تراث الشيعة الفقهي والأصولي - ج ١

مهدي المهريزي ومحمد حسين الدرايتي

تراث الشيعة الفقهي والأصولي - ج ١

المؤلف:

مهدي المهريزي ومحمد حسين الدرايتي


الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-21-8
الصفحات: ٦٣٢

ـ بل ذكر بعضهم أنّه لا خلاف فيه عندنا ـ أنّه يقدّم ، أي الأعلم على غيره.

وفي كلام بعض فضلاء العصر : أنّ متابعة الأعلم والأورع واجب بالإجماع. انتهى.

وهو الحجّة في هذا الباب ؛ مضافا إلى غيره من الوجوه :

منها : الأصل ، وتقريره : أنّ الحكم بجواز العمل بفتوى غير الأعلم مع وجوده كذلك ، وصحّته كوجوبه حكم شرعيّ ، فيتوقّف على دليل شرعيّ ، وهو مفقود ، فيجب على من وجب عليه العمل بفتوى الغير الاقتصار على تقليد الأعلم ؛ لحصول العلم بالبراءة من التكليف الثابت معه دون غيره ؛ لعدم الدليل على اعتباره وحصول البراءة منه ، عدا ما سيأتي مع ما فيه.

وبالجملة ، فلا شبهة في أنّ الأصل هنا مقتضاه الفساد ، وعدم الصحّة ، وعدم المشروعيّة ، وعدم الحجّيّة ، وهو المدّعى.

ومنها : الاستصحاب المقتضي للفساد ، وعدم الصحّة ، وعدم المشروعيّة ، وعدم الحجّيّة ، والموجب للحكم ببقائها على ما كان حتّى يثبت الرافع المعتبر ، مع أنّ الفرض فيما نحن فيه فقده.

ومنها : العمومات الدالّة على عدم جواز نقض اليقين إلّا باليقين ؛ بناء على مغايرتها للاستصحاب بالتقريب المشار إليه ، خرج الأعلم في الفرض بالإجماع وغيره من الأدلّة المعتبرة ، وبقي الباقي ـ ومنه محلّ البحث ـ تحتها.

ومنها : العمومات الدالّة على عدم جواز التقليد والعمل بغير علم ، وعلى عدم حجّيّتهما ، وعدم مشروعيّتهما ، وعدم صحّتهما ، من الكتاب والسنّة المعتبرة ، وخرج عنها الأعلم في الفرض بالإجماع وغيره من الأدلّة المعتبرة ، ولا دليل يعتدّ به على غيره عنها ، فيبقى مندرجا تحتها.

ومنها : العمومات من الأخبار المتكثّرة المعتبرة الدالّة على لزوم الأخذ بما خالف العامّة ، وعلى صحّة الأخذ بما وافق الخاصّة ، وعلى أنّ الحقّ والرشد

١٤١

في خلاف العامّة (١) الملزومة لعدم مشروعيّة تقليد غير الأعلم ، وعدم حجّيّة قوله وفتواه في الفرض ؛ لكونه مذهب جماعة منهم (٢) ، بل الأكثر منهم ، كما صرّح به في المنية وغيرها (٣) ؛ فتدبّر.

ومنها : الأخبار الكثيرة الآتية الدالّة على الأخذ بقول الأعلم والأورع فيما دار الأمر بينهما وبين غيرهما في مقام الحكم والقضاء الشاملة لما نحن فيه أيضا ؛ بناء على حمل الحكم والقضاء فيها على الأعمّ من المصطلح ، بحيث يشمل الفتوى أيضا أو الملزومة له ، بناء على عدم انفكاك الحكم والقضاء المصطلح عن التقليد والعمل على مقتضى فتوى القاضي والحاكم في الواقعة ؛ فتأمّل.

ويعضد المختار أو يؤيّده امور :

منها : القاعدة العقليّة الحاكمة بلزوم دفع الضرر المحتمل ؛ بناء على احتمال الضرر في تقليد غير الأعلم حينئذ ، بخلاف تقليد الأعلم ؛ للأمن منه ، فتأمّل.

ومنها : القاعدة العقليّة المسلّمة عند العقلاء ، المنقولة عن فخر المحقّقين في الإيضاح وصاحب شرح الطوالع على مقتضاه الإجماع (٤) ، الحاكمة بلزوم دفع الضرر المظنون ؛ بناء على ظنّ الضرر في تقليد غير الأعلم ، بملاحظة مصير المعظم إلى تعيين الأعلم ، وعدم جواز تقليد غيره حينئذ ؛ فتأمّل.

ومنها : عموم ما دلّ ـ من الأخبار وغيرها ـ على رجحان الاحتياط في الشريعة.

ومنها : القاعدة المسلّمة الحاكمة بأنّ الاشتغال اليقيني أو القائم مقامه يستدعي البراءة اليقينيّة وما بحكمها ؛ فتدبّر.

__________________

(١) تقدّم تخريجه.

(٢) قال به العضدي والحاجبي ، انظر مختصر ابن الحاجب مع شرحه للعضدي ، ص ٤٨٤ ؛ الإحكام في اصول الأحكام ، ج ٤ ، ص ٤٥٧ ؛ المستصفى في علم الاصول ، ج ١ ، ص ٣٩٠.

(٣) منية المريد ، ص ٣٠٤. وانظر مفاتيح الاصول ، ص ٦٢٦ ؛ مطارح الأنظار ، ص ٢٧٢.

(٤) إيضاح الفوائد ، ج ٢ ، ص ٢٥٦ ، ولم يوجد لدينا كتاب شرح الطوالع.

١٤٢

ومنها : ما تمسّك به جماعة هنا ، من قبح ترجيح المفضول على الفاضل ، وقبح ترجيح المرجوح على الراجح بحكم العقل القاطع (١) .

مضافا إلى الإجماع المنقول في منية اللبيب على وجوب ترجيح الراجح على المرجوح ؛ فتأمّل.

ومنها : الاستقراء في الطريقة الجارية بين العقلاء كافّة ، حيثما احتاجوا إلى رجوعهم إلى أهل الخبرة من الحرف والصنائع والعلوم ، من رجوعهم مهما أمكن إلى أكملهم وأعلمهم والأشدّ خبرة منهم ، خصوصا فيما إذا وقع الاختلاف فيما بين أهل الخبرة ، وهذه طريقة شائعة ذائعة مسلّمة.

وبالجملة ، الطباع مجبولة بالوقوف بالأكمل والأعلم والأفضل والأشدّ خبرة وثوقا أشدّ من الوثوق بغيره من حيث هما كذلك.

