تفسير ابن عربي - ج ١

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ١

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٥
الجزء ١ الجزء ٢

(لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) لأن المتوكل على الله ، الصابر على بلائه ، المستعين به لا بغيره ، ظافر في طلبته ، غالب على خصمه ، محفوظ بحسن كلاءة ربه ، والمستعين بغيره مخذول موكول إلى نفسه ، محروم عن نصرة ربه. كما قال الشاعر :

من استعان بغير الله في طلب

فإن ناصره عجز وخذلان

(إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ) من المكايد (مُحِيطٌ) فيبطلها ويهلكها ، وقد قيل : إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلا في نفسك. فالصبر والتقوى من أجمل الفضائل إن لزمتموهما تظفروا على عدوّكم.

[١٢٥ ـ ١٢٦] (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦))

(بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ) الآية ... الصبر على مضض الجهاد وبذل النفس في طاعة الله ، وتحمل المكروه طلبا لرضا الله لا يكون إلا عند التقوى بتأييد الحق وتنوّره بنور اليقين ، وثباته بنزول السكينة والطمأنينة عليه ، والتقوى في مخالفة أمر الحق والميل إلى النفع والغنيمة ، وخوف تلف النفس لا تكون إلا عند انكسار النفس تحت قهر سلطان القلب والروح ، إذ الثبات والوقار صفة الروح والطيش ، والاضطراب صفة النفس ، فإذا استولى سلطان الروح على القلب وأخذ مملكته عصمه من استيلاء صفات النفس وجنودها عليه ، فيعشقه القلب ويسكن إليه لنورانيته المحبوبة لذاتها ويتقوّى به على النفس وقواها فيهزمها ويكسرها ويدفع غلبتها وظلمتها عن نفسه ، ويجعلها ذلولا مطيعة مطمئنة إليه فيزول عنها الاضطراب وتتنوّر بنوره وعند ذلك تنزل الرحمة ، ويناسب القلب ملكوت السماء في نورانيتها وقهرها لما تحتها ، ومحبتها وشوقها لما فوقها. وبذلك المناسب يصل بها ويستنزل قواها وأوصافها في أفعاله خصوصا عند اهتياجه وانقلاعه عن الجهة السفلية ، وانقطاعه بقوة اليقين والتوكل إلى الجهة العلوية. ويستمد من قوى قهرها على من يغضب عليه فذلك نزول الملائكة ، وإذا جزع وهلع وتغير وخاف أو مال إلى الدنيا غلبته النفس وقهرته واستولت عليه وحجبته بظلمة صفاتها عن النور ، فلم تبق تلك المناسبة ، فانقطع المدد ولم تنزل الملائكة (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) أي : ما جعل الإمداد بالملائكة إلا لتستبشروا به فتزداد قوة قلوبكم وشجاعتكم ونجدتكم ونشاطكم في التوجه إلى الحق والتجريد للسلوك (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) فتتحقق الفيض بقدر التصفية والخلف بقدر الترك.

(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) لا من الملائكة ولا من غيرهم ، فلا تحتجبوا بالكثرة عن

١٢١

الوحدة ، ولا بالخلق عن الحق ، فإنها مظاهر لا حقيقة لها ولا تأثير ، (الْعَزِيزِ) القوي الغالب بقهره (الْحَكِيمِ) الذي ستر قهره ونصرته بصور الملائكة بحكمته.

[١٢٧ ـ ١٣٢] (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢))

(لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يقتل بعضهم تقوية للمؤمنين (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) يخزيهم ويذلهم بالهزيمة إعزازا للمؤمنين (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) بالإسلام تكثيرا لسواد المؤمنين (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) بسبب ظلمهم وإصرارهم على الكفر تفريحا للمؤمنين. وأوقع بين المعطوف والمعطوف عليه في أثناء الكلام قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) اعتراضا لئلا يغفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيرى لنفسه تأثيرا في بعض هذه الأمور ، فيحتجب عن التوحيد ولا يزول ، وتتغير شهوده في الأقسام كلها ، أي : ليس لك من أمرهم شيء كيفما كان ، ما أنت إلّا بشر مأمور بالإنذار ، إن عليك إلّا البلاغ ، إنما أمرهم إلى الله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا) أي : توكلوا على الله في طلب الرزق فلا تكسبوه بالربا ، فإنه واجب عليكم كما يجب عليكم التوكل عليه في طلب الفتح وجهاد العدوّ لئلا تجبنوا بكلاءة الله وحفظه. واعلموا أن جزاء المرابي هو جزاء الكافر ، فاحذروه لكونه محجوبا عن أفعاله تعالى كما أن الكافر محجوب عن صفاته وذاته ، والمحجوب غير قابل للرحمة وإن اتسعت ، فارفعوا الحجاب بالطاعة وترك المخالفة كي تدرككم رحمة الله.

