الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-007-2
الصفحات: ٤٩٦
وفيه مقدّمة ومقاصد .
أمّا المقدّمة ففيها مسائل :
مسألة ١ : الحجّ لغةً : القصد (١) ، ولهذا سُمّي الطريق محجّةً ؛ لأنّه يوصل إلى المقصود .
وقال الخليل : الحجّ : كثرة القصد إلى من تعظّمه (٢) .
وسمّي الحجّ حجّاً ؛ لأنّ الحاجّ يأتي قبل الوقوف بعرفة إلى البيت ثم يعود إليه لطواف الزيارة ثم ينصرف إلى منى ثم يعود إليه لطواف الوداع .
وفيه لغتان : بفتح الحاء وكسرها (٣) .
وأمّا في عرف الشرع فقال الشيخ رحمه الله : إنّه كذلك إلّا أنّه اختصّ بقصد البيت الحرام لأداء مناسك مخصوصة عنده متعلّقة بزمان مخصوص (٤) .
وقال ابن إدريس : الحجّ في الشريعة : القصد إلى مواضع مخصوصة لأداء مناسك مخصوصة عندها متعلّقة بزمان مخصوص ليدخل الوقوف بعرفة
__________________
(١) الصحاح ١ : ٣٠٣ ، القاموس المحيط ١ : ١٨٢ .
(٢ و ٣) العين ٣ : ٩ .
(٤) المبسوط ـ للطوسي ـ ١ : ٢٩٦ ، الجُمل والعقود ( ضمن الرسائل العشر ) : ٢٢٣ .
والمشعر ومنى (١) .
وهو غير وارد على الشيخ رحمه الله ؛ لأنّ كلّ واحد من الوقوفين قد يسقط بصاحبه ، وكذا قصد منى مع بقاء حقيقة الحجّ ، بخلاف قصد البيت ؛ فإنّه لا يصدق مسمّى الحجّ إلّا به .
وقال بعض العامّة : الحجّ في الشرع اسم لأفعال مخصوصة (٢) .
وما ذكرناه أولى ؛ لأنّ التخصيص أولى من النقل (٣) .
وأمّا العمرة فهي في اللغة عبارة عن الزيارة (٤) ، وفي الشرع عبارة عن زيارة البيت الحرام لأداء مناسك عنده ، ولا تختص المبتولة بزمان ، بخلاف المتمتّع بها ؛ فإنّ وقتها وقت الحجّ .
والنسك بإسكان السين : اسم لكلّ عبادة ، وبضمّها : اسم للذبح ، والمنسك موضع الذبح ، وقد يراد به موضع العبادة .
مسألة ٢ : الحجّ فريضة من فرائض الإِسلام ومن أعظم أركانه بالنصّ والإِجماع .
قال الله تعالى : ( وَلِلَّهِ علىٰ النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) (٥) قال ابن عباس : من كفر باعتقاده أنّه غير واجب (٦) .
وسأل علي بن جعفر أخاه الكاظم عليه السلام ، عن قوله تعالى : ( وَمَن كَفَرَ ) قال : قلت : ومن لم يحجّ منّا فقد كفر ؟ قال : « لا ، ولكن من
__________________
(١) السرائر : ١١٨ .
(٢) المغني والشرح الكبير ٣ : ١٦٤ .
(٣) في النسخ الخطية « ط ، ف ، ن » : النسخ ، بدل النقل .
(٤) القاموس المحيط ٢ : ٩٥ .
(٥) آل عمران : ٩٧ .
(٦) المغني والشرح الكبير ٣ : ١٦٤ .
قال ليس هذا هكذا فقد كفر » (١) .
وقال تعالى : ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) (٢) .
وما رواه العامّة عن النبي صلّى الله عليه وآله ، قال : ( بُني الإِسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم شهر رمضان وحجّ البيت ) (٣) ذكر فيها الحجّ .
وعن ابن عباس قال : خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فقال : ( يا أيّها الناس إن الله كتب عليكم الحجّ ) فقام الأقرع بن حابس فقال : أفي كلّ عام يا رسول الله ؟ فقال : ( لو قلتها لوجبت ولو وجبت لم تعملوا بها ، الحجّ مرّة فمن زاد فتطوّع ) (٤) .