بل الطباع حينئذ مجبولة بعدم الاعتناء بغيره كذلك ، فلو لا الأمر فيما نحن فيه بأكمل وأشدّ ، فلا أقلّ من كونه مساويا لذلك ؛ فتأمّل.

خلافا (٢) لصريح بعض الأعاظم من مشايخ العصر ـ طاب ثراه (٣) ـ وللمحكيّ في المفاتيح للسيّد العلّامة الاستاد ـ دام ظلّه ـ في المفاتيح عن بعض المعاصرين من أصحابنا (٤) ، فيصحّ له العمل بفتواه حينئذ أيضا ، ولا يتعيّن عليه العمل بفتوى الأعلم.

ولعلّه اللائح ممّن أطلق العمل بفتوى المجتهد ، كالشهيد في الألفيّة (٥) ، ومن أطلق جواز العمل بفتوى المتجزّئ (٦) .

ومن جوّز القضاء والحكم لغير الأعلم مع وجوده (٧) .

__________________

(١) منهم الفاضل الهندي في كشف اللثام ، ج ١٠ ، ص ٨.

(٢) عطف على قوله : « على الأظهر الأشهر بين أصحابنا ... » المتقدّم.

(٣) قال في مطارح الأنظار ، ص ٢٧٢ : « وصار إليه جملة من متأخّري أصحابنا ، حتّى صار في هذا الزمان قولا معتدّا به » .

(٤) مفاتيح الأصول ، ص ٦٢٦.

(٥) الألفيّة ، ص ٢٣.

(٦) انظر المقاصد العليّة ، ص ٤٩.

(٧) وهم العامّة ، انظر الإحكام في اصول الأحكام ، ج ٤ ، ص ٤٥٨.

١٤٣

ومن تأمّل في الإجماع على تعيين الأعلم ؛ زعما منه انحصار الوجه فيه ، كالمولى السمي المقدّس في ظاهر مجمع الفائدة (١) ، وسلطان العلماء في حاشية المعالم (٢) ، والفاضل التوني في الوافية (٣) .

بل وربما يستظهر هذا أيضا ممّن علّل تعيين الأعلم بأنّ الظنّ الحاصل من قوله أقوى ، وبأنّه أقوى الظنّين (٤) وإن لا يخلو عن شيء.

وكيف ما كان ، فهذا القول بعد ـ كما ترى ـ ضعيف في الغاية ، ومع هذا لا وجه له عدا وجوه قاصرة :

منها : ما تمسّك به بعض الأعاظم ـ طاب ثراه ـ من أنّ اشتغال الذمّة بالتقليد لم يثبت إلّا بالقدر المشترك المتحقّق في ضمن تقليد غير الأعلم أيضا ، والأصل عدم لزوم الزيادة.

وفيه ما لا يخفى ، سيّما بعد ما مضى.

ومنها : ما قيل من أنّ المعهود من سيرة أكثر المسلمين الرجوع إلى جميع العلماء المجتهدين ، من دون نكير عليهم (٥) .

وفيه أيضا ما لا يخفى ، سيّما بعد ما مضى.

ومنها : أنّه لو تعيّن العمل بفتوى الأعلم ، لزم التكليف بما لا يطاق ، واللازم باطل ، فكذا الملزوم.

أمّا بطلان اللازم فظاهر ، وأمّا الملازمة فلعدم تمكّن المستفتي من تعيين الأعلم وتشخيصه.

وفيه أيضا ما لا يخفى من المنع المتوجّه على الملازمة ؛ مضافا إلى خروجه ـ على

__________________

(١) مجمع الفائدة ، ج ١٢ ، ص ٢١.

(٢) حاشية سلطان العلماء على المعالم ( المطبوع مع المعالم ) ص ٢٤١.

(٣) الوافية ، ص ٣٠٢.

(٤) انظر مطارح الأنظار ، ص ٢٧٦ ، ص ٣٠.

(٥) قال به في مفاتيح الاصول ، ص ٦٢٨ ، ص ٢٢.

١٤٤

تقدير تسليمه ـ عن الفرض كما لا يخفى ؛ فتدبّر.

ومنها : العمومات النافية للعسر والحرج في الشريعة (١) ؛ بناء على استلزام تعيين العامي للأعلم للحرج والعسر ، مع انتفائهما بالفرض في الشريعة ، ويلزمه عدم وجوب التعيين ؛ ضرورة استحالة انفكاك اللازم من الملزوم.

وفيه أيضا ما لا يخفى من المنع المتوجّه على الاستلزام المدّعى ؛ مضافا إلى خروجه ـ على فرض تماميّته ـ من الفرض ، كما لا يخفى.

ومنها : عموم الآيات والأخبار المعتبرة الآتية الدالّة بالنصّ على حجّيّة قول العلماء في حقّ غيرهم ، وعلى جواز العمل به من غير تفصيل وتخصيص بالأعلم مع وجود غيره أيضا ، وبالظهور على عدم لزوم تعيين الأعلم.

وفيه أيضا ما لا يخفى ، فإنّ هذه العمومات ـ على تقدير تسليم شمولها لما نحن فيه ، مع أنّه محلّ التأمّل بالإضافة إلى كثير منها ـ معارضة بما هو أقوى وأرجح من وجوه شتّى لا تكاد تخفى ممّا أسلفناه.

ومنها : أنّ قول غير الأعلم أيضا يفيد الظنّ ، فيصحّ العمل به (٢) ؛ لعموم ما دلّ على حجّيّة الظنّ.

وفيه أيضا ما لا يخفى ، سيّما بعد ما أسلفناه في الجواب عن مثل هذا الوجه سابقا ؛ فتفطّن.

وكيف ما كان ، فالقول المختار بعد هو الحقّ والصواب.

[ هنا مسائل : ]

[ الاولى : ] لا فرق في تعيين الأعلم حينئذ على المختار بين أن يكون الأعلم أورع من غيره ، أم مساويا له في الورع ، أم أدون ، كما صرّح به جماعة (٣) ، من غير خلاف

__________________

(١) كما في الآية ١٨٥ فى سورة البقرة (٢) .

(٢) انظر مفاتيح الاصول ، ص ٦٢٦.

(٣) انظر الدروس الشرعيّة ، ج ٢ ، ص ٦٧ ؛ الجعفريّة ( حياة المحقّق الكركي وآثاره ) ج ٤ ، ص ١٣٤ ؛ مسالك الأفهام ، ج ١٣ ، ص ٣٤٣.

١٤٥

صريح يعرف بينهم ، وهو مقتضى إطلاق غيرهم ممّن وقفت على كلماتهم ؛ لأكثر ما مرّ ، بل جميعه حتّى الإجماعات المنقولة.

مضافا إلى ظهور عبارة منية المريد ـ كما مرّت إليها الإشارة ـ في عدم الخلاف فيه بيننا ، أو في الإجماع منّا عليه (١) .

