تفسير ابن عربي - ج ١

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ١

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٥
الجزء ١ الجزء ٢

في أيديكم يضيّق عليكم ويقتر ، وإن تجودوا يوسع عليكم بحسب جودكم كما ورد في الحديث : «تنزل المعونة على قدر المؤونة».

[٢٤٦ ـ ٢٥٤] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤))

(طالُوتَ) كان رجلا فقيرا ، لا نسب له ، ولا مال ، فما قبلوه للملك. لأن استحقاق الملك والرياسة عند العامة إنما هو بالسعادة الخارجية التي هي المال والنسب ، فنبّه نبيهم على أن الاستحقاق إنما يكون بالسعادتين الأخريين : الروحانية التي هي العلم. والبدنية : التي هي زيادة القوى وشدّة البنية والبسطة ، بقوله : (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) والله أعلم بمن

٨١

يستحق الملك فيؤتيه (مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ) كثير العطاء ، يؤتي المال كما يؤتي الملك (عَلِيمٌ) بمن له الاستحقاق وما يحتاج إليه من المال الذي يعتضد به ، فيعطيه. ثم بيّن أن استحقاق الملك له علامة أخرى وهي : إذعان الخلق له ، ووقوع هيبته ووقاره في القلوب ، وسكون قلوبهم إليه ، ومحبتهم له ، وقبولهم لأمره على الطاعة والانقياد. وهو الذي كان يسميه الأعاجم من قدماء الفرس «خوره». وما يختص بالملوك كيان خوره ، ثم من بعدهم سموه «فر» فقالوا : كان فر للملك في أفريدون ، وذهب عن كيكاؤوس فر الملك ، فطلبوا من له الفر ، فوجدوا للملك المبارك كيخسرو وسمّاه «التابوت» أي : ما يرجع إليه من الأمور. لأنّ التابوت فعلوت من التوب ، أي : يأتيكم من جهته ما يرجع في ثبوت ملكه من الإذعان والطاعة والانقياد والمحبة له بإلقاء الله له ذلك في قلوبكم ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نصرت بالرعب مسيرة شهر».

أو ما يرجع إليه من الحالة النفسانية ، والهيئة الشاهدة له على صحة ملكه (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : ما تسكن قلوبكم إليه (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) في أولادهم من المعنى المسمّى «فر» وهو نور ملكوتيّ تستضيء به النفس باتصالها بالملكوت السماوية ، واستفاضتها ذلك من عالم القدرة مستلزم لحصول علم السياسة وتدبير الملك والحكمة المزيّنة لها (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) أي : ينزل إليكم بتوسط الملائكة السماوية. ويمكن أنه كان صندوقا فيه طلسم من باب نصرة الجيش وغيره من الطلسمات التي تذكر أنها للملك على ما يرى من أنه كان فيه صورة لها رأس كرأس الآدمي والهرّ ، وذنب كذنبه كالذي كان في عهد أفريدون المسمى «درفش كاويان».

(إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) هو منهل الطبيعة الجسمانية (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) أي : من كرع فيه مفرطا في الريّ منه. لأنّ أهل الطبيعة وعبدة الشهوات أذلّ وأعجز خلق الله ، لا قوّة لهم بقتال جالوت النفس الأمّارة ، ولا بجالوت عدّو الدين ، إذ لا حمية لهم ولا تشدّد (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) أي : إلا من اقتنع منه بقدر الضرورة والاحتياج من غير حرص وانهماك فيه (فَشَرِبُوا مِنْهُ) أي : كرعوا فيه وانهمكوا (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) إذ المتنزهون عن الأقذار الطبيعية ، المتقدّسون عن ملابسها ، المتجرّدون عن غواشيها قليلون بالنسبة إلى من عداهم. قال الله تعالى : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) (١) ، (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (٢) وهم الذين آمنوا معه من أهل اليقين الذين كانوا يعلمون بنور يقينهم أن الغلبة ليست بالكثرة ، بل بالنصرة الإلهية ، فصبروا على ما عاينوا بقوّة يقينهم ، فظفروا.

__________________

(١) سورة ص ، الآية : ٢٤.

(٢) سورة سبأ ، الآية : ١٣.

٨٢

وقلّ من جدّ في أمر يطالبه

واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر

[٢٥٥] (اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥))

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في الوجود ، فكلّ ما عبد دونه لم تقع العبادة إلا له ، علم أو لم يعلم ، إذ لا معبود ولا موجود سواه (الْحَيُ) الذي حياته عين ذاته ، وكلّ ما هو حيّ لم يحيى إلا بحياته (الْقَيُّومُ) الذي يقوم بنفسه ويقوم كلّ ما يقوم به. فلو لا قيامه ما قام شيء في الوجود (لا تَأْخُذُهُ) غفوة ونعاس ، كما يعتري الأحياء من غير قصدهم. فإنّ ذلك لا يكون إلا لمن حياته عارضة ، فتغلبه الطبيعة بالحالة الذاتية طلبا للهدوء والراحة والإبدال عن تحليل اليقظة. فأمّا من حياته عين ذاته ، فلا يمكن له ذلك. وبين كون حياته غير عارضة بقوله (وَلا نَوْمٌ) فإنّ النوم ينافي كون الحياة ذاتية ، لأنه أشبه شيء بالموت. ولهذا قيل : النوم أخو الموت. ومن لا نوم له لذاته ، لمنافاة كون الحياة غير ذاته ، فلا سنة له ، إذ السنة من مقدّماته وآثاره كما تقول : ليس له ضحك ولا تعجب ، وقوله : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) بيان لقيوميته (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) نواصيهم بيده ، يفعل بهم ما يشاء. (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) إذ كلهم له وبه يتكلم من يتكلم به وبكلامه ، فكيف يتكلم بغير إذنه وإرادته (يَعْلَمُ) ما قبلهم وما بعدهم ، فكيف بهم وبحالهم. أي : علمه شامل للأزمنة والأشخاص والأحوال كلها ، فيعلم المستحق للشفاعة ، وغير المستحق لها (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) أي : بما اقتضت مشيئته أن يعلمهم ، فعلم كلّ ذي علم شيء من علمه ظهر على ذلك المظهر ، كما قالت الملائكة : (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) (١).