[١٣٣] (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣))

(وَسارِعُوا إِلى) ستر أفعالكم التي هي حجابكم عن مشاهدة أفعال الحق بأفعاله تعالى ، فإنما حرمتم عن التوكل وجنة عالم الملك التي هي تجلي الأفعال برؤية أفعالكم ، أي : إلى ما يوجب ستر أفعالكم بأفعاله ، وجنّة الأفعال من الطاعات بعد كما ورد : «أعوذ بعفوك من عقابك». ولأن المراد بالجنّة هنا جنة الأفعال ، وصف عرضها بمساواة عرض السموات والأرض ، إذ توحيد الأفعال هو توحيد عالم الملك وإنما قدّر طولها لأن الأفعال باعتبار السلسلة العرضية ، وهي توقف كل فعل على فعل آخر تنحصر في عالم الملك الذي يتقدّره الناس. وإما باعتبار الطول فلا تنحصر فيه ولا يقدّرها ، إذ الفعل مظهر الوصف ، والوصف

١٢٢

مظهر الذات ، فلا نهاية له ولا حدّ. فالمحجوبون عن الذات والصفات لا يرون إلا عرض هذه الجنّة ، وأما البارزون لله الواحد القهار فعرض جنتهم عين طولها ولا حدّ لطولها فلا يقدر قدرها طولا ولا عرضا (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) الذين يتقون حجب أفعالهم وشرك نسبة الأفعال إلى غير الحق.

[١٣٤] (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤))

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) لا تمنعهم الأحوال المضادّة عن الإنفاق لصحة توكلهم على الله برؤية جميع الأفعال منه (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) لذلك أيضا ، إذ يرون الجناية عليهم فعل الله فلا يعترضون ، ولو لم يغيظوا كانوا في مقام الرضا وجنة الصفات (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) لما ذكرنا ، ولتعوذهم بعفوه تعالى عن عقابه (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الذين يشاهدون تجليات أفعاله تعالى.

[١٣٥] (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥))

(وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) كبيرة من الكبائر ، برؤية أفعالهم صادرة عن قدرتهم (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) نقضوا حقوقها بارتكاب الصغائر وظهور أنفسهم فيها (ذَكَرُوا اللهَ) في صدور أفعالهم برؤيتها واقعة بقدرة الله وتبرأ عنها إليه لرؤيتهم ابتلاءه إياهم بها (فَاسْتَغْفَرُوا) طلبوا ستر أفعالهم التي هي ذنوبهم بأفعاله بالتبرّي عن الحول والقوّة إليه (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ) أي وجودات الأفعال (إِلَّا اللهُ) أي علموا أن لا غافر إلا هو (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) في غفلتهم وحالة ظهور أنفسهم ، بل تابوا ورجعوا إليه في أفعالهم (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن لا فعل إلا لله (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) بمقتضى توحيد الأفعال.

[١٣٦ ـ ١٤٢] (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢))

(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ) بطشات ووقائع مما سنّه الله في أفعاله بالذين كذبوا بالأنبياء في

١٢٣

توحيد الأفعال (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا) في آثارها فتعلموا كيف كان عاقبتهم (هذا) الذي ذكر (بَيانٌ لِلنَّاسِ) من علم توحيد الأفعال وتفصيل المتقين الذين هم أهل التمكين في ذلك ، والتائبين الذين هم أهل التلوين ، والمصرين المحجوبين عنه المكذبين به ، وزيادة هدى وكشف عيان وتثبت واتعاظ للذين اتّقوا رؤية أفعالهم أو هدى لهم إلى توحيد الصفات والذات. (وَلا تَهِنُوا) في الجهاد عند استيلاء الكفار (وَلا تَحْزَنُوا) على ما فاتكم من الفتح وما جرح واستشهد من إخوانكم (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) في الرتبة لقربكم من الله وعلو درجتكم بكونكم أهل الله (إِنْ كُنْتُمْ) موحدين ، لأنّ الموحد يرى ما يجرى عليه من البلاء من الله فأقلّ درجاته الصبر إن لم يكن رضا يتقوّى به فلا يحزن ولا يهن (الْأَيَّامُ) الوقائع وكل ما يحدث من الأمور العظيمة يسمى يوما وأياما ، كما قال تعالى : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) (١) ، وقد مرّ تفسير (وَلِيَعْلَمَ اللهُ) من ظهور العلم التفصيلي التابع لوقوع المعلوم.

(وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) الذين يشهدون للحق فيذهلون عن أنفسهم ، أي : نداول الوقائع بين الناس لأمور شتى وحكم كثيرة ، غير مذكورة ، من خروج ما في استعدادهم إلى الفعل من الصبر والجلد وقوّة اليقين ، وقلّة المبالاة بالنفس ، واستيلاء القلب عليها ، وقمعها وغير ذلك. ولهذين العلتين المذكورتين ولتخليص المؤمنين من الذنوب والغواشي التي تبعدهم من الله بالعقوبة والبليّة إذا كانت عليهم ، ومحق الكافرين وقهرهم وتدميرهم إذا كانت لهم. وقد اعترض بين العلل قوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ليعلم أنّ من ليس على صفة الإيمان والشهادة وتمحيص الذنوب وقوّة الثبات لكمال اليقين ، بل حضر القتال لطلب الغنيمة أو لغرض آخر فهو ظالم والله لا يحبه.

[١٤٣] (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣))

(وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) الآية ، كل موقن إذا لم يكن يقينه ملكة بل كان خطرات ، فهو في بعض أحواله يتمنى أمورا ويدعي أحوالا بحسب نفسه دائما ، وكذلك حال غير اليقين وعند إقبال القلب هو صادق ما دام موصوفا بحاله. أما في غير تلك الحالة ، وعند الإدبار ، فلا يبقى من ذلك أثر وكذا كل من لم يشاهد حالا ولم يمارسه ، ربما يتمناه لتصوّره في نفسه وعدم تضرّره به حال التصور. أما في حال وقوعه وابتلائه فلا يطيق تحمل شدائده كما حكي عن سمنون المحبّ رحمه لله لما قال في أبياته :

فكيفما شئت فاختبرني

فابتلي بالأسر ، فلم يطق ، فكان يتردّد في الطرق ويرضخ إلى الصبيان ما يلعبون به

__________________

(١) سورة إبراهيم ، الآية : ١٤.

