تراث الشيعة الفقهي والأصولي - ج ١

مهدي المهريزي ومحمد حسين الدرايتي

تراث الشيعة الفقهي والأصولي - ج ١

المؤلف:

مهدي المهريزي ومحمد حسين الدرايتي


الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-21-8
الصفحات: ٦٣٢

يكفي هذا الاجتهاد في عمله وفتواه وحكمه ما دام حيّا ، ولا يجب عليه التجديد والتكرير مطلقا.

والثاني ـ وهو الذي عدّه في بعض العبائر قولا ، حيث عزاه إلى القيل (١) ـ : أنّه لا يكفيه ، ويجب عليه التجديد مطلقا.

والثالث ـ وهو المنسوب إلى المحقّق في المعارج ، والعميدي في منية اللبيب ، والآمدي في الإحكام ، والفخر في المحصول (٢) ـ : التفصيل بين ما إذا كان ذاكرا لدليل الحكم ؛ فالأوّل ، وغيره ؛ فالثاني.

ولعلّه اللائح من شيخنا الشهيد الثاني في التمهيد مطلقا (٣) ، والمنية في الجملة (٤) .

والرابع ـ وهو خيرة شيخنا البهائي في الزبدة والمنسوب إلى الفاضل الجواد في شرحها (٥) ـ : التفصيل بين مضيّ زمان زادت فيه القوّة ، بكثرة الممارسة والاطّلاع ؛ فالثاني ، وغيره ؛ فالأوّل.

ويمكن إرجاع هذا القول إلى القول الثاني ، فيكون الأقوال في المسألة في الحقيقة ثلاثة ؛ فتأمّل فيه.

وكيف ما كان ، والحقّ والمعتمد بزعم العبد هنا هو القول الأوّل :

أمّا بالإضافة إلى الحكم التكليفي ـ أي : عدم الوجوب مطلقا ـ فللأصل والاستصحاب ، والعمومات الدالّة على عدم جواز نقض اليقين إلّا باليقين ، والعمومات الدالّة على الإباحة ، والبراءة عن الوجوب ، السليمة عمّا يصلح للمعارضة ، المعتضدة بغيرها من الإطلاقات.

__________________

(١) عزاه إليه في مفاتيح الاصول ، ص ٥٨٠.

(٢) نسبه إليهم في مفاتيح الاصول ، ص ٥٨٠. وهو في معارج الاصول ، ص ٢٨٠ ؛ والإحكام في اصول الأحكام ، ج ٤ ، ص ٤٥٤ ؛ والمحصول في علم اصول الفقه ، ج ٤ ، ص ١٤٠١.

(٣) تمهيد القواعد ، ٣٢٠ ، قاعدة ١٠٠.

(٤) منية المريد ، ص ٢٩٢.

(٥) زبدة الاصول ، ص ١٢٠. وحكاه عن شرحها في مفاتيح الاصول ، ص ٥٨٠.

١٨١

مضافا إلى ما قيل : من أنّ المعهود من سيرة المسلمين عدم وجوب تجديد النظر (١) .

وما قيل أيضا : من العمومات النافية للعسر والحرج في الشريعة ؛ نظرا إلى استلزام القول بوجوب التجديد في محلّ البحث للحرج ولو بالإضافة إلى جميع أفراده (٢) ؛ فتأمّل جدّا.

مضافا إلى ما ستقف عليه من ذي قبل ، من الأدلّة الدالّة على صحّة الاجتهاد السابق وحجّيّته ، وصحّة الاعتماد عليه شرعا ، الملزومة لعدم الوجوب هنا ، كما لا يخفى ، سيّما بعد ملاحظة عدم ظهور القائل بالفرق بين الأمرين فى المسألة.