(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي : علمه ، إذ الكرسيّ مكان العلم الذي هو القلب. كما قال أبو يزيد البسطامي رحمة الله عليه : لو وقع العالم وما فيه ألف ألف مرّة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحسّ به لغاية سعته. ولهذا قال الحسن : كرسيه : عرشه ، مأخوذ من قوله عليه‌السلام : «قلب المؤمن من عرش الله». والكرسي في اللغة : عرش صغير لا يفضل عن مقعد القاعد ، شبه القلب به تصويرا وتخييلا لعظمته وسعته. وأما العرش المجيد الأكبر فهو الروح الأول وصورتهما ومثالهما في الشاهد الفلك الأعظم ، والثامن المحيط بالسموات السبع وما فيهنّ (وَلا يَؤُدُهُ) أي : ولا يثقله (حِفْظُهُما) لأنهما غير موجودين بدونه ليثقله حملهما ، بل العالم المعنوي كله باطنه والصوريّ ظاهره ، فلا وجود لهما إلا به وليس

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٣٢.

٨٣

غيره. (وَهُوَ الْعَلِيُ) الشأن الذي لا يعلوه شيء وهو يعلو كل شيء ، ويقهره بالفناء (الْعَظِيمُ) الذي لا يتصوّر كنه عظمته ، وكل عظمة تتصور لشيء فهي رشحة من عظمته ، وكل عظيم فبنصيب من عظمته وحصة منها عظيمة. فالعظمة مطلقا له دون غيره ، بل كلها له ، ليس لغيره فيها نصيب. وهي أعظم آية في القرآن لعظم مدلولها.

[٢٥٦] (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦))

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) لأن الدين في الحقيقة هو الهدى المستفاد من النور القلبي ، اللازم للفطرة الإنسانية ، المستلزم للإيمان اليقيني. كما قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (١) ، والإسلام الذي هو ظاهر الدين مبتن عليه وهو أمر لا مدخل للإكراه فيه. والدليل على أنّ باطن الدين وحقيقته الإيمان كما أن ظاهره وصورته الإسلام ما بعده (قَدْ تَبَيَّنَ) أي تميز (الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) بالدلائل الواضحة لمن له بصيرة وعقل ، كما قيل : قد أضاء الصبح لذي عينين.

(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) أي : ما سوى الله وينفي وجوده وتأثيره (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) إيمانا شهوديا حقيقيا (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي : تمسك بالوحدة الذاتية التي وثوقها وإحكامها بنفسها ، فلا شيء أوثق منها ، إذ كلّ وثيق بها موثوق ، بل كل وجود بها موجود وبنفسه معدوم ، فإذا اعتبر وجوده فله انفصام في نفسه لأن الممكن وثاقته ووجوده بالواجب ، فإذا قطع النظر عنه فقد انقطع وجود ذلك الممكن ولم يكن في نفسه شيئا. ولا يمكن انفصامه عن وجود عين ذاته ، إذ ليس فيه تجزؤ واثنينية ، وفي الانفصام لطيفة وهو أنه انكسار بلا انفصال. ولما لم ينفصل شيء من الممكنات من ذاته تعالى ، ولم يخرج منه ، لأنه إما فعله وإما صفته ، فلا انفصال قطعا ، بل إذا اعتبره العقل بانفراده كان منفصما ، أي : منقطع الوجود متعلقا وجوده بوجوده تعالى (وَاللهُ سَمِيعٌ) يسمع قول ذوي دين (عَلِيمٌ) بنياتهم وإيمانهم.

[٢٥٧] (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧))

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) متولي أمورهم ومحبتهم (يُخْرِجُهُمْ) من ظلمات صفات النفس وشبه الخيال والوهم ، إلى نور اليقين والهدى وفضاء عالم الروح (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ) ما يعبدون من دون الله (يُخْرِجُونَهُمْ) من نور الاستعداد والهداية الفطرية إلى ظلمات صفات النفس والشكوك والشبهات.

__________________

(١) سورة الروم ، الآية : ٣٠.

٨٤

[٢٥٨ ـ ٢٦٠] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠))

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) أي : أرأيت مثل الذي مرّ على قرية باد أهلها ، وسقطت سقوفها ، وخرّت جدرانها عليها ، فتعجب من إحيائها لكونه طالبا سالكا لم يصل إلى مقام اليقين بعد ، ولم يستعد لقبول نور تجلّي اسم المحيي ـ والمشهور أنه كان عزير ـ (فَأَماتَهُ اللهُ) أي : فأبقاه على موت الجهل. كما قال : (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) (١) على قول ، وقال تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) (٢). (مِائَةَ عامٍ) يمكن أن يكون العام في عهدهم كان مبنيا على دور القمر ، فيكون ثمانية أعوام وأربعة أشهر ، وأن يكون مبنيا على فصول السنة فيكون خمسة وعشرين سنة ، وأن تكون أعمارهم في ذلك الزمان كانت طويلة (ثُمَّ بَعَثَهُ) بالحياة الحقيقية وطلب منه الوقوف على مدّة اللبث فما ظنها إلا يوما أو بعض يوم ، استصغار المدة اللبث في موت الجهل المنقضية بالنسبة إلى الحياة الأبدية ولعدم شعوره بمرور المدة كالنائم الغافل عن الزمان ومروره. ثم لما تفكّر نبّهه الله تعالى على طول مدة الجهل وموت الغفلة ، بأنه مائة عام ، أو أماته بالموت الإراديّ في إحدى المدد المذكورة ، فتكون المدة زمان رياضته وسلوكه ومجاهدته في سبيل الله ، أو أماته حتف أنفه بالموت الطبيعي فتعلق روحه ببدن آخر من جنسه لاكتساب الكمال إما بعد زمان وإما في الحال حتى مرّ عليه إحدى المدد الثلاث المذكورة ، وهو لا يطّلع على حاله فيها ، ولم يشعر بمبدئه ومعاده وكان ميتا ثمّ بالحياة الحقيقية فاطلع بنور العلم على حاله وعرف مبدأه ومعاده.

وقوله : (لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) كقوله تعالى :

__________________

(١) سورة غافر ، الآية : ١١.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٢٨.