١٢٤

كالجوز ، ويقول : ادعوا على عمكم الكذاب. وفي هذا المعنى قال الشاعر :

وإذا ما خلا الجبان بأرض

طلب الطعن وحده والنزالا

فلا يلتفت بحال إلا إذا صار مقاما ، ولا يعتبر مقاما إلا إذا امتحن في مواطنه ، فإذا خلص من الامتحان فقد صح وهذا أحد فوائد مداولة الأيام بينهم ليتمرّنوا بالموت ويتقوّى يقينهم ويتوفر صبرهم ويتحقق مقامهم بالمشاهدة كما قال : (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) من قتل إخوانكم بين أيديكم (وَأَنْتُمْ) تشاهدون ذلك. وفيه توبيخ لهم على أنّ يقينهم كان حالا لا مقاما ، ففشلوا في الموطن.

[١٤٤ ـ ١٥١] (وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١))

(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) أي : إنه رسول بشر ، سيموت أو يقتل كحال الأنبياء قبله ، فمن كان على يقين من دينه فبصيرة من ربّه لا يرتد بموت الرسول وقتله ، ولا يفتر عما كان عليه ، لأنه يجاهد لربّه لا للرسول كأصحاب الأنبياء السالفين. وكما قال أنس عم أنس بن مالك يوم أحد حين أرجف بقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشاع الخبر ، وانهزم المسلمون ، وبلغ إليه تقاول بعضهم : ليت فلانا يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان. وقول المنافقين : لو كان نبيّا ما قتل! ، يا قوم ، إن كان محمد قد قتل فإنّ ربّ محمد حيّ لا يموت! ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه ، وموتوا على ما مات عليه. ثم قال : اللهمّ إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء. ثم شدّ بسيفه وقاتل حتى قتل.

(وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) إنما ضرّ نفسه بنفاقه وضعف يقينه (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) لنعمة الإسلام ، كأنس بن النضر وأضرابه من الموقنين (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) فمن كان موقنا شاهد هذا المعنى ، فكان من أشجع

١٢٥

الناس كما حكى حاتم ابن الأصمّ عن نفسه أنه شهد مع الشقيق البلخي رحمهما‌الله ، بعض غزوات خراسان. قال : فلقيني شقيق وقد حمى الحرب ، فقال : كيف تجد قلبك يا حاتم؟ قلت : كما كان ليلة الزفاف ، بين الحالين. فوضع سلاحه وقال : أما أنا فهكذا. ووضع رأسه على ترسه ونام بين المعركة حتى سمعت غطيطه. وهذا غاية في سكون القلب إلى الله ووثوقه به لقوة اليقين (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) الآية ، جعل إلقاء الرعب في قلوب الكفار مسببا عن شركهم ، لأن الشجاعة وسائر الفضائل اعتدالات في قوى النفس من وقوع ظل الوحدة عليها عند تنوّرها بنور القلب المنوّر بنور الوحدة ، فلا تكون تامة حقيقة إلا للموحد الموقن في توحيده. وأما المشرك فلأنه محجوب عن منبع القوة والقدرة بما أشرك بالله من الموجود المشوب بالعدم لإمكانه الخفيّ الوجود ، الضعيف ، الذي لم يكن له بحسب نفسه قوة ولا وجود ولا ذات في الحقيقة ، ولم ينزل الله بوجوده حجة لوجوده أصلا لتحقق عدمه بحسب ذاته ، فليس له إلا العجز والجبن وجميع الرذائل ، إذ لا يكون أقوى من معبوده وإن اتفقت له دولة أو صولة أو شوكة فشيء لا أصل له ولا ثبات ولا بقاء كنار العرفج مثلما كانت دولة المشركين.

[١٥٢ ـ ١٥٨] (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨))

١٢٦

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) أي : وعدكم النصر إن تصبروا وتتقوا ، فما دمتم على حالكم من قوة الصبر على الجهاد وتيقن النصر والثبات على اليقين واتفاق الكلمة بالتوجه إلى الحق والاتقاء عن مخالفة الرسول وميل النفوس إلى زخرف الدنيا والإعراض عن الحق ، مجاهدين لله لا للدنيا ، كان الله معكم بالنصر ، وإنجاز الوعد ، وكنتم تقطعونهم بإذنه وتهزمونهم (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) أي : جبنتم بدخول الضعف في يقينكم وفساد اعتقادكم في حق نفسه بتجويز غلوله في الغنيمة (وَتَنازَعْتُمْ) في أمر الحرب بعد الاتفاق وما صبرتم عن حظ الدنيا ، وعصيتم الرسول بترك ما أمركم به من ملازمة المركز ، وملتم إلى زخرف الدنيا (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) من الفتح والغنيمة وحان زمان شكركم لله ، وشدّة إقبالكم عليه ، فذهلتم عنه ، فكان أشرفكم يريد الآخرة والباقون يريدون الدنيا ، ولم يبق فيكم من يريد الله منعكم نصره (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) بما فعلتم فكان الابتلاء لطفا بكم وفضلا (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) في الأحوال كلها ، إما بالنصرة وإما بالابتلاء ، فإن الابتلاء فضل ولطف خفيّ ليعلموا أن أحوال العباد جالبة لظهور أوصاف الحق عليهم فما أعدّوا له نفوسهم موهوب لهم من عند الله كما مر في قوله : «مطيع من أطاعني». كما يكونون مع الله يكون الله معهم ، ولئلا يناموا إلى الأحوال دون المسلكات ، وليتمرّنوا بالصبر على الشدائد ، والثبات في المواطن ، ويتمكنوا في اليقين ، ويجعلوه ملكا لهم ، ومقاما ، ويتحققوا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، ولا يميلوا إلى الدنيا وزخرفها ، ولا يذهلوا عن الحق ، ولا يبيعوه بالدنيا والآخرة ، وليكون عقوبة عاجلة للبعض فيتمحصوا عن ذنوبهم وينالوا درجة الشهادة برفع الحجب ، خصوصا حجاب محبة النفس ، فيلقوا الله طاهرين. ولهذا قال تعالى : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) (١) ، إذ الابتلاء كان سبب العفو.

(فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) أي : صرفكم عنهم فجازاكم غما بسبب غمّ لحق رسول الله من جهتكم ، بعصيانكم إيّاه ، وفشلكم وتنازعكم ، أو غمّا بعد بغمّ أي : غمّا مضاعفا لتتمرّنوا بالصبر على الشدائد والثبات فيها ، وتتعوّدوا رؤية الغلبة والظفر والغنيمة وجميع الأشياء من الله لا من أنفسكم فلا (تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) من الحظوظ والمنافع (وَلا ما أَصابَكُمْ) من الغموم والمضارّ. (ثُمَ) خلّى عنكم الغمّ بالأمن وإلقاء النعاس على الطائفة الصادقين دون المنافقين الذين (أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) لا نفس الرسول ولا الذين وافقوا علامة للعفو (لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) لقوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) (٢).

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٥٢.

(٢) سورة الحديد ، الآية : ٢٢.

١٢٧

(وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) أي : وليمتحن ما في استعدادكم من الصدق والإخلاص واليقين والصبر والتوكل والتجرّد وجميع الأخلاق والمقامات ، ويخرجها من القوّة إلى الفعل (وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) أي : وليخلص ما برز منها من مكمن الصدر إلى مخزون القلب من عثرات وساوس الشيطان ودناءة الأحوال وخواطر النفس ، فعل ذلك فإن البلاء سوط من سياط الله يسوق به عباده إليه بتصفيتهم عن صفات نفوسهم وإظهار ما فيهم من الكمالات ، وانقطاعهم عنده من الخلق ومن النفس إلى الحق. ولهذا كان متوكلا بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيانا لفضله : «ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت» ، كأنه قال : ما صفى نبيّ مثل ما صفيت. ولقد أحسن من قال :

لله درّ النائبات فإنها

صدأ اللئام وصيقل الأحرار

إذ لا يظهر على كل منهم إلا ما في مكمن استعداده كما قيل : عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان. (اسْتَزَلَّهُمُ) أي : طلب منهم الزلّة ودعاهم إليها ، وهي زلّة التولي (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) من الذنوب. فإنّ الشيطان إنما يقدر على وسوسة الناس وإنفاذ أمره إذا كان له مجال بسبب أدنى ظلمة في القلب ، حادثة من ذنب ، وحركة من النفس كما قيل : الذنب بعد الذنب عقوبة للذنب الأول. (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) بالاعتذار والندم (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي : يجعل ذلك القول والاعتقاد ضيقا وضنكا وغمّا في قلوبهم لرؤيتهم القتل والموت مسببا عن فعل ، ولو كانوا موقنين موحدين لرأوا أنه من الله ، فكانوا منشرحي الصدور (وَاللهُ يُحْيِي) من يشاء في السفر والجهاد وغيره (وَيُمِيتُ) من يشاء في الحضر وغيره (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ) أي : لنعيمكم الأخروي من جنّة الأفعال وجنّة الصفات خير لكم من الدنيوي لكونكم عاملين للآخرة و (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) لمكان توحيدكم ، فحالكم فيما بعد الموت أحسن من حالكم قبله.

[١٥٩ ـ ١٦٠] (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠))

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) أي : فباتصافك برحمة رحيمية ، أي : رحمة تامّة ، كاملة ، وافرة ، هي صفة من جملة صفات الله ، تابعة لوجودك الموهوب الإلهيّ لا الوجود البشريّ (لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) موصوفا بصفات النفس التي منها الفظاظة والغلظة (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) لأنّ الرحمة الإلهية الموجبة لمحبتهم إياك تجمعهم (فَاعْفُ عَنْهُمْ) فيما يتعلق بك من جنايتهم

١٢٨

لرؤيتك إياه من الله بنظر التوحيد وعلوّ مقامك من التأذي بفعل البشر ، والتغيظ من أفعالهم ، وتشفي الغيظ بالانتقام منهم (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) فيما يتعلق بحق الله لمكان غفلتهم وندامتهم واعتذارهم (وَشاوِرْهُمْ) في أمر الحرب وغيره مراعاة لهم واحتراما ، ولكن إذا عزمت ففوّض الأمر إلى الله بالتوكل عليه ورؤية جميع الأفعال والفتح والنصر والعلم بالأصلح والأرشد منه ، لا منك ، ولا مما تشاوره. ثم حقّق معنى التوكل والتوحيد في الأفعال بقوله : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ) إلى آخره.