نعم ، ربما يحكى عن منية اللبيب التوقّف فيه بالإضافة إلى الأدون. (٢) وليس في محلّه.

[ الثانية : ] إذا كان أحدهما أعلم في الفقه وسائر العلوم ، فلا إشكال ـ كما قيل (٣) ـ في تعيين تقليده على المختار ، مع استكماله سائر الشروط.

وكذا إن كان أعلم في الفقه مع التساوي في سائر العلوم.

وأمّا مع التساوي في الفقه ، والاختلاف في سائر العلوم التي لها دخل بالفقه ـ كالاصول والرجال والعربيّة والتفسير والكلام ـ فهل يتعيّن حينئذ أيضا على المختار تقليد الأعلم في جميعها ، أو في بعضها ، كما عن صاحب كشف اللثام (٤) ، أم لا ، كما يظهر من السيّد الاستاد ـ دام ظلّه العالي ـ في المفاتيح (٥) ، بل ولعلّه اللائح من كلام غيره أيضا ؟ قولان :

أقواهما : الأوّل ، بل ولعلّه المتعيّن أيضا لو تمّ إطلاق الأعلم في كلمات القائلين بتعيينه والأخبار المتضمّنة له ؛ لما لا يخفى بعد ما مضى ، وإلّا ـ كما لا يخلو عن وجه ؛ نظرا إلى انصرافه إلى الأعلم في الفقه ـ فالثاني أجود ؛ عملا بالعمومات الدالّة على حجّيّة قول المفتي ، السليمة بالفرض عمّا يصلح للمعارضة ؛ فتنبّه.

[ الثالثة : ] هل المراد بالأعلم الأكثر حفظا ، أو الأشدّ قوّة لاستخراجها ، أو الأكثر ترجيحا ، أو الأمتن والأدقّ نظرا فيها ؟

لم أجد مصرّحا بشيء ممّا ذكر عدا سيّدنا السند العلّامة الاستاد ـ دام ظلّه ـ في المفاتيح ،

__________________

(١) منية المريد ، ص ٣٠٤.

(٢) حكاه عنه في مفاتيح الاصول ، ص ٦٣٠.

(٣) قال به في مفاتيح الاصول ، ص ٦٣١.

(٤) كشف اللثام ، ج ١٠ ، ص ١٠.

(٥) مفاتيح الاصول ، ص ٦٣١.

١٤٦

فقال ـ بعد احتماله الثلاثة الاول ـ : والتحقيق يقتضي الرجوع هنا إلى العرف ، فكلّ من يطلق عليه عرفا أنّه أعلم ، يجب الرجوع إليه إن قلنا بوجوب تقليد الأعلم. انتهى (١) .

أقول : مراده ـ دام ظلّه ـ بالمعروف ، إن كان العرف العامّ ، فإطلاقه ـ كما ترى ـ لا يخلو عن شيء ، وإن كان مراده العرف الخاصّ ـ أي عرف العلماء وأهل الخبرة بالفنّ ـ فهو جيّد غاية الجودة ، إلّا أنّه يشكل فيها إذا لم يكن هناك أهل الخبرة ، أو كان ولكن لم يحكم بذلك ، مع حكم غيره من أهل العرف العامّ جلّهم أو كلّهم به ؛ فتأمّل.

[ الرابعة : ] هل يختصّ الحكم على المختار بالتقليد والعمل بالفتوى ابتداء ، أم لا ، بل يعمّ صورة الاستدامة أيضا ؟

فيه كلام تأتي إليه الإشارة ، مع ما هو الصواب فيما بعد إن شاء الله سبحانه.

[ الخامسة : ] هل يختصّ [ الحكم ](٢) على المختار بصورة التمكّن من العمل بفتوى الأعلم عقلا وشرعا وعادة ، أم لا ، بل يعمّ غيرها أيضا ؟

فيه أيضا كلام تأتي إليه الإشارة فيما بعد إن شاء الله سبحانه.

[ الثاني عشر : ] أن لا يكون هناك مفت آخر جامع للشرائط أورع منه يتمكّن المستفتي من الرجوع إليه والعمل بفتواه بسهولة ، فلو كان لم تصحّ فتواه له ، ولا يجوز له العمل بها ، بل يتعيّن عليه العمل بفتوى الأورع ؛ وفاقا للجعفريّة وحاشية الشرائع للمحقّق الشيخ عليّ ، والتمهيد ، ومنية المريد ، والمعالم ، وشرح الزبدة للصالح المازندراني (٣) ، وغيره.

وللمحكيّ (٤) عن صريح النهاية ، والمقاصد العليّة ، والمسالك ، وظاهر التهذيب ،

__________________

(١) مفاتيح الاصول ، ص ٦٣٢.

(٢) أضفناه لاستقامة المتن.

(٣) الجعفريّة ( حياة المحقّق الكركي وآثاره ) ج ٤ ، ص ١٣٤ ؛ حاشية الشرائع ( حياة المحقّق الكركي وآثاره ) ج ١١ ، ص ١١٤ ؛ تمهيد القواعد ، ص ٣٢١ ، قاعدة ١٠٠ ؛ منية المريد ، ص ٣٠٤ ؛ معالم الدين ، ص ٢٤١. وحكاه عن شرح الزبدة لمولى صالح المازندراني في مفاتيح الاصول ، ص ٦٣٠ ، ص ٣٢.

(٤) أي : وفاقا للمحكيّ عن صريح ....

١٤٧

والذكرى والدروس ومنية اللبيب والرسالة المنسوبة إلى شيخنا الشهيد الثاني ـ طاب ثراه ـ في عدم وجواز تقليد الميّت ، وغيرها (١) .

بل اللائح أو الظاهر من كثير من العبائر السالفة الإجماع منّا عليه.

وهو الحجّة المؤيّدة والمعتضدة بجملة من الوجوه السالفة إن تمّ ، كما هو الأتمّ ، وإلّا فالقول بالتخيير حينئذ ـ كما صار إليه السيّد الاستاد ـ دام ظلّه ـ في المفاتيح (٢) ، ولعلّه اللائح من إطلاق الألفيّة (٣) ، ومن لم يتعرّض لذكره كالتهذيب ، والظاهر من بعض الأعاظم من المشايخ طاب ثراه ، واحتمله الفاضل الصالح أيضا في شرح الزبدة (٤) ـ لعلّه الأجود ؛ لعموم جملة من الأدلّة الآتية الدالّة على جواز التقليد إن تمّ ، ولم يثبت مصير كلّ من قال بتعيين الأعلم إلى تعيين الأورع هنا أيضا ؛ فافهم.