٨٥

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) (١) ، وقوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦)) (٢) ، وقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) (٣) كل ذلك لغفلتهم عن مرور الزمان وكذا مفارق أخا أو مصاحبا أو شيئا آخر إذا أدرك الوصال بعد طول مدة الفراق كأن تلك المدة حينئذ لم تكن ، إذ لا يحس بها بعد مضيها وإن قاساها قبل الوصال (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) قيل : طعامه التين والعنب ، وشرابه الخمر واللبن. فالتين إشارة إلى المدركات الكلية لكونه لبا كله ، وكون الجزئيات فيها بالقوة ، كالحبات التي في التين ، والعنب إشارة إلى الجزئيات لبقاء اللواحق الماديّة معها في الإدراك كالثجير والعجم. واللبن إشارة إلى العلم النافع كالشرائع. والخمر إشارة إلى العشق والإرادة وعلوم المعارف والحقائق. لم يتسنه أي : لم يتغير عما كان في الأزل بحسب الفطرة مودعا فيك ، فإن العلوم مخزونة في كل نفس بحسب استعدادها ، كما قال عليه‌السلام : «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة». فإن حجبت بالموادّ وخفيت مدّة بالتقلّب في البرازخ وظلماتها ، لم تبطل ولم تتغير عن حالها. حتى إذا رفع الحجاب بصفاء القلب ظهرت كما كانت ، ولهذا قال عليه‌السلام : «الحكمة ضالّة المؤمن».

(وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) أي : بدنك بحاله على الوجه الأول والثاني ، وكيف نخرت عظامه وبليت على الوجه الثالث (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) أي : ولنجعلك دليلا للناس على البعث ، بعثناك (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) أي : نرفعها (ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) على كلا الوجهين ظاهر ، فإنه إذا بعث وعلم حاله وتجرّده عن البدن علم تركيب بدنه برفع العظام وجمعها وكسوتها لحما (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) ذلك البعث والنشور (قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌوَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) أي : بلغني إلى مقام العيان من مقام العلم الإيقاني. ولهذا قرر إيمانه بهمزة الاستفهام التقريرية.

ف (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) أي : أو لم تعلم ذلك يقينا؟ ، وأجاب إبراهيم عليه‌السلام بقوله : (بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أي : ليسكن وتحصل طمأنينته بالمعاينة ، فإنّ عين اليقين إنما يوجب الطمأنينة لا علمه (قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) أي : القوى الأربعة التي تمنعه عن مقام العيان وشهود الحياة الحقيقية. وقيل : كانت طاوسا وديكا وغرابا وحمامة. وفي رواية بطّة ، فالطاوس هو العجب ، والديك الشهوة ، والغراب الحرص ، والحمامة حبّ الدنيا لتألفها وكرها وبرجها. والظاهر أنها بطة فتكون إشارة إلى الشره الغالب عليها (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أي :

__________________

(١) سورة يونس ، الآية : ٤٥.

(٢) سورة النازعات ، الآية : ٤٦.

(٣) سورة الروم ، الآية : ٥٥.

٨٦

أملهنّ واضممهنّ إليك بضبطها ومنعها عن الخروج إلى طلب لذاتها والنزوع إلى مألوفاتها. وقيل : أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويخلط لحومها ودماءها بالدق ويحفظ رؤوسها عنده ، أي : يمنعها عن أفعالها ويزيل هيئاتها عن النفس ، ويقمع دواعيها وطبائعها وعاداتها بالرياضة ، ويبقي أصولها فيه.

(ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) أي : من الجبال التي بحضرتك ، وهي العناصر الأربعة التي هي أركان بدنه ، أي : اقمعها وأمتها حتى لا يبقى إلا أصولها المركوزة في وجودك وموادّها المعدّة في طبائع العناصر التي فيك. كانت الجبال سبعة ، فعلى هذا يشير بها إلى الأعضاء السبعة التي هي أجزاء البدن (ثُمَّ ادْعُهُنَ) أي : أنها إذا أنت حييت بحياتها كانت غير طيعة مستولية عليك ، وحشية ممتنعة عن قبول أمرك ، فإذا قتلتها كنت حيا بالحياة الحقيقية الموهوبة بعد الفناء والمحو. فتصير هي حيّة بحياتك لا بحياتها ، حياة النفس مطيعة لك منقادة لأمرك فإذ دعوتها (يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على قهر النفوس (حَكِيمٌ) لا يقهرها إلا بحكمة. ويمكن حمله على حشر الوحوش والطيور ، وعلى هذا فيكون جعل أجزائها على الجبال تغذية الجسم بها ودعاؤه وإتيانه إليه ساعية توجهها إلى الإنسان بعد النشور.

[٢٦١ ـ ٢٦٢] (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢))

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) ذكر سبحانه ثلاث إنفاقات وفاضل بينها في الجزاء ، أولها : الإنفاق في سبيل الله وهو إنفاق في عالم الملك عن تجلي الأفعال يعطيه صاحبه ليثيبه الله تعالى ، فأثابه سبعمائة أضعاف ما أعطى ثم زاد في الأضعاف إلى ما لا يتناهى بحسب المشيئة لأنّ يده تعالى أبسط وأطول من يده بما لا يتناهى. (وَاللهُ واسِعٌ) كثير العطاء ، لا يتقدّر بأعطيتنا عطاؤه (عَلِيمٌ) بنيّات المعطين واعتقاداتهم أنه من فضل الله تعالى ، فيثيبهم على حسب ذلك. وثانيها : الإنفاق عن مقام مشاهدة الصفات على ما سيأتي ، وهو الإنفاق لطلب رضاء الله كما أن الأولى هو الإنفاق لطلب عطاء الله. وثالثها : الإنفاق بالله ، وهو عن مقام شهود الذات (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً) نبّه على أن الإنفاق يبطله المنّ والأذى ، لأن الإنفاق إنما يكون محمودا لثلاثة أوجه : كونه موافقا للأمر بالنسبة إلى الله تعالى ، وكونه مزيلا لرذيلة البخل بالنسبة إلى نفس المنفق ، وكونه نافعا مريحا بالنسبة إلى

٨٧

المستحق. فإذا منّ صاحبه فقد خالف أمر الله لأنه منهيّ وظهرت نفسه بالاستطالة والاعتداد بالنعمة والعجب والاحتجاب بفعلها ورؤية النعمة منها لا من الله ، وكلها رذائل أردأ من البخل ، لازمة له ، ولو لم يكن له إلا رؤية نفسه بالفضيلة لكفاه مبطلا. وأما الوجه الثالث الذي هو بالنسبة إلى المستحق ، فيبطله الأذى المنافي للراحة والنفع والمن أيضا مبطل له لاقتضائه الترفع وإظهار الاصطناع وإثبات حق عليه. ثم قال : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) إذ القول الجميل ، وإن كان بالردّ ، يفرح قلبه ، ويروّح روحه ، والصدقة إنما تنفع جسده ولا تفرّح القلب إلا بالتبعية وتصوّر النفع ، فإذا قارن ما ينفع الجسد ما يؤذي الروح تكدّر النفع وتنغص ، ولم يقع في مقابلة الفرح الحاصل من القول الجميل ، ولو لم يكن مع التنغيص أيضا لأن الروحانيات أشرف وأحسن وأوقع في النفوس (وَاللهُ غَنِيٌ) عن الصدقة المقرونة بالأذى ، فيعطي المستحق من خزائن غيبه (حَلِيمٌ) لا يعاجل بالعقوبة.