ومن طريق الخاصة : ما رواه الحلبي ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه السلام ، قال : « إذا قدر الرجل على ما يحجّ به ثم دفع ذلك وليس له شغل يعذره به فقد ترك شريعةً من شرائع الإِسلام » (٥) .
وعن ذريح المحاربي ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه السلام ، قال : « من مات ولم يحجّ حجّة الإِسلام ولم تمنعه من ذلك حاجة تجحف به أو مرض لا يطيق فيه الحجّ أو سلطان يمنعه فليمت يهوديّاً أو نصرانيّاً » (٦) .
وقد أطبقت الاُمّة كافّة على وجوب الحجّ على جامع الشرائط في العمر مرّة واحدة .
مسألة ٣ : والحجّ فيه ثواب عظيم وأجر جزيل .
__________________
(١) الكافي ٤ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦ / ٥ ، التهذيب ٥ : ١٦ / ٤٨ ، الإستبصار ٢ : ١٤٩ / ٤٨٨ .
(٢) البقرة : ١٩٦ .
(٣) سنن الترمذي ٥ : ٥ / ٢٦٠٩ ، سنن البيهقي ٤ : ٨١ ، مسند أحمد ٢ : ٩٣ ، ١٢٠ .
(٤) سنن البيهقي ٤ : ٣٢٦ ، المستدرك ـ للحاكم ـ ٢ : ٢٩٣ .
(٥) التهذيب ٥ : ١٨ / ٥٤ .
(٦) الكافي ٤ : ٢٦٨ / ١ ، الفقيه ٢ : ٢٧٣ / ١٣٣٣ ، التهذيب ٥ : ٤٦٢ / ١٦١٠ .
روى معاوية بن عمّار ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه السلام عن أبيه عن آبائه عليهم السلام : « أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله لقيه أعرابي ، فقال له : يا رسول الله إنّي خرجت اُريد الحجّ ففاتني ، وإنّي رجل ميِّل (١) ، فمُرْني أن أصنع في مالي ما أبلغ به مثل أجر الحاج ، قال : فالتفت إليه رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فقال له : اُنظر إلى أبي قبيس فلو أنّ أبا قبيس لك ذهبة حمراء أنفقته في سبيل الله ما بلغت به مبلغ الحاج » .
ثم قال : « إنّ الحاج إذا أخذ في جهازه لم يرفع شيئاً ولم يضعه إلّا كتب الله له عشر حسنات ومحى عنه عشر سيّئات ورفع له عشر درجات ، فإذا ركب بعيره لم يرفع خفّاً ولم يضعه إلّا كتب له مثل ذلك ، فإذا طاف بالبيت خرج من ذنوبه ، فإذا سعى بين الصفا والمروة خرج من ذنوبه ، فإذا وقف بعرفات خرج من ذنوبه ، فإذا وقف بالمشعر الحرام خرج من ذنوبه ، فإذا رمى الجمار خرج من ذنوبه » .
قال : « فعدّد رسول الله صلّى الله عليه وآله كذا وكذا موقفاً إذا وقفها الحاج خرج من ذنوبه ، ثم قال : أنّى لك أن تبلغ ما بلغ (٢) الحاج » .
قال أبو عبد الله عليه السلام : « ولا تُكتب عليه الذنوب أربعة أشهر ، وتُكتب له الحسنات إلّا أن يأتي بكبيرة » (٣) .
وفي الصحيح عن معاوية بن عمّار عن الصادق عليه السلام ، قال : « الحاج يصدرون على ثلاثة أصناف : فصنف يعتقون من النار ، وصنف يخرج من ذنوبه كيوم ولدته اُمّه ، وصنف يحفظ في أهله وماله ، فذاك أدنى ما يرجع به الحاج » (٤) .
__________________
(١) في الكافي : يعني كثير المال .
(٢) في المصدر : « يبلغ » .
(٣) التهذيب ٥ : ١٩ ـ ٢٠ / ٥٦ ، وفي الكافي ٤ : ٢٥٨ / ٢٥ صدرها بتفاوت .
(٤) التهذيب ٥ : ٢١ / ٥٩ .