وعلى المختار هل يختصّ الحكم بالصورتين المشار إليهما ، أم لا ، بل يعمّهما وغيرهما أيضا ؟

فيه كلام يأتى إليه الإشارة مع ما هو الصواب فيما بعد إن شاء الله سبحانه.

[ الثالث عشر : ] أن لا يكون قوله وفتواه في نظر المقلّد واعتقاد المستفتي مقطوعا بالفساد ، فلو كان كذلك لم يصحّ له الاعتماد عليه والعمل به ، بلا خلاف أجده فيه.

بل عليه الإجماع القاطع ، كما يستفاد من مطاوي كلماتهم.

وهو الحجّة ؛ مضافا إلى الأصل والاستصحاب ، والعمومات الدالّة على عدم جواز نقض اليقين إلّا باليقين في وجه ، والدالّة على عدم حجّيّة غير العلم ، وعدم مشروعيّة التقليد ، والدالّة على اعتبار العلم ولزوم اتّباعه ، وعلى أنّ الحكم بغير ما أنزل الله باطل

__________________

(١) حكاه عنهم في مفاتيح الاصول ، ص ٦٣٠ ؛ وهو في نهاية الوصول إلى علم الاصول ، الورقة ٣٢٠ ؛ المقاصد العليّة ، ص ٥٢ ؛ مسالك الأفهام ، ج ١٣ ، ص ٣٤٥ ؛ تهذيب الوصول إلى علم الاصول ، ص ٢٩٢ ؛ ذكرى الشيعة ، ج ١ ، ص ٤٣ ؛ الدروس الشرعيّة ، ج ٢ ، ص ٦٧ ؛ رسالة في تقليد الميّت ( رسائل الشهيد الثاني ) ، ج ١ ، ص ٣٨.

(٢) مفاتيح الاصول ، ص ٦٣١.

(٣) الألفيّة ، ص ٢٣.

(٤) حكاه عن شرح الزبدة للمولى صالح المازندراني في مفاتيح الاصول ، ص ٦٣١.

١٤٨

لا يفتى به.

وكيف ما كان ، فهذا من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى البيان.

ولا فرق في ذلك بين صورة الاختيار وعدمه ، ولا بين صورة التمكّن من المفتي الآخر الجامع للشرائط وعدمه ، ولا بين ابتداء التقليد واستدامته قطعا ؛ لعموم هذه الأدلّة.

[ الرابع عشر : ] أن يكون فتواه بالإضافة إلى المقلّد العامل بها مقطوعا بكونها منه ، أو بحكم المقطوع به له شرعا ، فلو لم يكن كذلك ، لم يصحّ له العمل بها والاعتماد عليها ، بلا خلاف فيه.

بل عليه الإجماع القاطع ، كما يستفاد من مطاوي كلماتهم الآتي إلى بعضها الإشارة.

وهو الحجّة ؛ مضافا إلى الاصول والعمومات الدالّة على عدم جواز العلم بغير العلم وعدم حجّيّته ، وعدم مشروعيّة التقليد ، وعدم جواز نقض اليقين إلّا باليقين.

[ هنا امور : ]

[ الأوّل : ] لا فرق في ذلك بين القطع أو ما يقوم مقامه بعدم كونها منه ، وبين الظنّ والشكّ فيه ، وبين الظنّ الغير المعتبر بكونها منه ، وبين الشكّ فيه ؛ لعموم الأدلّة المشار إليها.

[ الثاني : ] لا فرق في العلم الحاصل له بقوله وفتواه واعتباره بين الحاصل من المشافهة ، أو السماع من المفتي ، أو الرواية عنه ، أو الكتابة بخطّه ، أو غيرها ؛ لعموم الأدلّة ، مضافا إلى ما ستأتي إليه الإشارة.

فلا يشترط في العمل بقوله المشافهة والسماع منه ، بلا خلاف ظاهر بينهم ، كما في المعالم (١) وغيره (٢) ؛ للأصل ، والعمومات النافية للعسر والحرج والضرر وغيرها.

__________________

(١) معالم الدين ، ص ٢٤١.

(٢) والمراد بالغير : هو القوانين والمفاتيح للسيّد العلّامة الاستاد ـ دام ظلّه ـ الآتي ( منه عفي عنه ) . قوانين الاصول ( الحجري ) ، ص ٢٣٨ ؛ مفاتيح الأصول ، ص ٦٣٢.

١٤٩

مضافا إلى ما قالوه من الإجماع على جواز رجوع الحائض إلى الزوج العامي (١) ؛ فتأمّل.

[ الثالث : ] لا إشكال ـ كما قيل ـ بل ولعلّه لا خلاف صريحا يعتدّ به في جواز الاعتماد على شهادة العدلين في ثبوت مذهب المفتي وفتواه والعمل بها ؛ لظهور الاتّفاق عليه قولا وفعلا ، كما صرّح به في المفاتيح (٢) ، وأشار إليه في الذكرى والمعالم وغيرها. (٣)

مضافا إلى الاستقراء في سيرة العلماء والصحابة ؛ والعمومات النافية للعسر والحرج والضرر ، أو التكليف بما فوق الوسع والطاقة.

مضافا إلى سيرة المسلمين وديدنهم وعملهم في الرجوع إلى قول المفتي ؛ وبعض المعتبرة ـ كما قيل (٤) ـ الدالّة على حجّيّة البيّنة على الإطلاق.

مضافا إلى ما قالوا وادّعوا عليه الإجماع في كتاب القضاء والشهادات ، من ثبوت ما ليس بمال ولا المقصود منه المال بالعدلين قولا واحدا ، إلّا ما خرج بالدليل ؛ فافهم.

[ الرابع : ] هل يجوز الاعتماد على ما روى العدل الواحد عن المفتي الجامع للشرائط للمستفتي ؟

الظاهر : نعم ، بلا خلاف ظاهر أجده فيه ، كما في ظاهر جملة من العبائر (٥) ، بل ولعلّه عليه الإجماع كما في ظاهر المفاتيح (٦) ، وعن ظاهر الذكرى والمقاصد العليّة (٧) ، بل في بعض العبائر أنّهم ادّعوا الإجماع عليه.

وهو الحجّة المعتضدة بالإجماع المنقول على جواز رجوع الحائض إلى الزوج العامي ؛ مضافا إلى أكثر الوجوه السابقة.

__________________

(١) كما في ذكرى الشيعة ، ج ١ ، ص ٤٤ ؛ ومعالم الدين ، ص ٢٤١.

(٢) مفاتيح الاصول ، ص ٦٣٣.

(٣) ذكرى الشيعة ، ج ١ ، ص ٤٤ ؛ معالم الدين ، ص ٢٤١.