[٢٦٤ ـ ٢٦٥] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥))

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) هذا هو القسم الثاني من الإنفاق. فضّله على الأول بتشبيهه بالجنة ، فإن الجنة مع إيتاء أكلها تبقى بحالها بخلاف الحبة ، فأشار بها أنه ملك لهم كأنه صفة ذاتية ولهذا قال : (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي : توطينا لها على الجود الذي هو صفة ربانية ، وقوله : (بِرَبْوَةٍ) إشارة إلى ارتفاع رتبة هذا الإنفاق وارتقائه عن درجة الأول (أَصابَها وابِلٌ) أي : حظ كثير من صفة الرحمة الرحمانية ومدد وافر من فيض جوده لأنها ملكة الاتصال بالله تعالى بمناسبة الوصف واستعداد قبوله والاتصاف به (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ) أي : حظ كثير ، فحظ قليل (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) بأعمالكم يرى أنها من أيّ القبيل.

[٢٦٦ ـ ٢٦٧] (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧))

٨٨

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) تمثيل لحال من عمل صالحا إنفاقا كان أو غيره متقرّبا به إلى الله مبتغيا رضاه ، كما في هذا القسم من الإنفاق ، ثم ظهرت نفسه فيه ، وتحرّكت ، فكانت حركاتها المتخالفة بحركة الروح ودواعيها المتفاوتة المضادّة لداعية القلب إعصارا ، فافترض الشيطان حركتها واتخذها مجالا له بالوسوسة ، فنفث فيها رؤية عملها أو رياء فكان ذلك النفث نارا أحرقت عملها أحوج ما يكون إليه ، كما قال أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام : «اللهم اغفر لي ما تقرّبت به إليك ثم خالفه قلبي».

(أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) أمر بالقسم الثالث من الإنفاق من طيبات ما كسبتم ، إذ المختار بالله يختار الأشرف من كل شيء للمناسبة كما قال أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام : «إن الله جميل يحبّ الجمال» ومن كان في إنفاقه بالنفس لا يقدر على إنفاق الأشرف لضنّ النفس ومحبتها إياه ، واستئثارها به عن تخصيصه بالله ، فما كان بالنفس ليس ببر أصلا لقوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (١) ، (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) تخصونه بالإنفاق كعادة المنفقين بالنفس والطبيعة (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) لمحبتكم الأطيب من المال لأنفسكم لاختصاص محبتكم بالذات إياها ، ولهذا لا تؤثرون الله بالمال عليها فتنفقوا أطيبه له (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌ) فاتصفوا بغناه فتستفيضوا به عن المال ومحبته (حَمِيدٌ) لا يفعل إلا الفعل المحمود ، فاقتدوا به.

[٢٦٨] (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨))

(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) أي : الخصلة القبيحة التي هي البخل ، فتعوّذوا منه بالله ، فإنه (يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ) أي : سترا لصفات نفوسكم بنوره (وَفَضْلاً) وموهبة من مواهب صفاته لكم وتجلياتها كالغنى المطلق فلا يبقى فيكم خوف الفقر (وَاللهُ واسِعٌ) يسع ذواتكم وصفاتكم وعطاؤكم لا يضيق وعاء جوده بالعطاء ولا ينفد عطاياه (عَلِيمٌ) بمواقع تجلياته واستعدادها واستحقاقها.

[٢٦٩] (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩))

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) لإخلاصه في الإنفاق وكونه فيه بالله ، فيعطيه حكمة الإنفاق لينفق من الحكمة الإلهية لكونه متصفا بصفاته (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) لأنها

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ٩٢.

٨٩

أخصّ صفات الله (وَما يَذَّكَّرُ) أنّ الحكمة أشرف الأشياء وأخصّ الصفات (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) الذين نوّر الله عقولهم بنور الهداية فصفاها عن شوائب الوهم وقشور الرسوم والعادات وهو النفس فجزاء الإنفاق الأول هو الإضعاف ، وجزاء الثاني هو الجنّة الصفاتية المثمرة للإضعاف ، وجزاء الثالث هو الحكمة اللازمة للوجود والموهوب. فانظر كم بينها من التفاوت.

[٢٧٠ ـ ٢٧٣] (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣))

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) من أيّ القبول هو ، فيجازيكم بحسبه (وَما لِلظَّالِمِينَ) أي : المنفقين رئاء الناس ، الواضعين الإنفاق في غير موضعه ، أو الناقصين حقوقهم برؤية إنفاقهم أو ضم المنّ والأذى إليه أو بالإنفاق من الخبيث (مِنْ أَنْصارٍ) يحفظونهم من بأس الله (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لبعدها عن الرياء وكونها أقرب إلى الإخلاص (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) إلى الإنفاقات الثلاثة المذكورة المبرّأة عن المنّ والأذى والرياء ورؤية الإنفاق وكونه من الخبيث أي : لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إنما عليك تبليغ الهداية (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) فلم تمنون به على الناس وتؤذونهم (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) فما لكم تستطيلون به على الناس؟ وكيف تراءون فيه؟ (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) ليس لغيركم فيه نصيب ، فلا تنفقوا إلا على أنفسكم في الحقيقة ، لا على غيركم فلا ينقص به شيء منكم ، فما لكم تقصدون الخبيث بالإنفاق منه فثلاثتها مصروفة إلى الأقسام الثلاثة المذكورة من الإنفاق للتحذير عن آفاتها بتصوير غاياتها (لِلْفُقَراءِ) أي : اقصدوا بصدقاتكم الفقراء (الَّذِينَ) أحصرهم المجاهدة (فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) للتجارة والكسب لاشتغالهم بالله واستغراقهم في الأحوال وصرف أوقاتهم في العبادات. (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) عن السؤال والاستغناء عن الناس (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) من صفرة وجوههم ، ونور جباههم ، وهيئة سحناتهم ، أنهم عرفاء فقراء ، أهل الله ،

٩٠

لا يعرفهم إلا الله ومن هو منهم (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) أي : إلحاحا. والمراد نفي مسألة الناس بالكلية كقوله :

على لاحب لا يهتدى بمناره

والمراد نفي المنار والاهتداء جميعا ، أو نفي الإلحاف وإثبات التعطف في المسألة. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) على أيّ من أنفقتم ، غنيا كان أو فقيرا (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي : بأن ذلك الإنفاق له أو لغيره ، فيجازى بحسبه.

