تفسير ابن عربي - ج ١

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ١

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٥
الجزء ١ الجزء ٢

عليها بالثواب ، وأمثال ذلك. والملائكة بالعلم والقدرة والذوات المجرّدة منهم بالتجرّد عن المادة والوجوب أيضا مع ذلك كله فهم مع كونهم مسّبحين إيّاه ، مقدّسون له (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) لقلة النظر والفكر في ملكوت الأشياء وعدم الإصغاء إليهم وإنما يفقه (كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (١).

(إِنَّهُ كانَ حَلِيماً) لا يعاجلكم بترك التسبيح في طلب كمالاتكم وإظهار خواصكم ، فإن من خواصكم تفقه تسبيحهم وتوحيده كما وحدوه (غَفُوراً) يغفر لكم غفلاتكم وإهمالاتكم (جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) لقصور نظرهم عن إدراك الروحانيات وقصر هممهم على الجسمانيات (حِجاباً مَسْتُوراً) من الجهل وعمى القلب فلا يرون حقيقة القارئ وإلا آمنوا وإنما لا يبصرونك لأنهم لا يحسبونك إلا هذه الصورة البشرية لكونهم بدنيين منغمسين في بحر الهيولى محجوبين بالغواشي الطبيعية وملابس الصفات النفسانية عن الحق وصفاته وأفعاله إذ لو عرفوا الحق لعرفوك ولو عرفوا صفاته لعرفوا كلامه ، ولم يكن على قلوبهم أكنة من الغشاوات الطبيعية والهيئات البدنية (أَنْ يَفْقَهُوهُ) ولو عرفوا أفعاله لعلموا القراءة ولم يكن في آذانهم وقر لرسوخ أوساخ التعلقات (وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) لتشتت أهوائهم وتفرّق هممهم في عبادة متعبداتهم من أصنام الجسمانيات والشهوات ، فلا يناسب بواطنهم معنى الوحدة لتألفها بالكثرة واحتجابها بها.

[٥٢ ـ ٦٣] (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢) وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣))

__________________

(١) سورة ق ، الآية : ٣٧.

٣٨١

(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) أي : تتعلق إرادته ببعثكم فتنبعثون في أقرب من طرفة عين حامدين له بحياتكم وعلمكم وقدرتكم وإرادتكم حمدا واصفين له بالكمال بإظهار هذه الكمالات (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) أي : في القبور والمضاجع لذهولكم عن الزمان كما يجيئ في قصة أصحاب (الكهف) أو في الحياة الأولى لاستقصاركمإياها بالنسبة إلى الحياة الآخرة فيتناول اللفظ القيامات الثلاث ، إلا أن الآية السابقة ترجح الصغرى.

[٦٤ ـ ٦٩] (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩))

(وَاسْتَفْزِزْ) إلى آخره ، تمكن الشيطان من إغواء العباد على أقسام ، لأن الاستعدادات متفاوتة فمن كان ضعيف الاستعداد استفزه أي استخفه بصوته يكفيه وسوسة وهمس بل هاجسة ولمة ، ومن كان قويّ الاستعداد فإن أخلص استعداده عن شوائب الصفات النفسانية أو أخلصه الله تعالى عن شوائب الغيرية فليس له إلى إغوائه سبيل كما قال : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) وإلا فإن كان منغمسا في الشواغل الحسيّة غارزا رأسه في الأمور الدنيوية شاركه في أمواله وأولاده بأن يحرضه على إشراكهم بالله في المحبة بحبهم كحب الله ويسوّل له التمتع بهم والتكاثر والتفاخر بوجودهم ويمنيه الأماني الكاذبة ويزين عليه الآمال الفارغة وإن لم ينغمس فإن كان عالما بصيرا بتسويلاته أجلب عليه بخيله ورجله ، أي : مكر به بأنواع الحيل وكاده بصنوف الفتن وأفتى له في تحصيل أنواع الحطام والملاذ بأنها من جملة مصالح المعاش وغره بالعلم وحمله على الإعجاب ، وأمثال ذلك ، حتى يصير ممن أضلّه الله على علم وإن لم يكن عالما بل عابدا متنسكا أغواه بالوعد والتمنية وغرّه بالطاعة والتزكية أيسر ما يكون (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) أي : عبادي الخالصة لا يكلون أمرهم إلا إلى الله وحده لا إلى الشيطان ولا إلى غيره ، وهو كافيهم بتدبير الأمور ولا يتوكلون إلا عليه بشهود أفعاله وصفاته.

[٧٠] (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠))

٣٨٢

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) بالنطق والتمييز والعقل والمعرفة (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي : يسرنا لهم أسباب المعاش والمعاد بالسير في طلبها فيهما وتحصيلها (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي : المركبات التي لم ترزق غيرهم من المخلوقات (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا) أي : ما عدا الذوات المقدّسة من الملأ الأعلى ، وأما أفضلية بعض الناس كالأنبياء على الملائكة المقرّبين فليست من جهة كونهم بني آدم فإنهم من تلك الحيثية لا يتجاوزون مقام العقل بل من جهة السرّ المودع فيهم المشار إليه بقوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (١) وهو ما أعدّ لذلك البعض من المعرفة الإلهية التامة بواسطة الجمعية التي فيه ، أي : مقام الوحدة ، وحينئذ ليس هو بهذا الاعتبار من بني آدم كما قيل :

وإني وإن كنت ابن آدم صورة

فلي فيه معنى شاهد بأبوّتي

بل هو عين المكرّم المعروف كما قيل :

رأيت ربي بعين ربي

فقال من أنت قلت أنت

وقد فنى ابن آدم في هذا المقام وما بقي منه شيء وإلا فما للتراب وربّ الأرباب ، أو ولقد كرّمنا بني آدم بالتقريب ومعرفة التوحيد وحملناهم في بر عالم الأجساد وبحر عالم الأرواح بتسييره فيهما لتركيبه منهما وإرقائه عنهما في طلب الكمال ورزقناهم من طيبات العلوم والمعارف ، وفضلناهم على الجم الغفير ممن خلقنا ، أي : جميع المخلوقات ، على أن تكون من للبيان والمبالغة في تعظيمه بوصف المفضل عليهم بالكثرة وتنكير الوصف وتقديمه على الموصوف أي كثير ، وأي كثير وهو جميع مخلوقاتنا لدلالة من على العموم (تَفْضِيلاً) تاما بيّنا.

[٧١] (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١))

(يَوْمَ نَدْعُوا) إلى آخره ، أي : نحضر (كُلَ) طائفة من الأمم مع شاهدهم الذي يحضرهم ويتوجهون إليه من الكمال ويعرفونه سواء كان في صورة نبيّ آمنوا به كما ذكر في تفسير قوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) (٢) أو إمام اقتدوا به أو دين أو كتاب أو ما شئت على أن تكون الباء بمعنى مع أو ننسبهم إلى إمامهم وندعوهم باسمه لكونه هو الغالب عليهم وعلى أمرهم المستعلي محبتهم إياه على سائر محباتهم (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) أي : من جهة العقل الذي هو أقوى جانبيه وبعث في صورة السعداء (فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ)

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٣٠.

