تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

المخلوقات ، ودانت له الموجودات ، وخضعت له الصعاب ، وذلت له الرقاب. (الْعَظِيمُ) الجامع ، لجميع صفات العظمة والكبرياء ، والمجد والبهاء ، الذي تحبه القلوب ، وتعظمه الأرواح ، ويعرف العارفون أن عظمة كل شيء ، وإن جلت عن الصفة ، فإنها مضمحلة في جانب عظمة العلي العظيم. فآية احتوت على هذه المعاني التي هي أجلّ المعاني ، يحق أن تكون أعظم آيات القرآن ، ويحق لمن قرأها ، متدبرا متفهما ، أن يمتلىء قلبه من اليقين والعرفان والإيمان ، وأن يكون محفوظا بذلك من شرور الشيطان.

[٢٥٦] هذا بيان لكمال هذا الدين الإسلامي ، وأنه لكمال براهينه ، واتضاح آياته ، وكونه هو دين العقل والعلم ، ودين الفطرة والحكمة ، ودين الصلاح والإصلاح ، ودين الحق والرشد ، فلكماله وقبول الفطرة له ، لا يحتاج إلى الإكراه عليه ؛ لأن الإكراه إنما يقع على ما تنفر عنه القلوب ، ويتنافى مع الحقيقة والحق ، أو لما تخفى براهينه وآياته ، وإلا فمن جاءه هذا الدين ، ورده ولم يقبله ، فإنه لعناده. فإنه قد تبين الرشد من الغي ، فلم يبق لأحد عذر ولا حجة ، إذا رده ولم يقبله ، ولا منافاة بين هذا المعنى ، وبين الآيات الكثيرة الموجبة للجهاد ، فإن الله أمر بالقتال ليكون الدين كله لله ، ولدفع اعتداء المعتدين على الدين. وأجمع المسلمون على أن الجهاد ماض مع البر والفاجر ، وأن من الفروض المستمرة ، الجهاد القولي الفعلي. فمن ظن من المفسرين أن هذه الآية تنافي آيات الجهاد ، فجزم بأنها منسوخة فقوله ضعيف ، لفظا ومعنى ، كما هو واضح بيّن لمن تدبر الآية الكريمة ، كما نبهنا عليه. ثم ذكر الله انقسام الناس إلى قسمين : قسم آمن بالله وحده لا شريك له ، وكفر بالطاغوت ـ وهو كل ما ينافي الإيمان بالله من الشرك وغيره ـ ، فهذا قد استمسك بالعروة الوثقى ، التي لا انفصام لها ، بل هو مستقيم على الدين الصحيح ، حتى يصل به إلى الله ؛ وإلى دار كرامته. ويؤخذ القسم الثاني ، من مفهوم الآية ، أن من لم يؤمن بالله ، بل كفر به ، وآمن بالطاغوت ، فإنه هالك هلاكا أبديا ، ومعذب عذابا سرمديا. وقوله : (وَاللهُ سَمِيعٌ) ، أي : لجميع الأصوات ، باختلاف اللغات ، على تفنن الحاجات ، وسميع لدعاء الداعين ، وخضوع المتضرعين. (عَلِيمٌ) بما أكنته الصدور ، وما خفي من خفايا الأمور ، فيجازي كل أحد بحسب ما يعلمه ، من نياته وعمله.

[٢٥٧] هذه الآية مرتبة على الآية التي قبلها ، فالسابقة هي الأساس ، وهذه هي الثمرة. فأخبر تعالى أن الذين آمنوا بالله ، وصدقوا إيمانهم ، بالقيام بواجبات الإيمان ، وترك كل ما ينافيه ، أنه وليهم ، يتولاهم بولايته الخاصة ، ويتولى تربيتهم ، فيخرجهم من ظلمات الجهل والكفر والمعاصي والغفلة والإعراض ، إلى نور العلم واليقين والإيمان ، والطاعة والإقبال الكامل على ربهم ، وينوّر قلوبهم بما يقذفه فيها من نور الوحي والإيمان ، وييسرهم لليسرى ، ويجنبهم العسرى. وأما الذين كفروا ، فإنهم لما تولوا غير وليهم ، ولأهم الله ما تولوا لأنفسهم ، وخذلهم ، ووكلهم إلى رعاية من تولاهم ، ممن ليس عنده نفع ولا ضر ، فأضلّوهم وأشقوهم ، وحرموهم هداية العلم النافع والعمل الصالح ، وحرموهم السعادة ، وصارت النار مثواهم ، خالدين فيها مخلدين. اللهم تولنا فيمن توليت.

[٢٥٨] يقص الله علينا من أنباء الرسل والسالفين ، ما به تتبين الحقائق ، وتقوم البراهين المتنوعة على التوحيد.

١٢١

فأخبر تعالى عن خليله إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث حاجّ هذا الملك الجبار ، وهو نمرود البابلي ، المعطل المنكر لرب العالمين ، وانتدب لمقاومة إبراهيم الخليل ومحاجته في هذا الأمر ، الذي لا يقبل شكا ، ولا إشكالا ، ولا ريبا ، وهو توحيد الله وربوبيته ، الذي هو أجلى الأمور وأوضحها. ولكن هذا الجبار ، غره ملكه وأطغاه ، حتى وصلت به الحال إلى أن نفاه ، وحاج إبراهيم الرسول العظيم ، الذي أعطاه الله من العلم واليقين ، ما لم يعط أحدا من الرسل ، سوى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال إبراهيم مناظرا له : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) ، أي : هو المنفرد بالخلق والتدبير ، والإحياء والإماتة ، فذكر من هذا الجنس أظهرها ، وهو الإحياء والإماتة ، فقال ذلك الجبار مباهتا : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) ، وعنى بذلك أني أقتل من أردت قتله ، وأستبقي من أردت استبقاءه. ومن المعلوم أن هذا تمويه وتزوير ، وحيدة عن المقصود ، وأن المقصود أن الله تعالى هو الذي تفرد بإيجاد الحياة في المعدومات ، وردها على الأموات ، وأنه هو الذي يميت العباد والحيوانات بآجالها ، بأسباب ربطها وبغير أسباب. فلما رآه الخليل مموها تمويها ، ربما راج على الهمج الرعاع ، قال إبراهيم ـ ملزما له بتصديق قوله إن كان كما يزعم : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) ، أي : وقف ، وانقطعت حجته ، واضمحلت شبهته. وليس هذا من الخليل انتقالا من دليل إلى آخر ، وإنما هو إلزام النمرود ، بطرد دليله إن كان صادقا ، وأتى بهذا الذي لا يقبل الترويج والتزوير والتمويه. فجميع الأدلة : السمعية ، والعقلية ، والفطرية ، قد قامت شاهدة بتوحيد الله ، معترفة بانفراده بالخلق والتدبير ، وأن من هذا شأنه ، لا يستحق العبادة إلا هو ، وجميع الرسل متفقون على هذا الأصل العظيم ، ولم ينكره إلا معاند مكابر ، مماثل لهذا الجبار العنيد ، فهذا من أدلة التوحيد.

[٢٥٩] ثم ذكر أدلة كمال القدرة والبعث والجزاء ، فقال : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) ، الآية. هذان دليلان عظيمان ، محسوسان في الدنيا قبل الآخرة ، على البعث والجزاء ، واحد أجراه الله على يد رجل شاك في البعث على الصحيح ، كما تدل عليه الآية الكريمة ، والآخر على يد خليله إبراهيم. كما أجرى دليل التوحيد السابق على يده ، فهذا الرجل مر على قرية قد دمرت تدميرا ، وخوت على عروشها ، قد مات أهلها وخربت عمارتها ، فقال ـ على وجه الشك والاستبعاد ـ : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها)؟ ، أي : ذلك بعيد ، وهي في هذه الحال ، يعني : وغيرها مثلها ، بحسب ما قام بقلبه تلك الساعة. فأراد الله رحمته ورحمة الناس ، حيث أماته الله مائة عام ، وكان معه حمار ، فأماته معه ، ومعه طعام وشراب ، فأبقاهما الله بحالهما كل هذه المدد الطويلة ، فلما مضت الأعوام المائة ، بعثه الله ، فقال : (كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) وذلك بحسب ما ظنه ، فقال الله : (بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) والظاهر أن هذه المجاوبة على يد بعض الأنبياء الكرام. ومن تمام رحمة الله به وبالناس ، أنه أراه الآية عيانا ، ليقتنع بها ، فبعد ما عرف أنه ميت قد أحياه الله ، قيل له : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) ، أي : لم يتغير في هذه المدد الطويلة ، وذلك من آيات قدرة الله ، فإن الطعام والشراب ـ خصوصا ما ذكره المفسرون : أنه فاكهة وعصير ـ لا يلبث أن يتغير ، وهذا قد حفظه الله ، مائة عام ، وقيل له : (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) ، فإذا هو قد تمزق وتفرق ، وصار عظاما نخرة. (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) ، أي : نرفع بعضها إلى بعض ، ونصل بعضها ببعض ، بعد ما تفرقت وتمزقت ، (ثُمَّ نَكْسُوها) بعد الالتئام (لَحْماً) ، ثم نعيد فيه الحياة. (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) رأي عين لا يقبل الريب بوجه من الوجوه ، (قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). فاعترف بقدرة الله على كل شيء ، وصار آية للناس ، لأنهم قد عرفوا موته وموت حماره ، وعرفوا قضيته ، ثم شاهدوا هذه الآية الكبرى ، هذا هو الصواب في هذا الرجل. وأما قول كثير من المفسرين : إن هذا الرجل ، مؤمن أو نبي من الأنبياء ، إما عزيز أو غيره ، وأن قوله : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) ، يعني : كيف تعمر هذه القرية بعد أن كانت خرابا ، وأن الله أماته ، ليريه ما يعيد لهذه القرية من عمارتها بالخلق ، وأنها عمرت في هذه المدة ، وتراجع الناس إليها ، وصارت عامرة ، بعد أن كانت دامرة ـ فهذا لا يدل عليه

١٢٢

اللفظ ، بل ينافيه ، ولا يدل عليه المعنى. فأي آية وبرهان ، برجوع البلدان الدامرة إلى العمارة ، وهذه لم تزل تشاهد ، تعمر قرى ومساكن ، وتخرب أخرى ، وإنما الآية العظيمة في إحيائه بعد موته ، وإحياء حماره ، وإبقاء طعامه وشرابه ، لم يتعفن ولم يتغير. ثم قوله : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) صريح في أنه لم يتبين له إلا بعد ما شاهد هذه الحالة الدالة على كمال قدرته عيانا.