وفي الصحيح عن معاوية بن عمّار عن الصادق عليه السلام ، قال : « قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : الحجّ والعمرة تنفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير (١) خبث الحديد » قال معاوية : فقلت له : حجّة أفضل أو عتق رقبة ؟ قال : « حجّة أفضل » قلت : فثنتين ؟ قال : « فحجّة أفضل » قال معاوية : فلم أزل أزيده ويقول : « حجّة أفضل » حتى بلغت ثلاثين رقبة ، قال : « حجّة أفضل » (٢) .
وعن الصادق عليه السلام قال : « الحاج والمعتمر وفد الله إن سألوه أعطاهم ، وإن دعوه أجابهم ، وإن شفعوا شفّعهم ، وإن سكتوا بدأ بهم (٣) ، ويعوّضون بالدرهم ألف ألف درهم » (٤) .
مسألة ٤ : والعمرة واجبة ـ كالحجّ في وجوبه وهيئة وجوبه ـ على من يجب عليه الحجّ عند علمائنا أجمع ـ وبه قال علي عليه السلام ، وعمر وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وسعيد بن المسيّب وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن البصري وابن سيرين والشعبي والثوري وإسحاق والشافعي في الجديد ، وأحمد في إحدى الروايتين (٥) ـ لقوله تعالى : ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) (٦) والأمر للوجوب ، والعطف بالواو يقتضي التشريك في الحكم .
وما رواه العامة : أنّ النبي صلّى الله عليه وآله ، جاء إليه رجل فقال :
__________________
(١) الكير كير الحدّاد ، وهو زقّ أو جلد غليظ ذو حافات . الصحاح ٢ : ٨١١ « كير » .
(٢) التهذيب ٥ : ٢١ / ٦٠ .
(٣) في المصدر ونسخة بدل : « ابتدأهم » .
(٤) الكافي ٤ : ٢٥٥ / ١٤ ، التهذيب ٥ : ٢٤ / ٧١ .
(٥) المغني ٣ : ١٧٤ ، الشرح الكبير ٣ : ١٦٥ ، الوجيز ١ : ١١١ ، فتح العزيز ٧ : ٤٧ ـ ٤٨ ، المجموع ٧ : ٧ ، حلية العلماء ٣ : ٢٣٠ .
(٦) البقرة : ١٩٦ .
أوصني ، قال : ( تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحجّ وتعتمر ) (١) .
وقال عليه السلام : ( الحجّ والعمرة فريضتان ) (٢) .
ومن طريق الخاصة : عن زرارة ـ في الصحيح ـ عن الباقر عليه السلام ، قال : « العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحجّ ، لأنّ الله تعالى يقول : ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) » (٣) والأخبار في ذلك متواترة .
وقال الشافعي في القديم وأحمد في الرواية الثانية : إنّ العمرة ليست واجبةً ـ وهو مروي عن ابن مسعود ، وبه قال مالك وأبو ثور وأصحاب الرأي ـ لما رواه جابر : أنّ النبي صلّى الله عليه وآله سئل عن العمرة أواجبة هي ؟ قال : ( لا ، وأن تعتمر فهو أفضل ) (٤) .
ولأنّه نسك غير مؤقّت فلم يكن واجباً كالطواف المجرّد (٥) .
والحديث نقله الترمذي عن الشافعي أنّه ضعيف لا تقوم بمثله الحجّة ، وليس في العمرة شيء ثابت بأنّها تطوّع (٦) .
وقال ابن عبد البرّ : روي ذلك بأسانيد لا تصح ولا تقوم بمثلها الحجة (٧) .
__________________
(١) أوردها ابنا قدامة في المغني ٣ : ١٧٥ ، والشرح الكبير ٣ : ١٦٦ .
(٢) المستدرك ـ للحاكم ـ ١ : ٤٧١ ، سنن الدارقطني ٢ : ٢٨٤ / ٢١٧ ، سنن البيهقي ٤ : ٣٥٠ .
(٣) التهذيب ٥ : ٤٣٣ / ١٥٠٢ .
(٤) سنن الترمذي ٣ : ٢٧٠ / ٩٣١ ، وفيه : ( . . . وأن تعتمروا . . . ) .