[١٦١] (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١))

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) لبعد مقام النبوّة وعصمة الأنبياء عن جميع الرذائل ، وامتناع صدور ذلك منهم مع كونهم منسلخين عن صفات البشرية ، معصومين عن تأثير دواعي النفس والشيطان فيهم ، قائمين بالله متّصفين بصفاته (يَأْتِ بِما غَلَ) أي : يظهر على صورة غلوله بما غلّ بعينه.

[١٦٢ ـ ١٦٨] (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦))

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨))

(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) أي : النبيّ في مقام الرضوان التي هي جنة الصفات ، لاتصافه بصفات الله ، والغالّ في مقام السخط لاحتجابه بصفات نفسه (وَمَأْواهُ) أسفل حضيض النفس المظلمة ، فهل يتشابهان؟ (هُمْ دَرَجاتٌ) أي : كل من أهل الرضا وأهل السخط ذوو درجات متفاوتات أو هم مختلفون اختلاف الدرجات (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) لا ينافي قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (١) لأنّ السبب الفاعلي في الجميع هو الحق تعالى ، والسبب القابليّ أنفسهم ، ولا يفيض من الفاعل إلا ما يليق بالاستعداد ويقتضيه ، وباعتبار الفاعل يكون من عند

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٧٨.

١٢٩

الله ، وباعتبار القابل يكون من عند أنفسهم. واستعداد الأنفس إما أصليّ وإما عارضيّ ، والأصلي من فيضه الأقدس على مقتضى مشيئته ، والعارضي من اقتضاء قدره. فهذا الجانب أيضا ينتهى إليه ، ومن وجه آخر ما يكون من أنفسهم أيضا يكون من الله نظرا إلى التوحيد ، إذ لا غير ثمة (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) أي : وليتميز المؤمنون والمنافقون في العلم التفصيليّ.

[١٦٩] (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩))

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) سواء كان قتلهم بالجهاد الأصغر ، وبذل النفس طلبا لرضا الله ، أو بالجهاد الأكبر ، وكسر النفس ، وقمع الهوى بالرياضة (أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) بالحياة الحقيقية مجرّدين عن دنس الطبائع ، مقرّبين في حضرة القدس (يُرْزَقُونَ) من الأرزاق المعنوية ، أي المعارف والحقائق واستشراق الأنوار ، ويرزقون في الجنّة الصورية كما يرزق سائر الأحياء. فإنّ للجنان مراتب بعضها معنوية وبعضها صورية ، ولكل من المعنوية والصورية درجات على حسب الأعمال ، فالمعنوية جنّة الذات وجنة الصفات وتفاضل درجاتها على حسب تفاضل درجات أهل الجبروت والملكوت ، والصورية جنّة الأفعال وتفاوت درجاتها على حسب تفاوت درجات عالم الملك من السموات العلى ، وجنات الدنيا وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، تدور في أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب ، معلقة في ظلّ العرش». فالطير الخضر : إشارة إلى الأجرام السماوية ، والقناديل هي الكواكب ، أي تعلقت بالنيرات من الأجرام السماوية لنزاهتها ، وأنهار الجنة منابع العلوم ومشارعها ، وثمارها الأحوال والمعارف والأنهار ، والثمار الصورية على حسب جنتهم المعنوية أو الصورية. فإنّ كل ما وجد في الدنيا من المطاعم والمشارب والمناكح والملابس وسائر الملاذ والمشتهيات ، موجود في الآخرة وفي طبقات السماء ألذّ وأصفى مما في الدنيا.

[١٧٠ ـ ١٧١] (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١))

(فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من الكرامة والنعمة والقرب عند الله (وَيَسْتَبْشِرُونَ) حال إخوانهم (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) ولم ينالوا درجاتهم بعد من خلفهم لاستسعادهم عن قريب بمثل حالهم ولحوقهم بهم (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بدل اشتمال من الذين ، أي : يستبشرون بأنهم آمنوا ، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ)

١٣٠

أي : أمنهم بنعمة عظيمة لا يعلم كنهها ، هي جنة الصفات بحصول مقام الرضوان المدكورة بعده لهم (وَفَضْلٍ) وزيادة عليها هي جنة الذات والأمن الكليّ من بقية الوجود وذلك كمال كونهم شهداء لله ، ومع ذلك فإنّ الله لا يضيع أجر إيمانهم الذي هو جنّة الأفعال وثواب الأعمال.

[١٧٢ ـ ١٧٨] (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨))

(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ) بالفناء في الوحدة الذاتية (وَالرَّسُولِ) بالمقام بحق الاستقامة (مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) أي : كسر النفس (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ) أي : ثبتوا في مقام المشاهدة (وَاتَّقَوْا) بقاياهم (أَجْرٌ عَظِيمٌ) وراء الإيمان هو روح المشاهدة (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) قبل الوصول إلى المشاهدة (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) أي : اعتبروا لوجودكم واعتدوا بكم فاعتدوا بهم (فَزادَهُمْ) ذلك القول (إِيماناً) أي : يقينا وتوحيدا بنفي الغير وعدم المبالاة به ، وتوصلوا بنفي ما سوى الله إلى إثباته بقولهم (حَسْبُنَا اللهُ) فشاهدوه ثم رجعوا إلى تفاصيل الصفات بالاستقامة فقالوا : (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) وهي الكلمة التي قالها إبراهيم عليه‌السلام حين ألقي في النار فصارت بردا وسلاما عليه (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) أي : رجعوا بالوجود الحقانيّ في جنة الصفات والذات كما مرّ آنفا (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) البقية ورؤية الغير.