(٢) سورة النساء ، الآية : ٤١.

٣٨٣

دون غيرهم لاستعدادهم للقراءة والفهم لأن الذي أوتي كتابه بشماله ، أي : من جهة النفس التي هي أضعف جانبيه لا يقدر على قراءة كتابه وإن كان مقروؤا لذهاب عقله وفرط حيرته (وَلا يُظْلَمُونَ) أي : لا ينقصون من صور أعمالهم وكمالاتهم وأخلاقهم شيئا قليلا.

[٧٢] (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢))

(وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) عن الاهتداء إلى الحق (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ) كذلك (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) مما هنا لأن له في هذه الحياة آلات وأدوات وأسبابا يمكنه الاهتداء بها وهو في مقام الكسب باقي الاستعداد إن كان ولم يبق هناك شيء من ذلك.

[٧٣ ، ٧٤] (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤))

(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) إلخ ، هو من باب التلوينات التي تحدث لأرباب القلوب بظهور النفس ولأرباب الشهود والفناء بوجود القلب ، فإنه عليه‌السلام لفرط شغفه وحرصه على إيمانهم بوجود القلب كاد يميل إليهم في بعض مقترحاتهم ويرضى ببعض ما هو خلاف شريعته ، ويضيف إلى الله ما ليس منه طلبا للمناسبة التي كان يتوقع أن تحدث بينه وبينهم بذلك فيحبوه كما قال : (وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) عسى أن يقبلوا قوله ويهتدوا به. واستمالة وتطييبا لقلوبهم عسى أن يلينوا وينزلوا عن شدّة إنكارهم فيرقّ حجابهم وتتنوّر قلوبهم ، فشدد وأقيم من عند الله ، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها : «كان خلقه القرآن» تعني أنه عليه الصلاة والسلام كلما ظهرت نفسه وهمّت بما ليس بفضيلة نبّه من عند الله وثبت بتنزيل آية تقوّمه وتردّه إلى الاستقامة حتى بلغ مقام التمكين ، وهذا وأمثاله من قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) (١) ، وقوله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (٢) ، وقوله : (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) (٣) ، وقوله : (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١)) (٤) يدل على أنه كان أكثر سلوكه في الله بعد الوصول في زمان النبوة وزمان الوحي.

[٧٥ ـ ٧٧] (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧))

__________________

(١) سورة الأنفال ، الآية : ٦٧.

(٢) سورة التوبة ، الآية : ٤٣.

(٣) سورة الأحزاب ، الآية : ٣٧.

(٤) سورة عبس ، الآية : ١.

٣٨٤

(إِذاً لَأَذَقْناكَ) أي : لو قاربت فتنتهم وكدت توافقهم لأذقناك عذابا مضاعفا في الحياة وعذابا مضاعفا في الممات ، فإنّ شدّة العذاب بحسب علوّ المرتبة وقوة الاستعداد إذ النقصان الموجب للعذاب يقابل الكمال الموجب للذة. فكلما كان الاستعداد أتمّ والإدراك أقوى ، كانت المرتبة في الكمال والسعادة واللذة أقوى فكذا ما يقابله من النقص والشقاوة أبعد وأسفل والألم أشدّ.

[٧٨] (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨))

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) اعلم أنّ الصلاة على خمسة أقسام : صلاة المواصلة والمناغاة في مقام الخفاء ، وصلاة الشهود في مقام الروح ، وصلاة المناجاة في مقام السرّ ، وصلاة الحضور في مقام القلب ، وصلاة المطاوعة والانقياد في مقام النفس. فدلوك الشمس هو علامة زوال شمس الوحدة عن الاستواء على وجود العبد بالفناء المحض ، فإنه لا صلاة في حال الاستواء إذ الصلاة عمل يستدعي وجودا ، وفي هذه الحالة لا وجود للعبد حتى يصلي كما ذكر في تأويل قوله تعالى : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)) (١). ألا ترى الشارع عليه‌السلام كيف نهى عن الصلاة وقت الاستواء ، فأما عند الزوال ، إذا حدث ظل وجود العبد سواء عند الاحتجاب بالخلق حالة الفرق قبل الجمع أو عند البقاء حالة الفرق بعد الجمع ، فالصلاة واجبة (إِلى غَسَقِ) ليل النفس (وَقُرْآنَ) فجر القلب ، فأول الصلوات وألطفها صلاة المواصلة والمناغاة وأفضلها وأشرفها صلاة الشهود للروح المشار إليها بصلاة العصر كما فسرت الصلاة الوسطى ، أي : الفضلى في قوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) (٢) والصلاة الوسطى بها ، وأوحاها وأخفها صلاة السرّ بالمناجاة أول وقت الاحتجاب بظهور القلب لسرعة انقضاء وقتها ولهذا استحب التخفف في صلاة المغرب في القراءة وغيرها لكونها علامة لها ، وأزجر الصلاة للشيطان ، وأوفرها تنويرا لباطن الإنسان صلاة الحضور للقلب المومي إليها بقرآن الفجر ، فإنها في وقت تجليات أنوار الصفات ونزول المكاشفات ولهذا استحب التكثر في جماعة صلاة الصبح وأكد استحباب الجماعة فيها خاصة ، وتطويل القراءة ، وقال تعالى : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) أي : محضورا بحضور ملائكة الليل والنهار إشارة إلى نزول صفات القلب وأنوارها وذهاب صفات النفس وزوالها ، وأشدّها تثبيتا للنفس وتطويعا لها صلاة النفس للطمأنينة والثبات ، ولهذا سنّ فيما جعل آية لها من صلاة العشاء السكوت

__________________

(١) سورة الحجر ، الآية : ٩٩.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٢٣٨.

٣٨٥

بعده حتى النوم إلا بذكر الله ، وحيث أمكن للشيطان سبيل إلى الوسوسة استحب ، فيما جعل علامة لها الجهر كصلاة النفس والقلب والسرّ للزجر ولا مدخل له في مقام الروح والخفاء فأمر بالإخفات.

[٧٩] (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩))

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ) أي : خصّص بعض الليل بالتهجد (نافِلَةً لَكَ) زيادة على ما فرض خاصة بك ، لكونه علامة مقام النفس ، فيجب تخصيصه بزيادة الطاعة لزيادة احتياج هذا المقام إلى الصلاة بالنسبة إلى سائر المقامات فيقتدي بك السالكون من أمّتك في تطويع نفوسهم ويقوى تمكنك في مقام الاستقامة ، كماقال : «أفلا أكون عبدا شكورا». (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) أي : في مقام يجب على الكل حمده وهو مقام ختم الولاية بظهور المهدي ، فإن خاتم النبوّة في مقام محمود من وجه هو جهة كونه خاتم النبوة غير محمود من وجه هو جهة ختم الولاية ، فهو من هذا الوجه في مقام الحامدية فإذا تم ختم الولاية يكون في مقام محمود من كل وجه.