[٢٧٤ ـ ٢٧٥] (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥))

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) عمم الإنفاق أولا وثانيا بحسب الأوقات والأحوال ليعلم أنه لا يتفاوت بها ، بل بالقصد والنيّة (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ) إلى آخره ، آكل الربا أسوأ حالا من جميع مرتكبي الكبائر ، فإنّ كل مكتسب له توكل ما في كسبه قليلا كان أو كثيرا ، كالتاجر والزارع والمحترف ، إذ لم يعينوا أرزاقهم بعقولهم ولم تتعين لهم قبل الاكتساب فهم على غير معلوم في الحقيقة ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبى الله أن يرزق المؤمن إلا من حيث لا يعلم». وأما آكل الربا فقد عين على آخذه مكسبه ورزقه سواء ربح الآخذ أو خسر ، فهو محجوب عن ربه بنفسه وعن رزقه بتعيينه ، لا توكل له أصلا ، فوكّله الله تعالى إلى نفسه وعقله ، وأخرجه من حفظه وكلاءته ، فاختطفه الجنّ وخبلته ، فيقوم يوم القيامة ولا رابطة بينه وبين الله كسائر الناس المرتبطين به بالتوكل ، فيكون كالمصروع الذي مسّه الشيطان فتخبطه لا يهتدي إلى مقصد (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا) أي : ذلك بسبب احتجابهم بقياسهم وأول من قاس إبليس فيكونون من أصحابه مطرودين مثله.

[٢٧٦ ـ ٢٨٣] (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا

٩١

يُظْلَمُونَ (٢٨١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣))

(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) وإن كان زيادة في الظاهر (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) وإن كان نقصانا في الشاهد ، لأنّ الزيادة والنقصان إنما يكونان باعتبار العاقبة والنفع في الدارين. والمال الحاصل من الربا لا بركة له ، لأنه حصل من مخالفة الحق فتكون عاقبته وخيمة وصاحبه يرتكب سائر المعاصي إذ كلّ طعام يولد في أكله دواعي وأفعالا من جنسه ، فإن كان حراما يدعوه إلى أفعال محرمة ، وإن كان مكروها فإلى أفعال مكروهة ، وإن كان مباحا فإلى مباحة ، وإن كان من طعام الفضل فإلى مندوبات ، وكان في أفعاله متبرّعا متفضلا ، وإن كان بقدر الواجب من الحقوق فأفعاله تكون واجبة ضرورية ، وإن كان من الفضول والحظوظ فأفعاله تكون كذلك ، فعليه إثم الربا وآثار أفعاله المحرّمة المتولدة من أكله على ما ورد في الحديث : «الذنب بعد الذنب عقوبة للذنب الأول» ، فتزداد عقوباته وآثامه أبدا ، ويتلف الله ما له في الدنيا فلا ينتفع به أعقابه وأولاده فيكون ممن خسر الدنيا والآخرة ، وذلك هو المحق الكليّ. وأما المتصدّق ، فلكون ما له مزكّى ، يبارك الله في تثميره مع حفظ الأصل وآكله لا يكون إلا مطيعا في أفعاله ، ويبقى ما له في أعقابه وأولاده منتفعا به وذلك هو الزيادة في الحقيقة ، ولو لم تكن زيادته إلا ما صرف في طاعة الله لكفى به زيادة ، وأيّ زيادة أفضل مما تبقّى عند الله ، ولو لم يكن نقصان الربا إلا حصوله من مخالفة الله وارتكاب نهيه لكفى به نقصانا ، وأيّ نقصان أفحش مما يكون سبب حجاب صاحبه وعذابه ونقصان حظه عند الله. (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) أي : آكل الربا كفار أثيم بفعله والله لا يحبّ من كان كذلك.

[٢٨٤] (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤))

٩٢

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ) أي : في العالم الروحاني كله ، بواطنه وصفاته وأستار غيوبه ودفائن جوده (وَما فِي الْأَرْضِ) أي : في العالم الجسمانيّ كله ظواهره وأسماؤه وأفعاله ، تشهد العالمين ، وهو على كل شيء شهيد (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) يشهده بأسمائه وظواهره ، فيعلمه ويحاسبكم به ، وإن تخفوه يشهده بصفاته وبواطنه فيعلمه ويحاسبكم به (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) لتوحيده وقوّة يقينه ، وعروض سيئاته ، وعدم رسوخها في ذاته ، فإنّ مشيئته مبنيّة على حكمته (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) لفساد اعتقاده ، ووجود شكّه ، أو رسوخ سيئاته في نفسه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على المغفرة والتعذيب جميعا.

[٢٨٥] (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥))

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) صدقه بقبوله والتخلق به ، كما قالت عائشة : «كان خلقه القرآن والترقي بمعانيه والتحقيق». (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) وحده جميعا (وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) أي : وحده تفصيلا عند الاستقامة مشاهدا لوحدته في صورة تلك الكثرة معطيا لكل تجلّ من تجلياته في مظهر من مظاهره حكمة (لا نُفَرِّقُ) أي : يقولون : لا نفرّق بينهم بردّ بعض وقبول بعض ، ولا نشك في كونهم على الحق وبالحق لشهود التوحيد ومشاهدة الحق فيهم بالحق (وَقالُوا سَمِعْنا) أي : أجبنا ربّنا في كتبه ورسله ونزول ملائكته واستقمنا في سيرنا (غُفْرانَكَ رَبَّنا) أي : اغفر لنا وجوداتنا وصفاتنا وامحها بوجودك ووجود صفاتك (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) بالفناء فيك.