(٤) انظر مسالك الإفهام ، ج ٣ ، ص ١٠٩.

(٥) انظر الجعفرية ( حياة المحقّق الكركي وآثاره ) ج ٤ ، ص ١٣٣.

(٦) مفاتيح الاصول ، ص ٦٣٣.

(٧) ذكرى الشيعة ، ج ١ ، ص ٤٤ ؛ مقاصد العليّة ، ص ٥١.

١٥٠

وربما يلوح من المحقّق ابن إدريس الحلّي في موضع من السرائر التأمّل في الاعتماد على شهادة العدل والعدلين ، حيث قال : ولا يجوز للمستفتي أن يرجع إلى قول المفتي دون ما يجده بخطّه ، بغير خلاف من محصّل (١) . انتهى.

ولكنّه ـ كما ترى ـ غير صريح بل ولا ظاهر في المخالفة ؛ ولو سلّم ، فلا عبرة بخلافه بعد ما مضى.

ولا فرق هنا وفي الفرع السابق بين أن يكون المستفتي متمكّنا من تحصيل العلم بسهولة ، أم لا ؛ لإطلاق ما مضى ، أو عمومه ؛ مضافا إلى خصوص السيرة والإجماع المدّعى عليه في كلام بعض الأجلّة.

وربما يظهر من بعض شرّاح الألفيّة اختصاص ذلك بما إذا لم يتمكّن من تحصيل العلم بسهولة.

وهو بعد كما ترى وإن كان أحوط.

[ الخامس : ] هل يجوز له الاعتماد على كتاب المفتي وما بحكمه ؟

المعتمد : نعم ، وفاقا لجماعة من الطائفة ؛ لجملة ما مرّ.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون بخطّه ، أو بخطّ غيره ؛ لعموم ذلك.

وهل يشترط حينئذ العلم بصحّة المكتوب ، أم لا ، بل يكفي الظنّ بها أيضا ؟

وجهان ، استقرب ثانيهما السيّد السند العلّامة الاستاد دام ظلّه السامي (٢) . ولعلّه لا يخلو عن وجه ؛ لجملة ما مضى.

[ السادس : ] هل يجوز الاعتماد على الشياع المفيد للظنّ ، وكذا على رواية غير العدل المفيدة له أيضا ، أم لا ؟ إشكال وإن نفى البعد عن الأوّل سيّدنا العلّامة الاستاد ـ دام ظلّه ـ في المفاتيح (٣) ، ولعلّة عند التأمّل هو الصواب.

[ الخامس عشر : ] أن يكون ما أفتى به المفتي من الامور التكليفيّة والأحكام الشرعيّة

__________________

(١) السرائر ، ج ٢ ، ص ١٨٧.

(٢) مفاتيح الاصول ، ص ٦٣٣.

(٣) مفاتيح الاصول ، ص ٦٣٣.

١٥١

العمليّة النظريّة التي باب العلم بتحصيل الواقع منها منسدّ غالبا ولو بالإضافة إلى المستفتي ، فلو لم يكن منها لما صحّ التقليد والعمل بفتواه قولا واحدا فتوى ودليلا ، من الاصول ، والعمومات ، وغيرها ممّا لا يخفى.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون من المطالب الشرعيّة المتعلّقة باصول الخمسة الدينيّة ، أو باصول الفقه ، أو بالضروريّات الشرعيّة الدينيّة أو المذهبيّة ، أو من المطالب المتعلّقة بموضوعات الأحكام ، من اللغة والنحو والصرف والمعاني والكلام وغيرها ، أو بموضوعاتها الخارجيّة ، أو بغيرها من الامور العرفيّة أو العقليّة ؛ بلا خلاف أجده في ذلك فتوى ودليلا ؛ فتفطّن.

[ السادس عشر : ] أن يكون المستفتي والمقلّد عاميّا صرفا ومن بحكمه ، فلا يجوز ولا يصحّ للمجتهد الجامع للشرائط بعد اجتهاده المعتبر العمل بقول هذا المفتي وفتواه ، ولا تكون حجّة في حقّه ، بلا خلاف ، بل عليه الإجماع ، كما في صريح النهاية والمنية وموضع من المفاتيح وموضع من إحكام الآمدي وعن الرسالة المنسوبة إلى الشهيد الثاني ـ طاب ثراه ـ في عدم جواز تقليد الميّت (١) .

بل الاتّفاق كما في صريح التمهيد ومواضع من كلام بعض الأعاظم من المشايخ ـ طاب ثراه (٢) ـ وموضع من المفاتيح والإحكام (٣) ، وعن شرح المختصر (٤) .

وهو الحجّة المعتضدة بالإجماع على عدم وجوب التقليد عليه كما عن صريح النهاية والإحكام وغيرهما.

مضافا إلى الإجماع المحصّل والمنقول وغيره من الأدلّة الدالّة على وجوب العمل عليه بما أدى إليه اجتهاده.

__________________

(١) نهاية الوصول إلى علم الاصول ، الورقة ، ص ٣١٩ ؛ وحكاه عن المنية وقال هو به أيضا في مفاتيح الاصول ، ٦٠٣ ؛ الإحكام في اصول الأحكام ، ج ٤ ، ص ٤٣٣ ؛ رسالة تقليد الميّت ( رسائل الشهيد الثاني ) ج ١ ، ص ٣٢.

(٢) تمهيد القواعد ، ص ٣١٨ ، قاعدة ١٠٠.

(٣) الإحكام في اصول الأحكام ، ج ٤ ، ص ٤٣٠.

(٤) المختصر مع شرحه للعضدي ، ص ٤٧٣.

١٥٢

مضافا إلى الاصول ، والعمومات الدالّة على عدم مشروعيّة التقليد ، وعدم حجّيّة غير العلم.

وكيف ما كان ، فهذا ممّا لا إشكال فيه.

وإنّما الإشكال في مواضع :

[ الأوّل : ] أنّه هل يصحّ لمن بلغ رتبة الاجتهاد ـ وقدر بسهولة على تحصيل الحكم الشرعي بالنظر والاستدلال على الوجه المعتبر شرعا ولم يكن متجزّيا ـ التقليد في المسألة التي لم يجتهد فيها ، من غير ضرورة ولا مانع شرعي عن الاجتهاد ، أم لا يجوز ولا يصحّ له التقليد فيها كما لو اجتهد ، بل يجب عليه الاجتهاد ؟

المعتمد : هو الثاني ، ولعلّه لا خلاف فيه بيننا فيما أعلم ؛ لجملة من الوجوه المشار إليها ، السليمة عمّا يصلح للمعارضة.