[٨٠] (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠))

(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي) حضرة الوحدة في عين الجمع (مُدْخَلَ صِدْقٍ) مدخلا حسنا مرضيا به بلا آفة زيغ البصر بالالتفات إلى الغير ولا الطغيان بظهور الأنانية ولا شوب الإثنينية (وَأَخْرِجْنِي) إلى الكثرة عند الرجوع إلى التفصيل بالوجود الموهوب الحقاني (مُخْرَجَ صِدْقٍ) مخرجا حسنا مرضيا به من غير آفة التلوين بالميل إلى النفس وصفاته ولا الضلال بعد الهدى بالانحراف عن جادّة الاستقامة والزيغ عن سنن العدالة إلى الجور كالفتنة الداودية (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) حجة ناصرة بالتثبيت والتمكين بأن أكون بك في الأشياء في حال البقاء بعد الفناء لا بنفسي كماقال عليه الصلاة والسلام : «لا تكلني إلى نفسي طرفة عين»، أو عزّا وقوة قهرية بك ، أقوي بها دينك وأظهره على الأديان كلها.

[٨١ ، ٨٢] (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢))

(وَقُلْ جاءَ الْحَقُ) أي : الوجود الثابت الواجب الحقاني الذي لا يتغير ولا يتبدّل (وَزَهَقَ الْباطِلُ) أي : الوجود البشري الإمكاني القابل للفناء والتغير والزوال (إِنَّ الْباطِلَ) أي : الوجود الممكن (كانَ) فانيا في الأصل لا شيئا ثابتا طرأ عليه الفناء ففنى ، بل الفاني فان في الأزل والباقي باق لم يزل ، وإنما احتجبنا بتوهم فاسد باطل فكشف (وَنُنَزِّلُ مِنَ)

٣٨٦

العقل القرآني الجامع بالتدريج نجوم تفاصيل العقل الفرقاني نجما فنجما على الوجود الحقاني على حسب ظهور الصفات أي : نفصل ما في ذاتك مجملا مكنونا تفصيلا بارزا ظاهرا عليك ليكون شفاء لأمراض قلوب المستعدّين المؤمنين بالغيب من أمّتك كالجهل والشك والنفاق وعمى القلب والغلّ والحقد والحسد وأمثالها فنزكيهم ورحمة تفيدهم الكمالات والفضائل وتحليهم بالحكم والمعارف (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ) الناقصين استعدادهم بالرذائل والحجب الظلمانية الباخسين حظوظهم من الكمال بالهيئات البدنية والصفات النفسانية (إِلَّا خَساراً) بزيادة ظهور أنفسهم بصفاتها كالإنكار والعناد والمكابرة واللجاج والرياء والنفاق منضمة إلى ما لهم من الشك والجهل والعمى والعمه.

[٨٣] (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣))

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ) بنعمة ظاهرة (أَعْرَضَ) لوقوفه مع النفس والبدن وكون القوى البدنية متناهية لا تتدبر الأمور الغير المتناهية الممكنة الوقوع من سبب النعمة وردّها عند عدمها وسائر الغير ولا يرى إلا العاجل ، وتكبر لاستعلاء نفسه على القلب وظهوره بأنانيته وتفرعنه فنأى ، أي : بعد عن الحق في جانب النفس وطوى جنبه معرضا وكذا في جانب الشرّ إذا مسّه يئس لاحتجابه عن القادر وقدرته ولو نظر بعين البصيرة شاهد قدرة الله تعالى في كلتا الحالتين وتيقن في الحالة الأولى أن الشكر رباط النعم ، وفي الثانية أن الصبر دفّاع النقم ، فشكر وصبر وعلم أن المنعم قدر فلم يعرض عند النعمة بطرا وأشرا خائفا زوالها ، غير غافل عن المنعم ، ولم ييأس عند النقمة جزعا وضجرا راجيا كشفها ، مراعيا لجانب المبلي.

[٨٤] (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤))

(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) أي : خليقته وملكته الغالبة عليه من مقامه فمن كان مقامه النفس وشاكلته مقتضى طباعها عمل ما ذكرنا من الإعراض واليأس ومن كان مقامه القلب وشاكلته السجيّة الفاضلة عمل بمقتضاها الشكر والصبر (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) من العاملين عامل الخير بمقتضى سجيّة القلب وعامل الشرّ بمقتضى طبيعة النفس فيجازيهما بحسب أعمالهما.

[٨٥] (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥))

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) أي : ليس من عالم الخلق حتى يمكن تعريفه للظاهرين البدنيين الذين لا يتجاوز إدراكهم عن الحسّ والمحسوس بالتشبيه ببعض ما شعروا به والتوصيف بل من عالم الأمر ، أي : الإبداع الذي هو عالم الذوات المجرّدة عن الهيولى والجواهر المقدّسة عن الشكل واللون والجهة والأين ، فلا يمكنكم إدراكه أيها

٣٨٧

المحجوبون بالكون لقصور إدراككم وعلمكم عنه (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) هو علم المحسوسات وذلك شيء نزر حقير بالنسبة إلى علم الله تعالى والراسخين في العلم.

[٨٦ ، ٨٧] (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧))

(وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) بالطمس في محل الفناء أو الحجب بعد الكشف بالتلوين (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً) يتوكل علينا بردّه (إِلَّا) مجرّد رحمة عظيمة خاصة بك من فرط عنايتنا وهي أعلى مراتب الرحمة الرحيمية المتكفلة من عند الله تعالى بإفاضة الكمال التام عليه ، أي : لو تجلينا بذاتنا لما وجدت الوحي ولا ذاتك إلا إذا تجلينا بصفة الرحمة واسمنا الرحيم فتوجد وتجد الوحي ، وكذا لو تجلينا بصفة الجلال لاحتجبت عن الوحي والمعرفة (إِنَّ فَضْلَهُ) بالإيحاء والتعليم الرباني بعد موهبة الوجود الحقاني (كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) في الأزل.