[٢٦٠] وأما البرهان الآخر ، فإن إبراهيم قال طالبا من الله ، أن يريه كيف يحيي الموتى ، فقال الله له : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) ليزيل الشبهة عن خليله. (قالَ) إبراهيم : (بَلى) يا رب ، قد آمنت أنك على كل شيء قدير ، وأنك تحيي الموتى ، وتجازي العباد ، ولكن أريد أن يطمئن قلبي ، وأصل إلى درجة عين اليقين. فأجاب الله دعوته ، كرامة له ، ورحمة بالعباد ، (قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) ولم يبين أي الطيور هي ، فالآية حاصلة بأي نوع منها ، وهو المقصود ، (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) ضمهن ، واذبحهن ، ومزقهن (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). ففعل ذلك ، وفرّق أجزاءهن على الجبال ، التي حوله ، ودعاهن بأسمائهن ، فأقبلن إليه ، أي : سريعات ، لأن السعي : السرعة ، وليس المراد أنهن جئن على قوائمهن ، وإنما جئن طائرات ، على أكمل ما يكون من الحياة. وخصّ الطيور بذلك ، لأن إحياءهن أكمل وأوضح من غيرهن. وأيضا أزال في هذا كل وهم ، ربما يعرض للنفوس المبطلة ، فجعلهن متعددات أربعة ، ومزقهن جميعا ، وجعلهن على رؤوس الجبال ، ليكون ذلك ظاهرا علنا ، يشاهد من قرب ومن بعد ، وأنه نحاهن عنه كثيرا ، لئلا يظن أن يكون عاملا حيلة من الحيل ، وأيضا أمره أن يدعوهن فجئن مسرعات. فصارت هذه الآية أكبر برهان على كمال عزة الله وحكمته. وفيه تنبيه على أن البعث فيه يظهر للعباد كمال عزة الله وحكمته وعظمته وسعة سلطانه ، وتمام عدله وفضله.

[٢٦١] هذا حث عظيم من الله لعباده على إنفاق أموالهم في سبيله ، وهو طريقه للوصول إليه ، فيدخل في هذا إنفاقه في ترقية العلوم النافعة ، وفي الاستعداد للجهاد في سبيله ، وفي تجهز المجاهدين ، وتجهيزهم ، وفي جميع المشاريع الخيرية النافعة للمسلمين. ويلي ذلك الإنفاق على المحتاجين ، والفقراء والمساكين. وقد يجتمع الأمران ، فيكون في النفقة دفع الحاجات ، والإعانة على الخير والطاعات ، فهذه النفقات مضاعفة ، هذه المضاعفة بسبعمائة إلى أضعاف أكثر من ذلك ، ولهذا قال : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) ، وذلك بحسب ما يقوم بقلب المنفق ، من الإيمان ، والإخلاص التام ، وفي ثمرات نفقته ونفعها ، فإن بعض طرق الخيرات يترتب على الإنفاق فيها منافع متسلسلة ، ومصالح متنوعة ، فكان الجزاء من جنس العمل. ثم أيضا ذكر ثوابا آخر للمنفقين أموالهم في سبيله ، نفقة صادرة ، مستوفية لشروطها ، منتفية موانعها ، فلا يتبعون المنفق عليه منا منهم عليه ، وتعدادا للنعم ، وأذية له ، قولية أو فعلية. فهؤلاء (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) بحسب ما يعلمه منه ، وبحسب نفقاتهم ونفعها ، وبفضله الذي لا تناله ، ولا تصل إليه صدقاتهم. (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ، فنفى عنهم المكروه الماضي ، بنفي الحزن ، والمستقبل بنفي الخوف

١٢٣

عليهم ، فقد حصل لهم المحبوب ، واندفع عنهم المكروه.

[٢٦٣] ذكر الله أربع مراتب للإحسان : المرتبة العليا : النفقة الصادرة عن نية صالحة ، ولم يتبعها المنفق منا ولا أذى. ثم يليها قول المعروف ، وهو : الإحسان القولي بجميع وجوهه ، الذي فيه سرور المسلم ، والاعتذار من السائل إذا لم يوافق عنده شيئا ، وغير ذلك من أقوال المعروف. والثالثة : الإحسان بالعفو والمغفرة ، عمن أساء إليك ، بقول أو فعل. وهذان أفضل من الرابعة ، وخير منها وهي التي يتبعها المتصدق الأذى للمعطى ، لأنه كدر إحسانه وفعل خيرا وشرا. فالخير المحض ـ وإن كان مفضولا ـ خير من الخير الذي يخالطه شر ، وإن كان فاضلا ، وفي هذا التحذير العظيم لمن يؤذي من تصدق عليه ، كما فعله أهل اللؤم والحمق والجهل. (وَاللهُ) تعالى (غَنِيٌ) عن صدقاتهم ، وعن جميع عباده. (حَلِيمٌ) مع كمال غناه ، وسعة عطاياه ، يحلم عن العاصين ، ولا يعاجلهم بالعقوبة ، بل يعافيهم ويرزقهم ، ويدر عليهم خيره ، وهم مبارزون له بالمعاصي.

[٢٦٤] ثم نهى أشد النهي عن المن والأذى ، وضرب لذلك مثلا ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) الآية ، ضرب الله في هذه الآيات ثلاثة أمثلة : للمنفق ابتغاء وجهه ، ولم يتبع نفقته منا ولا أذى ، ولمن أتبعها منا وأذى ، وللمرائي.

[٢٦٥] فأما الأول ، فإنه لما كانت نفقته مقبولة مضاعفة ، لصدورها عن الإيمان والإخلاص التام (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ، أي : ينفقون ، وهم ثابتون على وجه السماحة والصدق ، فمثل هذا العمل (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) ، وهو المكان المرتفع ، لأنه يتبين للرياح والشمس ، والماء فيها غزير. فإن لم يصبها ذلك الوابل الغزير ، حصل طل كاف ، لطيب منبتها ، وحسن أرضها ، وحصول جميع الأسباب الموفرة لنموها وازدهارها وإثمارها. ولهذا آتت (أُكُلَها ضِعْفَيْنِ) ، أي : متضاعفا. وهذه الجنة التي على هذا الوصف ، هي أعلى ما يطلبه الناس ، فهذا العمل الفاضل بأعلى المنازل.

[٢٦٦] وأما من أنفق لله ، ثم أتبع نفقته منا وأذى ، أو عمل عملا ، فأتى بمبطل لذلك العمل ، فهذا مثله مثال صاحب هذه الجنة ، لكن سلط عليها (إِعْصارٌ) وهو الريح الشديدة (فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ) ، وله ذرية ضعفاء ، وهو ضعيف قد أصابه الكبر. فهذه الحال من أفظع الأحوال ، ولهذا صدر هذا المثل بقوله : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) ، إلى آخرها بالاستفهام المتقرر عند المخاطبين فظاعته ، فإن تلفها دفعة واحدة ، بعد زهاء أشجارها ، وإيناع ثمارها ، مصيبة كبرى. ثم حصول هذه الفاجعة ـ وصاحبها كبير قد ضعف عن العمل ، وله ذرية ضعفاء ، لا مساعدة منهم له ، ومؤنتهم عليه ـ فاجعة أخرى ، فصار صاحب هذا المثل ، الذي عمل لله ، ثم أبطل عمله بمناف له ، يشبه حال صاحب الجنة ، التي جرى عليها ما جرى ، حين اشتدت ضرورته إليها. المثل الثالث : الذي يرائي الناس ، وليس معه إيمان بالله ، ولا احتساب لثوابه ، حيث شبه قلبه بالصفوان ، وهو الحجر الأملس ، عليه تراب يظن الرائي أنه إذا أصابه المطر ، أنبت كما تنبت الأراضي الطيبة ، ولكنه كالحجر ، الذي أصابه الوابل الشديد ، فأذهب ما عليه من

١٢٤

التراب ، وتركه صلدا. وهذا مثل مطابق لقلب المرائي ، الذي ليس فيه إيمان ، بل هو قاس لا يلين ولا يخشع. فهذا ، أعماله ونفقاته لا أصل لها ، تؤسس عليه ، ولا غاية لها ، تنتهي إليها ، بل ما عمله ، فهو باطل ، لعدم شرطه. والذي قبله بطل بعد وجود الشرط ، لوجود المانع ، والأول مقبول مضاعف ، لوجود شرطه الذي هو الإيمان والإخلاص والثبات ، وانتفاء الموانع المفسدة. وهذه الأمثال الثلاثة ، تنطبق على جميع العاملين ، فليزن العبد نفسه وغيره بهذه الموازين العادلة ، والأمثال المطابقة. (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ).

[٢٦٧ ـ ٢٦٨] يحث الباري عباده على الإنفاق مما كسبوا في التجارات ، ومما أخرج لهم من الأرض ، من الحبوب والثمار ، وهذا يشمل زكاة النقدين ، والعروض كلها ، المعدّة للبيع والشراء ، والخارج من الأرض ، من الحبوب والثمار ، ويدخل في عمومها الفرض والنفل. وأمر تعالى أن يقصدوا الطيب منها ، ولا يقصدوا الخبيث ، وهو الرديء الدون ، يجعلونه لله ، ولو بذله لهم من لهم حق عليه ، لم يرتضوه ولم يقبلوه إلا على وجه المغاضاة والإغماض. فالواجب إخراج الوسط من هذه الأشياء ، والكمال إخراج العالي ، والممنوع إخراج الرديء ، فإن هذا لا يجزىء عن الواجب ، ولا يحصل فيه الثواب التام في المندوب. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) ، فهو غني عن جميع المخلوقين ، وهو الغني عن نفقات المنفقين ، وعن طاعات الطائعين ، وإنما أمرهم بها ، وحثهم عليها ، لنفعهم ومحض فضله وكرمه عليهم. ومع كمال غناه ، وسعة عطاياه ، فهو الحميد فيما يشرعه لعباده من الأحكام الموصلة لهم إلى دار السلام. وحميد في أفعاله ، التي لا تخرج عن الفضل والعدل والحكمة ، وحميد الأوصاف ، لأن أوصافه كلها محاسن وكمالات ، لا يبلغ العباد كنهها ، ولا يدركون وصفها. فلما حثهم على الإنفاق النافع ، ونهاهم عن الإمساك الضار ، بين لهم أنهم بين داعيين : داعي الرحمن ، يدعوهم إلى الخير ، ويعدهم عليه الخير ، والفضل والثواب العاجل والآجل ، وإخلاف ما أنفقوا. وداعي الشيطان ، الذي يحثهم على الإمساك ويخوفهم ، إن أنفقوا أن يفتقروا ، فمن كان مجيبا لداعي الرحمن ، وأنفق مما رزقه الله ، فليبشر بمغفرة الذنوب ، وحصول كل مطلوب ، ومن كان مجيبا لداعي الشيطان ، فإنه إنما يدعو حزبه ، ليكونوا من أصحاب السعير ، فليختر العبد أي الأمرين أليق به. وختم الآية بأنه (واسِعٌ عَلِيمٌ) ، أي : واسع الصفات ، كثير الهبات ، عليم بمن يستحق المضاعفة من العاملين ، وعليم بمن هو أهل ، فيوفقه لفعل الخيرات ، وترك المنكرات.