وربما يلوح ، بل يظهر من السيّد السند العلّامة الاستاد ـ دام ظلّه ـ في المفاتيح الميل إلى الأوّل (١) ؛ وفاقا منه لجماعة (٢) ، مع أنّه لا وجه لهم عدا وجوه قاصرة عن إفادة المدّعى ، كما لا يخفى على من راجع كلماتهم في المسألة.

نعم ، استدلّ السيّد السند ـ دام مجده ـ عليه بوجوه أخر :

منها : الاستصحاب (٣) ، فإنّ المجتهد المفروض قبل بلوغه رتبة الاجتهاد ، كان مقلّدا لغيره في المسألة التي لم يجتهد فيها وفي المسألة التي اجتهد فيها ، وكان ممّن يجوز له العمل بقول الغير فيهما ، فإذا بلغ تلك المرتبة لم يجز له التقليد فيما اجتهد فيها ، وبطل حكم الاستصحاب بالنسبة إليها بالدليل الأقوى ، وأمّا ما لم يجتهد فيها ، فلا دليل على المنع من التقليد وعدم صحّة العمل بقول الغير ، فيجوز ويصحّ ـ عملا بالاستصحاب ـ ما ثبت له أوّلا ، ولا معارض له هنا من الأدلّة الأربعة المعتبرة أصلا.

__________________

(١) مفاتيح الاصول ، ص ٦٠٤. وحكاه فيه عن جماعة منهم الشيخ الطوسي في العدّة والمحقّق في المعارج والعلّامة في المبادي ، وغيرهم ، فراجع.

(٢) المصدر.

(٣) مفاتيح الاصول ، ص ٦٠٧.

١٥٣

وفيه ما لا يخفى ، إمّا لعدم جريان الاستصحاب ؛ لتغيّر الموضوع ، أو للشكّ فيه ، أو لمعارضته بالمثل ، بل الأقوى منه. وإمّا لاندفاعه بالعمومات وغيرها ممّا مرّت إليه الإشارة.

مضافا إلى عدم اقتضائه بهذا التقرير لحجّيّة فتوى المفتي المفروض في حقّه. اللهمّ إلّا أن يقرّر بما يقتضيها ، فحينئذ يندفع بمثل ما مرّ.

مضافا إلى إمكان منع حجّيّة فتواه في حقّه رأسا حتّى في ابتداء الأمر ، إمّا مطلقا ، أو على بعض الوجوه ؛ فتدبّر.

ومن هنا يظهر لك أيضا ما في العمومات الدالّة على عدم جواز نقض اليقين إلّا باليقين على تقدير مغايرتها للاستصحاب ؛ فتفطّن.

ومنها : أنّ الحاضرين في زمن المعصومين عليهم‌السلام من العلماء والعوامّ كانوا يعتمدون على التقليد في ما لا يفيد العلم ، ولم يلتزموا بتحصيل العلم في كلّ مسألة بالرجوع إلى المعصوم عليهم‌السلام ، مع تمكّنهم منه بسهولة ، فجواز ترك الاجتهاد وتحصيل العلم لهم مع تمكّنهم يقتضي جواز ترك الاجتهاد بالنسبة إلى المجتهد المفروض بطريق أولى (١) .

وفيه أيضا ما لا يخفى من المنع المتوجّه على كلّ من هذه المقدّمات ؛ فتدبّر.

ومنها : أنّه لو وجب الاجتهاد على المجتهد المفروض في المسائل التي لم يجتهد فيها ، ولم يجز له التقليد ، لوجب عليه في مدّة طويلة ـ كعشر سنين أو عشرين سنة ـ ترك الاشتغال بجميع الامور التي تنافي الاجتهاد ـ من الأكل ، والشرب ، والنوم ، والجماع ، والمصاحبة والعشرة مع العباد ، والمسافرة ، والمعاملة ، ونحو ذلك ـ إلّا بقدر الضرورة الموجب عليه ، والاشتغال ليلا ونهارا بالاجتهاد ، وتأخير الصلاة ونحوها ، من العبادات الموسّعة إلى آخر وقت الإمكان. والتالي باطل فكذا المقدّم (٢) .

أمّا الملازمة : فلأنّ المسائل المحتاج إليها كثيرة لا تكاد تحصى ، فإنّه يحتاج إلى

__________________

(١) مفاتيح الاصول ، ص ٦٠٨.

(٢) مفاتيح الاصول ، ص ٦٠٩.

١٥٤

معرفة مسائل الوضوء ، والغسل ، والتيمّم ، وإزالة النجاسة ، والصلاة ، والصوم ، والبيع ، ونحو ذلك ، ومعلوم أنّه لا يتمكّن من الاجتهاد في جميعها في يوم أو يومين أو ثلاث ، بل لا يتمكّن منه في عشر سنين ، بل وعشرين وثلاثين سنة ، خصوصا بالنسبة إلى صاحب الأذهان الدقيقة ، والأفهام العميقة ، فإذا وجب الاجتهاد وترك التقليد لزم ما ذكر من الملازمة.

وأمّا بطلان التالي : فللعمومات النافية للعسر والحرج والضرر ، كالنافية للتكليف بما فوق الطاقة.

مضافا إلى أنّ سيرة علماء الإسلام على وجوب الاجتهاد على المجتهد المفروض ، وأنّ إجماعهم منعقد عليه ، ولذا ما وجدنا أحدا من المكلّفين المتقدّمين والمتأخّرين من مجتهدي الخاصّة والعامّة ضيّق عليه الأمر بعد بلوغه مرتبة الاجتهاد في شطر من الزمان هذا التضييق ، وبترك الاشتغال بجميع المنافيات ، وأخّر العبادات إلى آخر وقتها بهذا السبب ، بل تراهم يؤخّرون الاجتهاد بالسفر المباح والأفعال الغير الضروريّة ، ويسامحون فيه غاية المسامحة.

وما وجدنا أحدا قدح فيهم وحكم بفسقهم من هذه الجهة ، ومن أنكر ما ذكرنا فقد أنكر أمرا بديهيّا ، وخالف شيئا ضروريّا.

مضافا إلى أنّ ذلك لو كان واجبا لوردت الأخبار بذلك ؛ لتوفّر الدواعي عليه ، ومسيس الحاجة إليه ، مع أنّه لم يرد فيه بذلك خبر أصلا.

وفيه أيضا ما لا يخفى. أمّا أوّلا : فلمنع الملازمة ؛ إذ كثرة المسائل لا تستلزم الاحتياج إلى جميعها حال الاجتهاد.

كيف ؟ وكثير من تلك المسائل مختصّ بغيره ، كأحكام النساء والخناثى ، وكأكثر مسائل العقود والإيقاعات والأحكام ، وككثير من أحكام العبادات التي لا يحتاج إليها هذا الشخص في كثير من الأوقات والأحوال.