[٨٨ ـ ٩٦] (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢))

(أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) لكون الاستعداد الكامل الحامل له مخصوصا بك وأنت قطب العالم يرشح إليهم ما يطفح منك فلا يمكنهم الإتيان بمثله ولا يطيقون حمله ، ولهذا المعنى أبى أكثرهم (إِلَّا كُفُوراً) واقترحوا الآيات الجسمانية المناسبة لاستعدادهم وإدراكهم كتفجير العيون من الأرض وجنّة النخيل والأعناب وإسقاط السماء عليهم كسفا والرقي فيها والإتيان بالملائكة وسائر الممتنعات المتخيلة وأجيبوا بقوله :

(قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) أي : ما أمكن نزول الملائكة مع كونهم نفوسا مجرّدة على الهيئة الملكية في الأرض ، بل لو نزلت لم ينزلوا إلا متجسدين ، كما

٣٨٨

قال : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩)) (١) وإلا لم يمكنكم إدراكهم فبقيتم على إنكاركم ، وإذا كانوا مجسدين ما صدّقتم كونهم ملائكة فشأنكم الإنكار على الحالين بل على أيّ حال كان كإنكار الخفاش ضوء الشمس.

[٩٧ ـ ٩٩] (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩))

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ) بمقتضى العناية الأزلية في الفطرة الأولى بنوره (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) خاصة دون غيره (وَمَنْ يُضْلِلْ) بمنع ذلك النور عنه (فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ) أنصارا يهدونه (مِنْ دُونِهِ) أو يحفظونه من قهره (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) أي : ناكسي الرؤوس لانجذابهم إلى الجهة السفلية أو على وجوداتهم وذواتهم التي كانوا عليها في الدنياكقوله : «كما تعيشون تموتون ، وكما تموتون تبعثون»إذ الوجه يعبر به عن الذات الموجودة مع جميع عوارضها ولوازمها أي على الحالة الأولى من غير زيادة ونقصان (عُمْياً) عن الهدى ، كما كانوا في الحياة الأولى (وَبُكْماً) عن قول الحق ، لعدم إدراكهم المعنى المراد بالنطق إذ ليسوا ذوي قلوب يفهم بها ويفقه ، فكيف التعبير عما لم يفهم (وَصُمًّا) عن سماع المعقول ، لعدم الفهم أيضا ، فلا يؤثر فيهم موجب الهداية لا من جهة الفهم من الله تعالى بالإلهام ولا من طريق السمع من كلام الناس ولا من طريق البصر بالاعتبار (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) كقوله : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) (٢) بل أبلغ منه ذلك بسبب احتجابهم عن صفاتنا خصوصا قدرتنا على البعث وإنكارهم له. أنكروا وما استدلوا بخلق السموات والأرض على القدرة.

[١٠٠ ـ ١٠٤] (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤))

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ٩.

(٢) سورة الأنعام ، الآية : ٥٦.

٣٨٩

(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ) لوقوفكم مع صفات نفوسكم التي من لوازمها الشح الجبلي لكون إدراكها مقصورا على ما يدرك بالحسّ من الأمور المادية المحصورة واحتجابها عن البركات الغير المتناهية والرحمة الواسعة الغير المنقطعة التي لا تدرك إلا عند اكتحال البصيرة بنور الهداية فتخشى نفادها وانقطاعها (تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) مرّت الإشارة إليها في سورة (الحجر).

[١٠٥ ، ١٠٦] (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦))

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) أي : ما أنزلنا القرآن إلا بعد زوال بشرية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكلية في مقام الفناء وانتفاء الحدثان عن وجه القدم وانقشاع ظلمة الإمكان عن سبحات الوجه الواجب الباقي بالفرق الثاني ليكون له محل وجودي فما كان إنزاله إلا ظهور أحكام التفاصيل من عين الجمع على المظهر التفصيلي فكان إنزاله بالحق من الحق على الحق ونزوله بالحق على هذا التأويل هو كما يقال : نزل بكذا إذا حل به ، على أن تكون الباء الثانية للظرفية كقولك : نزلت ببغداد والأولى للحال أي : ملتبسا بالحق على معنيين إما بالحق الذي هو نقيض الباطل أي : بالحقيقة والحكمة ، وإما بالحق الذي هو الله تعالى أي : أنزل على صفته وهو الحق (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ) على حسب ظهور استعدادات المظاهر المقتضية لقبوله بحسب الأحوال والمصالح والصفات كما أشرنا إليه في قوله : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) (١).

[١٠٧ ـ ١٠٩] (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩))

(قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) أي : إن وجوداتكم كالعدم عندنا. ليس المراد منه هدايتكم لكونكم مطبوعا على قلوبكم لا محل لكم عند الله ولا في الوجود لكونكم أحلاس بقعة الإمكان معدومي الأعيان بالذات إنما الاعتبار بالعلماء الذين لهم وجود عند الله في عالم البقاء المعتدّ بهم في الأنباء ، فانظر كيف تراهم عند تلاوته عليهم وسماعهم إياه (يَخِرُّونَ) أي :ينقادون له ويعترفون به ويعرفون حقيقته لعلمهم به ومعرفتهم إياه بنورية الاستعداد ومناسبته له ، وبنور كمالهم لتجرّدهم وعلمهم بأنه كان كتابا من عند الله موعودا ليس هو إلا إياه لما وجدوه مطابقا لما اعتقدوه يقينا فإن الاعتقاد الحق لا يكون إلا واحدا (وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) باللين والانقياد لحكمه لتأثرهم به وحسن تلقيهم لقبوله.

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ٧٤.

٣٩٠

[١١٠] (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠))

(قُلِ ادْعُوا اللهَ) بالفناء في الذات الجامعة لجميع الصفات (أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) بالفناء في الصفة التي هي أمّ الصفات (أَيًّا ما) طلبت من هذين المقامين لست هناك بموجود ولا لك بقية ولا اسم ولا عين ولا أثر إذ الرحمن لا يصلح اسما لغير تلك الذات ولا يمكن ثبوت تلك الصفة أي : الرحمة الرحمانية لغيرها فلا يلزم وجود البقية بخلاف سائر الأسماء والصفات (فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) كلها في هذين المقامين لا لك (وَلا تَجْهَرْ) في صلاة الشهود بإظهار صفة الصلاة عن نفسك فيؤذن بالطغيان وظهور الأنانية (وَلا تُخافِتْ) غاية الإخفات فيؤذن بالانطماس في محل الفناء دون الرجوع إلى مقام البقاء ، فلا يمكن أحدا الاقتداء بك ، (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) يدل على الاستقامة ولزوم سيرة العدالة في عالم الكثرة وملازمة الصراط المستقيم بالحق.