[٢٨٦] (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦))

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) لا يحملها إلّا ما يسعها ، ولا يضيق به طوقها واستعدادها من التجليات ، فإن حظ كلّ أحد من الكشوف والتجليات ما يطيق به وعاء استعداده الموهوب له في الأزل من الفيض الأقدس ، ولا يضيق عليه (لَها ما كَسَبَتْ) من الخيرات والعلوم والكمالات والكشوف على أيّ وجد ، سواء كانت بقصدها أو لا بقصدها ، فإنها من عالم النور فالخيرات كلها ذاتية لها ، ترجع فائدتها إليها دون الشرور من الجهالات

٩٣

والرذائل والمعاصي والنقائص ، فإنها أمور ظلمانية غريبة عن جوهرها فلا تضرّها ولا تلحق تبعتها بها إلا إذا كانت منجذبة إليها متوجهة بالقصد والاعتمال لتكسبها ولهذا ورد في الحديث : «إن صاحب اليمين يكتب كل حسنة تصدر عن صاحبها في الحال ، وصاحب الشمال لا يكتب حتى تمضي عليه ست ساعات ، فإن استغفر فيها وتاب أو ندم ، فلم يكتب ، وإن أصرّ كتب». والمراد بالنفس هاهنا الذات وإلا لكان الأمر بالعكس ، فيكون حينئذ معناه لا يكلفها إلا ما يسعها ويتيسر لها من الأعمال دون مدى الجهد والطاقة وذكر الكسب في موضع الخير لكونها غير معتنية به معتملة له ، والاكتساب في موضع الشرّ لكونها منجذبة إليه ، معتملة له بالقصد ، لكونها مأوى الشرّ.

(رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا) عهدك (أَوْ أَخْطَأْنا) في العمل لما سواك ، والقران على فراقك محتجبين عنك ، فإنّا غرباء ، بعداء ، طال العهد بنا مسافرين عنك ، ممتحنين في الظلمات بأنواع البلاء ، ولا قدر ولا مقدار لنا في حضرتك ، حتى تؤاخذنا بذنوبنا (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) في ذاتنا وصفاتنا وأفعالنا ، فتأصرنا وتحبسنا في مكاننا مهجورين عنك ، فإنه لا ثقل أثقل منها (كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) من المحتجبين بظواهر الأفعال أو بواطن الصفات (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) من ثقل الهجران والحرمان عن وصالك ، ومشاهدة جمالك ، بحجب جلالك (وَاعْفُ عَنَّا) سيئات أفعالنا وصفاتنا فإنها كلها سيئات حجبتنا عنك ، وحرمتنا برد عفوك ولذة رضوانك (وَاغْفِرْ لَنا) ذنوب وجوداتنا فإنها أكبر الكبائر كما قيل.

إذا قلت ما أذنبت قالت مجيبة

وجودك ذنب لا يقاس به ذنب

(وَارْحَمْنا) بالوجود الموهوب بعد الفناء (أَنْتَ مَوْلانا) ناصرنا ومتولي أمورنا (فَانْصُرْنا) فإنّ من حق الوليّ أن ينصر من يتولّاه ، أو سيدنا ، ومن حقّ السيد أن ينصر عبيده (عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) من قوى نفوسنا الأمّارة وصفاتها ، وجنود شياطين أوهامنا وخيالاتنا ، المحجوبين عنك ، الحاجبين إيّانا بكفرها وظلمتها.

٩٤

سورة آل عمران

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٧] (الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧))

(الم* اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) مرّ تأويله (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) أي : رقّاك رتبة فرتبة ، ودرجة فدرجة ، بتنزيل الكتاب عليك منجما إلى العلم التوحيدي الذي هو الحق باعتبار الجمع المسمّى بالعقل القرآني (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من التوحيد الأزليّ السابق المعلوم في العهد الأول المخزون في غيب الاستعداد (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ) هكذا ثمّ (أَنْزَلَ الْفُرْقانَ) أي : التوحيد التفصيليّ الذي هو الحق باعتبار الفرق المسمّى بالعقل الفرقانيّ ، وهو منشأ الاستقامة ومبدأ الدعوة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : احتجبوا عن هذين التوحيدين بالمظاهر والأكوان التي هي آيات التوحيد في الحقيقة (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) في البعد والحرمان (وَاللهُ عَزِيزٌ) أي : قاهر (ذُو انْتِقامٍ) لا يقدر وصفه ولا يبلغ كنهه ولا يقدر على مثله ، منتقم (لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ) في العالمين ، فيعلم مواقع الانتقام (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) سمت من أن يتطرق إليها الاحتمال والاشتباه لا يحتمل إلا معنى واحدا (هُنَّ أُمُ) أي : أصل (الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) تحتمل معنيين فصاعدا ويشتبه فيها الحق والباطل ، وذلك أنّ الحق تعالى له وجه هو الوجه المطلق الباقي بعد فناء الخلق لا يحتمل التكثر والتعدّد ، وله وجوه متكثرة إضافية متعدّدة بحسب مرائي المظاهر. وهي ما يظهر بحسب استعداد كل مظهر فيه من ذلك الوجه الواحد ، يلتبس فيها الحق بالباطل ، فورد التنزيل كذلك لتنصرف المتشابهات إلى وجوه الاستعدادات فيتعلق كل بما يناسبه ، ويظهر الابتلاء والامتحان. فأمّا العارفون المحققون الذين يعرفون الوجه الباقي في أية صورة وأي شكل كان ، فيعرفون الوجه الحق من الوجوه التي تحتملها المتشابهات فيردونها إلى المحكمات متمثلين بمثل قول الشاعر :

وما الوجه إلا واحد غير أنه

إذا أنت أعددت المزايا تعدّدا

٩٥

وأمّا المحجوبون (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) عن الحق (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ) لاحتجابهم بالكثرة عن الوحدة. كما أن المحققين يتبعون المحكم ، ويتبعونه المتشابه ، فيختارون من الوجوه المحتملة ما يناسب دينهم ومذهبهم (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) أي : طلب الضلال والإضلال الذي هم بسبيله (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) بما يناسب حالهم وطريقتهم.

