وكانت الحيتان تدخلها يوم السبت بالموج فلا تقدر على الخروج لبعد العمق وقلة الماء فيصطادونها يوم الأحد ، وروي أنهم فعلوا ذلك زمانا فلم ينزل عليهم عقوبة فاستبشروا وقالوا : قد أحل لنا العمل في السبت فاصطادوا فيه علانية وباعوا في الأسواق ، وعلى هذا يصح جعل اليوم ظرفا للاعتداء ، ولا يحتاج إلى تقدير مضاف ، وقيل : المراد بالسبت هنا مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت وليس بمعنى اليوم فحينئذ لا حاجة إلى تقدير مضاف إذ يؤول المعنى إلى أنهم اعتدوا في التعظيم وهتكوا الحرمة الواجبة عليهم. وقد ذكر بعضهم أن تسمية العرب للأيام بهذه الأسماء المشهورة حدثت بعد عيسى عليه‌السلام وأن أسماءها قبل غير ذلك وهي التي في قوله :

أؤمل أن أعيش وأن يومي

بأول أو بأهون أو جبار

أو التالي دبار فإن أفته

فمونس أو عروبة أو شبار

واستدل بهذه الآية على تحريم الحيل في الأمور التي لم تشرع كالربا ـ وإلى ذلك ذهب الإمام مالك ـ فلا تجوز عنده بحال قال الكواشي : وجوزها أكثرهم ما لم يكن فيها إبطال حق أو إحقاق باطل ، وأجابوا عن التمسك بالآية فإنها ليست حيلة وإنما هي عين المنهي عنه لأنهم إنما نهوا عن أخذها ولا يخفى ما في هذا الجواب ، وتحقيقه في كتب الفقه (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) القردة جمع قرد وهو معروف ويجمع فعل الاسم قياسا على فعول ، وقليلا على فعلة ، و ـ الخسوء ـ الصغار والذلة ويكون متعديا ولازما. ومنه قولهم للكلب : اخسأ وقيل : الخسوء والخساء مصدر خسأ الكلب بعد ، وبعضهم ذكر الطرد عند تفسير الخسوء كالإبعاد ، فقيل : هو لاستيفاء معناه لا لبيان المراد ، وإلا لكان الخاسئ بمعنى الطارد ، والتحقيق أنه معتبر في المفهوم إلا أنه بالمعنى المبني للمفعول ، وكذلك الإبعاد فالخاسئ الصاغر المبعد المطرود ، وظاهر القرآن أنهم مسخوا قردة على الحقيقة ، وعلى ذلك جمهور المفسرين ـ وهو الصحيح ـ وذكر غير واحد منهم أنهم بعد أن مسخوا لم يأكلوا ولم يشربوا ولم يتناسلوا ولم يعيشوا أكثر من ثلاثة أيام ، وزعم مقاتل أنهم عاشوا سبعة أيام وماتوا في اليوم الثامن ، واختار أبو بكر بن العربي أنهم عاشوا ـ وأن القردة الموجودين اليوم من نسلهم ـ ويرده ما رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لمن سأله عن القردة والخنازير : أهي مما مسخ؟ «إن الله تعالى لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك» وروى ابن جرير عن مجاهد «أنه ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم فلا تقبل وعظا ولا تعي زجرا» فيكون المقصود من الآية تشبيههم بالقردة كقوله :

إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى

فكن (حجرا) من يابس الصخر جلمدا

و (كُونُوا) «على الأول» ليس بأمر حقيقة ، لأن صيرورتهم إلى ما ذكر ليس فيه تكسب لهم لأنهم ليسوا قادرين على قلب أعيانهم ، بل المراد منه سرعة التكوين وأنهم صاروا كذلك كما أراد من غير امتناع ولا لبث.

«وعلى الثاني» يكون الأمر مجازا عن التخلية والترك والخذلان ـ كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «اصنع ما شئت» وقد قرره العلامة في تفسير قوله تعالى : (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا) [العنكبوت : ٦٦]

٢٨٣

والمنصوبان خبران للفعل الناقص ، ويجوز أن يكون (خاسِئِينَ) حالا من الاسم ، ويجوز أن يكون صفة ل (قِرَدَةً) والمراد وصفهم بالصغار عند الله تعالى دفعا لتوهم أن يجعل مسخهم وتعجيل عذابهم في الدنيا لدفع ذنوبهم ورفع درجاتهم.

واعترض أنه لو كان صفة لها لوجب أن يقول : خاسئة لامتناع الجمع ـ بالواو ـ والنون في غير ذوي العلم ، وأجيب بأن ذلك على تشبيههم بالعقلاء كما في (السَّاجِدِينَ) أو باعتبار أنهم كانوا عقلاء ، أو بأن المسخ إنما كان بتبدل الصورة فقط ، وحقيقتهم سالمة على ما روي أن الواحد منهم كان يأتيه الشخص من أقاربه الذين نهوهم ، فيقول له : ألم أنهك؟ فيقول : بلى ثم تسيل دموعه على خده ـ ولم يتعرض في الآية بمسخ شيء منهم خنازير ـ وروي عن قتادة أن الشباب صاروا (قِرَدَةً) والشيوخ صاروا ـ خنازير ـ وما نجا إلا الذين نهوا ، وهلك سائرهم ، وقرئ (قِرَدَةً) بفتح القاف وكسر الراء و (خاسِئِينَ) بغير همز (فَجَعَلْناها نَكالاً) أي كينونتهم وصيرورتهم (قِرَدَةً) أو المسخة ، أو العقوبة ، أو الآية المدلول عليها بقوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ) وقيل : الضمير للقرية ، وقيل : للحيتان ـ والنكال ـ واحد ـ الأنكال ـ وهي القيود ـ ونكل به ـ فعل به ما يعتبر به غيره ، فيمتنع عن مثله (لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها) أي لمعاصريهم ومن خلفهم ـ وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وغيره ـ وروي عنه أيضا (لِما) بحضرتها من القرى ـ أي أهلها وما تباعد عنها ـ أو للآتين والماضين ـ وهو المختار عند جماعة ـ فكل من ظرفي المكان مستعار للزمان ، و (ما) أقيمت مقام ـ من ـ إما تحقيرا لهم في مقام العظمة والكبرياء ـ أو لاعتبار الوصف ـ فإن ما يعبر بها عن العقلاء تعظيما ـ إذا أريد الوصف ـ كقوله : «سبحان ما سخركن» وصحح كونها (نَكالاً) للماضين أنها ذكرت في زبر الأولين ـ فاعتبروا بها ـ وصحت ـ الفاء ـ لأن جعل ذلك (نَكالاً) للفريقين إنما يتحقق بعد القول والمسخ ، أو لأن ـ الفاء ـ إنما تدل على ترتب جعل العقوبة (نَكالاً) على القول وتسببه عنه ـ سواء كان على نفسه أو على الإخبار به ـ فلا ينافي حصول الاعتبار قبل وقوع هذه الواقعة بسبب سماع هذه القصة ، وقيل : ـ اللام ـ لام الأجل و (ما) على حقيقتها ـ والنكال ـ بمعنى العقوبة لا ـ العبرة ـ والمراد بما (بَيْنَ يَدَيْها) ما تقدم من سائر الذنوب قبل أخذ السمك ، وب (ما خَلْفَها) ما بعدها ، والقول بأن المراد جعلنا المسخ عقوبة لأجل ذنوبهم المتقدمة على المسخة والمتأخرة عنها يستدعي بقاءهم مكلفين بعد المسخ ولا يظهر ذلك إلا على قول مجاهد ، وحمل الذنوب التي بعد المسخة ـ على السيئات الباقية آثارها ـ ليس بشيء كما لا يخفى ، وقول أبي العالية ـ إن المراد ب (لِما بَيْنَ يَدَيْها) ما مضى من الذنوب ، وب (ما خَلْفَها) من يأتي بعد ، والمعنى فجعلناها عقوبة لما مضى من ذنوبهم ، وعبرة لمن بعدهم ـ منحط من القول جدا لمزيد ما فيه من تفكيك النظم والتكلف (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) الموعظة ما يذكر مما يلين القلب ـ ثوابا كان أو عقابا ـ والمراد بالمتقين ما يعم كل متق من كل أمة ـ وإليه ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ وقيل : من أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقيل : منهم ، ويحتمل أنهم اتعظوا بذلك وخافوا عن ارتكاب خلاف ما أمروا به ، ويحتمل أنهم وعظ بعضهم بعضا بهذه الواقعة ، وحظ العارف من هذه القصة أن يعرف أن الله سبحانه وتعالى خلق الناس لعبادته وجعلهم بحيث لو أهملوا وتركوا وخلوا بينهم وبين طباعهم لتوغلوا وانهمكوا في اللذات الجسمانية والغواشي الظلمانية لضروراتهم لها واعتيادهم من الطفولية عليها

والنفس كالطفل إن تهمله شب على

حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

فوضع الله تعالى العبادات ، وفرض عليهم تكرارها في الأوقات المعينة ليزول عنهم بها درن الطباع المتراكم في أوقات الغفلات وظلمة الشواغل العارضة في أزمنة ارتكاب الشهوات ، وجعل يوما من أيام الأسبوع مخصوصا للاجتماع

٢٨٤

على العبادة وإزالة وحشة التفرقة ودفع ظلمة الاشتغال بالأمور الدنيوية ، فوضع (السَّبْتِ) لليهود لأن عالم الحس الذي إليه دعوة اليهود هو آخر العوالم و (السَّبْتِ) آخر الأسبوع ، والأحد للنصارى لأن عالم العقل الذي إليه دعوتهم أول العوالم ، ويوم الأحد أول الأسبوع ، والجمعة للمسلمين لأنه يوم الجمع ، ـ والختم ـ فهو أوفق بهم وأليق بحالهم ـ فمن لم يراع هذه الأوضاع والمراقبات أصلا ـ زال نور استعداده ، وطفئ مصباح فؤاده ، ومسخ كما مسخ أصحاب السبت ، ومن غلب عليه وصف من أوصاف الحيوانات ورسخ فيه بحيث أزال استعداده ، وتمكن في طباعه ، وصار صورة ذاتية له كالماء الذي منبعه معدن الكبريت مثلا أطلق عليه اسم ذلك الحيوان حتى كأن صار طباعه طباعه ، ونفسه نفسه ، فليجهد المرء على حفظ إنسانيته ، وتدبير صحته بشراب الأدوية الشرعية والمعاجين الحكمية ، وليحث نفسه بالمواعظ الوعدية والوعيدية

هي النفس إن تهمل تلازم خساسة

وإن تنبعث نحو الفضائل تلهج

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) بيان نوع من مساوئهم من غير تعديد النعم وصح العطف لأن ذكر النعم سابقا كان مشتملا على ذكر المساوئ أيضا من المخالفة للأنبياء والتكذيب لهم وغير ذلك ، وقد يقال : هو على نمط ما تقدم ، لأن الذبح نعمة دنيوية لرفعة التشاجر بين الفريقين ، وأخروية لكونه معجزة لموسى عليه‌السلام. وكأن مولانا الإمام الرازي خفي عليه ذلك فقال : إنه تعالى لما عدد وجوه إنعامه عليهم أولا ختم ذلك بشرح بعض ما وجه إليهم من التشديدات ، وجعل النوع الثاني ما أشارت إليه هذه الآية ـ وليس بالبعيد.