[١١١] (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١))

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي : أظهر الكمالات الإلهية والصفات الرحمانية التي لا تكون إلا للذات الأحدية (الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) أي : لم يكن علة لموجود من جنسه لضرورة كون المعلول محتاجا إليه ممكنا بالذات معدوما بالحقيقة فكيف يكون من جنس الموجود حقا الواجب بذاته من جميع الوجوه (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ) من يساويه في قوة القهر والمملكة من الشريك في الملك وإلا لكانا مشتركين في وجوب الوجود والحقيقة. فامتياز كل واحد منهما عن الآخر لا بد وأن يكون بأمر غير الحقيقة الواجبية فلزم تركبهما فكانا كلاهما ممكنين لا واجبين وأيضا فإن لم يستقلا بالتأثير لم يكن أحدهما إلها ، وإن استقلّ أحدهما دون الآخر فذلك هو الإله دونه فلا شريك له وإن استقلا جميعا لزم اجتماع المؤثرين المستقلين على معلول واحد إن فعلا معا وإلا لزم إلهية أحدهما دون الآخر رضي بفعله أو لم يرض (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) أي : لم يكن له ناصر علة كان أو جزء علة تقويه وتنصره من ذلّة الانفعال والعدم وإلا لم يكن إلها واجبا بل ممكنا لتكون حبيبا قائما به لا بنفسك (وَكَبِّرْهُ) من أن يتقيد بصفة دون أخرى أو صورة غير أخرى أو يلحقه شيء من هذه النقائص فينحصر في وجود خاص تبارك وتعالى عن ذلك علوّا كبيرا (تَكْبِيراً) لا يقدر قدره ولا يعرف كنهه لامتناع وجود شيء غيره يفضل عليه وينسب إليه بل كل ما يتصور ويعقل ولا يكبر غيره بهذا التكبير والله الحق الموفق.

٣٩١

سورة الكهف

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١))

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) أثنى الله تعالى بلسان التفصيل على نفسه باعتبار الجمع من حيث كونه منعوتا بإنزال الكتاب وهو إدراج معنى الجمع في صورة التفصيل فهو الحامد والمحمود تفصيلا وجمعا ، فالحمد إظهار الكمالات الإلهية والصفات الجمالية والجلالية على الذات المحمدية باعتبار العروج بعد تخصيصه إياه بنفسه في العناية الأزلية المشار إليه بالإضافة في قوله : عبده ، وذلك جعل عينه في الأزل قابلة للكمال المطلق من فيضه وإيداع كتاب الجمع فيه بالقوة التي هي الاستعداد الكامل وإنزال الكتاب عليه إبراز تلك الحقائق عن ممكن الجمع الوحداني على ذلك المظهر الإنساني فهما متعاكسان باعتبار النزول والعروج والإنزال في الحقيقة حمدا لله تعالى لنبيه إذ المعاني الكامنة في غيب الغيب ما لم ينزل على قلبه فلم يمكنه حمد الله حق حمده فما لم يحمده الله لم يحمد الله بل حمد حمده كما قال : لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ، حمد أولا في عين الجمع نفسه باعتبار التفصيل ثم عكس فقال : الحمد لله.

(وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ) أي : لعبده (عِوَجاً) أي : زيغا وميلا إلى الغير كما قال : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧)) (١) أي : لم ير الغير في شهوده.

[٢ ـ ٤] (قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤))

(قَيِّماً) أي : جعله قيما ، يعني : مستقيما كما أمر بقوله : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) (٢) ، والمعنى : جعله موحدا فانيا فيه غير محتجب في شهوده بالغير ولا بنفسه لكونها غيرا أيضا ممكنا مستقيما حال البقاء ، كما قال : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) (٣) ، أو جعله قيما بأمر العباد وهدايتهم إذ التكميل يترتب على الكمال لأنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ من تقويم نفسه وتزكيتها أقيمت نفوس أمته مقام نفسه فأمر بتقويمها وتزكيتها ولهذا المعنى سمى

__________________

(١) سورة النجم ، الآية : ١٧.

(٢) سورة فصلت ، الآية : ٣٠.

(٣) سورة الكهف ، الآية : ٤.

٣٩٢

إبراهيم صلوات الله عليه أمة ، وهذه القيمية أي القيام بهداية الناس داخلة في الاستقامة المأمور هو بها في الحقيقة (لِيُنْذِرَ) متعلق بعامل قيما أي : جعله قيما بأمر العباد لينذر (بَأْساً شَدِيداً) وحذف المفعول الأول للتعميم لأن أحدا لا يخلو من بأس مؤمنا كان أو كافرا ، كماقال تعالى : «أنذر الصدّيقين بأني غيور ، وبشّر المذنبين بأني غفور».

إذ البأس عبارة عن قهره ولذلك عظمه بالتنكير ، أي : بأسا يليق بعظمته وعزّته ووصفه بالشدّة وخصصه بقوله : (مِنْ لَدُنْهُ) والقهر قسمان : قهر محض ظاهره وباطنه قهر كالمختص بالمحجوبين بالشرك ، وقسم ظاهره قهر وباطنه لطف ، وكذا اللطف كما قال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : سبحان من اشتدّت نقمته على أعدائه في سعة نعمته ، واتسعت رحمته لأوليائه في شدّة نقمته. ومن القسم الثاني القهر المخصوص بالموحدين من أهل الفناء أطلق الإنذار للكل تنبيها ثم فصل اللطف والقهر مقيدين بحسب الصفات والاستحقاقات فقال : (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ) أي : الموحدين لكونهم في مقابلة المشركين الذين قالوا : اتخذ الله ولدا.

(الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) أي : الباقيات من الخيرات والفضائل لأن الأجر الحسن هو من جنة الآثار والأفعال التي تستحق بالأعمال. واعلم أن الإنذار والتبشير اللذين هما من باب التكميل اللازم لكونه قيما عليهم كلاهما أثر ونتيجة عن صفتي القهر واللطف الإلهيين اللذين محل استعداد قبولهما من نفس العبد الغضب والشهوة ، فإنّ العبد ما استعدّ لقبولهما إلا بصفتي الغضب والشهوة وفنائهما كما لم يستعدّ لفضيلتي الشجاعة والعفة إلا بوجودهما ، فلما انتفتا قامتا مقامهما لأن كلّا منهما ظل لواحدة من تينك يزول بحصولها فعند ارتواء القلب منهما وكمال التخلق بهما حدث عن القهر الإنذار عند استحقاقية المحل بالكفر والشرك وعن اللطف التبشير باستحقاقية الإيمان والعمل الصالح ، إذ الإفاضة لا تكون إلا عند استحقاق المحل.

[٥] (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥))

(ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ) أي : ما لهم بهذا القول من علم بل إنما يصدر عن جهل مفرط وتقليد للآباء لا عن علم ويقين ويؤيده قوله : (كَبُرَتْ كَلِمَةً) أي : ما أكبرها كلمة (تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) ليس في قلوبهم من معناه شيء لأنه مستحيل لا معنى له إذ العلم اليقيني يشهد أن الوجود الواجبي العلي أحديّ الذات لا يماثله الوجود الممكن المعلول. والولد هو المماثل لوالده في النوع المكافئ له في القوة والشهود الذاتي يحكم بفناء الخلق في الحق والمعلول في المشهود فلم يكن ، ثم سوّاه شيء غيره فضلا عن الشبيه والولد كما قال أحدهم :

٣٩٣

هذا الوجود وإن تكثر ظاهرا

وحياتكم ما فيه إلا أنتم

(إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) لتطابق الدليل العقلي والوجدان الذوقي الشهوديّ على إحالته.