(وَ) هم (اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) الذي هو جنة الصفات في حال سلوكهم حين لم يعلموا ما أخفي لهم من قرّة أعين وهي جنة الذات المشار إليها بقوله : (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) فإن الفضل هو المزيد على الرضوان (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) المحجوبين بأنفسهم مثله من الناس أو يخوّفكم أولياءه (فَلا تَخافُوهُمْ) ولا تعتدوا بوجودهم (وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ) موحدين ، أي لا تخافوا غيري لعدم عينه وأثره (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) لحجابهم الأصلي وظلمتهم الذاتية خوف أن يضروك (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) إملاء الكفار وطول حياتهم

١٣١

سبب لشدّة عذابهم وغاية هوانهم وصغارهم لازديادهم بطول عمرهم حجابا على حجاب ، وبعدا على بعد. وكلما ازدادوا بعدا عن الحق الذي هو منيع العزّة ازدادوا هوانا.

[١٧٩ ـ ١٨٠] (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠))

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) من ظاهر الإسلام وتصديق اللسان (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ) من صفات النفس وشكوك الوهم وحظوظ الشيطان ، ودواعي الهوى من طيبات صفات القلب كالإخلاص واليقين والمكاشفة ومشاهدات الروح ومناغيات السرّ ومسامراته ، وتخلص المعرفة والمحبة لله بالابتلاء ووقوع الفتن والمصائب بينكم.

(وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى) غيب وجودكم من الحقائق والأحوال الكامنة فيكم بلا واسطة الرسول لبعد ما بينكم وبينه وعدم المناسبة وانتفاء استعداد التلقي منه (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) فيطلعه على أسراره وحقائقه بالكشف ليهديكم إلى ما غاب عنكم من كنوز وجودكم وأسراره للجنسية النفسانية التي بينه وبينكم ، الموجبة لإمكان اهتدائكم به (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) بالتصديق القلبيّ والإرادة والتمسك بالشريعة ليمكنكم التلقي والقبول منهم (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) بعد ذلك الإيمان بالتحقيق والسلوك إلى اليقين والمتابعة في الطريقة (وَتَتَّقُوا) الحجب النفسانية وموانع السلوك (فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) من كشف الحقيقة (بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من المال والعلم والقدرة والنفس ولا ينفقونه في سبيل الله على المستحقين والمستعدّين والأنبياء والصدّيقين في الذبّ عنهم أو الفناء في الله (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : يجعل غلّ أعناقهم وسبب تقيدهم وحرمانهم عن روح الله ورحمته وموجب هوانهم وحجابهم عن نور جماله لمحبتهم له وتعلقهم به (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من النفوس وصفاتها كالقوى والقدر والعلوم والأموال وكل ما ينطبق عليه اسم الوجود فما لهم يبخلون بماله عنه.

[١٨١ ـ ١٨٧] (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ

١٣٢

كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧))

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ) إلى قوله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) روي أنّ أنبياء بني إسرائيل كانت معجزتهم أن يأتوا بقربان فيدعوا الله فتأتي نار من السماء تأكله. وتأويله : أن يأتوا بنفوسهم يتقرّبون بها إلى الله ويدعون الله بالزهد والعبادة ، فتأتي نار العشق من سماء الروح تأكله وتفنيه في الوحدة ، فبعد ذلك صحت نبوّتهم وظهرت فسمع به عوام بني إسرائيل فاعتقدوا ظاهره ، وإن كان ممكنا من عالم القدرة فاقترحوا على كل نبي تلك الآية كما توهموا من إقراض الله الذي هو بذل المال في سبيل الله بالإنفاق لاستيفاء الثواب وبذل الأفعال والصفات بالمحو في السلوك لاستبدال صفات الحق وأفعاله وتحصيل مقام الإبدال ، فقر الحق وغناهم ، أو كابروا الأنبياء في الموضعين بعد ما فهموا.

[١٨٨] (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨))

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) أي : يعجبوا بما فعلوا من طاعة وإيثار ، وكلّ حسنة من الحسنات ، ويحجبون برؤيته (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا) أي : يحمدهم الناس ، فهم محجوبون بعرض الحمد والثناء من الناس ، أو أن يكونوا محمودين في نفس الأمر عند الله (بِما لَمْ يَفْعَلُوا) بل فعله الله على أيديهم إذ لا فعل إلا لله ، (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦)) (١) فائزين من عذاب الحرمان (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) لمكان استعدادهم واحتجابهم عما فيه ، وكان من حقهم أن ينسبوا الفضيلة والفعل الجميل إلى الله ويتبرّءوا عن حولهم وقوّتهم إليه ولا يحتجبوا برؤية الفعل من أنفسهم ، ولا يتوقعوا به المدح والثناء.

[١٨٩ ـ ١٩٠] (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠))

__________________

(١) سورة الصافات ، الآية : ٩٦.

١٣٣

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ليس لأحد فيها شيء حتى يعطي غيره فيعجب بعطائه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يقدر غيره على فعل مّا ، حتى يعجب برؤيته ، فيفرح به فرح إعجاب.