وأمّا بالإضافة إلى الحكم الوضعي ـ أي : صحّة الاجتهاد السابق وحجّيّته واعتباره شرعا في حقّه ـ فلأنّه وإن كان خلاف مقتضى الأصل الأصيل ، والعمومات الدالّة على عدم حجّيّة غير العلم ، وعدم صحّته ، وعدم مشروعيّة الاعتماد عليه والاعتبار به ، إلّا أنّ الدليل ـ المندفع به هذا الأصل ، والمخصّص به هذه العمومات ، الدالّ على الصحّة المطلقة الملزومة لعدم وجوب التجديد رأسا ـ قائم موجود من وجوه :

[ الأوّل : ] الاستصحاب ، وتقريره : أنّ الحكم المؤدّي إليه اجتهاده محكوم عليه بعده بلا فصل بالحجّيّة ، وبصحّة العمل والفتوى والحكم له به حينئذ قطعا فتوى ودليلا ، فلا بدّ من الحكم ببقاء ما ثبت ؛ عملا بالاستصحاب حتّى يثبت الرافع اليقيني أو القائم مقامه ، والمفروض انتفاؤه ؛ إذ لا دليل على ارتفاعه ، عدا ما مرّت إليه الإشارة من الأصل الأصيل ، والعمومات ، وشيء منهما لا يصلح للدلالة.

أمّا الأصل فلأنّه لا يعارض الاستصحاب ـ كما تقرّر في محلّه ـ إن اريد به أصالة الفساد وعدم الحجّيّة ، وإن اريد به استصحابهما فلاندفاعه بما دلّ على الصحّة من الإجماع وغيره من الأدلّة ، وبعده لا يتّجه الاستصحاب المدّعى ، فيكون استصحاب الصحّة سليما عن هذا المعارض.

__________________

(١) قال بهما في مفاتيح الاصول ، ص ٥٨٠.

(٢) المصدر.

١٨٢

اللهمّ إلّا أن يقال بأنّ مقتضى الاستصحاب ـ كالأصل الأصيل ـ إنّما هو عدم الصحّة وعدم الحجّيّة ، فلا بدّ في خلافه من الاقتصار على القدر المتيقّن ثبوت الصحّة والحجّيّة ، وهو غير محلّ البحث ، أمّا هو فيكون مندرجا تحته محكوما عليه بعدم الخروج ؛ عملا بالاستصحاب ، فيقع التعارض حينئذ بين الاستصحابين ، فلا بدّ معه من التوقّف والرجوع إلى الأصل ، ومقتضاه العدم.

ولكنّه كما ترى ، فإنّ مثل هذا الاستصحاب على اعتباره في حدّ ذاته لا يصلح للمعارضة مع ذاك ، وإلّا لزم بطلان التمسّك بالاستصحاب الثبوتي ، وعدم حجّيّته رأسا أو غالبا ، وهو خلاف كلمة القائلين بحجّيّة الاستصحاب ، وضدّ طريقتهم وديدنهم وسيرتهم ، بل وضدّ ما يستفاد من طريقة الشارع وسيرته ، كما لا يخفى على الخبير المنصف.

وأمّا العمومات فلاختصاصها أو تخصيصها بما لم يثبت من غير العلم دليل معتبر شرعا على حجّيّته ، وأمّا ما قام على حجّيّته ـ كالاستصحاب على ما هو المفروض ـ فلا يشمله هذه العمومات ، ولا يكون داخلا فيها ، فيكون الاستصحاب سليما عن المعارض ؛ فتأمّل.

[ الثاني : ] العمومات الدالّة على عدم جواز نقض اليقين إلّا باليقين ، بناء على مغايرتها للاستصحاب بالتقريب المشار إليه.

[ الثالث : ] العمومات الآتية الدالّة على صحّة العمل والفتوى والحكم بما أدّى إليه اجتهاد المقلّد على الوجه المعتبر ، الشاملة لما نحن فيه ، السليمة عمّا يصلح للمعارضة.

[ الرابع : ] ما تمسّك به بعض الأعاظم من المشايخ ـ طاب ثراه ـ والسيّد السند الاستاد ـ دام ظلّه العالي ـ في المفاتيح ، من العمومات النافية للعسر والحرج في الشريعة (١) ؛ فتأمّل.