[٦ ، ٧] (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧))

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ) أي : مهلك (نَفْسَكَ) من شدّة الوجد والأسف على توليهم وإعراضهم ، وذلك لأن الشفقة على خلق الله والرحمة عليهم من لوازم محبة الله ونتائجه ولما كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم حبيب الله ومن لوازم محبوبيته محبته لله لقوله : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (١) وكلما كانت محبته للحق أقوى كانت شفقته ورحمته على خلقه أكثر لكون الشفقة عليهم ظلّ محبته لله اشتدّ تعطفه عليهم ، فإنهم كأولاده وأقاربه بل كأعضائه وجوارحه في الشهود الحقيقي ، فلذلك بالغ في التأسف عليهم حتى كاد يهلك نفسه. وأيضا علم أن المحب إذا تقوّى بالمحبوب في استمرار الوصل ظهر قبوله في القلوب لمحبة الله إياه فلما لم يؤمنوا بالقرآن استشعر ببقية من نفسه وتوجس بنقصان حاله فعلاه الوجد وعزم على قهر النفس بالكلية طلبا للغاية وكان ذلك من فرط شفقته عليهم وكمال أدبه مع الله حيث أحال عدم إيمانهم على ضعف حاله لا على عدم استعدادهم ولذلك سلّاه بقوله : (إِنَّا جَعَلْنا) أي : لا تحزن عليهم فإنه لا عليك أن يهلكوا جميعا ، إنّا نخرج جميع الأسباب من العدم إلى الوجود للابتلاء ثم نفنيها ولا حيف ولا نقص ، أو إنّا جعلنا ما على أرض البدن من النفس ولذاتها وشهواتها وقوى صفاتها وإدراكاتها ودواعيها (زِينَةً) لها ليظهر أيهم أقهر لها وأعصى لهواها في رضاي وأقدر على مخالفتها لموافقتي.

[٨ ، ٩] (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩))

(وَإِنَّا لَجاعِلُونَ) بتجلينا وتجلي صفاتنا (ما عَلَيْها) من صفاتها هامدة كأرض ملساء لا نبات فيها أي : نفنيها وصفاتها بالموت الحقيقي أو بالموت الطبيعي ولا نبالي ، بل (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) أي : إذا شاهدت هذا الإنشاء والإفناء فليس حال أصحاب الكهف آية عجيبة من آياتنا بل هذه أعجب. واعلم أن أصحاب الكهف هم السبعة الكمل القائمون بأمر الحق دائما الذين يقوم بهم العالم ولا يخلو عنهم الزمان على عدد الكواكب السبعة السيّارة وطبقها فكما سخرها الله تعالى في تدبير نظام عالم الصورة كما أشار

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٥٤.

٣٩٤

إليه بقوله : (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥)) (١) على بعض التفاسير وكل نظام عالم المعنى وتكميل نظام الصورة إلى سبعة أنفس من السابقين كل ينتسب بحسب الوجود الصوري إلى واحد منهم ، والقطب هو المنتسب إلى الشمس والكهف هو باطن البدن والرقيم ظاهره الذي انتقش بصور الحواس والأعضاء إن فسر باللوح الذي رقمت فيه أسماؤهم والعالم الجسماني إن جعل اسم الوادي الذي فيه الجبل والكهف والنفس الحيوانية إن جعل اسم الكلب والعالم العلوي إن جعل اسم قريتهم على اختلاف الأقوال في التفاسير ومنهم الأنبياء السبعة المشهورون المبعوثون بحسب القرون والأدوار ، وإن كان كل نبيّ منهم على ذكر وهم :آدم وإدريس ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام لأنه السابع المخصوص بمعجزة انشقاق القمر ، أي : انفلاقه عنه لظهوره في دورة ختم النبوة وكمل به الدين الإلهي كماأشار إليه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض». إذ المتأخر بالزمان والظهور أي : الوجود الحسيّ هو الحائز لصفات الكلّ وكمالاتهم كالإنسان بالنسبة إلى سائر الحيوانات ، ولهذاقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كأنّ بنيان النبوّة قد تمّ وبقي منه موضع لبنة واحدة ، فكنت أنا تلك اللبنة». وقد اتفق الحكماء المتألهة من قدماء الفرس أن مراتب العقول والأرواح على مذهبهم في التنازل تتضاعف إشراقاتها ، فكل ما تأخر في الرتبة كان حظه من إشراقات الحق وأنواره وسبحات أشعة وجهه وإشراقات أنوار الوسائط أوفر وأزيد فكذا في الزمان فهو الجامع الحاصر لصفات الكل وكمالاتهم الحاوي لخواصهم ومعانيهم مع كماله الخاص به اللازم للهيئة الاجتماعية ، كماقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»ومن هذا ظهر تقدّمه عليهم بالشرف والفضيلة ومن جهة أن إبراهيم عليه‌السلام كان مظهر التوحيد الأعظمي الذاتي ، وكان هو الوسط في الترتيب الزماني بمنزلة الشمس في الرتبة كان قطب النبوة ، ولزمهم كلهم اتباعه وإن لم يظهر في المتقدمين عليه بالزمان كارتباط الكواكب الستة في سيرها بها ، ولكن لا كالقمر ، فتبعه بالحقيقة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. واعلم أن الأرواح في عالمها مراتب متعينة ، وصفوف مترتبة واستعدادات متفاوتة متهيئة في الأزل بمحض العناية الأولى والفيض الأقدس فأهل الصف الأول هم السابقون المفردون المقرّبون المحبوبون المخصوصون بفضل عنايته وسابقة كرامته المتعارفون بنوره المتحابون فيه ، والباقون يتباينون في الدرجات وبحسب تقاربها وتباعدها ، يتعارفون ويتناكرون ، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف إلى آخر الصفوف ، فلها مراكز ثابتة ، وأصول راسخة في العالم العلوي وعند التعلق بالأبدان يتفاوت درجات كمالاتها وغاية سعاداتها بحسب ما لها من الاستعداد الأول

__________________

(١) سورة النازعات ، الآيات : ٤ ـ ٥.