إذا اعوج سكين فعوّج قرابه

فهم كما لا يعرفون الوجه الباقي في الوجوه ، لزم أن لا يعرفوا المعنى الحق من المعاني ، فيزداد حجابهم ويغلظ ليستحقوا به العذاب (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) العالمون ، يعلمون بعلمه ، أي : إنما يعلمه الله جميعا وتفصيلا (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) يصدّقون علم الله به ، فهم يعلمون بالنور الإيماني (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) لأن الكلّ عندهم معنى واحد غير مختلف (وَما يَذَّكَّرُ) بذلك العلم الواحد المفصل في التفاصيل المتشابهة المتكثرة إلا الذين صفت عقولهم بنور الهداية وجرّدت عن قشر الهوى والعادة.

[٨ ـ ١٢] (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢))

(رَبَّنا لا تُزِغْ) عن التوجه إلى جنابك ، والسعي في طلب لقائك ، والوقوف ببابك ، بالافتتان بحبّ الدنيا وغلبة الهوى ، والميل إلى النفس وصفاتها ، والوقوف مع حظوظها ولذاتها (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) بنورك إلى صراطك المستقيم ، والدين القويم ، وبسبحات وجهك إلى جمالك الكريم (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) رحيمية تمحو صفاتنا بصفاتك وظلماتنا بأنوارك (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) أي : يجمعهم ليوم الجمع الذي هو الوصول إلى مقام الوحدة الجامعة للخلائق أجمعين الأولين والآخرين ، فلا يبقى لهم شك في مشهدهم ذلك (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) بل هي سبب حجابهم وبعدهم من الله وتعذيبهم بعذابه لشدّة تعلقهم بهم ومحبتهم إياهم.

[١٣] (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣))

(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) يا معشر السالكين دالة على كمالكم وبلوغكم إلى التوحيد (فِي

٩٦

فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ) القوى الروحانية الذين هم أهل الله وجنوده (تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى) هي جنود النفس وأعوان الشياطين محجوبة عن الحقّ. ترى الفئة الأولى ، مع قلّة عددهم ، مثليهم عند التقائهما في معركة البدن لتأيد الفئة الأولى بنور الله وتوفيقه وخذلان الفئة الثانية وذلهم وعجزهم وضعفهم وانقطاعهم عن عالم الأيد والقدرة. فغلبت الأولى الثانية وقهروهم بتأييد الله ونصره ، وصرفوا أموالهم التي هي مدركاتهم ومعلوماتهم في سبيل معرفة الله وتوحيده (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) من أهل عنايته المستعدّين للقائه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً) أي : اعتبارا أو أمرا يعتبر به في الوصول إلى الحقيقة للمستبصرين الذين انفتحت أعين بصائرهم واكتحلت بنور الإيقان العلميّ من أهل الطريقة يعتبرون به أحوالهم في النهاية.

[١٤ ـ ١٥] (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥))

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) لأن الإنسان مركب من العالم العلويّ والسفليّ ، ومن نشأته وولادته تحجبت فطرته وخمدت نار غريزته وانطفأ نور بصيرته بالغشاوات الطبيعية والغواشي البدنية ، والماء الأجاج من اللذّات الحسيّة ، والرياح العواصف من الشهوات الحيوانية ، فبقي مهجورا من الحق في أوطان الغربة وديار الظلمة يسار به ، مبلوّا بأنواع النصب والتعب ، فإذا هو بشعشعة نور من التميز ولمعان برق من عالم العقل ، وداع ينادينه من الهوى والشيطان ، فتبعه فصادف منزلا نزها ، وروضة أنيقة ، فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين ، فاستوطنه وشكر سعيه ورضيه مسكنا وقال :

عند الصباح يحمد القوم السرى

والداعي قد هيئ له القرى ، فذلك حبّ الشهوات ، أي : المشتهيات المذكورة وتزيينها له وهو تمتيع له بحسب ما فيه من العالم السفليّ ، وكمال لحياته حجب به من تمتيع الحياة الأخرى وكمالها ، بحسب ما فيه من العالم العلويّ ، ولم يتنبه على أنها أبهى وألذّ وأصفى مع ذلك وأبقى ، وهو معنى قوله : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) فإن أدركه التوفيق الإلهيّ والتنبيه السريّ ، وقارنه الإنباء النبوي كما قال : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) انبعث من باطنه شوق وعشق لحركة العلويّ إلى مركزه ، واشتعلت ناره التي قد خمدت ، وتتتابع عليه لوامع الأنوار الإلهية وطوالع الإشراقات القدسية ، فاستنار نور بصيرته الذي قد انطفأ ، ورقّت الحجب التي منعت فطرته عن طلب المقرّ والمأوى ، وتنغص عيشه الذي هو فيه فتكدّر ما هو عليه ،

٩٧

واستظلم ما كان قد استصفاه من الحياة الدنيا وسكنت في نفسه سورة الهوى بغلبة الجزء الروحانيّ على الجسماني ، وذاق طعم ماء فرات الحياة الحقيقية فلم يصبر على الملح الأجاج وباشر قلبه خطرات اليقين بجريعات شربها من الماء المعين ، فعلم أنه كان أكمن في سرب من الأرض ، فاستلمع ضوء الكواكب ليلا وظنه نهارا ، فخرج فإذا هو ببريّة فيها ماء زعاق وأنواع من الحشائش كالخمخم والجرجير ونحوها ، فظنها رياحين وثمارا ، فحبس بما وجد عن ضياء الشمس وألوان الطيب والفواكه ، فعزم على رحيل الأوبة وغشيته وحشة الغربة ، فانتقى ما استطاب واستحلى. ثم سار وخلى حتى إذا أضاء نور صبح عين اليقين ، وحان وقت طلوع شمس الوحدة ، رأى جنة تحيّر فيها بصره ودهش في وصفها عقله ، وكان ما كان مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. فإذا أفاق وقد طلعت الشمس ، وجد فيها ألافا وأحبابا وعرف أنه كان له مثوى ومآبا ، ورجع إليه الأنس ، ونزل محلة القدس ، بدار القرار في جوار الملك الغفّار ، وأشرقت عليه سبحات وجهه الكريم ، وحلّ بقلبه روح الرضا العميم ، وذلك معنى قوله : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) إلى قوله : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) ، فالجنّات جنّات الأفعال ، والأزواج أصناف روحانيات عالم القدس ، والرضوان جنّات الصفات.