ولئن سلّم استلزام كثرتها لكثرة الاحتياج إليها ، فاستلزامه لوجوب الاجتهاد في

١٥٥

جميعها دفعة ممنوع جدّا ، بل المسلّم والثابت والمفروض إنّما هو وجوب الاجتهاد في تحصيل ما قدر عليه منها بسهولة بعنوان التدريج ، مراعيا للأهمّ فالأهمّ إن كان ، وإلّا لزم التكليف بما فوق الوسع والطاقة ، ومن المعلوم الواضح أنّ هذا النوع من الاجتهاد ممكن بسهولة ، من دون حرج ومشقّة ، وإلّا لزم ارتفاع وجوب الاجتهاد رأسا ، بل يلزم السقوط رأسا. هذا ، ومن المعلوم حينئذ أيضا أنّه لا يستلزم ترك الاشتغال بجميع ما ينافي الاجتهاد بمثل ما ادّعاه المستدلّ.

نعم ، إنّما يستلزم تركه حال الاجتهاد في الجملة ، ولا محذور فيه أيضا.

مضافا إلى أنّ ما ادّعي من الملازمة ـ على تقدير سلامته عمّا مرّ ـ إنّما ينتقض إذا لم يكن هناك مفت آخر يتمكّن من الرجوع إليه أصلا ، حيث يكون ثابتا فيه بعين ما ذكر حرفا بحرف ، مع أنّ المفروض تعذّر الرجوع إليه والتقليد ، فكلّ ما هو الجواب للمستدلّ في هذه الصورة فهو الجواب لنا في ما نحن فيه ؛ فافهم.

على أنّ المدّعى من الملازمة إنّما يتمّ لو قيل بوجوب الاجتهاد على سبيل الفور والتضييق بعنوان الإطلاق ، وهو كما ترى ممنوع جدّا ، وإلّا لزم ما ذكر من المحذور وغيره.

مضافا إلى أنّه يمكن أن يقال : على تقدير الفوريّة والتضييق أنّ المراد بهما العرفيّان منهما ، الممكن اجتماعهما مع الإتيان بسائر الامور المباحة وغيرها مطلقا ، أو في الجملة.

مضافا إلى أنّ المدّعى من الملازمة إنّما يتّجه بالإضافة إلى من لم يجتهد فيما يحتاج إليه أصلا ، وأمّا لو اجتهد في جميع ما يحتاج إليه أو معظمه ، فلا يلزم منه ذلك أصلا.

مضافا إلى انتقاضه بالمقلّد المكلّف بالتقليد للغير ، المتمكّن من تحصيل جميع ما يحتاج إليه من مقلّده ، حيث يتّجه حينئذ جميع ما ذكر من الملازمة أيضا حرفا بحرف ، فكلّ ما هو المخلص عن ذلك فيه ، فهو المخلص عنه فيما نحن فيه ؛ فتدبّر.

والحاصل : أنّ الملازمة المدّعاة ممنوعة من وجوه شتّى ، خصوصا بعد ملاحظة ما هو الحقّ ، من تعلّق الوجوب به بعنوان التدريج ؛ فافهم.

١٥٦

وأمّا ثانيا : فلمنع بطلان التالي ؛ إذ لا وجه له عدا ما اشير إليه من الوجوه الأربعة ، وشيء منها لا يصلح للدلالة :

أمّا الأوّل : فلأنّه لا حرج في ذلك أصلا بعد ما أسلفناه.

مضافا إلى أنّ المفروض إنّما هو صورة التمكّن له من الاجتهاد بسهولة خاصّة ، فلا يشمله ما دلّ على نفي الحرج أصلا.

ولئن سلّمنا الحرج فيه ، فكونه بعنوان الإطلاق والكلّيّة ممنوع ، بل المسلّم منه ولو مماشاة إنّما هو في بعض الصور ، فلا بدّ من الاقتصار عليه اقتصارا فيما خالف الأدلّة الدالّة على وجوب الاجتهاد عليه على القدر المتيقّن المنفيّ بما دلّ على نفي الحرج في الشريعة على تقدير سلامته عن المعارض المساوي أو الأقوى.

ولئن سلّمنا لزومه بعنوان الإطلاق والكلّيّة ، فكونه أيضا منفيّا في الشريعة أوّل الدعوى ؛ إذ لا دليل عليه عدا العموم النافي له ، وهو معارض بما دلّ من الإجماع وغيره من الأدلّة المعتبرة الآتية على وجوب الاجتهاد عليه.

مضافا إلى الأدلّة المشار إليها ، الدالّة على عدم جواز التقليد وعدم مشروعيّته وعدم حجّيّة غير العلم وحرمته ، ولا شكّ في أنّ الراجح مع هذه من وجوه شتّى لا تكاد تخفى.

مضافا إلى انتقاضه بما إذا كان في التقليد أيضا حرج ، وبما إذا لم يكن هناك من يصحّ تقليده أصلا.

مضافا إلى عدم استلزام نفي الحرج ـ على فرض تماميّته ـ هنا إلّا على بعض الوجوه.

مضافا إلى استلزامه لسقوط وجوب الاجتهاد الثابت بالفرض رأسا ؛ فتفطّن.

ومن هنا ظهر ما في الثاني أيضا ؛ فتدبّر.

وأمّا الثالث : فلمنع الإجماع ، وعدم انعقاده بالإضافة إلى محلّ البحث ، خصوصا بعد ملاحظة مصير المعظم إلى الخلاف في المسألة ، وحكاية جمع الشهرة عليه.

مضافا إلى ما يتراءى من عملهم وديدنهم خلفا وسلفا ، من عدم التقليد مع القدرة على الاجتهاد فيها بسهولة.

١٥٧

مضافا إلى تصريحهم باختصاص التقليد بالعامي الصرف ومن بحكمه.

مضافا إلى تصريح جماعة منهم بعدم مشروعيّة التقليد للعامي ومن بحكمه أيضا ، ولوجوب الاجتهاد عينا (١) ، كتصريح اخرى بأنّ وظيفة المتجزّئ أيضا عدم جواز التقليد بالإضافة إلى ما أدّى إليه اجتهاده.

مضافا إلى الإجماع المنقول عن النهاية والإحكام وغيرهما على عدم وجوب التقليد على المجتهد ، مع استلزام ما ذكر ـ ولو في الجملة ـ لوجوبه فيما نحن فيه.

مضافا إلى ما سيأتي إليه الإشارة ، من الإجماع المحصّل والمنقول وغيره من الأدلّة على وجوب الاجتهاد على القادر عليه كفاية أو عينا حسبما يفصّل في محلّه ؛ إذ من المعلوم عدم إمكان الجمع بين الدعويين ، فمع ثبوت أحدهما يمتنع الحكم بثبوت الاخرى كما ترى.