٣٩٥

المخصوص بكل منها من مباديها في الأزل كماقال عليه الصلاة والسلام : «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة»، حتى انتهت الدرجات في العلوّ إلى الفناء في التوحيد الذاتي ، فبهذا الاعتبار يكون محمد عليه‌السلام عين آدم بل عين السبعة وكذا باعتبار كونه جامعا لصفاتهم كما قيلأنه سأله أبو يزيد رحمة الله عليه : أنت من السبعة؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا السبعة». وباعتبار علوّ مرتبته ومكانته ، وسبقه في القدم وارتفاع درجة كماله وفضيلته ، كان أقدمهم وأولهم وأفضلهم كماقال : «أول ما خلق الله نوري وكنت نبيّا وآدم بين الماء والطين». فهو متقدم عليهم بالرتبة والعلية والشرف والفضيلة ، متأخر عنهم بالزمان وهو عينهم باعتبار السر والوحدة الذاتية ، فالحاصل أن اختلافهم وتباينهم روحا وقلبا ونفسا لا ينافي اتحادهم في الحقيقة وكذا افتراقهم بالأزمنة لا ينافي معيتهم في الأزل والأبد وعين الجمع كما قال : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) (١) مع قوله : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) (٢). ويجوز أن يكون المراد بأصحاب الكهف روحانيات الإنسان التي تبقى بعد خراب البدن. وقول من قال : ثلاثة ، إشارة إلى الروح والعقل والقلب. والكلب هي النفس الملازمة لباب الكهف. ومن قال : خمسة إشارة إلى الروح والقلب والعقل النظري والعقل العمليّ والقوة القدسية للأنبياء التي هي الفكر لغيرهم. ومن قال : سبعة فتلك الخمسة مع السرّ والخفاء والله أعلم.

[١٠] (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠))

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) أي : كهف البدن بالتعلق به (فَقالُوا) بلسان الحال (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ) أي : من خزائن رحمتك التي هي أسماؤك الحسنى (رَحْمَةً) كما لا يناسب استعدادنا ويقتضيه (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا) الذي نحن فيه من مفارقة العالم العلوي والهبوط إلى العالم السفلي للاستكمال (رَشَداً) استقامة إليك في سلوك طريقك والتوجه إلى جنابك ، أي : طلبوا بالاتصال البدني والتعلق بآلات الكمال وأسبابه الكمال العلمي والعملي.

[١١] (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١))

(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) أي : أنمناهم نومة الغفلة عن عالمهم وكمالهم نومة ثقيلة لا ينبههم صفير الخفير ولا دعوة الداعي الخبير. في كهف البدن (سِنِينَ) ذوات عدد ، أي :كثيرة أو معدودة أي : قليلة هي مدة انغماسهم في تدبير البدن وانغمارهم في بحر الطبيعة مشتغلين بها ، غافلين عما وراءها من عالمهم إلى أوان بلوغ الأشد الحقيقي ، والموت الإرادي

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٥٣.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ١٣٦.

٣٩٦

والطبيعي ، كماقال : «الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا».

[١٢ ، ١٣] (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣))

(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) أي : نبهناهم عن نوم الغفلة بقيامهم عن مرقد البدن ومعرفتهم بالله وبنفوسهم المجرّدة (لِنَعْلَمَ) أي : ليظهر علمنا في مظاهرهم أو مظاهر غيرهم من سائر الناس (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) المختلفين في مدة لبثهم وضبط غايته الذين يعينون المدة أم يكلون علمه إلى الله ، فإن الناس مختلفون في زمان الغيبة. يقول بعضهم : يخرج أحدهم على رأس كل ألف سنة وهو يوم عند الله ، لقوله : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (١). ويقول بعضهم : على رأس كل سبعمائة عام أو على رأس كل مائة ، وهو بعض يوم ، كما قالوا : (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) (٢). والمحققون المصيبون هم الذين يكلون علمه إلى الله كالذين قالوا : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) (٣) ولهذا لم يعين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقت ظهور المهديّ عليه‌السلام ، وقال : «كذب الوقاتون».

(إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) إيمانا يقينا علميا على طريق الاستدلال أو المكاشفة (وَزِدْناهُمْ هُدىً) أي : هداية موصلة إلى عين اليقين ومقام المشاهدة بالتوفيق.

[١٤ ، ١٥] (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥))

(وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) قويناها بالصبر على المجاهدة ، وشجعناهم على محاربة الشيطان ومخالفة النفس ، وهجر المألوفات الجسمانية ، واللذات الحسيّة ، والقيام بكلمة التوحيد ، ونفي إلهية الهوى ، وترك عبادة صنم الجسم بين يدي جبّار النفس الأمّارة من غير مبالاة بها حين عاتبتهم على ترك عبادة إله الهوى وصنم البدن ، وأوعدتهم بالفقر والهلاك ، إذ النفس داعية إلى عبادته وموافقته ، وتهيئة أسباب حظوظه مخيفة للقلب من الخوف والموت ، أو جسرناهم على القيام بكلمة التوحيد ، وإظهار الدين القويم والدعوة إلى الحق عند كل جبّار هو دقيانوس وقته كنمروذ وفرعون وأبي جهل وأضرابهم ممن دان بدينهم واستولى عليه النفس الأمّارة فعبد الهوى ، أو ادّعى الطغيان ، وتمرد أنائيته وعدوانه الربوبية من غير مبالاة عند معاتبته إياهم على

__________________

(١) سورة الحج ، الآية : ٤٧.

(٢) سورة الكهف ، الآية : ١٩.

(٣) نفس الهامش السابق.

٣٩٧

ترك عبادة الصنم المجعول كما هو عادة بعضهم أو صنم نفسه ، كما قال فرعون اللعين : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) (١) و (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (٢).

(هؤُلاءِ قَوْمُنَا) إشارة إلى النفس الأمارة وقواها ، لأن لكل قوم إلها تعبده وهو مطلوبها ومرادها ، والنفس تعبد الهوى كقوله : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ) (٣) ، أو إلى أهل زمان كل من خرج منهم داعيا إلى الله ، إذ كل من عكف على شيء يهواه فقد عبده. (لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ) أي : على عبادتهم وإلهيتهم وتأثيرهم ووجودهم (بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) أي : حجة بيّنة دليل على فساد التقليد وتبكيت بأن إقامة الحجة على إلهية غير الله وتأثيره ووجوده محال ، كما قال : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) (٤) أي : أسماء بلا مسميات لكونها ليست بشيء.

[١٦] (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦))

(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) أي : فارقتم نفوسكم وقواها بالتجرّد (وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) من مراداتها وأهوائها (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) إلى البدن لاستعمال الآلات البدنية في الاستكمال بالعلوم والأعمال ، وانخزلوا فيه منكسرين ، مرتاضين ، كأنهم ميتون بترك الحركات النفسانية والنزوات البهيمية والسطوات السبعية ، أي : موتوا موتا إراديا (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) حياة حقيقة بالعلم والمعرفة (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) كما لا ينتفع به بظهور الفضائل وطلوع أنوار التجليات ، فتلتذون بالمشاهدات وتتمتعون بالكمالات كما قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) (٥) ، وقال عليه‌السلام في أبي بكر رضي الله عنه : «من أراد أن ينظر ميتا يمشي على وجه الأرض فلينظر أبا بكر»، أي : ميتا عن نفسه يمشي بالله. أو وإذا اعتزلتم قومكم ومعبوداتهم غير الله من مطالبهم المختلفة ، ومقاصدهم المتشتتة ، وأهوائهم المتفننة ، وأصنامهم المتخذة ، فأووا إلى كهوف أبدانكم وامتنعوا عن فضول الحركات والخروج في أثر الشهوات ، واعكفوا على الرياضات ، (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) (٦) زيادة كمال وتقوية ونصرة بالأمداد الملكوتية ، والتأييدات القدسية ،

__________________

(١) سورة القصص ، الآية : ٣٨.