__________________

(١) مفاتيح الاصول ، ٥٨٠.

١٨٣

[ الخامس : ] أنّه لو لم يصحّ لاشتهر ، بل وتواتر. والتالي باطل ، فكذا المقدّم.

أمّا الملازمة : فلأنّه من الامور العامّة البلوى ، والمتوفّر الدواعي على نقلها ، وما هذا حاله فلا بدّ من اشتهاره وتواتره ما لم يمنع مانع كما هنا على ما هو المفروض.

وأمّا بطلان التالي : فلعدم اشتهاره وعدم تواتره كما ترى ، بل واشتهار خلافه على الخبير بسيرة الفقهاء والمجتهدين وعملهم وديدنهم ؛ لكونه على الخلاف جدّا ؛ فتفطّن.

[ الحادية والعشرون : ] هل يختصّ هذا الخلاف بالأحكام الفرعيّة ، أم لا ، بل يعمّها وغيرها من الأحكام المتعلّقة باصول الفقه أيضا ؟ وجهان :

اللائح أو الظاهر من كلام جماعة وإن كان هو الأوّل ، حيث خصّوا العنوان بذلك من غير تعرّض لذكر غيره ، إلّا أنّ الإنصاف جريان الكلام في الجميع حرفا بحرف ؛ فتدبّر.

[ الثانية والعشرون : ] حيثما اخترنا عدم وجوب التجديد ، فهل يجوز ما لم يستلزم الإخلال بواجب فورى أو مضيّق ؟

المعتمد : نعم ؛ وفاقا لصريح جماعة (١) ، بل ولعلّه لا خلاف فيه بينهم ، بل عن صريح النهاية وشرح الجواد على الزبدة : الإجماع عليه (٢) .

وهو الحجّة ، مضافا إلى الأصل أو الاصول ، والعمومات.

[ الثالثة والعشرون : ] إذا اجتهد ثانيا ، فإن وافق اجتهاده السابق ، فلا كلام كما قيل (٣) ، وإن خالف واختار غير ما اختاره أوّلا ، وجب عليه الرجوع إلى الثاني في عمل نفسه وفتواه وحكمه ، كما صرّح به جماعة من غير خلاف يعرف بينهم (٤) ، بل ولعلّه عليه الإجماع ، كما في صريح بعض شروح المبادي (٥) .

__________________

(١) حكاه عن النهاية وشرح الجواد في مفاتيح الاصول ، ص ٥٨٠. وهو في نهاية الوصول إلى علم الاصول ، الورقة ٣١٧.

(٢) المصدر.

(٣) قال به في مفاتيح الاصول ، ص ٥٨٠.

(٤) كما في معارج الاصول ، ص ٥٨٠ ، ونهاية الوصول إلى علم الاصول ، الورقة ٣١٧ وتهذيب الوصول إلى علم الاصول ، ص ٢٨٩.

(٥) حكاه عن شرح المبادي لفخر المحقّقين في مفاتيح الاصول ، ص ٥٨٠.

١٨٤

وهو الحجّة ، مضافا إلى ما دلّ من الإجماع المحصّل والمنقول وغيره من الأدلّة الآتية على حجّيّة ما أدّى إليه اجتهاده ، وكونه حكم الله في حقّه وحقّ مقلّديه ، ولزوم اتّباعه ، والعمل والفتوى والحكم به.

[ الرابعة والعشرون : ] هل يجب عليه بعد تغيّر رأيه إعلام من قلّده واستفتى عنه قبل الرجوع بالرجوع ، كما في التهذيب (١) ، وصريح منية المريد ، (٢) أم لا ، كما عن ظاهر المعارج ومنية اللبيب (٣) ، واستقربه السيّد الاستاد ـ دام ظلّه العالي ـ في المفاتيح (٤) ؟ قولان :

أحوطهما : الأوّل ، ولكن أجودهما : الثاني ؛ للأصل ، والعمومات الدالّة على الإباحة والبراءة ، الدالّة على نفي الحرج والعسر والضرر في الشريعة.