(٥) المغني ٣ : ١٧٤ ، الشرح الكبير ٣ : ١٦٥ ، فتح العزيز ٧ : ٤٧ ـ ٤٨ ، الحاوي الكبير ٤ : ٣٤ ، المجموع ٧ : ٧ ، حلية العلماء ٣ : ٢٣٠ ، التفريع ١ : ٣٥٢ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ١٧١ ـ ١٧٢ ، مقدّمات ابن رشد : ٣٠٤ .
(٦) سنن الترمذي ٣ : ٢٧١ ذيل الحديث ٩٣١ ، وراجع : المغني ٣ : ١٧٥ ، والشرح الكبير ٣ : ١٦٦ .
ثم نحمله على المعهود ، وهي العمرة التي قضوها حين اُحصروا في الحديبية ، أو على العمرة التي اعتمروها مع حجّتهم مع النبي صلّى الله عليه وآله ، فإنّها لم تكن واجبةً على من اعتمر ، أو نحمله على من زاد على العمرة الواحدة .
وقياسهم باطل بالفرق ؛ فإنّ الإِحرام شرط في العمرة وليس شرطاً في الطواف .
مسألة ٥ : ولا فرق بين أهل مكة وغيرهم في وجوبها عليهم بإجماع علمائنا ؛ لعموم الأدلّة ، فالقرآن عمّم الحكم في الحجّ والعمرة على الجمع المعرّف بلام الجنس ، والأخبار دالّة على العموم أيضاً .
وقال أحمد : ليس على أهل مكة عمرة ، وقال : كان ابن عباس يرى العمرة واجبة ويقول : يا أهل مكة ليس عليكم عمرة ، إنّما عمرتكم طوافكم بالبيت (١) ، وبه قال عطاء وطاوس (٢) .
قال عطاء : ليس أحد من خلق الله إلّا عليه حجّ وعمرة واجبان لا بدّ منهما لمن استطاع إليهما سبيلاً إلّا أهل مكة ؛ فإنّ عليهم حجّة ، وليس عليهم عمرة من أجل طوافهم بالبيت (٣) .
ولأنّ ركن العمرة ومعظمها الطواف بالبيت وهُمْ يفعلونه ، فأجزأ عنهم (٤) .
وهو غلط ؛ لأنّه قول مجتهد مخالف لعموم القرآن ، فلا يكون حجّةً ، وستأتي مباحث العمرة بعد ذلك إن شاء الله تعالى .
__________________
(١ ـ ٤) المغني ٣ : ١٧٦ ، الشرح الكبير ٣ : ١٦٦ .
وأمّا المقاصد فيشتمل الأول منها على فصول
الفصل الأول في كيفية الوجوب
مسألة ٦ : الحجّ يجب بأصل الشرع مرّة واحدة ، وكذا العمرة ، ولا يجب أزيد منها وهو قول عامّة أهل العلم (١) .
وحكي عن بعض الناس أنّه قال : يجب في كلّ سنة مرّة (٢) . وهو خلاف النصّ :
قال الله تعالى : ( وَلِلَّهِ علىٰ النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) (٣) ومقتضى الأمر لا يقتضي التكرار ، فإيجابه مخالفة له .
وما رواه العامّة في حديث ابن عباس ، وقد سبق (٤) .
وعن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فقال : ( يا أيّها الناس قد فرض الله عليكم الحجّ فحجّوا ) فقال رجل : أكلّ عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ( لو
__________________
(١) المغني والشرح الكبير ٣ : ١٦٥ ، المجموع ٧ : ٩ ، فتح العزيز ٧ : ٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢٣١ .
(٢) حلية العلماء ٣ : ٢٣٢ ، المجموع ٧ : ٩ .
(٣) آل عمران : ٩٧ .
(٤) سبق في المسألة ٢ .
قلت : نعم ، لوجبت ولما استطعتم ) ثم قال : ( ذروني ما تركتكم فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ) (١) .
ومن طريق الخاصة : ما رواه الحلبي ـ في الحسن ـ عن الصادق عليه السلام ، قال : « إذا تمتّع الرجل بالعمرة فقد قضى ما عليه من فريضة العمرة » (٢) .