(٢) سورة النازعات ، الآية : ٢٤.

(٣) سورة الجاثية ، الآية : ٢٣.

(٤) سورة النجم ، الآية : ٢٣.

(٥) سورة الأنعام ، الآية : ١٢٢.

(٦) سورة الكهف ، الآية : ١٦.

٣٩٨

فيغلبكم عليهم ويهيئ لكم دينا وطريقا ينتفع به ، وقبولا يهتدي بكم الخلائق ناجين. وفي الأوى إلى الكهف عند مفارقتهم سر آخر يفهم من دخول المهدي في الغار إذا خرج ونزل عيسى والله أعلم. وفي نشر الرحمة وتهيئة المرفق من أمرهم عند الأوى إلى الكهف إشارة إلى أنّ الرحمة الكامنة في استعدادهم إنما تنتشر بالتعلق البدني والكمال بتهيئاته.

[١٧] (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧))

(وَتَرَى الشَّمْسَ) أي : شمس الروح (إِذا طَلَعَتْ) أي : ترقت بالتجرّد عن غواشي الجسم وظهرت من أفقه تميل بهم من جهة البدن وميله ومحبته إلى جهة اليمين أي : جانب عالم القدس وطريق أعمال البرّ من الخيرات والفضائل والحسنات والطاعات. وسيرة الأبرار ، فإن الأبرار هم أصحاب اليمين. (وَإِذا غَرَبَتْ) أي : هوت في الجسم واحتجبت به ، واختفت في ظلماته وغواشيه ، وخمد نورها ، تقطعهم وتفارقهم كائنين في جهة الشمال ، أي : جانب النفس وطريق أعمال السوء فينهمكون في المعاصي والسيئات والشرور والرذائل. وسيرة الفجار الذين هم أصحاب الشمال (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي : في مجال متسع من بدنهم هو مقام النفس والطبيعة ، فإن فيه متفسحا لا يصيبهم فيه نور الروح. واعلم أن الوجه الذي يلي الروح من القلب موضع منور بنور الروح يسمى العقل وهو الباعث على الخير والمطرق لإلهام الملك والوجه الذي يلي النفس منه مظلم بظلمة صفاتها يسمى الصدر وهو محل وسوسة الشيطان كما قال : (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥)) (١) ، فإذا تحرك الروح وأقبل القلب بوجهه إليه تنور وتقوى بالقوة العقلية الباعثة المشوقة إلى الكمال ومال إلى الخير والطاعة ، وإذا تحركت النفس وأقبل القلب بوجهه إليها تكدر واحتجب عن نور الروح وأظلم العقل ومال إلى الشر والمعصية. وفي هاتين الحالتين تطرق الملك للإلهام والشيطان للوسواس وخلطوا عملا صالحا وآخر سيئا. وفي الآية لطيفة هي : أنه استعمل في الميل إلى الخير الازورار عن الكهف ، وفي الميل إلى الشر قرضهم أي : قطعهم ، وذلك أن الروح يوافق القلب في طريق الخير ويأمره به ويوافقه معرضا عن جانب البدن وموافقاته ولا يوافقه في طريق الشر بل يقطعه ويفارقه وهو منغمس في ظلمات النفس وصفاتها الحاجبة إياه عن النور وهو إشارة إلى تلوينهم في السلوك ، فإن السالك ما لم يصل إلى مقام التمكين وبقي في التلوين قد تظهر عليه النفس وصفاته فيحتجب عن نور الروح ثم يرجع ذلك أي : طلوع نور

__________________

(١) سورة الناس ، الآية : ٥.

٣٩٩

الروح واختفاؤه من آيات الله التي يستدل بها ويتوصل منها إليه وإلى هدايته.

(مَنْ يَهْدِ اللهُ) بإيصاله إلى مقام المشاهدة والتمكين فيها (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) بالحقيقة لا غير (وَمَنْ يُضْلِلْ) بحجبه عن نور وجهه فلا هادي له ولا مرشد ، أو من يهد الله إليهم وإلى حالهم بالحقيقة ومن يضلله يحجبه عن حالهم.

[١٨] (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨))

(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً) يا مخاطب لانفتاح أعينهم وإحساساتهم وحركاتهم الإرادية الحيوانية (وَهُمْ رُقُودٌ) بالحقيقة في سنة الغفلة تراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) أي : نصرفهم إلى جهة الخير وطلب الفضيلة تارة ، وإلى جهة الشر ومقتضى الطبيعة أخرى (وَكَلْبُهُمْ) أي : نفسهم (باسِطٌ ذِراعَيْهِ) أي : ناشرة قوتيها الغضبية والشهوانية (بِالْوَصِيدِ) أي : بفناء البدن ، ولم يقل : وكلبهم هاجع لأنها لم ترقد بل بسطت القوتين في فناء البدن ملازمة له لا تبرح عنه ، والذراع الأيمن هو الغضب لأنه أقوى وأشرف وأقبل لدواعي القلب في تأديبه ، والأيسر هو الشهوة لضعفها وخستها (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) أي : على حقائقهم المجردة وأحوالهم السنية وما أودع الله فيهم من النورية والسنا ، وما ألبسهم من العز والبهاء (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ) فارّا لعدم اعتقادك بالنفوس المجردة وأحوالها وعدم استعدادك لقبول كمالهم ، أو لوليت منهم للفرار عنهم وعن معاملاتهم لميلك إلى اللذات الحسيّة والأمور الطبيعية (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) من أحوالهم ورياضاتهم ، أو لو اطلعت عليهم بعد الوصول إلى الكمال وعلى أسرارهم ومقاماتهم في الوحدة لأعرضت عنهم وفررت من أحوالهم وملئت منهم رعبا لما ألبسهم الله من عظمته وكبريائه. وأين الحدث من القدم ، وأنى يسع الوجود العدم.

[١٩] (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩))

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) أي : مثل ذلك البعث الحقيقي والإحياء المعنوي بعثناهم (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) أي : ليتباحثوا بينهم عن المعاني المودعة في استعدادهم الحقائق المكنونة في ذواتهم فيكملوا بإبرازها وإخراجها إلى الفعل ، وهو أول الانتباه الذي تسميه المتصوفة اليقظة (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ) مرّ تأويله ، والمحققون منهم هم الذين (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) هذا هو زمان استبصارهم واستفادتهم واستكمالهم.

٤٠٠