[٢٦٩] لما ذكر أحوال المنفقين للأموال ، وأن الله أعطاهم ، ومنّ عليهم بالأموال التي يدركون بها النفقات في الطرق الخيرية ، وينالون بها المقامات السنية ، ذكر ما هو أفضل من ذلك ، وهو أنه يعطي الحكمة من يشاء من عباده ، ومن أراد بهم خيرا من خلقه. والحكمة هي العلوم النافعة ، والمعارف الصائبة ، والعقول المسددة ، والألباب الرزينة ، وإصابة الصواب في الأقوال والأفعال. وهذا أفضل العطايا ، وأجلّ الهبات ، ولهذا قال : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) ؛ لأنه خرج من ظلمة الجهالات إلى نور الهدى ، ومن حمق الانحراف في الأقوال والأفعال ، إلى

١٢٥

إصابة الصواب فيها ، وحصول السداد ، ولأنه كمل نفسه بهذا الخير العظيم ، واستعد لنفع الخلق أعظم نفع ، في دينهم ودنياهم. وجميع الأمور لا تصلح إلا بالحكمة ، التي هي وضع الأشياء في مواضعها ، وتنزيل الأمور منازلها ، والإقدام في محل الإقدام والإحجام في موضع الإحجام. ولكن ما يتذكر هذا الأمر العظيم ، وما يعرف قدر هذا العطاء الجسيم (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) وهم أهل العقول الوافية ، والأحلام الكاملة ، فهم الذين يعرفون النافع فيعملونه ، والضار فيتركونه. وهذان الأمران ، وهما بذل النفقات المالية ، وبذل الحكمة العلمية ، أفضل ما تقرب به المتقربون إلى الله ، وأعلى ما وصلوا به إلى أجلّ الكرامات. وهما اللذان ذكرهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «لا حسد إلا في اثنتين ، رجل آتاه الله مالا فسلّطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يعلمها الناس».

[٢٧٠] يخبر تعالى ، أنه مهما أنفق المنفقون أو تصدق المتصدقون ، أو نذر الناذرون ، فإن الله يعلم ذلك. ومضمون الإخبار بعلمه ، يدل على الجزاء ، وأن الله لا يضيع عنده مثقال ذرة ، ويعلم ما صدرت عنه ، من نيات صالحة ، أو سيئة ، وأن الظالمين الذين يمنعون ما أوجب الله عليهم ، أو يقتحمون ما حرم عليهم ، ليس من دونهم أنصار ، ينصرونهم ويمنعونهم ، وأنه لا بد أن تقع بهم العقوبات.

[٢٧١] وأخبر أن الصدقة إن أبداها المتصدق ، فهي خير ، وإن أخفاها ، وسلمها للفقير ، كان أفضل ، لأن الإخفاء على الفقير ، إحسان آخر. وأيضا فإنه يدل على قوة الإخلاص ، وأحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله : «من تصدق بصدقة فأخفاها ، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه». وفي قوله : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) فائدة لطيفة ، وهو أن إخفاءها خير من إظهارها ، إذا أعطيت للفقير. فأما إذا صرفت في مشروع خيري ، لم يكن في الآية ، ما يدل على فضيلة إخفائها ، بل هنا قواعد الشرع ، تدل على مراعاة المصلحة ، فربما كان الإظهار خيرا ، لحصول الأسوة والاقتداء ، وتنشيط النفوس على أعمال الخير. وقوله : (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) في هذا : أن الصدقات يجتمع فيها الأمران : حصول الخير ، وهو كثرة الحسنات والثواب والأجر ، ودفع الشر والبلاء الدنيوي والأخروي ، بتكفير السيئات. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ، فيجازي كلا بعمله ، بحسب حكمته.

[٢٧٢] أي : إنما عليك ـ أيها الرسول ـ البلاغ ، وحث الناس على الخير ، وزجرهم عن الشر ، وأما الهداية ، فبيد الله تعالى. ويخبرهم عن المؤمنين حقا ، أنهم لا ينفقون إلا لطلب مرضاة ربهم ، واحتساب ثوابه ، لأن إيمانهم يدعوهم إلى ذلك ، فهذا خير وتزكية للمؤمنين ، ويتضمن التذكير لهم بالإخلاص. وكرر علمه ـ تعالى ـ بنفقاتهم ، لإعلامهم أنه لا يضيع عنده مثقال ذرة : (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً).

[٢٧٣] يعني أنه ينبغي أن تتحروا بصدقاتكم الفقراء ، الذين حبسوا أنفسهم في سبيل الله ، وعلى طاعته ، وليس لهم إرادة في الاكتساب ، أو ليس لهم قدرة عليه ، وهم يتعففون ، إذا رآهم الجاهل ظن أنهم أغنياء (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) ، فهم لا يسألون بالكلية ، وإن سألوا اضطرارا ، لم يلحفوا في السؤال. فهذا الصنف من

١٢٦

الفقراء ، أفضل ما وضعت فيهم النفقات لدفع حاجتهم ، وإعانة لهم على مقصدهم وطريق الخير ، وشكرا لهم على ما اتصفوا به من الصبر ، والنظر إلى الخالق ، لا إلى الخلق.

[٢٧٤] ومع ذلك ، فالإنفاق في طرق الإحسان وعلى المحاويج حيثما كانوا ، فإنه خير وأجر ، وثواب عند الله ، ولهذا قال تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) الآية. فإن الله يظلهم بظله يوم لا ظل إلا ظله ، وإن الله ينيلهم الخيرات ويدفع عنهم الأحزان والمخاوف والكريهات. وقوله : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، أي : كل أحد منهم بحسب حاله. وتخصيص ذلك ، بأنه عند ربهم ، يدل على شرف هذه الحال ، ووقوعها في الموقع الأكبر ، كما في الحديث الصحيح : «إن العبد ليتصدق بالتمرة من كسب يده فيتقبلها الجبار بيده ، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل العظيم».

[٢٧٥] لما ذكر الله حالة المنفقين وما لهم من الله ، من الخيرات ، وما يكفر عنهم ، من الذنوب والخطيئات ، ذكر الظالمين أهل الربا والمعاملات الخبيثة ، وأخبر أنهم يجازون بحسب أعمالهم ، فكما كانوا في الدنيا في طلب المكاسب الخبيثة كالمجانين ، عوقبوا في البرزخ والقيامة ، بأنهم لا يقومون من قبورهم ، أو يوم بعثهم ونشورهم (إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) ، أي : من الجنون والصرع. وذلك عقوبة ، وخزي وفضيحة لهم ، وجزاء لهم على مراباتهم ومجاهرتهم بقولهم : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) ، فجمعوا ـ بجراءتهم ـ بين ما أحل الله ، وبين ما حرّم الله ، واستباحوا بذلك الربا. ثم عرض تعالى العقوبة على المرابين. وغيرهم ، فقال : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ، بيان مقرون به الوعد والوعيد. (فَانْتَهى) عما كان يتعاطاه من الربا (فَلَهُ ما سَلَفَ) مما تجرأ عليه وتاب منه. (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) فيما يستقبل من زمانه ، فإن استمر على توبته ، فالله لا يضيع أجر المحسنين. (وَمَنْ عادَ) بعد بيان الله وتذكيره وتوعده لأكل الربا (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) في هذا أن الربا موجب لدخول النار والخلود فيها ، وذلك لشناعته ، ما لم يمنع من الخلود مانع الإيمان. وهذا من جملة الأحكام التي تتوقف على وجود شرطها ، وانتفاء موانعها ، وليس فيها حجة للخوارج ، كغيرها من آيات الوعيد. فالواجب أن تصدق جميع نصوص الكتاب والسنة ، فيؤمن العبد بما تواترت به النصوص ، من خروج من في قلبه أدنى مثقال حبة من خردل من الإيمان ، من النار. ومن استحقاق هذه الموبقات لدخول النار ، إن لم يتب منها.

[٢٧٦] ثم أخبر تعالى أنه يمحق مكاسب المرابين ، ويربي صدقات المنفقين ، عكس ما يتبادر لأذهان كثير من الخلق ، أن الإنفاق ينقص المال وأن الربا يزيده ، فإن مادة الرزق وحصول ثمراته من الله تعالى ، وما عند الله لا ينال إلا بطاعته وامتثال أمره. فالمتجرئ على الربا يعاقبه بنقيض مقصوده ، وهذا مشاهد بالتجربة ، (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً). (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) ، وهو الذي كفر نعمة الله ، وجحد منّة ربه ، وأثم بإصراره على معاصيه. ومفهوم الآية ، أن الله يحب من كان شكورا على النعماء ، تائبا من المآثم والذنوب.

[٢٧٧] ثم أدخل هذه الآية بين آيات الربا ، وهي قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا

١٢٧

الزَّكاةَ) ، الآية ، لبيان أن أكبر الأسباب لاجتناب ما حرم الله من المكاسب الربوية تكميل الإيمان وحقوقه ، خصوصا إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وإن الزكاة إحسان إلى الخلق ، ينافي تعاطي الربا ، الذي هو ظلم لهم ، وإساءة عليهم.