وقال الصادق عليه السلام ، في رجل أعتق عشيّة عرفة عبداً له ، قال : « يجزئ عن العبد حجّة الإِسلام ، ويكتب للسيد أجران (٣) : ثواب العتق وثواب الحجّ » (٤) .
ولا خلاف بين المسلمين كافّة في ذلك ، ولا عبرة بقول مَنْ شذّ من العامّة .
إذا عرفت هذا ، فما زاد على ذلك مستحب إلّا ما يجب بسبب ، كالنذر وشبهه ، والإِفساد والقضاء ، وكما يجب الإِحرام بحجّ أو عمرة لدخول مكة على ما يأتي ، والاستئجار ، وسيأتي .
وما ورد في أخبارنا من وجوبه على أهل الجِدَة (٥) في كلّ عام (٦) ، فمحمول على وجوبه على البدل ، على معنى أنّه إذا لم يفعله في أول عام تمكّنه ، وجب عليه في ثاني العام والثالث وهكذا ، كما نقول : إنّ خصال الكفّارة كلّها واجبة على هذا المنهاج .
__________________
(١) صحيح مسلم ٢ : ٩٧٥ / ١٣٣٧ .
(٢) الكافي ٤ : ٥٣٣ / ١ ، التهذيب ٥ : ٤٣٣ / ١٥٠٣ ، الاستبصار ٢ : ٣٢٥ / ١١٥٠ .
(٣) في النسخ الخطية والطبعة الحجرية : أجرين .
(٤) الفقيه ٢ : ٢٦٥ / ١٢٨٩ .
(٥) الجدة : الغنى وكثرة المال . مجمع البحرين ٣ : ١٥٥ « وجد » .
(٦) راجع : الكافي ٤ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦ ، الأحاديث ٥ و ٦ و ٨ و ٩ ، والتهذيب ٥ : ١٦ / ٤٦ ـ ٤٨ ، والاستبصار ٢ : ١٤٨ ـ ١٤٩ / ٤٨٦ ـ ٤٨٨ .
وأيضاً فإنّ السند لا يخلو من ضعف ؛ فإنّ الحديث الذي رواه حذيفة بن منصور عن الصادق عليه السلام ، قال : « أنزل الله فرض الحجّ على أهل الجدة في كلّ عام » (١) في طريقه محمد بن سنان وفيه قول .
مسألة ٧ : قد بيّنّا أنّ الواجب بأصل الشرع مرّة واحدة في الحجّ والعمرة ، وما عداها مستحب مندوب إليه إلّا لعارض يقتضي وجوبه ، كالاستئجار وغيره ممّا تقدّم ذكره ، ويتكرّر الوجوب بتكرّر السبب .
وليس من العوارض الموجبة : الردّة والإِسلام بعدها ، فمن حجّ أو اعتمر ثم ارتدّ ثم عاد إلى الإِسلام لم يلزمه الحجّ عند علمائنا ، وبه قال الشافعي (٢) ، خلافاً لأبي حنيفة (٣) .
ومأخذ الخلاف : أنّ الردّة عنده (٤) مُحبطة للعمل ، وعندنا وعند الشافعي (٥) أنّها إنّما تحبطه بشرط أن يموت عليها .
قال الله تعالى : ( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ ) (٦) الآية .
وأحمد وافق أبا حنيفة في المسألة لكن لا من جهة هذا المأخذ (٧) .
مسألة ٨ : ووجوب الحجّ والعمرة على الفور لا يحلّ للمكلّف بهما تأخيره عند علمائنا أجمع ـ وبه قال علي عليه السلام ، ومالك وأحمد والمزني وأبو يوسف (٨) ، وليس لأبي حنيفة فيه نصٌّ (٩) ، ومن أصحابه من قال : هو
__________________
(١) الكافي ٤ : ٢٦٦ / ٦ ، التهذيب ٥ : ١٦ / ٤٦ ، الاستبصار ٢ : ١٤٨ / ٤٨٦ .
(٢ ـ ٥) المجموع ٧ : ٩ ، فتح العزيز ٧ : ٥ .
(٦) البقرة : ٢١٧ .