وكيف ما كان ، فهذا الوجه أيضا ممّا لا يصلح للدلالة.

وأمّا الرابع : فلما يرد على كلّ من الملازمة وبطلان اللازم من المنع والنقض ما لا يخفى ، سيّما بعد ما مضى.

وكيف ما كان ، فهذا القول بزعم العبد ضعيف ، ولعلّه يأتي أيضا إلى ما يضعّفه الإشارة فيما بعد ؛ فترقّب.

[ الثاني ] : أنّه لو تعذّر عليه الاجتهاد لفقد سبب من أسبابه ، فهل يتعيّن عليه التقليد ، أم الاحتياط ، أم يتخيّر بينهما ، أم التفصيل بين ما أمكن من الثاني بسهولة ، فالثاني ، وبين غيره ، فالأوّل ؟ أوجه واحتمالات.

أحوطها : الثاني ، ثم الأخير ، إلّا أن يقوم الإجماع على الأوّل ، فهو المتعيّن ؛ غير أنّ الإجماع ممنوع ، فالاحتمال الثالث فيما تمكّن منهما ، والأخير فيما تمكّن من أحدهما خاصّة لا يخلو من وجه وقوّة ، إلّا أن يقوم الإجماع على عدم وجوب الاحتياط فيما إذا

__________________

(١) منهم السيّد المرتضى في جوابات المسائل الرسيّة الأولى ( رسائل الشريف المرتضى ) ج ٢ ، ص ٣٢٠ ؛ وابن زهرة الحلبي في الغنية ، ص ٤٨٦.

١٥٨

تمكّن من التقليد ، فإذن يشكل الثالث ، ولكنّه محلّ التأمّل جدّا.

[ الثالث ] : أنّه إذا تعسّر عليه الاجتهاد بما لا يتحمّل عادة ، فهل يلحق بما إذا تعذّر مطلقا ، أم بما إذا تيسّر بسهولة كذلك ، أم التفصيل بين الأشقّ تحمّلا والأشدّ صعوبة وحرجا ؛ فالأوّل ، وغيره ؛ فالثاني ؟

أوجه واحتمالات ، لا يخلو أوّلها عن وجه في وجه وشيء في آخر ، ولكنّ الاحتياط ممّا لا ينبغي تركه.

[ الرابع ] : إنّا حينما قلنا بجواز التقليد له أو تعيّنه عليه ، فهل اللازم عليه كسائر المقلّدين مراعاة جميع الشروط المعتبرة في حقّ المفتي ، الماضي إليها الإشارة ؟

الظاهر : نعم ؛ لمثل ما مرّت إليه الإشارة.

[ الخامس ] : أنّه هل يجوز ويصحّ للمتجزّئ فيما أدّى إليه اجتهاده العمل بما أفتى به المفتي وتقليده ، كما فيما لم يجتهد فيه ، فيكون فتواه حجّة في حقّه أيضا ، أم لا ، بل يجب عليه العمل بما أدّى إليه اجتهاده ، كالمطلق بالإضافة إلى ما اجتهد ، فلا يكون فتواه حجّة كذلك ؟

المعتمد : هو التفصيل بين ما إذا قيل بصحّة اجتهاده في حقّه وباعتقاده المعتبر شرعا في حقّه ، فالثاني ؛ إذ المفروض صحّته في حقّه وتعيينه عليه باعتقاده ، مضافا إلى ما مرّ ؛ وبين غيره ، فالأوّل ، أو غيره ممّا سيأتي في محلّه.

[ السادس ] : أنّه هل يجوز له فيما قلنا بجواز التقليد له أو وجوبه عليه بالإضافة إلى نفسه الإفتاء به لغيره ؟

المعتمد : التفصيل ، بين ما إذا كان الإفتاء به لغيره من قبل نفسه ، بأن يظهر كونه منه ، أو لا يظهر كونه من غيره ، فلا ؛ لكونه تدليسا ، فيشمله ما دلّ على حرمته ، مضافا إلى عدم ظهور الخلاف فيه ؛ وبين ما إذا كان من قبل مفتيه ، بأن يروي عنه ، فنعم ؛ للاصول ، والعمومات وغيرها ، مضافا إلى ظهور الوفاق عليه.

وهل يصحّ للغير المرويّ له العمل به ؟

١٥٩

المعتمد : نعم مع استكمال جميع الشروط المعتبرة في قبول الراوي والمرويّ عنه ؛ لوجود المقتضي ، وانتفاء المانع بالفرض ، ولا مع عدمه ؛ لوجود المانع أو عدم المقتضي ، كما هو المفروض.

البحث الثاني

فيما يتعلّق بالمفتي من الآداب

ونذكره في ضمن مسائل :

[ الاولى : ] ينبغي أن لا يفتي في حال تغيّر خلقه وشغل قلبه ، وحصول ما يمنعه من كمال التأمّل ، كغضب ، وجوع ، وعطش ، وخوف ، وحزن ، وفرح غالب ، ونعاس ، وملالة ، ومرض مقلق ، وحرّ مزعج ، وبرد مؤلم ، ومدافعة الأخبثين ، ونحو ذلك ، ما لم يتضيّق وجوبه ، فإن أفتى في بعض هذه الأحوال معتقدا أنّه لم يمنعه ذلك عن إدراك الصواب ، صحّت فتواه على كراهة ؛ لما فيه من المخاطرة. كذا قاله شيخنا الشهيد الثاني ـ طاب ثراه ـ في المنية (١)

ولعلّه لا بأس به.

[ الثانية : ] يلزم المفتي أن يبيّن بالجواب بيانا يزيل الإشكال ، ثمّ له الاقتصار على الجواب شفاها ، فإن لم يعرف لسان المستفتي كفاه ترجمة عدلين ، وقيل : يكفي الواحد ؛ لأنّه خبر.

وله الجواب كتابة وإن كانت على خطر. وكان بعض السلف كثير الهرب من الفتوى في الرقاع لما يتطرّق إليها من الاحتمالات ، فإنّ لكلّ حرف من لفظ السائل مزيّة في الجواب ، وكثيرا ما شاهدنا سائلا برقعة يكون لفظه مخالفا لما في رقعته ، فنرجع إلى لفظه بعد أن كتبنا له الجواب ونخرق الرقعة. كذا قاله أيضا في المنية (٢) .

ولعلّه لا بأس به وإن كان ما يلوح منه هنا من عدم الاكتفاء بالمترجم العدل الواحد

__________________

(١) منية المريد ، ص ٢٩١ ـ ٢٩٤.

(٢) المصدر.

١٦٠