[٢٧٨] ثم وجه الخطاب للمؤمنين ، وأمرهم أن يتقوه ، ويذروا ما بقي من معاملات الربا ، التي كانوا يتعاطونها قبل ذلك ، وأنهم إن لم يفعلوا ذلك ، فإنهم محاربون لله ورسوله ، وهذا من أعظم ما يدل على شناعة الربا ، حيث جعل المصرّ عليه ، محاربا لله ورسوله.

[٢٧٩] ثم قال : (وَإِنْ تُبْتُمْ) يعني من المعاملات الربوية (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ) الناس بأخذ الربا (وَلا تُظْلَمُونَ) ببخسكم رؤوس أموالكم. فكل من تاب من الربا ، فإن كانت معاملات سالفة ، فله ما سلف ، وأمره منظور فيه ، وإن كانت معاملات موجودة ، وجب عليه أن يقتصر على رأس ماله ، فإن أخذ زيادة ، فقد تجرأ على الربا. وفي هذه الآية ، بيان لحكمة تحريم الربا ، وأنه يتضمن الظلم للمحتاجين بأخذ الزيادة ، وتضاعف الربا عليهم ، وهو واجب إنظارهم.

[٢٨٠] ولهذا قال : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) ، أي : وإن كان الذي عليه الدين معسرا ، لا يقدر على الوفاء ، وجب على غريمه أن ينظره إلى ميسرة. وهو يجب عليه إذا حصل له وفاء بأي طريق مباح ، أن يوفي ما عليه. وإن تصدّق عليه غريمه ـ بإسقاط الدين كله أو بعضه ـ فهو خير له ، ويهون على العبد ، التزام الأمور الشرعية ، واجتناب المعاملات الربوية ، والإحسان إلى المعسرين ، علمه بأن له يوما يرجع فيه إلى الله ، ويوفيه عمله ، ولا يظلمه مثقال ذرة ، كما ختم هذه الآية بقوله :

[٢٨١] (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢٨١).

[٢٨٢] ثم قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) ، الآية ، احتوت هذه الآية ، على إرشاد الباري عباده في معاملاتهم إلى حفظ حقوقهم بالطرق النافعة والإصلاحات التي لا تقترح العقلاء أعلى ولا أكمل منها ، فإن فيها فوائد كثيرة. منها : جواز المعاملات في الديون ، سواء كانت ديون سلم أو شراء مؤجلا ثمنه ، فكله جائز ؛ لأن الله أخبر به عن المؤمنين ، وما أخبر به عن المؤمنين ، فإنه من مقتضيات الإيمان وقد أقرهم عليه الملك الديان. ومنها : وجوب تسمية الأجل في جميع المداينات وحلول الإجارات. ومنها : أنه إذا كان الأجل مجهولا ، فإنه لا يحل ، لأنه غرر وخطر ، فيدخل في الميسر. ومنها : أمره تعالى بكتابة الديون. وهذا الأمر قد يجب ، إذا وجب حفظ الحق ، كالذي للعبد عليه ولاية ، وكأموال اليتامى ، والأوقاف ، والوكلاء ، والأمناء ، وقد يقارب الوجوب ، كما إذا كان الحق متمحضا للعبد ، فقد يقوى الاستحباب ، بحسب الأحوال المقتضية لذلك. وعلى كل حال ، فالكتابة من أعظم ما تحفظ به هذه المعاملات المؤجلة ، لكثرة النسيان ، ولوقوع المغالطات ، وللاحتراز من الخونة الذين لا يخشون الله تعالى. ومنها : أمره تعالى للكاتب أن يكتب بين المتعاملين بالعدل ، فلا يميل مع أحدهما لقرابة ولا غيرها ، ولا على

١٢٨

أحدهما لعداوة ونحوها. ومنها : أن الكتابة بين المتعاملين من أفضل الأعمال ، ومن الإحسان إليهما ، وفيها حفظ حقوقهما ، وبراءة ذممهما كما أمره الله بذلك ، فليحتسب الكاتب بين الناس هذه الأمور ، ليحظى بثوابها. ومنها : أن الكاتب لا بد أن يكون عارفا بالعدل ، معروفا بالعدل ؛ لأنه إذا لم يكن عارفا بالعدل لم يتمكن منه ، وإذا لم يكن معتبرا عدلا عند الناس رضيا ، لم تكن كتابته معتبرة ، ولا حاصلا بها المقصود ، الذي هو حفظ الحقوق. ومنها : أن من تمام الكتابة والعدل فيها ، أن يحسن الكاتب الإنشاء ، والألفاظ المعتبرة في كل معاملة ، بحسبها ، وللعرف في هذا المقام ، اعتبار عظيم. ومنها : أن الكتابة من نعم الله على العباد التي لا تستقيم أمورهم الدينية ولا الدنيوية إلا بها ، وأن من علمه الله الكتابة ، فقد تفضل عليه بفضل عظيم ، فمن تمام شكره لنعمة الله تعالى ، أن يقضي بكتابته حاجات العباد ، ولا يمتنع عن الكتابة ، ولهذا قال : (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ). ومنها : أن الذي يكتبه الكاتب ، هو اعتراف من عليه الحق ، إذا كان يحسن التعبير عن الحق الذي عليه ، فإن كان لا يحسن ذلك ـ لصغره ، أو سفهه ، أو جنونه ، أو خرسه ، أو عدم استطاعته ـ أملى عنه وليه ، وقام وليه في ذلك مقامه. ومنها : أن الاعتراف من أعظم الطرق ، التي تثبت بها الحقوق ، حيث أمر الله تعالى أن يكتب الكاتب ، ما أملى عليه من عليه الحق. ومنها : ثبوت الولاية على القاصرين ، من الصغار والمجانين ، والسفهاء ونحوهم. ومنها : أن الولي يقوم مقام موليه ، في جميع اعترافاته المتعلقة بحقوقه. ومنها : أن من أمنته في معاملة ، وفوّضته فيها ، فقوله في ذلك مقبول ، وهو نائب منابك ، لأنه إذا كان الولي على القاصرين ينوب منابهم ، فالذي وليته باختيارك وفوضت إليه الأمر ، أولى بالقبول ، واعتبار قوله وتقديمه على قولك عند الاختلاف. ومنها : أنه يجب على الذي عليه الحق ـ إذا أملى على الكاتب ـ أن يتقي الله ، ولا يبخس الحق الذي عليه ، فلا ينقصه في قدره ، ولا في وصفه ، ولا في شرط من شروطه ، أو قيد من قيوده ، بل عليه أن يعترف بكل ما عليه من متعلقات الحق ، كما يجب ذلك إذا كان الحق على غيره له ، فمن لم يفعل ذلك ، فهو من المطففين الباخسين. ومنها : وجوب الاعتراف بالحقوق الخفية ، وأن ذلك من أعظم خصال التقوى ، كما أن ترك الاعتراف بها من نواقض التقوى ونواقصها. ومنها : الإرشاد إلى الإشهاد في البيع ، فإن كانت في المداينات ، فحكمها حكم الكتابة كما تقدم ، لأن الكتابة هي كتابة الشهادة ، وإن كان البيع بيعا حاضرا ، فينبغي الإشهاد فيه ، ولا حرج فيه بترك الكتابة ، لكثرته وحصول المشقة فيه. ومنها : الإرشاد إلى إشهاد رجلين عدلين ، فإن لم يمكن ، أو تعذر ، أو تعسر ، فرجل وامرأتان ، وذلك شامل لجميع المعاملات ، بيوع الإدارة ، وبيوع الديون ، وتوابعها من الشروط والوثائق وغيرها. وإذا قيل : قد ثبت أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى بالشاهد الواحد مع اليمين ، والآية الكريمة ليس فيها إلا شهادة رجلين ، أو رجل وامرأتين ، قيل : الآية الكريمة ، فيها إرشاد الباري عباده إلى حفظ حقوقهم ، ولهذا أتى فيها بأكمل الطرق ، وأقواها ، وليس فيها ما ينافي ما ذكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحكم بالشاهد واليمين. فباب حفظ الحقوق في ابتداء الأمر ، يرشد فيه العبد إلى الاحتراز والتحفظ التام ، وباب الحكم بين المتنازعين ، ينظر فيه إلى المرجحات والبينات ، بحسب