«وأول القصة» قوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) [البقرة : ٧٢] إلخ ، وكان الظاهر أن يقال ـ قال موسى إذ قتل قتيل تنوزع في قاتله ـ إن الله يأمر بذبح بقرة هي كذا وكذا ، وأن يضرب ببعضها ذلك القتيل ويخبر بقاتله فيكون كيت وكيت إلا أنه فك بعضها وقدم لاستقلاله بنوع من مساوئهم التي قصد نعيها عليهم ، وهو الاستهزاء بالأمر والاستقصاء في السؤال ، وترك المصارعة إلى الامتثال ، ولو أجرى على النظم لكانت قصة واحدة ، ولذهبت تثنية التقريع ، وقد وقع في النظم من فك التركيب والترتيب ما يضاهيه في بعض القصص ، وهو من المقلوب المقبول لتضمنه نكتا وفوائد ، وقيل : إنه يجوز أن يكون ترتيب نزولها على موسى عليه‌السلام على حسب تلاوتها بأن يأمرهم الله تعالى ـ بذبح البقرة ـ ثم يقع القتل فيؤمروا بضرب بعضها ـ لكن المشهور خلافه ـ والقصة أنه عمد اخوان من بني إسرائيل إلى ابن عم لهما ـ أخي أبيهما ـ فقتلاه ليرثا ماله وطرحاه على باب محلهم ثم جاءا يطلبان بدمه فأمر الله تعالى بذبح بقرة وضربه ببعضها ليحيا ، ويخبر بقاتله ، وقيل : كان القاتل أخا القتيل ، وقيل : ابن أخيه ولا وارث له غيره فلما طال عليه عمره قتله ليرثه ، وقيل : إنه كان ـ تحت رجل يقال له عاميل ـ بنت عم لا مثل لها في بني إسرائيل في الحسن والجمال فقتله ذو قرابة له لينكحها فكان ما كان ، وقرأ الجمهور ـ يأمركم ـ بضم الراء ، وعن أبي عمرو ، السكون ، والاختلاس ـ وإبدال الهمزة ألفا ، و (أن) تذبحوا في موضع المفعول الثاني ليأمر ، وهو على إسقاط حرف الجر ـ أي بأن تذبحوا (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) استئناف وقع جوابا عما ينساق إليه الكلام كأنه قيل : فما ذا صنعوا هل سارعوا إلى الامتثال أم لا؟ فأجيب بذلك ، والاتخاذ كالتصيير ، والجعل يتعدى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر ، و (هُزُواً) مفعوله الثاني ولكونه مصدرا لا يصلح أن يكون مفعولا ثانيا لأنه خبر المبتدأ في الحقيقة وهو اسم ذات هنا فيقدر مضاف ـ كمكان ، أو أهل ـ أو يجعل بمعنى المهزوء به كقوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) [المائدة : ٩٦] أي مصيده أو يجعل الذات نفس المعنى مبالغة كرجل عدل ، وقد قالوا ذلك إما بعد أن أمرهم موسى عليه‌السلام بذبح بقرة دون ذكر الاحياء بضربها ، وإما

٢٨٥

بعد أن أمرهم وذكر لهم استبعادا لما قاله واستخفافا به كما يدل عليه الاستفهام إذ المعنى أتسخر بنا فإن جوابك لا يطابق سؤالنا ولا يليق ، وأين ما نحن فيه مما أنت آمر به ، ولا يأبى ذلك انقيادهم له لأنه بعد العلم بأنه جد وعزيمة ، ومن هنا قال بعضهم : إن إجابتهم نبيهم ـ حين أخبرهم عن أمر الله تعالى بأن يذبحوا بقرة بذلك دليل على سوء اعتقادهم بنبيهم وتكذيبهم له إذ لو علموا أن ذلك إخبار صحيح عن الله تعالى لما استفهموا هذا الاستفهام ، ولا كانوا أجابوا هذا الجواب ، فهم قد كفروا بموسى عليه‌السلام. ومن الناس من قال : كانوا مؤمنين مصدقين ولكن جرى هذا على نحو ما هم عليه من غلظ الطبع والجفاء والمعصية ، والعذر لهم أنهم لما طلبوا من موسى عليه‌السلام تعيين القاتل فقال ما قال ورأوا ما بين السؤال والجواب توهموا أنه عليه‌السلام داعبهم ، أو ظنوا أن ذلك يجري مجرى الاستهزاء ، فأجابوا بما أجابوا ، وقيل : استفهموا على سبيل الاسترشاد ـ لا على وجه الإنكار والعناد ـ وقرأ عاصم وابن محيصن «يتخذنا» ـ بالياء ـ على أن الضمير لله تعالى. وقرأ حمزة وإسماعيل عن نافع «هزأ» بالإسكان ، وحفص عن عاصم ـ بالضم وقلب الهمزة واوا ، والباقون ـ بالضم والهمزة ـ والكل لغات فيه.

(قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي من أن أعد في عدادهم ، و ـ الجهل ـ كما قال الراغب ـ له معان ، عدم العلم ، واعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه ، وفعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل ـ سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أو فاسدا ـ وهذا الأخير هو المراد هنا ، وقد نفاه عليه‌السلام عن نفسه قصدا إلى نفي ملزومه الذي رمى به ـ وهو الاستهزاء على طريق الكناية ـ وأخرج ذلك في صورة الاستعارة استفظاعا له ، إذ ـ الهزء ـ في مقام الإرشاد كاد يكون كفرا وما يجري مجراه ، ووقوعه في مقام الاحتقار والتهكم مثل (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١ ـ التوبة : ٣٤ ـ الانشقاق : ٢٤] سائغ شائع ـ وفرق بين المقامين ـ وذكر بعضهم أن الاستعاذة بالله تعالى من ذلك من باب الأدب والتواضع معه سبحانه كما في قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) [المؤمنون : ٩٧] لأن الأنبياء معصومون عن مثل ذلك ، والأول أولى ـ وهو المعروف من إيراد الاستعاذة في أثناء الكلام ـ والفرق بين ـ الهزء والمزح ـ ظاهر فلا ينافي وقوعه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحيانا كما لا يخفى.

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) أي سل لأجلنا (رَبُّكَ) الذي عوّدك ما عوّدك ـ يظهر (لَنا) ما حالها وصفتها ، فالسؤال في الحقيقة عن الصفة ، لأن الماهية ومسمى الاسم معلومان ـ ولا ثالث لهما ـ لتستعمل (ما) فيه ، أما إذا أريد بقرة معينة فظاهر لأنه استفسار لبيان المجمل ـ وإلا فلمكان التعجب ـ وتوهم أن مثل هذه البقرة لا تكون إلا معينة ، والجواب «على الأول» بيان «وعلى الثاني» نسخ وتشديد ، وهكذا الحال فيما سيأتي من السؤال والجواب. وكان مقتضى الظاهر «على الأول» أي لأنها للسؤال عن المميز وصفا كان أو ذاتيا. «وعلى الثاني» كيف؟ لأنها موضوعة للسؤال عن الحال ، و (ما) وإن سئل بها عن الوصف لكنه على سبيل الندور ، وهو إما مجاز أو اشتراك ـ كما صرح به في المفتاح ـ والغالب السؤال بها عن الجنس ، فإن أجريت هنا على الاستعمال الغالب نزل مجهول الصفة لكونه على صفة لم يوجد عليها جنسه ـ وهو إحياء الميت بضرب بعضه ـ منزلة مجهول الحقيقة فيكون سؤالا عن الجنس تنزيلا ، وعن الصفة حقيقة. وإن أجريت على النادر لم يحتج إلى التنزيل المذكور ، والقول إنه يمكن أن يجعل (ما هِيَ) على حذف مضاف ـ أي ما حالها؟ ـ فيكون سؤالا عن نوع حال تفرع عليه هذه الخاصية ـ على بعده ـ خال عن اللطافة اللائقة بشأن الكتاب العزيز. و (ما) استفهامية خبر مقدم ل (هِيَ) والجملة في موضع نصب ب (يُبَيِّنْ) لأنه معلق عنها ، وجاز فيه ذلك لشبهه بأفعال القلوب ، والمعنى (يُبَيِّنْ لَنا) جواب هذا السؤال (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) الفارض اسم للمسنة التي انقطعت ولادتها من الكبر ، والفعل ـ فرضت ـ بفتح الراء

٢٨٦

وضمها ـ ويقال لكل ما قدم وطال أمره (فارِضٌ) ومنه قوله :

يا رب ذي ضغن على (فارض)

له قروء كقروء الحائض

وكأن المسنة سميت ـ فارضا ـ لأنها ـ فرضت ـ سنها أي قطعتها وبلغت آخرها ، و ـ البكر ـ اسم للصغيرة ، وزاد بعضهم ـ التي لم تلد من الصغر ـ وقال ابن قتيبة : هي التي ولدت ولدا واحدا ، والبكر من النساء التي لم يمسها الرجال ، وقيل : (١) هي التي لم تحمل ، والبكر من الأولاد الأول ، ومن الحاجات الأولى ـ والبكر ـ بفتح الباء ـ الفتي من الإبل ، والأنثى ـ بكرة ـ وأصله من التقدم في الزمان ، ومنه ـ البكرة والباكورة ـ والاسمان صفة (بقرة) ولم يؤت ـ بالتاء ـ لأنهما اسمان لما ذكر ، واعترضت (لا) بين الصفة والموصوف وكررت لوجوب تكريرها مع الخبر والنعت والحال إلا في الضرورة خلافا للمبرد وابن كيسان كقوله :

قهرت العدا (لا مستعينا) بعصبة

ولكن بأنواع الخدائع والمكر

ومن جعل ذلك من الوصف بالجمل فقدر مبتدأ أي لا هي (فارض ولا بكر) فقد أبعد ، إذ الأصل الوصف بالمفرد ، والأصل أيضا أن لا حذف ، وذكر (يَقُولُ) للإشارة إلى أنه من عند الله تعالى لا من عند نفسه.

(عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) أي متوسطة السن ، وقيل : هي التي ولدت بطنا أو بطنين ، وقيل : مرة بعد مرة ويجمع على فعل كقوله :

طوال مثل أعناق الهوادي

نواعم بين أبكار (وعون)

ويجوز ضم عين الكلمة في الشعر ، وفائدة هذا بعد (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) نفى أن تكون عجلا أو جنينا ، وأراد من ذلك ما ذكر من الوصفين السابقين وبهذا صح الإفراد وإضافة (بَيْنَ) إليه فإنه لا يضاف إلا إلى متعدد وكون الكلام مما حذف منه المعطوف لدلالة المعنى عليه والتقدير عوان بين ذلك وهذا أي ـ الفارض والبكر ـ فيكون نظير قوله :

فما كان بين الخير لو جاء سالما

أبو حجر (إلا ليال) قلائل

حيث أراد بين الخير وباعثه تكلف مستغنى عنه بما ذكر (٢). واختار السجاوندي أن المراد في وسط زمان الصلاح للعوان واعتداله تقول : سافرت إلى الروم وطفت بين ذلك ، فالمشار إليه عوان وارتضاه بعض المحققين مدعيا أنه أولى لئلا يفوت معنى بين ذلك لأن أهل اللغة قالوا : بقرة عوان (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) وعلى الشائع ربما يحتاج الأمر إلى تجريدكما لا يخفى ، ثم إن عود الضمائر المذكورة في السؤال والجواب وإجراء تلك الصفات على بقرة يدل على أن المراد بها معينة لأن الأول يدل على أن الكلام في البقرة المأمور بذبحها ، والثاني يفيد أن المقصد تعيينها وإزالة إبهامها بتلك الصفات كما هو شأن الصفة لا أنها تكاليف متغايرة بخلاف ما إذا ذكر تلك الصفات بدون الإجراء ، وقيل : (إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) فإنه يحتمل أن يكون المقصود منه تبديل الحكم السابق ، والقول : ـ بأنهم لما تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيا ظنوها معينة خارجة عما عليه الجنس فسألوا عن حالها وصفتها فوقعت الضمائر لمعينة باعتقادهم فعينت تشديدا عليهم وإن لم يكن المراد منها أول الأمر معينة ـ ليس بشيء لأنه حينئذ لم تكن الضمائر عائدة إلى ما أمروا بذبحها بل ما اعتقدوها ، والظاهر خلافه واللازم على هذا تأخير البيان عن

__________________

(١) القائل ابن قتيبة ا ه منه.

(٢) فيه لطاعة ا ه منه.

٢٨٧

وقت الخطاب وليس بممتنع والممتنع تأخيره عن وقت الحاجة إلا عند من (١) يجوز التكليف بالمحال وليس بلازم إذ لا دليل على أن الأمر هنا للفور حتى يتوهم ذلك ومن الناس من أنكروا ذلك وادعوا أن المراد بها بقرة من نوع البقر بلا تعيين وكان يحصل الامتثال لو ذبحوا أي بقرة كانت إلا أنها انقلبت مخصوصة بسؤالهم ـ وإليه ذهب جماعة من أهل التفسير ـ وتمسكوا بظاهر اللفظ فإنه مطلق فيترك على إطلاقه مع ما أخرجه ابن جرير بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما موقوفا لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأتهم ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله تعالى عليهم ، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه عن عكرمة مرفوعا مرسلا وبأنه لو كانت معينة لما عنفهم على التمادي وزجرهم عن المراجعة إلى السؤال ، واللازم حينئذ النسخ قبل الفعل بناء على مذهب من يقول الزيادة على الكتاب نسخ كجماهير الحنفية القائلين بأن الأمر المطلق يتضمن التخيير وهو حكم شرعي والتقييد يرفعه وهو جائز بل واقع كما في حديث فرض الصلاة ليلة المعراج ، والممتنع النسخ قبل التمكن من الاعتقاد بالاتفاق لأنه بداء وقبل التمكن من الفعل عند المعتزلة وليس بلازم ـ على ما قيل ـ على أنه قيل : يمكن أن يقال : ليس ذلك بنسخ لأن البقرة المطلقة متناولة للبقرة المخصوصة وذبح البقرة المخصوصة ذبح للبقرة مطلقا فهو امتثال للأمر الأولى فلا يكون نسخا واعترض على كون التخيير حكما شرعيا إلخ بالمنع مستندا بأن الأمر المطلق إنما يدل على إيجاب ماهية من حيث هي بلا شرط لكن لما لم تتحقق إلا في ضمن فرد معين جاء التخيير عقلا من غير دلالة النص عليه وإيجاب الشيء لا يقتضي إيجاب مقدمته العقلية إذ المراد بالوجوب الوجوب الشرعي ، ومن الجائز أن يعاقب المكلف على ترك ما يشمله مقدمة عقلية ولا يعاقب على ترك المقدمة ، ونسب هذا الاعتراض لمولانا القاضي في منهياته ـ وفيه تأمل ـ وذكر بعض المحققين أن تحقيق هذا المقام أنه إن كان المراد بالبقرة المأمور بذبحها مطلق البقرة أي بقرة كانت فالنسخ جائز لأن شرط النسخ التمكن من الاعتقاد وهو حاصل بلا ريب ، وإن كان البقرة المعينة فلا يجوز النسخ لعدم التمكن من الاعتقاد حينئذ لأنه إنما حصل بعد الاستفسار فاختلاف العلماء في جواز النسخ وعدمه في هذا المقام من باب النزاع اللفظي فتدبر (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) أي من ذبح البقرة ولا تكرروا السؤال ولا تتعنتوا ، وهذه الجملة يحتمل أن تكون من قول الله تعالى لهم ، ويحتمل أن تكون من قول موسى عليه‌السلام حرضهم على امتثال ما أمروا به شفقة منه عليهم ، و (ما) موصولة والعائد محذوف أي ما تؤمرونه بمعنى ما تؤمرون به ، وقد شاع حذف الجار في هذا الفعل حتى لحق بالمتعدي إلى مفعولين فالمحذوف من أول الأمر هو المنصوب ، وأجاز بعضهم أن تكون (ما) مصدرية أي ـ فافعلوا أمركم ـ ويكون المصدر بمعنى المفعول كما في قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٦] على أحد الوجهين ، وفيه بعد لأن ذلك في الحاصل بالسبك قليل وإنما كثر في صيغة المصدر.

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) إسناد البيان في كل مرة إلى الله عزوجل لإظهار كمال المساعدة في إجابة مسئولهم وصيغة الاستقبال لاستحضار الصورة ـ والفقوع ـ أشد ما يكون من الصفرة وأبلغه والوصف به للتأكيد ـ كأمس الدابر ـ وكذا في قولهم أبيض ناصع ، وأسود حالك ، وأحمر قان ، وأخضر ناضر ، و (لَوْنُها) مرفوع ب (فاقِعٌ) ولم يكتف بقوله صفراء فاقعة لأنه أراد تأكيد نسبة الصفرة فحكم عليها أنها صفراء ثم حكم على اللون أنه شديد الصفرة فابتدأ أولا بوصف البقرة بالصفرة ثم أكد ذلك بوصف اللون بها فكأنه قال : هي صفراء ولونها شديد الصفرة ، وعن الحسن سوداء شديدة السواد ولا يخفى أنه خلاف الظاهر

__________________

(١) وإليه ذهب أكثر الحنفية وبعض الشافعية ا ه منه.

٢٨٨

لأن الصفرة ـ وإن استعملها العرب بهذا المعنى ـ نادرا كما أطلقوا الأسود على الأخضر لكنه في الإبل خاصة على ما قيل في قوله تعالى : (جِمالَتٌ صُفْرٌ) [المرسلات : ٣٣] لأن سواد الإبل تشوبه صفرة وتأكيده بالفقوع ينافيه لأنه من وصف الصفرة في المشهور ، نعم ذكر في اللمع أنه يقال : أصفر فاقع ، وأحمر فاقع ، ويقال في الألوان : كلها فاقع وناصع إذا أخلصت فعليه لا يرد ما ذكر ، ومن الناس من قال : إن الصفرة استعيرت هنا للسواد ، وكذا فاقع لشديد السواد وهو ترشيح ويجعل سواده من جهة البريق واللمعان ـ وليس بشيء ، وجوز بعضهم أن يكون (لَوْنُها) مبتدأ وخبره إما (فاقِعٌ) أو الجملة بعده ، والتأنيث على أحد معنيين ، أحدهما لكونه أضيف إلى مؤنث كما قالوا : ذهبت بعض أصابعه ، والثاني أنه يراد به المؤنث إذ هو الصفرة فكأنه قال : صفرتها (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) ولا يخفى بعد ذلك. و ـ السرور ـ أصله لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه أو رؤية أمر معجب رائق ، وأما نفسه فانشراح مستبطن فيه ـ وبين السرور ، والحبور ، والفرح ـ تقارب لكن السرور هو الخالص المنكتم سمي بذلك اعتبارا بالإسرار ، والحبور ما يرى حبره ـ أي أثره ـ في ظاهر البشرة وهما يستعملان في المحمود. وأما الفرح فما يحصل بطرا وأشرا ولذلك كثيرا ما يذم كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [القصص : ٧٦] والمراد به هنا عند بعض الإعجاب مجازا للزومه له غالبا ، والجملة صفة البقرة أي تعجب الناظرين إليها. وجمهور المفسرين يشيرون إلى أن الصفرة من الألوان السارة ولهذا كان علي كرم الله تعالى وجهه يرغب في النعال الصفر ويقول من لبس نعلا أصفر قل همه ، ونهى ابن الزبير ويحيى بن أبي كثير عن لباس النعال السود لأنها تغم ، وقرئ ـ يسر ـ بالياء فيحتمل أن يكون (لَوْنُها) مبتدأ ـ ويسر ـ خبره ويكون (فاقِعٌ) صفة تابعة لصفراء على حد قوله :

وإني لأسقي الشرب (صفراء فاقعا)

كأن ذكي المسك فيها يفتق

إلا أنه قليل حتى قيل : بابه الشعر ، ويحتمل أن يكون لونها فاعلا ب (فاقِعٌ) و ـ يسر ـ إخبار مستأنف.

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) إعادة للسؤال عن الحال والصفة لا لرد الجواب الأول ـ بأنه غير مطابق وأن السؤال باق على حاله ـ بل لطلب الكشف الزائد على ما حصل وإظهار أنه لم يحصل البيان التام.

(إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) تعليل لقوله تعالى : (ادْعُ) كما في قوله تعالى : (صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [التوبة : ١٠٣] وهو اعتذار لتكرير السؤال أي إن البقر الموصوف بما ذكر كثير فاشتبه علينا ، والتشابه مشهور في البقر ، وفي الحديث «فتن كوجوه البقر» أي يشبه بعضها بعضا وقرأ يحيى وعكرمة ـ والباقر ان الباقر ـ وهو اسم لجماعة البقر ، والبقر اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين واحده بالتاء ومثله يجوز تذكيره وتأنيثه ، ـ كنخل منقعر ، والنخل باسقات ـ وجمعه أباقر ، ويقال فيه : بيقور وجمعه بواقر ، وفي البحر إنما سمي هذا الحيوان بذلك لأنه يبقر الأرض أي يشقها للحرث ، وقرأ الحسن «تشابه» بضم الهاء جعله مضارعا محذوف التاء وماضيه «تشابه» ـ وفيه ضمير يعود على البقر على أنه مؤنث ، والأعرج كذلك إلا أنه شدد الشين ، والأصل ـ تتشابه ـ فأدغم ، وقرئ تشبه ـ بتشديد الشين ـ على صيغة المؤنث من المضارع المعلوم ، «ويشبه» بالياء والتشديد على صيغة المضارع المعلوم أيضا ، وابن مسعود ـ «يشّابه» ـ بالياء والتشديد جعله مضارعا من تفاعل لكنه أدغم التاء في الشين ، وقرئ «مشتبه» ، و «متشبه» ، و «يتشابه» ـ والأعمش ـ «متشابه» و «متشابهة» ـ وقرئ ـ «تشابهت» ـ بالتخفيف ، وفي مصحف أبيّ بالتشديد ، واستشكل بأن التاء لا تدغم إلا في المضارع ، وليس في زنة الأفعال فعل ماض على تفاعل بتشديد الفاء ووجه بأن أصله ـ إن البقرة تشابهت ـ فالتاء الأولى من البقرة ، والثانية من الفعل فلما اجتمع مثلان أدغم نحو ـ الشجرة تمايلت ـ إلا أن جعل

٢٨٩

التشابه في بقرة ركيك ، والأهون القول بعدم ثبوت هذه القراءة فإن دون تصحيحها على وجه وجيه خرط القتاد ، ويشكل أيضا ـ تشابه ـ من غير تأنيث لأنه كان يجب ثبوت علامته إلا أن يقال : إنه على حد قوله :

ولا أرض أبقل إبقالها

وابن كيسان يجوزه في السعة (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) أي إلى عين البقرة المأمور بذبحها ، أو لما خفي من أمر القاتل ، أو إلى الحكمة التي من أجلها أمرنا ، وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس ـ مرفوعا معضلا ـ وسعيد عن عكرمة ـ مرفوعا مرسلا ـ وابن أبي حاتم عن أبي هريرة ـ مرفوعا موصولا ـ أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «لو لم يستثنوا لما تبينت لهم آخر الأبد» واحتج بالآية على أن الحوادث بإرادة الله حيث علق فيما حكاه وجود الاهتداء الذي هو من جملة الحوادث بتعلق المشيئة وهي نفس الإرادة وما قصه الله تعالى في كتابه من غير نكير فهو حجة على ما عرف في محله ، وهذا مبني على القول بترادف المشيئة والإرادة ، وفيه خلاف وأن كون ما ذكر بالإرادة مستلزم لكون جميع الحوادث بها ـ وفيه نظر ـ واحتج أيضا بها على أن الأمر قد ينفك عن الإرادة وليس هو الإرادة كما يقوله المعتزلة لأنه تعالى لما أمرهم بالذبح فقد أراد اهتداءهم في هذه الواقعة فلا يكون لقوله : إن شاء الله الدال على الشك وعدم تحقق الاهتداء فائدة بخلاف ما إذا قلنا : إنه تعالى قد يأمر بما لا يريد ، والقول بأنه يجوز أن يكون أولئك معتقدين على خلاف الواقع للانفكاك ، أو يكون مبنيا على ترددهم في كون الأمر منه تعالى يدفعه التقرير إلا أنه يرد أن الاحتجاج إنما يتم لو كان معنى (لَمُهْتَدُونَ) الاهتداء إلى المراد بالأمر أما لو كان المراد إن شاء الله اهتداءنا في أمر ما لكنا مهتدين فلا إلا أنه خلاف الظاهر كالقول بأن اللازم أن يكون المأمور به وهو الذبح مرادا ولا يلزمه الاهتداء إذ يجوز أن يكون لتلك الإرادة حكمة أخرى بل هذا أبعد بعيد ، والمعتزلة والكرامية يحتجون بالآية على حدوث إرادته تعالى بناء على أنها والمشيئة سواء لأن كلمة (إِنَ) دالة على حصول الشرط في الاستقبال وقد تعلق الاهتداء الحادث بها ، ويجاب بأن التعليق باعتبار التعلق فاللازم حدوث التعلق ولا يلزمه حدوث نفس الصفة وتوسط الشرط بين اسم (إِنَ) وخبرها لتتوافق رءوس الآي ، وجاء خبر (إِنَ) اسما لأنه أدل على الثبوت وعلى أن الهداية حاصلة لهم وللاعتناء بذلك أكد الكلام.

(قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ) صفة (بَقَرَةٌ) وهو من الوصف بالمفرد ، ومن قال : هو من الوصف بالجملة ، وان التقدير لا هي ذلول فقد أبعد عن الصواب ، و (لا) بمعنى غير ، وهو اسم على ما صرح به السخاوي وغيره لكن لكونها في صورة الحرف ظهر إعرابها فيما بعدها ، ويحتمل أن تكون حرفا ـ كالا ـ التي بمعنى غير في مثل قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] و ـ الذلول ـ الريض الذي زالت صعوبته يقال دابة ذلول بينة الذل بالكسر ، ورجل ذلول بين الذل بالضم (تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) (لا) صلة لازمة لوجوب التكرار في هذه الصورة وهي مفيدة للتصريح بعموم النفي إذ بدونها يحتمل أن يكون لنفي الاجتماع ، ولذا تسمى المذكرة و ـ الإثارة ـ قلب الأرض للزراعة من أثرته إذا هيجته ، و (الْحَرْثَ) الأرض المهيأة للزرع أو هو شق الأرض ليبذر فيها ويطلق على ما حرث وزرع ، وعلى نفس الزرع أيضا ، والفعلان صفتا (ذَلُولٌ) والصفة يجوز وصفها على ما ارتضاه بعض النحاة وصرح به السمين والفعل الأول داخل في حيز النفي والمقصود نفي إثارتها الأرض ـ أي لا تثير الأرض ـ فتذل فهو من باب على لاحب لا يهتدي بمناره ففيه نفي للأصل والفرع معا ، وانتفاء الملزوم بانتفاء اللازم ، قال الحسن : كانت هذه البقرة وحشية ولهذا وصفت بأنها لا تثير الأرض إلخ ، وذهب قوم إلى أن تثير مثبت لفظا ومعنى ، وأنه أثبت للبقرة أنها تثير الأرض وتحرثها ونفى عنها سقي الحرث ، ورد بأن ما كان يحرث لا ينتفي عنه كونه

٢٩٠

ذلولا ، وقال بعض : المراد أنها تثير الأرض بغير الحرث بطرا ومرحا ، ومن عادة البقر إذا بطرت تضرب بقرونها وأظلافها فتثير تراب الأرض. فيكون هذا من تمام قوله (لا ذَلُولٌ) لأن وصفها بالمرح ، والبطر دليل على ذلك ـ وليس عندي بالبعيد ـ وذهب بعضهم كما في الكواشي إلى أن جملة (تُثِيرُ) في محل نصب على الحال ، قال ابن عطية : ولا يجوز ذلك لأنها من نكرة ، واعترض بأنه إن أراد بالنكرة بقرة فقد وصفت ، والحال من النكرة الموصوفة جائزة جوازا حسنا وإن أراد بها (لا ذَلُولٌ) فمذهب سيبويه جواز مجيء الحال من النكرة وإن لم توصف ، وقد صرح بذلك في مواضع من كتابه اللهم إلا أن يقال : إنه تبع الجمهور في ذلك ـ وهم على المنع ـ وجعل الجملة حالا من الضمير المستكن في ذلول أي (لا ذَلُولٌ) في حال إثارتها ليس بشيء ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : (لا ذَلُولٌ) بالفتح ف (لا) للتبرئة ، والخبر محذوف أي هناك ، والمراد مكان جدت هي فيه ، والجملة صفة ذلول ، وهو نفي لأن توصف بالذل ، ويقال : هي ذلول بطريق الكناية لأنه لو كان في مكان البقرة لكانت موصوفة به ضرورة اقتضاء الصفة للموصوف ، فلما لم يكن في مكانها لم تكن موصوفة به فهذا كقولهم محل ـ فلان ـ مظنة الجود والكرم ، وهذا أولى مما قيل : إن (تُثِيرُ) خبر (لا) والجملة معترضة بين الصفة والموصوف لأنه أبلغ كما لا يخفى ، وبعضهم خرج القراءة على البناء نظرا إلى صورة (لا) كما ـ في كنت بلا مال ـ بالفتح ، وليس بشيء لأن ذلك مقصور على مورد السماع ، وليس بقياسي على ما يشعر به كلام الرضي (١) وقرئ «تسقى» بضم حرف المضارعة من أسقى بمعنى سقى ، وبعض فرق بينهما بأن سقى لنفسه ، وأسقى لغيره كماشيته وأرضه.

(مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها) أي سلمها الله تعالى من العيوب قاله ابن عباس ، أو أعفاها أهلها من سائر أنواع الاستعمال قاله الحسن ، أو مطهرة من الحرام لا غصب فيها ولا سرقة قاله عطاء ، أو أخلص لونها من الشيات قاله مجاهد ، والأولى ما ذهب إليه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لأن المطلق ينصرف إلى الكامل ولكونه تأسيسا ، وعلى آخر الأقوال يكون (لا شِيَةَ فِيها) أي لا لون فيها يخالف لونها تأكيدا والتضعيف هنا للنقل والتعدية ، ووهم غير واحد فزعم أنه للمبالغة ، و ـ الشية ـ مصدر وشيت الثوب أشيه وشيا إذا زينته بخطوط مختلفة الألوان فحذف فاؤه ـ كعدة وزنة ـ ومنه الواشي للنمام ، قيل : ولا يقال له : واش حتى يغير كلامه ويزينه ، ويقال : ثور أشية ، وفرس أبلق ، وكبش أخرج ، وتيس أبرق ، وغراب أبقع ـ كل ذلك بمعنى البلقة ـ وفي البحر ليس الأشيه في قولهم : ثور أشية للذي فيه بلق مأخوذا من الشية لاختلاف المادتين ، و ـ شية ـ اسم (لا) و (فِيها) خبره.

(قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) أي أظهرت حقيقة ما أمرنا به فالحق هنا بمعنى الحقيقة ، وقيل : بمعنى الأمر المقضي أو اللازم ، وقيل : بمعنى القول المطابق للواقع ولم يريدوا أن ما سبق لم يكن حقا بل أرادوا أنه لم يظهر الحق به كمال الظهور فلم يجىء بالحق بل أومأ إليه فعلى هذه الأقوال لم يكفروا بهذا القول ، وأجراه قتادة على ظاهرة وجعله ـ متضمنا أن ما جئت به من قبل ـ كان باطلا فقال : إنهم كفروا بهذا القول ، والأولى عدم الإكفار ، و (الْآنَ) ظرف زمان لازم البناء على الفتح ولا يجوز تجريده من ـ أل ـ واستعماله على خلافه لحن ، وهي تقتضي الحال وتخلص المضارع له غالبا ، وقد جاءت حيث لا يمكن أن تكون له نحو (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) [البقرة : ١٨٧] إذ الأمر نص في الاستقبال وادعى بعضهم إعرابها لقوله كأنهما ملآن لم يتغيرا يريد من الآن فجره وهو يحتمل البناء على الكسر ، و

__________________

(١) فإنه قال : ربما فتح نظرا إلى لفظة (لا) فقيل : كنت بلا مال ا ه منه.

٢٩١

(أل) فيها للحضور عند بعض ، وزائدة عند آخرين ، وبنيت لتضمنها معنى الإشارة أو لتضمنها معنى ـ أل ـ التعريفية ـ كسحر ـ وقرئ لان بالمد على الاستفهام التقريري إشارة إلى استبطائه وانتظارهم له.

وقرأ نافع بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وعنه روايتان حذف واو «قالوا» وإثباتها (فَذَبَحُوها) أي فطلبوا هذه البقرة الجامعة للأوصاف السابقة وحصلوها (فَذَبَحُوها) فالفاء فصيحة عاطفة على محذوف إذ لا يترتب الذبح على مجرد الأمر بالذبح ، وبيان صفتها وحذف لدلالة الذبح عليه ، وتحصيلها كان باشترائها من الشاب البار بأبويه كما تظافرت عليه أقوال أكثر المفسرين والقصة مشهورة ، وقيل : ـ كانت وحشية فأخذوها ، وقيل : لم تكن من بقر الدنيا بل أنزلها الله تعالى من السماء ـ وهو قول هابط إلى تخوم الأرض ، قيل : ووجه الحكمة في جعل البقرة آلة دون غيرها من البهائم أنهم كانوا يعبدون البقر والعجاجيل وحبب ذلك في قلوبهم ، لقوله تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة : ٩٣] ثم بعد ما تابوا أراد الله تعالى أن يمتحنهم بذبح ما حبب إليهم ليكون حقيقة لتوبتهم ، وقيل : ولعله ألطف وأولى إن الحكمة في هذا الأمر إظهار توبيخهم في عبادة العجل بأنكم كيف عبدتم ما هو في صورة البقرة مع أن الطبع لا يقبل أن يخلق الله تعالى فيه خاصية يحيا بها ميت بمعجزة نبي؟! وكيف قبلتم قول السامري إنه إلهكم وها أنتم لا تقبلون قول الله سبحانه : إنه يحيا بضرب لحمة منه الميت سبحان الله تعالى؟ هذا الخرق العظيم (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) كنى على الذبح بالفعل أي ـ وما كادوا يذبحون ـ واحتمال أن يكون المراد (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) ما أمروا به بعد الذبح من ضرب بعضها على الميت بعيد ، و ـ كاد ـ موضوعة لدنو الخبر حصولا ولا يكون خبرها في المشهور إلا مضارعا دالا على الحال لتأكيد القرب ، واختلف فيها فقيل : هي في الإثبات نفي وفي النفي إثبات ، فمعنى ـ كاد زيد يخرج ـ قارب ولم يخرج وهو فاسد لأن معناها مقاربة الخروج ، وأما عدمه فأمر عقلي خارج عن المدلول ولو صح ما قاله لكان قارب ونحوه كذلك ولم يقل به أحد ، وقيل : هي في الإثبات إثبات وفي النفي الماضي إثبات وفي المستقبل على قياس الأفعال. وتمسك القائل بهذه الآية لأنه لو كان معنى (وَما كادُوا) هنا نفيا للفعل عنهم لناقض قوله تعالى : (فَذَبَحُوها) حيث دل على ثبوت الفعل لهم والحق إنها في الإثبات والنفي كسائر الأفعال ، فمثبتها لإثبات القرب ، ومنفيها لنفيه ، والنفي والإثبات في الآية محمولان على اختلاف الوقتين أو الاعتبارين فلا تناقض إذ من شرطه اتحاد الزمان والاعتبار ، والمعنى أنهم ما قاربوا ذبحها حتى انقطعت تعللاتهم فذبحوا كالملجأ أو فذبحوها ائتمارا (وَما كادُوا) من الذبح خوفا من الفضيحة أو استثقالا لعلو ثمنها حيث روي أنهم اشتروها بملء جلدها ذهبا ، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير ، واستشكل القول باختلاف الوقتين بأن الجملة حال من فاعل (فَذَبَحُوها) فيجب مقارنة مضمونها لمضمون العامل ، والجواب بأنهم صرحوا بأنه قد يقيد بالماضي فإن كان مثبتا قرن ـ بقد ـ لتقربه من الحال وإن كان منفيا ـ كما هنا ـ لم يقرن بها لأن الأصل استمرار النفي فيفيد المقاربة لا يجدي نفعا لأن عدم مقاربة الفعل لا يتصور مقارنتها له ، ولهذا عول بعض المتأخرين في الجواب على أن (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) كناية عن تعسر الفعل وثقله عليهم وهو مستمر باق ، وقد صرح في شرح التسهيل أنه قد يقول القائل ـ لم يكد زيد يفعل ـ ومراده أنه فعل بعسر لا بسهولة وهو خلاف الظاهر الذي وضع له اللفظ فافهم (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) أي شخصا أو ذا نفس ، ونسبة القتل إلى المخاطبين لوجوده فيهم على طريقة العرب في نسبة الأشياء إلى القبيلة إذا وجد من بعضها ما يذم به أو يمدح ، وقول بعضهم : ـ إنه لا يحسن إسناد فعل أو قول صدر عن البعض إلى الكل إلا إذا صدر عنه بمظاهرتهم أو رضا منهم ـ غير مسلم ، نعم لا بد لإسناده إلى الكل من نكتة ما ، ولعلها هنا الإشارة إلى أن الكل بحيث لا يبعد صدور القتل منهم لمزيد حرصهم وكثرة طمعهم وعظم جرأتهم.

٢٩٢

فهم كأصابع الكفين طبعا

وكل منهم طمع جسور

وقيل : إن القاتل جمع وهم ورثة المقتول ، وقد روي أنهم اجتمعوا على قتله ، ولهذا نسب القتل إلى الجمع (فَادَّارَأْتُمْ فِيها) أصله تدارأتم من الدرء وهو الدفع فاجتمعت التاء والدال مع تقارب مخرجيهما وأريد الإدغام فقلبت التاء دالا وسكنت للإدغام فاجتلبت همزة الوصل للتوصل إلى الابتداء بها ، وهذا مطرد في كل فعل على تفاعل أو تفعل فاؤه ـ تاء أو طاء أو ظاء ، أو صاد أو ضاد ـ والتدارؤ هنا إما مجاز عن الاختلاف والاختصام ، أو كناية عنه إذ المتخاصمان يدفع كل منهما الآخر أو مستعمل في حقيقته أعني التدافع بأن طرح قتلها كل عن نفسه إلى صاحبه فكل منهما من حيث إنه مطروح عليه يدفع الآخر من حيث إنه طارح ، وقيل : إن طرح القتل في نفسه نفس دفع الصاحب ـ وكل من الطارحين دافع فتطارحهما ـ تدافع ، وقيل : إن كلّا منهما يدفع الآخر عن البراءة إلى التهمة فإذا قال أحدهما : أنا بريء وأنت متهم يقول الآخر : بل أنت المتهم وأنا البريء ولا يخفى أن ما ذكر على ما فيه بالمجاز أليق ، ولهذا عد ذلك أبو حيان من المجاز ، والضمير في (فِيها) عائد على النفس ، وقيل : على القتلة المفهومة من الفعل ، وقيل : على التهمة الدال عليها معنى الكلام ، وقرأ أبو حيوة ـ «فتدارأتم» ـ على الأصل ، وقيل : قرأ هو وأبو السوار ـ «فادرأتم» ـ بغير ألف قبل الراء ، وإن طائفة أخرى قرءوا ـ «فتدارأتم» ـ (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) أي مظهر لا محالة ما كنتم تكتمونه من أمر القتيل ، والقاتل كما يشير إليه بناء الجملة الاسمية وبناء اسم الفاعل على المبتدأ المفيد لتأكيد الحكم وتقويه ـ وذلك بطريق التفضل عندنا ـ والوجوب عند المعتزلة وتقدير المتعلق خاصا هو ما عليه الجمهور ، وقيل : يجوز أن يكون عاما في القتيل وغيره ، ويكون القتيل من جملة أفراده ، وفيه نظر إذ ليس كل ما كتموه عن الناس أظهره الله تعالى ، وأعمل (مُخْرِجٌ) لأنه مستقبل بالنسبة للحكم الذي قبله ، وهو التدارؤ ومضيه الآن لا يضر والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار. وفي البحر ـ إن كان ـ للدلالة على تقدم الكتمان.

(فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) عطف على قوله تعالى : (فَادَّارَأْتُمْ) وما بينهما اعتراض يفيد أن كتمان القاتل لا ينفعه ، وقيل : حال أي والحال أنكم تعلمون ذلك ، والهاء في (اضْرِبُوهُ) عائد على النفس بناء على تذكيرها إذ فيها التأنيث ـ وهو الأشهر ـ والتذكير ، أو على تأويل الشخص أو القتيل ، أو على أن الكلام على حذف مضاف أي ذا نفس ، وبعد الحذف أقيم المضاف إليه مقامه ، وقيل : الأظهر أن التذكير لتذكير المعنى ، وإذا كان اللفظ مذكرا والمعنى مؤنثا أو بالعكس فوجهان ، وذكر هذا الضمير ـ مع سبق التأنيث ـ تفننا أو تمييزا بين هذا الضمير والضمير الذي بعده توضيحا ، والظاهر أن المراد بالبعض أي بعض كان إذ لا فائدة في تعينه ـ ولم يرد به نقل صحيح ـ واختلف بم ضربوه فقيل : بلسانها أو بأصغريها أو بفخذها اليمنى أو بذنبها أو بالغضروف (١) أو بالعظم الذي يلين أو بالبضعة التي بين الكتفين أو بالعجب أو بعظم من عظامها ، ونقل أن الضرب كان على جيد القتيل ، وذلك قبل دفنه ، ومن قال : إنهم مكثوا في تطلبها أربعين سنة أو أنهم أمروا بطلبها ولم تكن في صلب ولا رحم قال : إن الضرب على القبر بعد الدفن ، والأظهر أنه المباشر بالضرب لا القبر ، وفي بعض الآثار أنه قام وأوداجه تشخب دما ، فقال : قتلني ابن أخي ، وفي رواية فلان وفلان لابني عمه ثم سقط ميتا فأخذا وقتلا وما ورث قاتل بعد ذلك ، وفي بعض القصص أن القاتل حلف بالله تعالى ما قتلته فكذب بالحق بعد معاينته قال الماوردي : وإنما كان الضرب بميت لا حياة فيه لئلا يلتبس على ذي شبهة أن الحياة إنما انقلبت إليه مما ضرب به فلإزالة الشبهة وتأكد الحجة كان ذلك (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) جملة

__________________

(١) هو أصل الأذن ا ه منه.

٢٩٣

اعتراضية تفيد تحقق المشبه وتيقنه بتشبيه الموعود بالموجود ، والمماثلة في مطلق الإحياء ، وفي الكلام حذف دلت عليه الجملة أي فضربوه فحيي ، والتكلم من الله تعالى مع من حضر وقت الحياة ـ والكاف ـ خطاب لكل من يصح أن يخاطب ويسمع هذا الكلام لأن أمر الإحياء عظيم يقتضي الاعتناء بشأنه أن يخاطب به كل من يصح منه الاستماع فيدخل فيه أولئك دخولا أوليا ـ ويدل على ذلك قوله تعالى : (وَيُرِيكُمْ) إلخ ولا بد على هذا من تقدير القول أي قلنا أو وقلنا لهم كذلك ليرتبط الكلام بما قبله ، وقيل : حرف الخطاب مصروف إليهم ، وكان الظاهر كذلكم على وفق ما بعده إلا أنه أفرده بإرادة كل واحد أو بتأويل فريق ونحوه قصدا للتخفيف ، ويحتمل أن يكون التكلم مع من حضر نزول الآية ، وعليه لا تقدير إذ ينتظم بدونه بل ربما يخرج معه من الانتظام ، وأبعد الماوردي فجعله خطابا من موسى نفسه عليه‌السلام (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) مستأنف أو معطوف على ما قبله ، والظاهر أن الآيات جمع في اللفظ والمعنى ، والمراد بها الدلائل الدالة على أن الله تعالى على كل شيء قدير ، ويجوز أن يراد بها هذا الإحياء ، والتعبير عنه بالجمع لاشتماله على أمور بديعة من ترتب الحياة على الضرب بعضو ميت ، وإخبار الميت بقاتله وما يلابسه من الأمور الخارقة للعادات ، وفي المنتخب أن التعبير عن الآية الواحدة بالآيات لأنها تدل على وجود الصانع القادر على كل المقدورات العالم بكل المعلومات المختار في الإيجاد والإبداع ، وعلى صدق موسى عليه‌السلام ، وعلى براءة ساحة من لم يكن قاتلا ، وعلى تعين تلك التهمة على من باشر القتل (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي لكي تعقلوا الحياة بعد الموت والبعث والحشر فإن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها لعدم الاختصاص (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان : ٢٨] أو لكي يكمل عقلكم أو لعلكم تمتنعون من عصيانه وتعملون على قضية عقولكم ، وقد ذكر المفسرون أحكاما فقهية انتزعوها واستدلوا عليها من قصة هذا القتيل ولا يظهر ذلك من الآية ولا أرى لذكر ذلك طائلا سوى الطول هذا.

«ومن باب الإشارة» إن البقرة هي النفس الحيوانية حين زال عنها شره الصبا ولم يلحقها ضعف الكبر وكانت معجبة رائقة النظر لا تثير أرض الاستعداد بالأعمال الصالحة ولا تسقي حرث المعارف والحكم التي فيها بالقوة بمياه التوجه إلى حضرة القدس والسير إلى رياض الأنس ، وقد سلمت لترعى أزهار الشهوات ولم تقيد بقيود الآداب والطاعات فلم يرسخ فيها مذهب واعتقاد ، ولم يظهر عليها ما أودع فيها من أنوار الاستعداد ، وذبحها قمع هواها ومنعها عن أفعالها الخاصة بها بشفرة سكين الرياضة فمن أراد أن يحيا قلبه حياة طيبة ويتحلى بالمعارف الإلهية والعلوم الحقيقية وينكشف له حال الملك والملكوت وتظهر له أسرار اللاهوت والجبروت ويرتفع ما بين عقله ووهمه من التدارؤ والنزاع الحاصل بسبب الإلف للمحسوسات فليذبحها وليوصل أثره إلى قلبه الميت فهناك يخرج المكتوم وتفيض بحار العلوم وهذا الذبح هو الجهاد الأكبر والموت الأحمر وعقباه الحياة الحقيقية والسعادة الأبدية

ومن لم يمت في حبه لم يعش به

ودون اجتناء النحل ما جنت النحل

وقد أشير بالشيخ والعجوز والطفل والشاب المقتول على ما في بعض الآثار في هذه القصة إلى الروح والطبيعة الجسمانية والعقل والقلب وتطبيق سائر ما في القصة بعد هذا إليك هذا وسلام الله تعالى عليك.

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) القسوة في الأصل اليبس والصلابة وقد شبهت هنا حال قلوبهم وهي نبوها عن الاعتبار بحال قسوة الحجارة في أنها لا يجري فيها لطف العمل ففي (قَسَتْ) استعارة تبعية أو تمثيلية ، و (ثُمَ) لاستبعاد القسوة بعد مشاهدة ما يزيلها ، وقيل : إنها للتراخي في الزمان لأنهم قست قلوبهم بعد مدة حين قالوا : إن الميت كذب عليهم أو أنه عبارة عن قسوة عقبهم ، والضمير في (قُلُوبُكُمْ) لورثة القتيل عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وعند

٢٩٤

أبي العالية وغيره لبني إسرائيل (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي إحياء القتيل ، وقيل : كلامه ، وقيل : ما سبق من الآيات التي علموها ـ كمسخهم قردة وخنازير ، ورفع الجبل ، وانبجاس الماء والإحياء ـ وإلى ذلك ذهب الزجاج ، وعليه تكون (ثُمَّ قَسَتْ) إلخ عطفا على مضمون جميع القصص السابقة والآيات المذكورة ، وعلى سابقه تكون عطفا على قصة (وَإِذْ قَتَلْتُمْ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) أي في القسوة وعدم التأثر والجمع لجمع القلوب وللإشارة إلى أنها متفاوتة في القسوة كما أن الحجارة متفاوتة في الصلابة ـ والكاف ـ للتشبيه وهي حرف عند سيبويه ، وجمهور النحويين والأخفش يدعي اسميتها وهي متعلقة هنا بمحذوف أي كائنة كالحجارة خلافا لابن عصفور إذ زعم أن كاف التشبيه لا تتعلق بشيء (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) أي من الحجارة فهي كالحديد مثلا أو كشيء لا يتأثر أصلا ولو وهما ، و (أَوْ) لتخيير المبالغ ويكون في التشبيه كما يكون بعد الأمر أو للتنويع أي بعض (كَالْحِجارَةِ) وبعض (أَشَدُّ) أو للترديد بمعنى تجويز الأمرين مع قطع النظر عن الغير على ما قيل ، أو بمعنى بل ويحتاج إلى تقدير مبتدأ إذا قلنا باختصاص ذلك بالجمل ، أو بمعنى الواو أو للشك وهو لاستحالته عليه تعالى يصرف إلى الغير والعلامة لا يرتضي ذلك لما أنه يؤدي إلى تجويز أن يكون معاني الحروف بالقياس إلى السامع ، وفيه إخراج للألفاظ عن أوضاعها فإنها إنما وضعت ليعبر بها المتكلم عما في ضميره ، والحق جواز اعتبار السامع في معاني الألفاظ عند امتناع جريها على الأصل بالنظر إلى المتكلم فلا بأس بأن يسلك ب (أَوْ) في الشك مسلك لعل في الترجي الواقع في كلامه تعالى فتلك جادة مسلوكة لأهل السنة وقد مرت الإشارة إلى ذلك فتذكر ، و (أَشَدُّ) عطف على (كَالْحِجارَةِ) من قبيل عطف المفرد على المفرد كما تقول : زيد على سفر أو مقيم ، وقدر بعضهم أو هي (أَشَدُّ) فيصير من عطف الجمل ، ومن الناس من يقدر مضافا محذوفا أي مثل ما هو أشد ، ويجعله معطوفا على الكاف إن كان اسما أو مجموع الجار والمجرور إذا كان حرفا ، ثم لما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه فأعرب بإعرابه ، ولا يخفى أن اعتبار التشبيه في جانب المعطوف بدون عطفه على المجرور بالكاف مستبعد جدا ، وقرأ الأعمش (أَوْ أَشَدُّ) مجرورا بالفتحة لكونه غير منصرف للوصف ووزن الفعل وهو عطف على الحجارة واعتبار التشبيه حينئذ ظاهر وإنما لم يقل سبحانه وتعالى ـ أقسى ـ مع أن فعل القسوة مما يصاغ منه أفعل وهو أخصر ووارد في الفصيح كقوله :

كل خمصانة أرق من الخم

ر بقلب (أقسى) من الجلمود

لما في أشد من المبالغة لأنه يدل على الزيادة بجوهره وهيئته بخلاف أقسى فإن دلالته بالهيئة فقط ، وفيه دلالة على اشتداد القسوتين ولو كان أقسى لكان دالا على اشتراك القلوب والحجارة في القسوة ، واشتمال القلوب على زيادة القسوة لا في شدة القسوة وليس هذا مثل قولك زيد أشد إكراما من عمرو حيث ذكروا أن ليس معناه إلا أنهما مشتركان في الإكرام وإكرام زيد زيد على إكرام عمرو لا أنهما مشتركان في شدة الإكرام ، وشدة إكرام زيد زائدة على شدة إكرام عمرو للفرق بين ما بني للتوصل وما بني لغيره وما نحن فيه من الثاني وإن كان الأول أكثر. والاعتراض ـ بأن أشد محمول على القلوب دون القسوة ـ ليس بشيء لأنه محمول عليها بحسب المعنى لكونها تمييزا محولا عن الفاعل أو منقولا عن المبتدأ كما في البحر ، ويمكن أن يقال : إن الله تعالى أبرز القساوة في معرض العيوب الظاهرة تنبيها على أنها من العيوب بل العيب كل العيب ما صد عن عالم الغيب (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦].

(وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) تذييل لبيان تفضيل قلوبهم على الحجارة أو اعتراض بين قوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) وبين الحال

٢٩٥

عنها وهو (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ) لبيان سبب ذلك فإنه لغرابته يحتاج إلى بيان السبب كما في قوله :

فلا هجرة يبدو وفي اليأس راحة

ولا وصفه يصفو لنا (فنكارمه)

وجعله جملة حالية مشعرة بالتعليل يأباه الذوق إذ لا معنى للتقييد ، وكونه بيانا وتقريرا من جهة المعنى لما تقدم ـ مع كونه بحسب اللفظ معطوفا على جملة ـ هي كالحجارة أو أشد ـ كما قاله العلامة ـ مما لا يظهر وجهه لأنه إذا كان بيانا في المعنى كيف يصح عطفه ويترك جعله بيانا ، والمعنى أن الحجارة تتأثر وتنفعل ، وقلوب هؤلاء لا تتأثر ولا تنفعل عن أمر الله تعالى أصلا ، وقد ترقى سبحانه في بيان التفضيل كأنه بين أو لا تفضيل قلوبهم في القساوة على الحجارة التي تتأثر تأثرا يترتب عليه منفعة عظيمة من تفجر الأنهار ، ثم على الحجارة التي تتأثر تأثرا ضعيفا يترتب عليه منفعة قليلة من خروج الماء ثم على الحجارة التي تتأثر من غير منفعة فكأنه قال سبحانه : قلوب هؤلاء أشد قسوة من الحجارة لأنها لا تتأثر بحيث يترتب عليه المنفعة العظيمة بل الحقيرة بل لا تتأثر أصلا ، وبما ذكر يظهر نكتة ذكر تفجر الأنهار وخروج الماء ، وترك فائدة الهبوط ، وذكر غير واحد أن الآية واردة على نهج التتميم دون الترقي ـ كالرحمن الرحيم ـ إذ لو أريد الترقي لقيل ـ وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يتفجر منه الأنهار ـ وفائدته استيعاب جميع الانفعالات التي على خلاف طبيعة هذا الجوهر ، وهو أبلغ من الترقي ، ويكون (وَإِنَّ مِنْها) الأخير تتميما للتتميم ، ولا يخفى أنه يرد عليه منع إفادته لاستيعاب جميع الانفعالات وخلوه عن لطافة ما ذكرناه ، و ـ التفجر ـ التفتح بسعة وكثرة كما يدل عليه جوهر الكلمة وبناء التفعل ، والمراد من الأنهار الماء الكثير الذي يجري في الأنهار ، والكلام إما على حذف المضاف ، أو ذكر المحل وإرادة الحال أو الإسناد مجازي ، قال بعض المحققين : وحملها على المعنى الحقيقي وهم إذ التفتح لا يمكن إسناده إلى الأنهار اللهم إلا بتضمين معنى الحصول بأن يقال : يتفجر ويحصل منه الأنهار على أن تفجير الحجارة بحيث تصير نهرا غير معتاد فضلا عن كونها أنهارا ، والتشقق التصدع بطول أو بعرض ، والخشية الخوف ، واختلف في المراد منها فذهب قوم ـ وهو المروي عن مجاهد وغيره ـ أنها هنا حقيقة ، وهي مضافة إلى الاسم الكريم من إضافة المصدر إلى مفعوله ـ أي من خشية الحجارة الله ـ ويجوز أن يخلق الله تعالى العقل والحياة في الحجر ، واعتدال المزاج والبنية ليسا شرطا في ذلك خلافا للمعتزلة ، وظواهر الآيات ناطقة بذلك ، وفي الصحيح «إني لأعرف حجرا كان يسلم علي قبل أن أبعث» وأنه صلى الله تعالى عليه وسلم بعد مبعثه ما مر بحجر ولا مدر إلا سلم عليه ، وورد في ـ الحجر الأسود ـ أنه يشهد لمن استلمه ، وحديث تسبيح الحصى بكفه الشريفصلى‌الله‌عليه‌وسلم مشهور ، وقيل : هي حقيقة ، والإضافة هي الإضافة إلا أن الفاعل محذوف هو العباد ، والمعنى أن (مِنَ الْحِجارَةِ) ما ينزل بعضه عن بعض عند الزلزال من خشية عباد الله تعالى إياه ، وتحقيقه أنه لما كان المقصود منها خشية الله تعالى صارت تلك الخشية كالعلة المؤثرة في ذلك الهبوط فيؤول المعنى أنه يهبط من أجل أن يحصل خشية العباد الله تعالى.

وذهب أبو مسلم إلى أن الخشية حقيقة ، وأن الضمير في (مِنْها لَما يَهْبِطُ) عائد على القلوب ، والمعنى أن من القلوب قلوبا تطمئن وتسكن وترجع إلى الله تعالى ، وهي قلوب المخلصين ، فكني عن ذلك بالهبوط ، وقيل : إنها حقيقة إلا أن إضافتها من إضافة المصدر إلى الفاعل ، والمراد بالحجر البرد ، وبخشيته تعالى إخافته عباده بإنزاله وهذا القول أبرد من الثلج وما قبله أكثف من الحجر وما قبلهما بين بين وقال قوم : إن الخشية مجاز عن الانقياد لأمر الله تعالى إطلاقا لاسم الملزوم على اللازم ، ولا ينبغي أن تحمل على حقيقتها ، أما على القول بأن اعتدال المزاج والبنية شرط وما ورد مما يقتضي خلافه محمول على أن الله تعالى قرن ملائكته بتلك الجمادات ، ومنها هاتيك الأفعال ونحو «هذا جبل يحبنا ونحبه» على حذف مضاف أي يحبنا أهله ونحب أهله فظاهر.

٢٩٦

وأما على القول بعدم الاشتراط فلأن الهبوط والخشية على تقدير خلق العقل والحياة لا يصح أن يكون بيانا لكون الحجارة في نفسها أقل قسوة ـ وهو المناسب للمقام ـ والاعتراض بأن قلوبهم إنما تمتنع عن الانقياد لأمر التكليف بطريق القصد والاختيار ولا تمتنع عما يراد بها على طريق القسر والإلجاء كما في الحجارة وعلى هذا لا يتم ما ذكر ، فالأولى الحمل على الحقيقة أجيب عنه بأن المراد أن قلوبهم أقسى من الحجارة لقبولها التأثر الذي يليق بها وخلقت لأجله بخلاف قلوبهم فإنها تنبو عن التأثر الذي يليق بها وخلقت له ، والجواب بأن ما رأوه من الآيات مما يقسر القلب ويلجئه فلما لم تتأثر قلوبهم عن القاسرات الكثيرة ويتأثر الحجر من قاسر واحد تكون قلوبهم (أَشَدُّ قَسْوَةً) لا يخلو عن نظر لأنه إن أريد بذلك المبالغة في الدلالة على الصدق فلا ينفع ، وإن أريد به حقيقة الإلجاء فممنوع ، وإلا لما تخلف عنها التأثر ولما استحق من آمن بعد رؤيتها الثواب لكونه إيمانا اضطراريا ـ ولم يقل به أحد ـ ثم الظاهر على هذا تعلق خشية الله بالأفعال الثلاثة السابقة وقرئ (وَإِنَ) على أنها المخففة من الثقيلة ويلزمها ـ اللام ـ الفارقة بينها وبين النافية ، والفراء يقول : أنها النافية ـ واللام ـ بمعنى إلا ، وزعم الكسائي أن (إِنَ) إن وليها اسم كانت المخففة ، وإن فعل كانت النافية ، وقطرب إنها إن وليها فعل كانت بمعنى ـ قد ـ وقرأ مالك بن دينار «ينفجر» مضارع انفجر والأعمش «يتشقق» و «يهبط» ـ بالضم ..

(وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعيد على ما ذكر كأنه قيل : إن الله تعالى لبالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم حافظ لأعمالهم محص لها ، فهو مجازيهم بها في الدنيا والآخرة ، وقرأ ابن كثير «يعملون» ـ بالياء التحتانية ـ ضما إلى ما بعده من قوله سبحانه (أَنْ يُؤْمِنُوا) و (يَسْمَعُونَ) وفريق منهم ، وقرأ الباقون ـ بالتاء الفوقانية ـ لمناسبة (وَإِذْ قَتَلْتُمْ فَادَّارَأْتُمْ) وتكتمون إلخ وقيل : ضما إلى قوله تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ) بأن يكون الخطاب فيه للمؤمنين وعد لهم ، ويبعده أنه لا وجه لذكر وعد المؤمنين تذييلا لبيان قبائح اليهود.

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ

٢٩٧

حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ)(٩٠)

(أَفَتَطْمَعُونَ) الاستفهام للاستبعاد أو للإنكار التوبيخي ، والجملة قيل : معطوفة على قوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ) أو على مقدر بين ـ الهمزة والفاء ـ عند غير سيبويه ، أي تحسبون أن قلوبكم صالحة للإيمان فتطمعون ـ والطمع ـ تعلق النفس بإدراك مطلوب تعلقا قويا ـ وهو أشد من الرجاء لا يحدث إلا عن قوة رغبة وشدة إرادة ـ والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والمؤمنين ـ أو للمؤمنين ـ قاله أبو العالية وقتادة ، أو للأنصار ـ قاله النقاش ـ والمروي عن ابن عباس ومقاتل أنه لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة ، والجمع للتعظيم (أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) أي يصدقوا مستجيبين لكم ، فالإيمان بالمعنى اللغوي والتعدية ـ باللام ـ للتضمين كما في قوله تعالى : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) [العنكبوت : ٢٦] ويؤمنوا لأجل دعوتكم لهم فالفعل ـ منزل منزلة اللازم ـ والمراد بالإيمان المعنى الشرعي ـ واللام لام الأجل ـ وعلى التقديرين (أَنْ يُؤْمِنُوا) معمول لتطمعون على إسقاط حرف الجر وهو في موضع نصب عند سيبويه ، وجر عند الخليل والكسائي ، وضمير الغيبة لليهود المعاصرين له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لأنهم المطموع في إيمانهم ، وقيل : المراد جنس اليهود ليصح جعل طائفة منهم مطموع الإيمان وطائفة محرفين وفيه ما لا يخفى.

(وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي طائفة من أسلافهم وهم الأحبار (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) أي يسمعون التوراة ويؤولونها تأويلا فاسدا حسب أغراضهم ، وإلى ذلك ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والجمهور على أن تحريفها بتبديل كلام من تلقائهم ـ كما فعلوا ذلك في نعته صلى الله تعالى عليه وسلم ـ فإنه روي أن من صفاته فيها

٢٩٨

أنه أبيض ربعة فغيروه بأسمر طويل وغيروا آية الرجم بالتسخيم وتسويد الوجه ـ كما في البخاري ـ وقيل : المراد بكلام الله تعالى ما سمعوه على الطور ، فيكون المراد من الفريق طائفة من أولئك السبعين ، وقد روى الكلبي أنهم سألوا موسى عليه‌السلام أن يسمعهم كلامه تعالى ، فقال لهم : اغتسلوا والبسوا الثياب النظيفة ففعلوا فأسمعهم الله تعالى كلامه ، ثم قالوا : سمعنا يقول في آخره : إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا ، وإن شئتم فلا تفعلوا. والتحريف على هذا الزيادة. ثم لا يخفى أن فيما افتروا شاهدا على فساده حيث علقوا الأمر بالاستطاعة والنهي بالمشيئة ـ وهما لا يتقابلان ـ وكأنهم أرادوا بالأمر غير الموجب على معنى افعلوا إن شئتم وإن شئتم فلا تفعلوا كذا أفاده العلامة ومقصوده بيان منشأ تحريفهم الفاسد ، فلا ينافي كون عدم التقابل شاهدا على فساده ، ومقتضى هذه الرواية أن هؤلاء سمعوا كلامه تعالى بلا واسطة كما سمعه موسى عليه‌السلام ، والمصحح أنهم لم يسمعوا بغير واسطة ، وأن ذلك مخصوص به عليه‌السلام ، وقيل : المراد به الوحي المنزل على نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ، كان جماعة من اليهود يسمعونه فيحرفونه قصدا أن يدخلوا في الدين ما ليس منه ، ويحصل التضاد في أحكامه (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) [التوبة : ٣٢] وقرأ الأعمش «كلم الله».

(مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) أي ضبطوه وفهموه ـ ولم يشتبه عليهم صحته ـ و (ما) مصدرية أي من بعد عقلهم إياه ، والضمير في (عَقَلُوهُ) عائد على كلام الله ، وقيل : (ما) موصولة والضمير عائد عليها ، وهو بعيد.

(وَهُمْ يَعْلَمُونَ) متعلق العلم محذوف ، أي إنهم مبطلون كاذبون ، أو ما في تحريفه من العقاب ، وفي ذلك كمال مذمتهم ، وبهذا التقرير يندفع توهم تكرار ما ذكر ـ بعد ما عقلوه ـ وحاصل الآية استبعاد الطمع في أن يقع من هؤلاء السفلة إيمان ، وقد كان أحبارهم ومقدموهم على هذه الحالة الشنعاء ، ولا شك أن هؤلاء أسوأ خلقا وأقل تمييزا من أسلافهم أو استبعادا لطمع في إيمان هؤلاء الكفرة المحرفين ، وأسلافهم الذين كانوا زمن نبيهم فعلوا ذلك فلهم فيه سابقة وبهذا يندفع ما عسى أن يختلج في الصدر من أنه كيف يلزم من إقدام بعضهم على التحريف حصول اليأس من إيمان باقيهم (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) جملة مستأنفة إثر بيان ما صدر عن أسلافهم لبيان ما صدر عنهم بالذات من الشنائع المؤيسة عن إيمانهم من نفاق بعض وعتاب آخرين عليهم ، ويحتمل أن تكون معطوفة على وقد كان فريق منهم إلخ ، وقيل : معطوفة على (يَسْمَعُونَ) وقيل : على قوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) عطف القصة على القصة وضمير (لَقُوا) لليهود على طبق (أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) وضمير (قالُوا) للاقين لكن لا يتصدى الكل للقول حقيقة ، بل بمباشرة منافقيهم وسكوت الباقين ، فهو من إسناد ما للبعض للكل ـ ومثله أكثر من أن يحصى ـ وهذا أدخل ، كما قال مولانا ـ مفتي الديار الرومية ـ في تقبيح حال الساكتين «أولا» العاتبين «ثانيا» لما فيه من الدلالة على نفاقهم واختلاف أحوالهم وتناقض آرائهم من إسناد القول إلى المباشرين خاصة بتقدير المضاف ، أي قال منافقوهم ـ كما فعله البعض ـ وقيل : الضمير الأول لمنافقي اليهود كالثاني ليتحد فاعل الشرط والجزاء مراعاة لحق النظم ويؤيده ما روي عن ابن عباس والحسن وقتادة في تفسير (وَإِذا لَقُوا) يعني منافقي اليهود المؤمنين الخلّص قالوا : إلا أن السباق واللحاق ـ كما رأيت وسترى ـ يبعدان ذلك ، وقرأ ابن السميفع «لاقوا».

(وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) أي إذا انفرد بعض المذكورين ـ وهم الساكتون منهم ـ بعد فراغهم عن الاشتغال بالمؤمنين متوجهين منضمين إلى بعض آخر منهم وهم من نافق ، وهذا كالنص على اشتراك الساكتين في لقاء المؤمنين ، إذ ـ الخلو ـ إنما يكون بعد الاشتغال ولأن عتابهم معلق بمحض ـ الخلو ولو لا إنهم حاضرون عند المقاولة

٢٩٩

لوجب أن يجعل سماعهم من تمام الشرط ، ولأن فيه زيادة تشنيع لهم على ما أوتوا من السكوت ثم العتاب (قالُوا) أي أولئك البعض الخالي موبخين لمنافقيهم على ما صنعوا بحضرتهم.

(أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) أي تخبرون المؤمنين بما بينه الله تعالى لكم خاصة من نعت نبيه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أو من أخذ العهود على أنبيائكم بتصديقه صلى الله تعالى عليه وسلم ونصرته ، والتعبير عنه ـ بالفتح ـ للإيذان بأنه سر مكتوم وباب مغلق ، وفي الآية إشارة إلى أنهم لم يكتفوا بقولهم : (آمَنَّا) بل عللوه بما ذكر ، وإنما لم يصرح به تعويلا على شهادة التوبيخ ، ومن الناس من حوّز كون هذا التوبيخ من جهة المنافقين لأعقابهم وبقاياهم الذين لم ينافقوا ، وحينئذ يكون البعض الذي هو فاعل (خَلا) عبارة عن المنافقين ، وفيه وضع المظهر موضع المضمر تكثيرا للمعنى ـ والاستفهام إنكار ـ ونهى عن التحديث في الزمان المستقبل وليس بشيء ـ وإن جل قائله ـ اللهم إلا أن يكون فيه رواية صحيحة ، ودون ذلك خرط القتاد.

(لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ) متعلق بالتحديث دون الفتح خلافا لمن تكلف له ، والمراد تأكيد النكير وتشديد التوبيخ ، فإن التحديث ـ وإن كان منكرا في نفسه ـ لكنه لهذا الغرض مما لا يكاد يصدر عن العاقل ، والمفاعلة هنا غير مرادة ، والمراد ليحتجوا به عليكم ، إلا أنه إنما أتى بها للمبالغة ، وذكر ابن تمجيد أنه لو ذهب أحد إلى المشاركة بين المحتج والمحتج عليه بأن يكون من جانب احتجاج ومن جانب آخر سماع لكان له وجه ـ كما في بايعت زيدا ـ وقد تقدم ما ينفعك هنا فتذكر. واللام ـ هذه لام كي ـ والنصب بأن مضمرة بعدها أو بها ، وهي مفيدة للتعليل ـ ولعله هنا مجاز ـ لأن المحدثين لم يحوموا حول ذلك الغرض ، لكن فعلهم ذلك ـ لما كان مستتبعا له البتة ـ جعلوا كأنهم فاعلون له إظهارا لكمال سخافة عقولهم وركاكة آرائهم ، وضمير (بِهِ) راجع إلى (بِما فَتَحَ اللهُ) على ما يقتضيه الظاهر (عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي في كتابه وحكمه ـ وهو عند عصابة ـ بدل من (بِهِ) ، ومعنى كونه بدلا منه أن عامله الذي هو نائب عنه بدل منه إما بدل الكل إن قدر صيغة اسم الفاعل أو بدل اشتمال إن قدر مصدرا ، وفائدته بيان جهة الاحتجاج بما فتح الله تعالى ، فإن الاحتجاج به يتصور على وجوه شتى ، كأنه قيل : (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ) بكونه في كتابه ، أي يقولوا : إنه مذكور في كتابه الذي آمنتم به ، وبما ذكر يظهر وجه الجمع بين قوله تعالى : (بِهِ) أي (بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) وقوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّكُمْ) واندفع ما قيل لا يصح جعله بدلا لوجوب اتحاد البدل والمبدل منه في الإعراب ، وهاهنا ليس كذلك لكون الثاني ظرفا والأول مفعولا به بالواسطة ، وقيل : المعنى بما عند ربكم فيكون الظرف حالا من ضمير (بِهِ) وفائدته التصريح بكون الاحتجاج بأمر ثابت عنده تعالى وإن كان ذلك مستفادا من كونه بما فتح الله تعالى ، وقيل : عند ذكر ربكم ، فالكلام على حذف مضاف ، والمراد من الذكر «الكتاب» وجعل المحاجة بما فتح الله تعالى باعتبار أنه في الكتاب محاجة عنده توسعا وهذه الأقوال مبنية على أن المراد بالمحاجة في الدنيا وهو ظاهر لأنها دار المحاجة والتأويل في قوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّكُمْ) وقيل : عند ربكم على ظاهره ـ والمحاجة يوم القيامة ـ واعترض بأن الإخفاء لا يدفع هذه المحاجة لأنه إما لأجل أن لا يطلع المؤمنون على ما يحتجون به ـ وهو حاصل لهم بالوحي ـ أو ليكون للمحتج عليهم طريق إلى الإنكار ، وذا لا يمكن عنده تعالى يوم القيامة ولا يظن بأهل الكتاب أنهم يعتقدون أن إخفاء ما في الكتاب في الدنيا يدفع المحاجة بكونه فيه في العقبى لأنه اعتقاد منهم بأنه تعالى لا يعلم ما أنزل في كتابه وهم برآء منه ، والقول بأن المراد (لِيُحَاجُّوكُمْ) يوم القيامة وعند المسائل ، فيكون زائدا في ظهور فضيحتكم وتوبيخكم على رءوس الأشهاد في الموقف العظيم ، فكان القوم يعتقدون أن ظهور ذلك في الدنيا يزيد ذلك في الآخرة للفرق بين من اعترف وكتم ، وبين من ثبت على الإنكار ، أو بأن المحاجة بأنكم بلغتم وخالفتم ـ تندفع بالإخفاء ـ يرد عليه أن

٣٠٠