[١٩١ ـ ١٩٤] (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤))

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ) في جميع الأحوال وعلى جميع الهيئات (قِياماً) في مقام الروح بالمشاهدة (وَقُعُوداً) في محلّ القلب بالمكاشفة (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) أي : تقلباتهم في مكان النفس بالمجاهدة (وَيَتَفَكَّرُونَ) بألبابهم أي : عقولهم الخالصة عن شوب الوهم (فِي خَلْقِ) عالم الأرواح والأجساد. يقولون عند الشهود (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا) الخلق (باطِلاً) أي : شيئا غيرك ، فإنّ غير الحق هو الباطل ، بل جعلته أسماءك ومظاهر صفاتك (سُبْحانَكَ) ننزهك أن يوجد غيرك ، أي : يقارن شيء فردانيتك أو يثني وحدانيتك (فَقِنا عَذابَ) نار الاحتجاب بالأكوان عن أفعالك ، وبالأفعال عن صفاتك ، وبالصفات عن ذاتك وقاية مطلقة تامة كافية (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ) بالحرمان (فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) بوجود البقية التي كلها ذلّ وعار وشنار (وَما لِلظَّالِمِينَ) الذين أشركوا برؤية الغير مطلقا أو البقية (مِنْ أَنْصارٍرَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا) بأسماع قلوبنا (مُنادِياً) من أسرارنا التي هي شاطئ وادي الروح الأيمن (يُنادِي) إلى الإيمان العيانيّ (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ) أي : شاهدوا ربكم ، فشاهدنا (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا) ذنوب صفاتنا بصفاتك (وَكَفِّرْ عَنَّا) سيئات أفعالنا برؤية أفعالك (وَتَوَفَّنا) عن ذواتنا في صحبة الأبرار من الأبدال الذين تتوفاهم بذاتك عن ذواتهم ، لا الأبرار الباقين على حالهم في مقام محو الصفات غير المتوفين بالكلية (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى) اتباع (رُسُلِكَ) أو محمولا على رسلك من البقاء بعد الفناء ، والاستقامة بالوجود الموهوب بعد التوحيد (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) الكبرى ووقت بروز الخلق لله الواحد القهار بالاحتجاب بالوحدة عن الكثرة ، وبالجمع عن التفصيل (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) فتبقى مقاما وراءنا لم نصل إليه.

[١٩٥ ـ ١٩٩] (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ

١٣٤

الثَّوابِ (١٩٥) لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩))

(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ) القلب من الأعمال القلبية كالإخلاص واليقين والكشف (أَوْ أُنْثى) النفس من الأعمال القالبية ، كالطاعات والمجاهدات والرياضات (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) يجمعكم أصل واحد وحقيقة واحدة هي الروح الإنسانية ، أي : بعضكم منشأ من بعض ، فلا أثيب بعضكم وأحرم بعضا (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) عن أوطان مألوفات النفس (وَأُخْرِجُوا مِنْ) ديار صفاتها أو هاجروا من أحوالهم التي التذّوا بها ، وأخرجوا من مقاماتهم التي يسكنون إليها (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) أي : ابتلوا في سبيل سلوك أفعالي بالبلايا والمحن والشدائد والفتن ليتمرّنوا بالصبر ، ويفوزوا بالتوكل في سبيل سلوك صفاتي بسطوات تجلّيات الجلال والعظمة والكبرياء ليصلوا إلى الرضا (وَقاتَلُوا) البقية بالجهاد فيّ (وَقُتِلُوا) وأفنوا في بالكلية (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) كلها من الصغائر والكبائر ، أي : سيئات بقاياهم (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ) الجنات الثلاثة المذكورة (ثَواباً) أي : عوضا لما أخذت منهم من الوجودات الثلاثة (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) أي : لا يكون عند غيره الثواب المطلق الذي لا يبقى منه شيء ، ولهذا قال : والله ، لأنه الاسم الجامع لجميع الصفات ، فلم يحسن أن يقول : والرحمن ، في هذا الموضع أو اسم آخر غير اسم الذات (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : حجبوا عن التوحيد الذي هو دين الحق في المقامات والأحوال.

(مَتاعٌ قَلِيلٌ) أي : هو يعني الاحتجاب بالمقامات والتقلّب فيها تمتع قليل (ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) الحرمان (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) من المؤمنين ، أي : تجرّدوا عن الوجودات الثلاثة ، لهم الجنات الثلاث ، (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ) معدّا (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي : المحجوبين عن التوحيد ، والمذكورين بصفة التقلّب في الأحوال والمقامات (لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) أي : يتحقق بالتوحيد الذاتي (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) من علم التوحيد والاستقامة (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) من علم المبدأ والمعاد (خاشِعِينَ لِلَّهِ) قابلين لتجلي الذات (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ) التي هي تجليات صفاته ثمن البقية الموصوف بالقلّة (أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) من الجنان المذكورة (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) يحاسبهم ويجازيهم فيعاقب على بقايا من بقي منهم شيء ، أو يثيب بنفي البقايا على حسب درجاتهم في المواطن الثلاثة.

١٣٥

[٢٠٠] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) لله (وَصابِرُوا) مع الله (وَرابِطُوا) بالله ، أي : اصبروا في مقام النفس بالمجاهدة ، وصابروا في مقام القلب مع سطوات تجليات صفات الجلال بالمكاشفة ، ورابطوا في مقام الروح ذواتكم بالمشاهدة حتى لا يغلبكم فترة أو غفلة أو غيبة بالتلوينات (وَاتَّقُوا اللهَ) في مقام الصبر عن المخالفة والرياء ، وفي المصابرة عن الاعتراض والامتلاء وفي المرابطة عن البقية والجفاء لكي تفلحوا الفلاح الحقيقي السرمديّ الذي لا فلاح وراءه ، إن شاء الله.