١٢٩

حالها. ومنها : أن شهادة المرأتين ، قائمة مقام الرجل الواحد ، في الحقوق الدنيوية ، وأما في الأمور الدينية ـ كالرواية والفتوى ـ فإن المرأة فيه ، تقوم مقام الرجل ، والفرق ظاهر بين البابين. ومنها : الإرشاد إلى الحكمة في كون شهادة المرأتين عن شهادة الرجل ، وأنه لضعف ذاكرة المرأة غالبا ، وقوة حافظة الرجل. ومنها : أن الشاهد لو نسي شهادته ، فذكره الشاهد الآخر ، فذكر أنه لا يضر ذلك النسيان ، إذا زال بالتذكير بقوله : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) ، ومن باب أولى ، إذا نسي الشاهد ، ثم ذكر من دون تذكير ، فإن الشهادة مدارها على العلم واليقين. ومنها : أن الشهادة لا بد أن تكون عن علم ويقين ، لا عن شك ، فمتى صار عند الشاهد ريب في شهادته ـ ولو غلب على ظنه ـ لم يحل له أن يشهد إلا بما يعلم. ومنها : أن الشاهد ليس له أن يمتنع ، إذا دعي للشهادة ، سواء دعي للتحمل أو للأداء ، وأن القيام بالشهادة من أفضل الأعمال الصالحة ، كما أمر الله بها ، وأخبر عن نفعها ومصالحها. ومنها : أنه لا يحل الإضرار بالكاتب ، ولا بالشهيد ، بأن يدعيا في وقت أو حالة ، تضرهما. وكما أنه نهي لأهل الحقوق والمتعاملين ، وأن يضار الشهود والكتاب ، فإنه أيضا نهي للكاتب والشهيد ، أن يضار المتعاملين أو أحدهما. وفي هذا أيضا أن الشاهد والكاتب ـ إذا حصل عليهما ضرر في الكتابة والشهادة ـ أنه يسقط عنهما الوجوب. وفيها التنبيه على أن جميع المحسنين الفاعلين للمعروف ، لا يحل إضرارهم ، وتحميلهم ما لا يطيقون ، ف (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) (٦٠)؟ وكذلك على من أحسن وفعل معروفا ، أن يتمم إحسانه بترك الإضرار القولي والفعلي بمن أوقع به المعروف ، فإن الإحسان لا يتم إلا بذلك. ومنها : أنه لا يجوز أخذ الأجرة على الكتابة والشهادة ، حيث وجبت ، لأنه حق أوجبه الله على الكاتب والشهيد ، ولأنه من مضارة المتعاملين. ومنها : التنبيه على المصالح والفوائد المترتبة على العمل بهذه الإرشادات الجليلة ، وأن فيها حفظ الحقوق والعدل ، وقطع التنازع والسلامة من النسيان والذهول ، ولهذا قال : (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) ، وهذه مصالح ضرورية للعباد. ومنها : أن تعلم الكتابة من الأمور الدينية ، لأنها وسيلة إلى حفظ الدين والدنيا وسبب للإحسان. ومنها : أن من خصه الله بنعمة من النعم ، يحتاج الناس إليها ، فمن تمام شكر هذه النعمة ، أن يعود بها على عباد الله ، وأن يقضي بها حاجتهم ، لتعليل الله النهي عن الامتناع عن الكتابة ، بتذكير الكاتب بقوله : (كَما عَلَّمَهُ اللهُ) ، ومع هذا : «فمن كان في حاجة أخيه ، كان الله في حاجته». ومنها : أن الإضرار بالشهود والكتاب ، فسوق بالإنسان ، فإن الفسوق هو الخروج عن طاعة الله إلى معصيته ، وهو يزيد وينقص ، ويتبعض ، ولهذا لم يقل : «فأنتم فسّاق» أو «فاسقون» ، بل قال : (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) ، فبقدر خروج العبد عن طاعة ربه ، فإنه يحصل به من الفسوق ، بحسب ذلك. واستدل بقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) أن تقوى الله ، وسيلة إلى حصول العلم ، وأوضح من هذا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) ، أي : علما تفرقون به بين الحقائق والحق والباطل. ومنها : أنه كما أن من العلم النافع ، تعليم الأمور الدينية المتعلقة بالعبادات ، فمنه أيضا ، تعليم الأمور الدنيوية المتعلقة بالمعاملات ، فإن الله تعالى ، حفظ على العباد أمور دينهم ودنياهم ، وكتابه العظيم فيه تبيان كل شيء.

[٢٨٣] ومنها : مشروعية الوثيقة بالحقوق ، وهي الرهون والضمانات ، التي تكفل للعبد حصوله على حقه ، سواء عامل برا أو فاجرا ، أمينا أو خائنا ، فكم في الوثائق من حفظ حقوق ، وانقطاع منازعات. ومنها : أن تمام الوثيقة في الرهن ، أن يكون مقبوضا ، ولا يدل ذلك على أنه لا يصح الرهن إلا بالقبض ، بل التقييد بكون الرهن مقبوضا ، يدل على أنه قد يكون مقبوضا ، تحصل به الثقة التامة ، وقد لا يكون مقبوضا ، فيكون ناقصا. ومنها : أنه يستدل بقوله : (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) أنه إذا اختلف الراهن والمرتهن في مقدار الدين الذي به الرهن ، أن القول قول المرتهن ، صاحب الحق ، لأن الله جعل الرهن وثيقة به ، فلو لا أنه يقبل قوله في ذلك ، لم تحصل به الوثيقة لعدم الكتابة والشهود. ومنها : أنه يجوز التعامل بغير وثيقة ، ولا شهود ، لقوله : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ

١٣٠

أَمانَتَهُ) ، ولكن في هذه الحال يحتاج إلى التقوى والخوف من الله ، وإلا فصاحب الحق مخاطر في حقه ، ولهذا أمر الله في هذه الحال ، من عليه الحق ، أن يتّقي الله ويؤدي أمانته. ومنها : أن من ائتمنه معامله ، فقد عمل معه معروفا عظيما ، ورضي بدينه وأمانته ، فيتأكد على من عليه الحق ، أداء الأمانة من الجهتين : أداء لحق الله ، وامتثالا لأمره ، ووفاء بحق صاحبه ، الذي رضي بأمانته ، ووثق به. ومنها : تحريم كتم الشهادة ، وأن كاتمها قد أثم قلبه ، الذي هو ملك الأعضاء ، وذلك لأن كتمها ، كالشهادة بالباطل والزور ، فيها ضياع الحقوق ، وفساد المعاملات ، والإثم المتكرر في حقه ، وحق من عليه الحق. وأما تقييد الرهن بالسفر ـ مع أنه يجوز حضرا وسفرا ـ فللحاجة إليه لعدم الكاتب والشهيد. وختم الآية بأنه (عَلِيمٌ) بكل ما يعمله العباد ، كالترغيب لهم في المعاملات الحسنة ، والترهيب من المعاملات السيئة.

[٢٨٤] يخبر تعالى ، بعموم ملكه لأهل السماء والأرض ، وإحاطة علمه بما أبداه العباد ، وما أخفوه في أنفسهم ، وأنه سيحاسبهم به ، فيغفر لمن يشاء ، وهو المنيب إلى ربه ، الأواب إليه إنه (كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً).

ويعذب من يشاء ، وهو المصرّ على المعاصي ، في باطنه وظاهره. وهذه الآية لا تنافي الأحاديث الواردة في العفو ، عما حدث به العبد نفسه ، ما لم يعمل أو يتكلم ، فتلك الخطرات هي التي تتحدث بها النفوس ، التي لا يتصف بها العبد ولا يصمم عليها ، وأما هنا فهي العزائم المصممة ، والأوصاف الثابتة في النفوس ، أوصاف الخير ، وأوصاف الشر ، ولهذا قال : (ما فِي أَنْفُسِكُمْ) ، أي : استقر فيها وثبت ، من العزائم والأوصاف. وأخبر أنه (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، فمن تمام قدرته ، محاسبة الخلائق ، وإيصال ما يستحقونه من الثواب والعقاب.

[٢٨٥] ثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن من قرأ هاتين الآيتين في ليلته كفتاه ، أي : من جميع الشرور ، وذلك لما احتوتا عليه من المعاني الجليلة ، فإن الله أمر في أول هذه السورة الناس بالإيمان ، بجميع أصوله في قوله : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) ، الآية. وأخبر في هذه الآية ، أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه من المؤمنين ، آمنوا بهذه الأصول العظيمة ، وبجميع الرسل ، وجميع الكتب ، ولم يصنعوا صنيع من آمن ببعض ، وكفر ببعض ، كحالة المنحرفين من أهل الأديان المنحرفة. وفي قرن المؤمنين بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والإخبار عنهم جميعا بخبر واحد ، شرف عظيم للمؤمنين. وفيه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشارك للأمة في الخطاب الشرعي له ، وقيامه التام به ، وأنه فاق المؤمنين ، بل فاق جميع المرسلين في القيام بالإيمان وحقوقه. وقوله : (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) ، هذا التزام من المؤمنين ، عام لجميع ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكتاب والسنة ، وأنهم سمعوه سماع قبول وإذعان وانقياد ، ومضمون ذلك تضرعهم إلى الله في طلب الإعانة على القيام به ، وأن الله يغفر لهم ما قصروا فيه من الواجبات ، وما ارتكبوه من المحرمات ، وكذلك تضرعوا إلى الله في هذه الأدعية النافعة ، والله تعالى قد أجاب دعاءهم على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «قد فعلت». فهذه الدعوات مقبولة من مجموع المؤمنين قطعا ، ومن أفرادهم ، إذا لم يمنع من ذلك مانع في الأفراد ، وذلك أن الله رفع عنهم المؤاخذة في الخطأ والنسيان ، وأن الله سهل عليهم شرعه غاية التسهيل ، ولم يحملهم من المشاق ، والآصار ، والأغلال ، ما حمله على من قبلهم ، ولم يحمّلهم فوق

١٣١

طاقتهم ، وقد غفر لهم ورحمهم ، ونصرهم على القوم الكافرين. فنسأل الله تعالى ، بأسمائه وصفاته ، وبما منّ به علينا من التزام دينه ، أن يحقق لنا ذلك ، وأن ينجز لنا ما وعدنا على لسان نبيه ، وأن يصلح أحوال المؤمنين. ويؤخذ من هنا قاعدة التيسير ، ونفي الحرج في أمور الدين كلها. وقاعدة العفو عن النسيان والخطأ ، في العبادات ، وفي حقوق الله تعالى. وكذلك في حقوق الخلق من جهة رفع المأثم ، وتوجه الذم. وأما وجوب ضمان المتلفات ، خطأ أو نسيانا ، في النفوس والأموال ، فإنه مرتب على الإتلاف بغير حق ، وذلك شامل لحالة الخطأ والنسيان ، والعمد.

تم تفسير سورة البقرة ، ولله الحمد والثناء ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

سورة آل عمران

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (الم) (١) من الحروف التي لا يعلم معناها إلا الله.

[٢ ـ ٣] فأخبر تعالى أنه (الْحَيُ) كامل الحياة ، (الْقَيُّومُ) القائم بنفسه ، المقيم لأحوال خلقه ، وقد أقام أحوالهم الدينية ، وأحوالهم الدنيوية والقدرية ، فأنزل على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكتاب بالحق ، الذي لا ريب فيه ، وهو مشتمل على الحق (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب ، أي : شهد بما شهدت به ، ووافقها ، وصدق من جاء بها من المرسلين. وكذلك (أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ).

[٤] (مِنْ قَبْلُ) هذا الكتاب (هُدىً لِلنَّاسِ). وأكمل الرسالة وختمها بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكتابه العظيم الذي هدى الله به الخلق ، من الضلالات ، واستنقذهم به من الجهالات ، وفرّق به بين الحق والباطل ، والسعادة والشقاوة ، والصراط المستقيم ، وطرق الجحيم ، فالذين آمنوا به واهتدوا ، حصل لهم به الخير الكثير ، والثواب العاجل والآجل. و (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) التي بينها في كتابه وعلى لسان رسوله (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) ممن عصاه.

[٥] ومن تمام قيوميته تعالى ، أن علمه محيط بالخلائق (لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) حتى ما في بطون الحوامل.