(٧) كما في فتح العزيز ٧ : ٥ .
(٨) مقدّمات ابن رشد ١ : ٢٨٨ ، الكافي في فقه الإِمام أحمد ١ : ٤٦٧ ، المغني ٣ : ١٩٦ ، الشرح الكبير ٣ : ١٨٢ ، الحاوي الكبير ٤ : ٢٤ ، المجموع ٧ : ١٠٢ و ١٠٣ ، فتح العزيز ٧ : ٣١ ، تحفة الفقهاء ١ : ٣٨٠ ، بدائع الصنائع ٢ : ١١٩ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ١ : ١٣٤ .
(٩) كما في الحاوي الكبير ٤ : ٢٤ ، والمجموع ٧ : ١٠٣ .
قياس مذهبه (١) ـ لقوله تعالى : ( وَلِلَّهِ علىٰ النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ ) (٢) الآية ، مقتضاه الأمر ، وهو للفور عند بعضهم (٣) .
وما رواه العامّة عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وآله ، أنّه قال : تعجّلوا الحجّ فإنّ أحدكم لا يدري ما يعرض له (٤) .
وعن علي عليه السلام عن رسول الله صلّى الله عليه وآله ، أنّه قال : من وجد زاداً وراحلةً تبلّغه البيت فلم يحج فلا عليه أن يموت يهوديّاً أو نصرانيّاً (٥) .
ومن طريق الخاصة : ما رواه الحلبي ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه السلام ، قال : « إذا قدر الرجل على ما يحجّ به ثم دفع ذلك وليس له شغل يعذره به فقد ترك شريعةً من شرائع الإِسلام » (٦) .
ولأنّها عبادة لها وقت معلوم لا يفعل في السنة إلّا مرّة واحدة ، فيجب على الفور كالصوم .
وقال الشافعي : إنّه لا يجب على الفور ، بل يجوز له تأخيره إلى أيّ وقت شاء ـ ونقله العامّة عن ابن عباس وجابر وأنس ، ومن التابعين : عطاء وطاوس ، ومن الفقهاء : الأوزاعي والثوري ـ لأنّ فريضة الحجّ نزلت سنة ست من الهجرة ، وقيل : سنة خمس ، وأخّره النبي صلّى الله عليه وآله من غير مانع ، فإنّه خرج إلى مكة سنة سبع لقضاء العمرة ولم يحج ، وفَتَح مكة سنة
__________________
(١) الحاوي الكبير ٤ : ٢٤ .
(٢) آل عمران : ٩٧ .
(٣) إحكام الفصول في أحكام الاُصول : ١٠٢ ، الإِحكام في اُصول الأحكام ١ : ٣٨٧ ، اُصول السرخسي ١ : ٢٦ .
(٤) مسند أحمد ١ : ٣١٤ ، وأوردها الماوردي في الحاوي الكبير ٤ : ٢٤ .
(٥) سنن الترمذي ٣ : ١٧٦ / ٨١٢ وفيه : ( ملك ) بدل ( وجد ) وأوردها كما في المتن ، الماوردي في الحاوي الكبير ٤ : ٢٤ .
(٦) التهذيب ٥ : ١٨ / ٥٤ .
ثمان ، وبعث الحاج سنة تسع ، وحَجَّ هو عليه السلام سنة عشر ، وعاش بعدها ثمانين يوماً ، ثم قُبض صلّى الله عليه وآله (١) .
والجواب : المنع أوّلاً من تمكّنه من الحجّ ؛ فإنّه عليه السلام أحرم بالعمرة عام الحديبية فاُحصر (٢) .
وثانياً بالمنع من تأخير النبي عليه السلام عن عام الوجوب ؛ فإنّ الآية نزلت ـ وهي قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ علىٰ النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ) (٣) الآية ـ سنة تسع (٤) ، وقيل : سنة عشر (٥) ، فبادر رسول الله صلّى الله عليه وآله بالحجّ من غير تأخير .
مسألة ٩ : الحجّ واجب على كلّ جامع للشرائط الآتية ، من ذكر واُنثى وخنثى .