[١٦ ـ ١٨] (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧) شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))

(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) بأنوار أفعالك وصفاتك (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) أي : ذنوب وجوداتنا بذاتك (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) أي : نار الهجران ووجود البقية (الصَّابِرِينَ) على غصص المجاهدة والرياضة (وَالصَّادِقِينَ) في المحبة والإرادة (وَالْقانِتِينَ) في السلوك إليه وفيه (وَالْمُنْفِقِينَ) ما عداه من أموالهم وأفعالهم وصفاتهم ونفوسهم وذواتهم (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ) عن ذنوب تلويناتهم وبقياتهم في أسحار أيام التجليات النورية عند طلوع طوالع الأنوار ، وظهور تباشير صبح يوم القيامة الكبرى بالأفق الأعلى ، فأجابهم وقت طلوع شمس الذات من مغرب وجودهم ، فلم يبق مغربا بقوله (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) طلع الوجه الباقي ، فشهد بذاته في مقام الجمع على وحدانيته ، إذ لم يبق شاهد ولا مشهود غيره. ثم رجع إلى مقام التفصيل فشهد بنفسه مع غيره على وحدانيته في ذلك المشهد فقال : (وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) أي : مقيما للعدل في تفاصيل مظاهره ، وصور كثرتها الذي هو ظلّ الوحدة في غير الجمع بإعطاء كلّ ذي حقّ بحسب استعداده واستحقاقه حقّه من جوده وكماله وتجليه فيه على

٩٨

قدر سعة وعائه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في المشهدين (الْعَزِيزُ) القاهر الذي يقهر كل شيء باعتبار الجمع فلا يصل إليه أحد (الْحَكِيمُ) الذي يدبر بحكمته كل شيء ، فيعطيه ما يليق به باعتبار التفصيل.

[١٩ ـ ٢٠] (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠))

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ) هو هذا التوحيد الذي قرّره بنفسه. فإنّ دينه دين إسلام الوجوه كما قال إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أسلمت وجهي لله» أي : نفسي وجملتي ، وانخلعت عن أنينتي ، ففنيت فيه. وأمر الله تعالى حبيبه عليه الصلاة والسلام فيما بعد بقوله : (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ).

[٢١] (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١))

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) أي : المحجوبين عن الدين (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ) لكونهم محجوبين بدينهم لا يقبلون إلا ما هم عليه من التقيد والتقليد ، والأنبياء دعوهم إلى التوحيد ومنعوهم عن التقيد فقتلوهم (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) من أتباعهم ، إذ العدل ظلّ التوحيد ، فمن لم يكمل له لا يمكنه العدل ، وهم قد حجبوا بتقييدهم بدينهم ، فقد حجبوا بظلمهم عن العدل فخالفوهم وقتلوهم.

[٢٢ ـ ٢٤] (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥))

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) التي عملوها على دين نبيهم ، لأنهم كانوا بتقليد نبيهم ناجين بالمتابعة ، وأنبياؤهم كانوا شفعاءهم بتوسطهم بينهم وبين الله في وصول الفيض إليهم ، فإذا أنكروا النبيين وأتباعهم العادلين فقد خالفوا نبيّهم لأن الأنبياء كلهم على ملّة واحدة في الحقيقة هي ملّة التوحيد ، لا نفرّق بين أحد منهم في كونهم على الحقّ فمن خالف واحدا فقد خالف الكلّ ، وكذا من خالف أهل العدل من أتباع النبيين فقد ظلم ، ومن ظلم فقد خرج

٩٩

بظلمه عن المتابعة وأيضا فمنكر الاتباع منكر المتبوعين ، ومنكر الظلّ منكر الذات خارج عن نورها. وإذا خالفوا نبيّهم لم يبق بينهم وبينه من الوصلة والمناسبة ما تمكن به الاستفاضة من نوره ، فحجبوا عن نوره وكانت أعمالهم منوّرة بنوره لأجل المتابعة ، لا نور ذاتيّ لها ، إذ لم تكن صادرة عن يقين ، فإذا زال نورها العارضي باحتجابهم عن نبيهم فقد أظلمت وصارت كسائر السيئات من صفات النفس الأمّارة ، وفيه ما سمعت غير مرّة من قتل كفار قوى النفس الأمّارة أنبياء القلوب والآمرين بالقسط من القوى الروحانية.

[٢٦] (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦))

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) تملك ملك عالم الأجسام مطلقا ، تتصرّف فيه لا مالك ولا متصرّف ولا مؤثر فيه غيرك (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) تجعله متصرّفا في بعضه (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) بجعل التصرّف في يد غيره ولا غير ثمة بل تقلّبه من يد إلى يد ، فأنت المتصرّف فيه على كل حال بحسب اختلاف المظاهر (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) بإلقاء نور من أنوار عزّتك عليه فإنّ العزّة لله جميعا (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بسلب لباس عزّتك عنه فيبقى ذليلا (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) كله ، وأنت القادر مطلقا ، تعطي على حسب مشيئتك ، تتجلى تارة على بعض المظاهر بصفة العز والكبرياء ، فتكسوه لباس العز والبهاء ، وتارة بصفة القهر والإذلال فتكسوه لباس الهوان والصغار ، وتارة بصفة المعز فتكون مذلا ، وتارة بصفة المذلّ فتكون معزا ، وتارة بصفة الغني فتعطي المال ، وتارة بصفة المغني فتفقره ، أي : تجعله مستغنيا عن المال ، فقيرا لا يحتاج إلى شيء.

[٢٧ ـ ٢٨] (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩))

(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) تدخل ظلمة النفس في نور القلب فيظلم ، وتدخل نور القلب في ظلمة النفس فتستنير بخلطهما معا مع بعد المناسبة بينهما (وَتُخْرِجُ الْحَيَ) أي : حيّ القلب (مِنَ الْمَيِّتِ) أي : من ميت النفس ، وميت النفس من حيّ القلب ، بل تخرج حيّ العلم والمعرفة من ميت الجهل ، وتخرج ميت الجهل من حيّ العلم تحجبه عن النور ، كحال بلعم بن باعوره (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ) من النعمة الظاهرة والباطنة جميعا ، أو من إحداهما (بِغَيْرِ حِسابٍ لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) إذ لا مناسبة بينهم في الحقيقة ، والولاية لا تكون إلّا بالجنسية والمناسبة ، فحينئذ لا يمكن أن

١٠٠