[٦] فهو (الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) من ذكر وأنثى ، وكامل الخلق وناقصه ، متنقلين في أطوار خلقته وبديع حكمته ، فمن هذا شأنه مع عباده ، واعتناؤه العظيم بأحوالهم ، من حين أنشأهم إلى منتهى أمورهم لا مشارك له في ذلك ـ فيتعين أنه لا يستحق العبادة إلا هو. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ) الذي قهر الخلائق بقوته ، واعتز عن أن يوصف بنقص أو ينعت بذم (الْحَكِيمُ) في خلقه وشرعه.

[٧] يخبر تعالى عن عظمته ، وكمال قيوميته ، أنه هو الذي تفرد بإنزال هذا الكتاب العظيم ، الذي لم يوجد ـ ولن

١٣٢

يوجد ـ له نظير أو مقارب في هدايته ، وبلاغته وإعجازه ، وإصلاحه للخلق ، وأن هذا الكتاب يحتوي على المحكم الواضح المعاني البين ، الذي لا يشتبه بغيره ، ومنه آيات متشابهات ، تحتمل بعض المعاني ، ولا يتعين منها واحد من الاحتمالين بمجردها ، حتى تضم إلى المحكم. فالذين في قلوبهم مرض وزيغ ، وانحراف ، لسوء قصدهم ، يتبعون المتشابه منه ، فيستدلون به على مقالاتهم الباطلة ، وآرائهم الزائفة ، طلبا للفتنة ، وتحريفا لكتابه ، وتأويلا له على مشاربهم ومذاهبهم ليضلوا ويضلوا. وأما أهل العلم الراسخون فيه ، الذين وصل العلم واليقين إلى أفئدتهم ، فأثمر لهم العمل والمعارف ـ فيعلمون أن القرآن كله من عند الله ، وأنه كله حق ، محكمه ومتشابهه ، وأن الحق لا يتناقض ولا يختلف. فلعلمهم أن المحكمات ، معناها في غاية الصراحة والبيان ، يردون إليها المشتبه ، الذي تحصل فيه الحيرة لناقص العلم ، وناقص المعرفة. فيردون المتشابه إلى المحكم ، فيعود كله محكما ، ويقولون : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ) للأمور النافعة ، والعلوم الصائبة (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) ، أي : أهل العقول الرزينة. ففي هذا دليل على أن هذا ، من علامة أولي الألباب ، وأن اتباع المتشابه ، من أوصاف أهل الآراء السقيمة ، والعقول الواهية ، والقصود السيئة. وقوله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) : إن أريد بالتأويل معرفة عاقبة الأمور ، وما تنتهي إليه وتؤول ، تعين الوقوف على (إِلَّا اللهُ) حيث هو تعالى المتفرد بالتأويل بهذا المعنى ، وإن أريد بالتأويل : معنى التفسير ، ومعرفة معنى الكلام ، كان العطف أولى ، فيكون هذا مدحا للراسخين في العلم ، أنهم يعلمون كيف ينزلون نصوص الكتاب والسنة ، محكمها ومتشابهها.

[٨] ولما كان المقام مقام انقسام إلى منحرفين ومستقيمين ، دعوا الله تعالى أن يثبتهم على الإيمان ، فقالوا : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) ، أي : لا تملها عن الحق إلى الباطل. (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) ، تصلح بها أحوالنا (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) ، أي : كثير الفضل والهبات. [وهذه الآية ، تصلح مثالا للطريقة التي يتعين سلوكها في المتشابهات] (١). وذلك أن الله تعالى ذكر عن الراسخين ، أنهم يسألونه أن لا يزيغ قلوبهم ، بعد إذ هداهم ، وقد أخبر في آيات أخر عن الأسباب التي بها تزيغ قلوب أهل الانحراف ، وأن ذلك بسبب كسبهم ، كقوله : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) ، (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ). (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ). فالعبد إذا تولى عن ربه ، ووالى عدوه ، ورأى الحق ، فصدف عنه ، ورأى الباطل فاختاره ، ولاه الله ما تولى لنفسه ، وأزاغ قلبه ، عقوبة له على زيغه ، وما ظلمه الله ، ولكنه ظلم نفسه ، فلا يلم إلا نفسه الأمّارة بالسوء ، والله أعلم.

[٩] هذا من تتمة كلام الراسخين في العلم ، وهو يتضمن الإقرار بالبعث والجزاء ، واليقين التام ، وأن الله لا بد أن يوقع ما وعد به ، وذلك يستلزم موجبه ومقتضاه ، من العمل والاستعداد لذلك اليوم ، فإن الإيمان بالبعث والجزاء ، أصل صلاح القلوب ، وأصل الرغبة في الخير ، والرهبة من الشر ، اللذين هما أساس الخيرات.

__________________

(١) سقط من المطبوعة التي بين أيدينا ، وهو موافق للسياق.

١٣٣

[١٠ ـ ١١] لما ذكر يوم القيامة ، ذكر أن جميع من كفر بالله ، وكذب رسل الله ، لا بد أن يدخلوا النار ويصلوها ، وأن أموالهم وأولادهم ، لن تغني عنهم شيئا من عذاب الله ، وأنه سيجري عليهم في الدنيا من الأخذات والعقوبات ، ما جرى على فرعون وسائر الأمم المكذبة بآيات الله (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) وعجّل لهم في العقوبات الدنيوية ، متصلة بالعقوبات الأخروية. (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) ، فإياكم أن تستهينوا بعقابه ، فيهون عليكم الإقامة على الكفر والتكذيب.

وهذا خبر وبشرى للمؤمنين ، وتخويف للكافرين ، أنهم لا بد أن يغلبوا في هذه الدنيا ، وقد وقع كما أخبر الله ، فغلبوا غلبة لم يكن لها مثيل ولا نظير.

[١٢ ـ ١٣] وجعل الله تعالى ما وقع في «بدر» من آياته الدالة على صدق رسوله ، وأنه على الحق ، وأعداءه على الباطل ، حيث التقت فئتان ، فئة المؤمنين لا يبلغون إلا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا مع قلة عددهم ، وفئة الكافرين ، يناهزون الألف ، مع استعدادهم التام في السلاح وغيره ، فأيد الله المؤمنين بنصره ، فهزموهم بإذن الله ، ففي هذا عبرة لأهل البصائر. فلو لا أن هذا هو الحق الذي إذا قابل الباطل أزهقه واضمحل الباطل لكان ـ بحسب الأسباب الحسية ـ الأمر بالعكس.

[١٤] أخبر تعالى في هاتين الآيتين ، عن حالة الناس في إيثار الدنيا على الآخرة ، وبين التفاوت العظيم ، والفرق الجسيم بين الدارين ، فأخبر أن الناس زيّنت لهم هذه الأمور ، فرمقوها بالأبصار ، واستحلوها بالقلوب ، وعكفت على لذاتها النفوس ، كل طائفة من الناس تميل إلى نوع من هذه الأنواع ، قد جعلوها هي أكبر همهم ، ومبلغ علمهم ، وهي ـ مع هذا ـ متاع قليل ، منقض في مدة يسيرة. فهذا (مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ).

[١٥] ثم أخبر عن ذلك بأن المتقين لله ، القائمين بعبوديته ، لهم خير من هذه اللذات ، فلهم أصناف الخيرات ، والنعيم المقيم ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ولهم رضوان الله الذي هو أكبر من كل شيء. ولهم الأزواج المطهرة ، من كل آفة ونقص ، جميلات الأخلاق ، كاملات الخلائق ، لأن النفي يستلزم ضده ، فتطهيرها عن الآفات ، مستلزم لوصفها بالكمالات. (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) فييسر كلّا منهم لما خلق له ، أما أهل السعادة ، فييسرهم للعمل لتلك الدار الباقية ، ويأخذون من هذه الحياة الدنيا ، ما يعينهم على عبادة الله وطاعته ، وأما أهل الشقاوة والإعراض ، فيقيضهم لعمل أهل الشقاوة ، ويرضون بالحياة الدنيا ، ويطمئنون بها ، ويتخذونها قرارا.

[١٦] أي : هؤلاء الراسخون في العلم ، أهل العلم بالإيمان ، يتوسلون إلى ربهم بإيمانهم ، لمغفرة ذنوبهم ، ووقايتهم عذاب النار ، وهذا من الوسائل التي يحبها الله ، أن يتوسل العبد إلى ربه ، بما منّ به عليه من الإيمان والأعمال الصالحة ، إلى تكميل نعم الله عليه ، بحصول الثواب الكامل ، واندفاع العقاب.

١٣٤

[١٧] ثم وصفهم بأجمل الصفات : بالصبر الذي هو حبس النفوس على ما يحبه الله ، طلبا لمرضاته ، يصبرون على طاعة الله ، ويصبرون عن معاصيه ، ويصبرون على أقداره المؤلمة. وبالصدق بالأقوال والأحوال ، وهو استواء الظاهر والباطن ، وصدق العزيمة على سلوك الصراط المستقيم ، وبالقنوت الذي هو دوام الطاعة ، مع مصاحبة الخشوع والخضوع ، وبالنفقات في سبل الخيرات ، وعلى الفقراء ، وأهل الحاجات ، وبالاستغفار ، خصوصا وقت الأسحار ، فإنهم مدوا الصلاة إلى وقت السحر ، فجلسوا يستغفرون الله تعالى.

[١٨] هذه أجلّ الشهادات الصادرة من الملك العظيم ، ومن الملائكة ، وأهل العلم ، على أجل مشهود عليه ، وهو توحيد الله ، وقيامه بالقسط ، وذلك يتضمن الشهادة على جميع الشرع ، وجميع أحكام الجزاء. فإن الشرع والدين ، أصله وقاعدته ، توحيد الله وإفراده بالعبودية ، والاعتراف بانفراده ، بصفات العظمة والكبرياء ، والمجد ، والعز ، والقدرة ، والجلال ، ونعوت الجود ، والبر والرحمة والإحسان والجمال ، وبكماله المطلق الذي لا يحصي أحد من الخلق ، أن يحيطوا بشيء منه ، أو يبلغوه ، أو يصلوا إلى الثناء عليه ، والعبادات الشرعية ، والمعاملات وتوابعها ، والأمر والنهي ، كله عدل وقسط ، لا ظلم فيه ولا جور ، بوجه من الوجوه ، بل هو في غاية الحكمة والإحكام ، والجزاء على الأعمال الصالحة والسيئة ، كله قسط وعدل. (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ) فتوحيد الله ، ودينه ، وجزاؤه ، قد ثبت ثبوتا لا ريب فيه ، وهو أعظم الحقائق وأوضحها ، وقد أقام الله على ذلك من البراهين ، والأدلة ما لا يمكن إحصاؤه وعدّه. وفي هذه الآية فضيلة العلم والعلماء ؛ لأن الله خصهم بالذكر ، من دون البشر ، وقرن شهادتهم بشهادته ، وشهادة ملائكته ، وجعل شهادتهم من أكبر الأدلة والبراهين على توحيده ودينه وجزائه ، وأنه يجب على المكلفين قبول هذه الشهادة العادلة الصادقة. وفي ضمن ذلك : تعديلهم ، وأن الخلق تبع لهم ، وأنهم هم الأئمة المتبوعون ، وفي هذا من الفضل والشرف ، وعلو المكانة ، ما لا يقادر قدره.