وإن كان أعمى فإن افتقر إلى قائد وتمكّن من تحصيله والاستعانة به على حجّة إمّا بإجارة أو غيرها ، وجب عليه الحجّ بنفسه ، وليس له أن يستأجر من يحجّ عنه ـ وبه قال الشافعي وأحمد (٦) ـ لعموم الآية (٧) والأخبار .
وقال أبو حنيفة : لا يلزمه فرض الحجّ بنفسه ، فإن استأجر مَنْ يحجّ عنه ، جاز ـ وروى الكرخي عنه أنّه لا حجّ عليه (٨) ـ لأنّ الحجّ عبادة تعلّقت
__________________
(١) الحاوي الكبير ٤ : ٢٤ ـ ٢٥ ، فتح العزيز ٧ : ٣١ ، المجموع ٧ : ١٠٢ و ١٠٣ ، المغني ٣ : ١٩٦ ، الشرح الكبير ٣ : ١٨٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢٤٣ .
(٢) كما في الحاوي الكبير ٤ : ٢٥ .
(٣) آل عمران : ٩٧ .
(٤ و ٥) كما في الحاوي الكبير ٤ : ٢٥ .
(٦) الحاوي الكبير ٤ : ١٤ ، المجموع ٧ : ٨٥ ، الوجيز ١ : ١١٠ ، فتح العزيز ٧ : ٢٧ ، حلية العلماء ٣ : ٢٤٠ .
(٧) آل عمران : ٩٧ .
(٨) فتح العزيز ٧ : ٢٧ .
بقطع مسافة ، فوجب أن لا تلزم الأعمى كالجهاد (١) .
وهو خطأ ؛ لأنّ العمى ليس فيه أكثر من فقد الهداية بالطريق ومواضع النسك ، والجهل بذلك لا يُسقط وجوب القصد ، كالبصير يستوي حكم العالم به والجاهل إذا وجد دليلاً ، فكذا الأعمى .
ولأنّه فقد حاسّة ، فلم يسقط بها فرض الحجّ بنفسه ، كالأصمّ .
مسألة ١٠ : مقطوع اليدين أو الرِّجْلين إذا استطاع التثبّت على الراحلة من غير مشقّة إمّا مع قائد أو معين إن احتاج إليه ووجده ، أو بدونهما إذا استغنى عنهما ، وجب عليه الحجّ ـ وبه قال الشافعي (٢) ـ لعموم قوله تعالى ( وَلِلَّهِ عَلَىٰ النَّاسِ ) (٣) الآية ، وغيرها من الأدلّة .
وقال أبو حنيفة : لا يلزمه كالأعمى (٤) . والخلاف فيهما (٥) واحد .
مسألة ١١ : المحجور عليه للسفه يجب عليه الحجّ كغيره مع الشرائط ، للعموم ، إلّا أنّه لا يدفع المال إليه ؛ لأنّه ممنوع من التصرّف فيه ؛ لتبذيره ، بل يُخرج الولي معه مَنْ ينفق عليه بالمعروف ويكون قيّماً عليه .
ولو احتاج إلى زيادة نفقة لسفره ، كان الزائد في ماله ينفق القيّم عليه منه ، بخلاف الصبي والمجنون إذا أحرم بهما الولي ؛ فإنّ نفقتهما الزائدة بالسفر في مال الولي ـ خلافاً للشافعي في أحد القولين (٦) ـ لأنّه لا وجوب عليهما ، وإذا زال عذرهما ، لزمهما حجة الإِسلام ، بخلاف المُبذّر .
ولو شرع السفيه في حجّ الفرض أو في حجّ نذره قبل الحجر بغير إذن
__________________
(١) المبسوط ـ للسرخسي ـ ٤ : ١٥٤ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٢١ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ١ : ١٣٤ ، تحفة الفقهاء ١ : ٣٨٤ ، فتح العزيز ٧ : ٢٧ .
(٢) الحاوي الكبير ٤ : ١٤ ـ ١٥ ، المجموع ٧ : ٨٥ .
(٣) آل عمران : ٩٧ .
(٤) الحاوي الكبير ٤ : ١٥ ، المجموع ٧ : ٨٥ .
(٥) أي في الأعمى ومقطوع اليدين أو الرجلين .
(٦) فتح العزيز ٧ : ٢٧ .