١٣٦

سورة النساء

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) احذروه في انتحال صفته عند صدور الخيرات منكم ، واتخذوا الصفة وقاية لكم في صدور ما صدر منكم من الخير ، وقولوا صدر عن القادر المطلق (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هي النفس الناطقة الكلية ، التي هي قلب العالم ، وهو آدم الحقيقيّ (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أي : النفس الحيوانية الناشئة منها. وقيل : إنها خلقت من ضلعه الأيسر من الجهة التي تلي عالم الكون ، فإنها أضعف من الجهة التي تلي الحق ، ولو لا زوجها لما أهبط إلى الدنيا. كما اشتهر أنّ إبليس سوّل لها أولا فتوسل بإغوائها إلى إغواء آدم ولا شك في أنّ التعلق البدنيّ لا يتهيأ إلا بواسطتها (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً) أي : أصحاب قلوب ينزعون إلى أبيهم (وَنِساءً) أصحاب نفوس وطبائع ينزعون إلى أمّهم (وَاتَّقُوا اللهَ) في ذاته عن إثبات وجودكم ، واجعلوه وقاية لكم عند ظهور البقية منكم في الفناء في التوحيد حتى لا تحتجبوا برؤية الفناء (الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) لا بكم (وَالْأَرْحامَ) أي : احذروا الأرحام الحقيقية ، أي أقربة المبادئ العالية من المفارقات وأرواح الأنبياء والأولياء في قطعها بعدم المحبة ، واجعلوها وقاية لكم في حصول سعاداتكم وكمالاتكم ، فإنّ قطع الرحم بفقد المحبة توجه عن الاتصال ، والوحدة إلى الانفصال والكثرة ، وهو المقت الحقيقيّ والبعد الكليّ عن جناب الحق تعالى ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : «صلة الرحم تزيد في العمر» ، أي : توجب دوام البقاء. واعلم أنّ الرحم من الظاهر صورة الاتصال الحقيقي في الباطن ، وحكم الظاهر في التوحيد كحكم الباطن ، فمن لا يقدر على مراعاة الظاهر فهو أحرى بأن لا يقدر على مراعاة الباطن (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) يرقبكم لئلا تحتجبوا عنه بظهور صفة من صفاتكم ، أو بقية من بقاياكم فتتعذبوا.

[٢ ـ ٣٠] (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤) وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ

١٣٧

مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦) لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠) يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤) وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ

١٣٨

مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١) وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥) يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠))

(وَآتُوا الْيَتامى) يتامى قواكم الروحانية ، المنقطعين عن تربية الروح القدسيّ الذي هو أبوهم (أَمْوالَهُمْ) أي : معلوماتهم وكمالاتهم ، وربوهم بها (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ) من المحسوسات والخياليات والوساوس ودواعي الوهم وسائر قوى النفس التي هي أموالها (بِالطَّيِّبِ) من أموالهم (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) أي : لا تخلطوها بها ، فيشتبه الحق بالباطل وتستعملوها في تحصيل لذاتكم الحسّية وكمالاتكم النفسية ، فتنتفعوا بها في مطالبكم الخسيسة الدنيوية وتجعلوها غذاء نفوسكم (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) حجبة وحرمانا.

[٣١ ـ ٣٥] (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ

١٣٩

اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣) الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥))

(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) من إثبات الغير في الوجود الذي هو الشرك ذاتا وصفة وفعلا ، فإن أكبر الكبائر إثبات وجود غير وجوده تعالى كما قيل :

وجودك ذنب لا يقاس به ذنب

ثم إثبات الإثنينية في الذات بإثبات زيادة الصفات عليها ، كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام. وكما قال : «الإخلاص له نفي الصفات عنه».

(نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) بظهور النفس والقلب بصفة من صفاتها أحيانا ، فإنها بعد ظهور نور التوحيد لا تثبت (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) أي : حضرة عين الجمع لا كرم إلا فيها (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) من الكمالات المرتبة بحسب الاستعدادات الأولية ، فإن كل استعداد يقتضي بهويته في الأزل كمالا وسعادة تناسبه ، وحصول ذلك الكمال الخاصّ لغيره محال. ولذلك ذكر بلفظ التمني الذي هو طلب ما يمتنع حصوله للطالب لامتناع نسبته (لِلرِّجالِ) أي : الأفراد الواصلين (نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ) بنور استعدادهم الأصليّ (وَلِلنِّساءِ) أي : الناقصين القاصرين عن الوصول (نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) بقدر استعدادهنّ (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) أي : اطلبوا منه إفاضة كمال يقتضيه استعدادكم بالتزكية والتصفية حتى لا يحول بينكم وبينه فتحتجبوا وتتعذبوا بنيران الحرمان منه (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ) مما يخفى عليكم ، كامنا في استعدادكم بالقوّة (عَلِيماً) فيجيبكم بما يليق بكم كما قال : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) (١) أي : بلسان الاستعداد الذي ما دعاه أحد به إلّا أجاب ، كما قال : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (٢).

[٣٦ ـ ٣٧] (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧))

__________________

(١) سورة إبراهيم ، الآية : ٣٤.

(٢) سورة غافر ، الآية : ٤٠.

١٤٠