[١٩] يخبر تعالى (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ) ، أي : الدين الذي لا دين له سواه ، ولا مقبول غيره ، هو (الْإِسْلامُ) ، وهو الانقياد لله وحده ، ظاهرا وباطنا بما شرعه على ألسنة رسله ، قال تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٨٥) ، فمن دان بغير دين الإسلام ، فهو لم يدن لله حقيقة ، لأنه لم يسلك الطريق الذي شرعه على ألسنة رسله. ثم أخبر تعالى ، أن أهل الكتاب يعلمون ذلك ، وإنما اختلفوا ، فانحرفوا عنه عنادا وبغيا ، وإلا فقد جاءهم العلم المقتضي لعدم الاختلاف ، الموجب للزوم الدين الحقيقي. ثم لما جاءهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرفوه حق المعرفة ، ولكن الحسد والبغي والكفر بآيات الله ، هي التي صدتهم عن اتباع الحق. (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) ، أي : فلينتظروا ذلك فإنه آت ، وسيجزيهم الله بما كانوا يعملون.

[٢٠] لما بين أن الدين الحقيقي عنده الإسلام ، وكان أهل الكتاب قد شافهوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمجادلة ، وقامت عليهم الحجة ، فعاندوها ، أمره الله تعالى عند ذلك ، أن يقول ويعلن : أنه أسلم وجهه ، أي : ظاهره وباطنه لله ، وأن من

١٣٥

اتبعه كذلك ، قد وافقوه على هذا الإذعان الخالص. وأن يقول للناس كلهم ، من أهل الكتاب ، والأميين ، أي : الذين ليس لهم كتاب ، من العرب وغيرهم : إن أسلمتم فأنتم على الطريق المستقيم ، والهدى والحق ، وإن توليتم فحسابكم على الله ، وأنا ليس علي إلا البلاغ ، وقد أبلغتكم وأقمت عليكم الحجة.

[٢١] أي الذين جمعوا بين هذه الشرور : الكفر بآيات الله ، وتكذيب رسل الله ، والجناية العظيمة على أعظم الخلق حقا على الخلق وهم الرسل ، وأئمة الهدى ، الذين يأمرون الناس بالقسط ، الذي اتفقت عليه الأديان والعقول.

[٢٢] فهؤلاء قد (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) ، واستحقوا العذاب الأليم ، وليس لهم ناصر من عذاب الله ، ولا منقذ من عقوبته.

[٢٣] أي : ألا تنظر وتعجب من هؤلاء (الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) ، و (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ) الذي يصدق ما أنزله على رسله. (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن اتباع الحق ، فكأنه قيل : أي داع دعاهم إلى هذا الإعراض ، وهم أحق بالاتباع ، وأعرفهم بحقيقة ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فذكر لذلك سببين : أمنهم ، وشهادتهم الباطلة لأنفسهم بالنجاة ، وأن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة حددوها بحسب أهوائهم الفاسدة ، كأن تدبير الملك راجع إليهم ، حيث قالوا : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) ، ومن المعلوم أن هذه أماني باطلة ، شرعا وعقلا. والسبب الثاني : أنهم لما كذبوا بآيات الله وافتروا عليه ، زين لهم الشيطان سوء عملهم ، واغتروا بذلك ، وتراءى لهم أنه الحق ، عقوبة لهم على إعراضهم عن الحق ، فهؤلاء كيف يكون حالهم ـ إذا جمعهم الله يوم القيامة ، ووفى العاملين ما عملوا ، وجرى عدل الله في عباده ، فهنالك لا تسأل عما يصلون إليه من العقاب ، وما يفوتهم من الخير والثواب ، وذلك بما كسبت أيديهم : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

[٢٦] يأمر تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصلا ، وغيره تبعا ـ أن يقول عن ربه ، معلنا بتفرده بتصريف الأمور ، وتدبير العالم العلوي والسفلي ، واستحقاقه باختصاصه بالملك المطلق ، والتصريف المحكم ، وأنه يؤتي الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويعز من يشاء ، ويذل من يشاء. فليس الأمر بأماني أهل الكتاب ، ولا غيرهم ، بل الأمر أمر الله ، والتدبير له ، فليس له معارض في تدبيره ، ولا معاون في تقديره ، وأنه كما أنه المتصرف بمداولة الأيام بين الناس ، فهو المتصرف بنفس الزمان. وقوله : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) ، أي : الخير كله منك ، ولا يأتي بالحسنات والخيرات إلا الله ، وأما الشر ، فإنه لا يضاف إلى الله تعالى ، لا وصفا ، ولا اسما ، ولا فعلا ، ولكنه يدخل في مفعولاته ، ويندرج في قضائه وقدره. فالخير والشر ، كله داخل في القضاء والقدر ، فلا يقع في ملكه إلا ما شاءه ، ولكن الشر لا يضاف إلى الله ، فلا يقال : «بيدك الخير والشر» ، بل يقال : «بيدك الخير» كما قاله الله ، وقاله رسوله. وأمّا استدراك بعض المفسرين حيث قال : «وكذلك الشر بيد الله» فإنه وهم محض ، ملحظهم ، حيث ظنوا أن تخصيص الخير بالذكر ، ينافي قضاءه وقدره العام ، وجوابه ما فصلنا.

[٢٧] يولج النهار في الليل ، ويولج الليل في النهار ، أي : يدخل هذا على هذا ، ويحل هذا محل هذا ، ويزيد في

١٣٦

هذا ما ينقص من هذا ، ليقيم بذلك مصالح خلقه. ويخرج الحي من الميت ، كما يخرج الزروع والأشجار المتنوعة من بذورها ، والمؤمن من الكافر ، والميت من الحي. كما يخرج الحبوب والنوى ، والزروع من الأشجار ، والبيضة من الطائر ، فهو الذي يخرج المتضادات ، بعضها من بعض ، وقد انقادت له جميع العناصر. وقوله : (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) ، قد ذكر الله في غير هذه الآية الأسباب التي ينال بها رزقه كقوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ). (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ). فعلى العباد أن لا يطلبوا الرزق ، إلا من الله ، ويسعوا فيه بالأسباب التي يسرها الله وأباحها.

[٢٨] هذا نهي من الله ، وتحذير للمؤمنين ، أن يتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، فإن المؤمنين بعضهم أولياء بعض ، والله وليهم. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) التولي (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) ، أي : فهو بريء من الله ، والله بريء منه ، كقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ). وقوله : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) ، أي : إلا أن تخافوا على أنفسكم في إبداء العداوة للكافرين ، فلكم ـ في هذه الحال ـ الرخصة في المسالمة والمهادنة ، لا في التولي الذي هو محبة القلب ، الذي تتبعه النصرة. (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) ، أي : فخافوه واخشوه ، وقدموا خشيته على خشية الناس ، فإنه هو الذي يتولى شؤون العباد ، وقد أخذ بنواصيهم ، وإليه يرجعون وسيصيرون إليه ، فيجازي من قدم حقوقه ورجاءه ، على غيره بالثواب الجزيل ، ويعاقب الكافرين ، ومن تولاهم بالعذاب الوبيل.

[٢٩] يخبر تعالى بإحاطة علمه بما في الصدور ، سواء أخفاه العباد ، أو أبدوه ، كما أن علمه محيط بكل شيء ، في السماء والأرض ، فلا تخفى عليه خافية. ومع إحاطة علمه ، فهو العظيم القدير على كل شيء ، الذي لا يمتنع عن إرادته موجود.

[٣٠] ولما ذكر لهم من عظمته وسعة أوصافه ، ما يوجب للعباد أن يراقبوه في كل أحوالهم ، ذكر لهم أيضا ، داعيا آخر إلى مراقبته وتقواه ، وهو أنهم كلهم صائرون إليه ، وأعمالهم ـ حينئذ ، من خير وشر ـ محضرة. فحينئذ يغتبط أهل الخير ، بما قدموا لأنفسهم ، ويتحسر أهل الشر إذا وجدوا ما عملوه محضرا ويودون أن بينهم وبينه أمدا بعيدا. فإذا عرف العبد أنه ساع إلى ربه ، وكادح في هذه الحياة ، وأنه لا بد أن يلاقي ربه ، ويلاقي سعيه ، أوجب له أخذ الحذر ، والتوقي من الأعمال التي توجب الفضيحة والعقوبة ، والاستعداد بالأعمال الصالحة ، التي توجب السعادة والمثوبة ، ولهذا قال تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) ، وذلك بما يبدي لكم من أوصاف عظمته ، وكمال عدله وشدة نكاله ، ومع شدة عقابه ، فإنه رؤوف رحيم. ومن رأفته ورحمته ، أنه خوّف العباد ، وزجرهم عن الغي والفساد ، كما قال تعالى ـ لما ذكر العقوبات ـ : (ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) ، فرأفته ورحمته ، سهّلت لهم الطرق ، التي ينالون بها الخيرات ، ورأفته ورحمته ، حذرتهم من الطرق التي تقضي بهم إلى المكروهات. فنسأله تعالى أن يتمم علينا إحسانه بسلوك الصراط المستقيم ، والسلامة من الطرق ، التي تفضي بسالكها إلى الجحيم.

١٣٧

[٣١] هذه الآية هي الميزان ، التي يعرف بها من أحب الله حقيقة ، ومن ادعى ذلك دعوى مجردة ، فعلامة محبة الله ، اتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الذي جعل متابعته وجميع ما يدعو إليه ، طريقا إلى محبته ورضوانه ، فلا تنال محبة الله ورضوانه وثوابه ، إلا بتصديق ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وامتثال أمرهما ، واجتناب نهيهما. فمن فعل ذلك ، أحبه الله ، وجازاه جزاء المحبين ، وغفر له ذنوبه ، وستر عليه عيوبه ، فكأنه قيل : ومع ذلك ، فما حقيقة اتباع الرسول وصفتها؟

[٣٢] فأجاب بقوله : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) بامتثال الأمر ، واجتناب النهي ، وتصديق الخبر ، (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن ذلك ، فهذا هو الكفر ، والله (لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ).

[٣٣] لله تعالى من عباده أصفياء ، يصطفيهم ويختارهم ، ويمن عليهم بالفضائل العالية ، والنعوت السامية ، والعلوم النافعة ، والأعمال الصالحة ، والخصائص المتنوعة ، فذكر هذه البيوت الكبار ، وما احتوت عليه من كملة الرجال ، الذين حازوا أوصاف الكمال ، وأن الفضل والخير ، تسلسل في ذراريهم وشمل ذكورهم ونساءهم ، وهذا من أجلّ مننه وأفضل مواقع جوده وكرمه. (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يعلم من يستحق الفضل والتفضيل ، فيضع فضله حيث اقتضت حكمته.

[٣٥ ـ ٣٦] فلما قرر عظمة هذه البيوت ، ذكر قصة مريم وابنها عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكيف تسلسلا من هذه البيوت الفاضلة ، وكيف تنقلت بهما الأحوال ، من ابتداء أمرهما إلى آخره ، وأن امرأة عمران ، قالت ـ متضرعة إلى ربها ، متقربة إليه بهذه القربة التي يحبها ، التي فيها تعظيم بيته وملازمة طاعته ـ : (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) ، أي : خادما لبيت العبادة ، المشحون بالمتعبدين. (فَتَقَبَّلْ مِنِّي) هذا العمل ، أي : اجعله مؤسسا على الإيمان والإخلاص ، مثمرا للخير والثواب ، (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى). كان في هذا الكلام ، نوع تضرع منها ، وانكسار نفس حيث كان نذرها بناء على أنه يكون ذكرا ، يحصل منه من القوة والخدمة والقيام بذلك ، ما يحصل من أهل القوة ، والأنثى بخلاف ذلك ، فجبر الله قلبها ، وتقبل الله نذرها ، وصارت هذه الأنثى ، أكمل وأتم من كثير من الذكور ، بل من أكثرهم ، وحصل بها من المقاصد ، أعظم مما يحصل بالذكر ، ولهذا قال : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) ، أي : ربيت تربية عجيبة ، دينية ، أخلاقية ، أدبية ، كملت بها أحوالها ، وصلحت بها أقوالها وأفعالها ، ونما فيها كمالها ، ويسر الله لها زكريا كافلا. وهذا من منة الله على العبد ، أن يجعل من يتولى تربيته من الكاملين المصلحين.

[٣٨ ـ ٣٩] ثم إن الله تعالى أكرم مريم وزكريا ، حيث يسر لمريم من الرزق الحاصل بلا كد ولا تعب ، وإنما هو كرامة أكرمها الله به. إذ (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) وهو محل العبادة ، وفيه إشارة إلى كثرة صلاتها وملازمتها لمحرابها ، (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) هنيئا معدا. (قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ). فلما رأى زكريا هذه الحال ، والبر واللطف من الله بها ، ذكره أن يسأل الله تعالى حصول الولد ، على حين اليأس منه ، فقال : (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ

١٣٨

يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) ، أي : اسمه : الكلمة التي من الله «عيسى ابن مريم». فكانت بشارته بهذا النبي الكريم ، تتضمن البشارة ب «عيسى» ابن مريم ، والتصديق له ، والشهادة له بالرسالة. فهذه الكلمة من الله ، كلمة شريفة ، اختص الله بها عيسى ابن مريم ، وإلا فهي من جملة كلماته التي أوجد بها المخلوقات ، كما قال تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٥٩). وقوله : (وَسَيِّداً وَحَصُوراً) ، أي : هذا المبشر به وهو يحيى ، سيد من فضلاء الرسل وكرامهم : «والحصور» ، قيل : هو الذي لا يولد له ، ولا شهوة له في النساء ، وقيل : هو الذي عصم وحفظ من الذنوب والشهوات الضارة ، وهذا أليق المعنيين. (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) ، الذين بلغوا في الصلاح ذروته العالية.

[٤٠] (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) ، فهذان مانعان ، فمن أي طريق ـ يا رب ـ يحصل لي ذلك ، مع ما ينافي ذلك؟ (قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) ، فإنه ـ كما اقتضت حكمته جريان الأمور بأسبابها المعروفة ، فإنه قد يخرق ذلك ، لأنه الفعال لما يريد ، الذي قد انقادت الأسباب لقدرته ، ونفذت فيها مشيئته وإرادته ، فلا يتعاصى على قدرته شيء من الأسباب ، ولو بلغت في القوة ، ما بلغت.

[٤١] (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) ليحصل السرور والاستبشار ، وإن كنت ـ يا رب ـ متيقنا ما أخبرتني به ، ولكن النفس تفرح ، ويطمئن القلب إلى مقدمات الرحمة واللطف. (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً ، وَ) في هذه المدة (اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) ، أول النهار وآخره. فمنع من الكلام في هذه المدة ، فكان في هذا ، مناسبة لحصول الولد من بين الشيخ الكبير ، والمرأة العاقر. وكونه لا يقدر على مخاطبة الآدميين ، ولسانه منطلق بذكر الله ، وتسبيحه ، آية أخرى. فحينئذ حصل له الفرح والاستبشار ، وشكر الله ، وأكثر من الذكر والتسبيح بالعشايا والأبكار. وكان هذا المولود من بركات مريم بنت عمران ، على زكريا ، فإن ما منّ الله به عليها ، من ذلك الرزق الهني ، الذي يحصل بغير حساب ، ذكره وهيجه على التضرع والسؤال ، والله تعالى هو المتفضل بالسبب والمسبب ، ولكنه يقدر أمورا محبوبة على يد من يحبه ، ليرفع الله قدره ، ويعظم أجره.

[٤٢] ثم عاد تعالى إلى ذكر مريم ، وأنها بلغت في العبادة والكمال ، مبلغا عظيما ، فقال تعالى : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ) ، أي : اختارك ، ووهب لك من الصفات الجليلة ، والأخلاق الجميلة.

(وَطَهَّرَكِ) من الأخلاق الرذيلة ، (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، وخديجة بنت خويلد ، وفضل عائشة على النساء ، كفضل الثريد على سائر الطعام».

[٤٣] فنادتها الملائكة عن أمر الله لها بذلك ، لتغتبط بنعم الله ، وتشكر الله ، وتقوم بحقوقه ، وتشتغل بخدمته ، ولهذا قالت الملائكة : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) ، أي : أكثري من الطاعة ، والخضوع والخشوع لربك ، وأديمي ذلك

١٣٩

(وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) ، أي : صلي مع المصلين ، فقامت بكل ما أمرت به ، وبرزت ، وفاقت في كمالها. ولما كانت هذه القصة وغيرها من أكبر الأدلة على رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث أخبر بها مفصلة محققة ، لا زيادة فيها ولا نقص ، وما ذاك إلا لأنه وحي من الله العزيز الحكيم ، لا بتعلم من الناس ـ قال تعالى ـ : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) ، حيث جاءت بها أمها ، فاختصموا أيهم يكفلها ، لأنها بنت إمامهم ومقدمهم ، وكلهم يريد الخير والأجر من الله ، حتى وصلت بهم الخصومة إلى أن اقترعوا عليها ، فألقوا أقلامهم مقترعين ، فأصابت القرعة زكريا ، رحمة من الله به وبها. فأنت ـ يا أيها الرسول ـ لم تحضر تلك الحالة لتعرفها ، فتقصها على الناس ، وإنما الله نبأك بها ، وهذا هو المقصود الأعظم من سياق القصص أنه يحصل بها العبرة ، وأعظم العبر ، الاستدلال بها على التوحيد والرسالة ، والبعث وغيرها من الأصول الكبار.

[٤٥] (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (٤٥) ، أي : له الوجاهة ، والجاه العظيم في الدنيا والآخرة عند الخلق. ومع ذلك فهو ـ عند الله ـ من المقربين ، الذين هم أقرب الخلائق إلى الله ، وأعلاهم درجة ، وهذه بشارة لا يشبهها شيء من البشارات.

[٤٦] ومن تمام هذه البشارة أنه : (يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) ، فيكون تكليمه آية من آيات الله ، ورحمة منه بأمه وبالخلق ، وكذلك يكلمهم (كَهْلاً) ، أي : في حال كهولته ، وهذا تكليم النبوة والدعوة والإرشاد. فكلامه في المهد ، فيه آيات وبراهين على صدقه ونبوته ، وبراءة أمه مما يظن بها من الظنون السيئة ، وكلامه في كهولته ، فيه نفعه العظيم للخلق ، وكونه واسطة بينهم وبين ربهم ، في وحيه ، وتبليغ دينه وشرعه. ومع ذلك فهو (مِنَ الصَّالِحِينَ) الذين أصلح الله قلوبهم بمعرفته وحبه ، وألسنتهم بالثناء عليه وذكره ، وجوارحهم بطاعته وخدمته.

[٤٧] (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) ، وهذا من الأمور المستغربة (قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) ليعلم العباد أنه على كل شيء قدير ، وأنه لا ممانع لإرادته. (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

[٤٨] (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ) ، أي : جنس الكتب السابقة ، والحكم بين الناس ، ويعطيه النبوة.

[٤٩] (وَ) يجعله (رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) ، ويؤيده بالآيات البينات ، والأدلة القاهرة حيث قال : (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) تدلكم أني رسول الله حقا. وذلك (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) ، وهو ممسوح العينين ، الذي فقد بصره وعينيه ، (وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور (لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

[٥٠] (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) ، فأيّده الله بجنسين من الآيات والبراهين والخوارق المستغربة التي لا يمكن لغير الأنبياء الإتيان بها ، والرسالة والدعوة ، والدين الذي جاء به ، وأنه دين التوراة ، ودين الأنبياء السابقين ، وهذا أكبر الأدلة على صدق الصادقين. فإنه لو كان من الكاذبين ، لخالف ما جاءت به الرسل ، ولناقضهم

١٤٠