مضافا إلى ما أفاده السيّد السند الاستاد ـ دام مجده السامي ـ من أنّ الظاهر من السيرة عدم الوجوب ؛ لأنّ تجدّد الرأي للأصحاب غير عزيز ، ولم يسمع من أحد منهم أنّه تعرّض للإعلام بالرجوع في هذه المدّة الطويلة ، ومن أنّ الإعلام بالرجوع قد يوجب سقوط وقع الاجتهاد عن القلوب ، ونفرة طباع العامّة عنه ؛ فتأمّل.

ومع ذلك فليس في ترك الإعلام ترتّب مضرّة على المستفتي ؛ لأنّه معذور قبل الاطّلاع على الرجوع ، وأعماله من العبادات والمعاملات محكومة عليها بالصحّة حينئذ ؛ فتأمّل (٥) .

[ الخامسة والعشرون : ] هل يجب عليه بعد تغيّر رأيه ـ إذا كتب الرأي الأوّل في كتاب أو رسالة أو نحو ذلك ـ إبطاله ومحوه ، أو زيادة التنبيه على الرجوع ، كما عن ظاهر مجمع الفائدة ، أم لا ، كما عن صريح المفاتيح للسيّد السند العلّامة الاستاد (٦) دام ظلّه العالي ؟ قولان :

__________________

(١) تهذيب الوصول إلى علم الاصول ، ص ٢٨٩.

(٢) منية المريد ، ص ٢٩٢.

(٣) معارج الاصول ، ص ٢٠٢ وحكاه عن منية اللبيب في مفاتيح الاصول ، ص ٥٨١.

(٤) مفاتيح الاصول ، ص ٥٨١.

(٥) المصدر.

(٦) المصدر.

١٨٥

أحوطهما : الأوّل ، ولكن أجودهما : الثاني ؛ عملا بالأصل ، والعمومات المشار إليها ، السليمة عن المعارض ، المعتضدة بظهور سيرة علماء الإسلام ـ كما في المفاتيح (١) ـ بعدم الالتزام بذلك.

[ السادسة والعشرون : ] هل يختصّ عدم وجوب التجديد على المختار بما لو ظنّ في الحال بصحّة ما اختاره أوّلا ولو إجمالا ، أم لا ، بل يعمّه وغيره ما لم يعلم ولم يظنّ بالظنّ المعتبر بفساده أو بفساد مبناه ؟ وجهان :

أحوطهما : الأوّل ، ولكن أجودهما : الثاني ، وفاقا للسيّد السند الاستاد (٢) ؛ لعموم الأدلّة الماضية ، المقتضية لعدم الوجوب ، السليمة عمّا يصلح للمعارضة.

[ السابعة والعشرون : ] هل يجب عليه عند تغيّر رأيه الحكم بفساد ما أدّى إليه اجتهاده السابق ، ويترتّب أحكام الفاسد عليه ، معاملة كانت أم عبادة ، أم لا ، بل يحكم بصحّته ويستمرّ عليه وإن وجب في غيره الرجوع إلى الاجتهاد اللاحق والحكم بالفساد ، أو التفصيل ؟ أوجه :

والذي يقتضيه التحقيق أن يقال : إن كان الاجتهاد اللاحق قبل العمل والفتوى والحكم بمقتضى الاجتهاد اللاحق ، حكم بفساده ، سواء كان حكما تكليفيّا أم وضعيّا ، عبادة كانت أم معاملة ، بلا خلاف ظاهر أجده فيه ، بل ولعلّه عليه الإجماع ، كما في صريح كلام بعض الأعاظم من المشايخ طاب ثراه.

وهو الحجة ، مضافا إلى الأصل ، والأدلّة الدالّة على صحّة الاجتهاد اللاحق ، الملزوم لفاسد ما يقتضيه الاجتهاد السابق ، خصوصا مع ملاحظة عدم ترتّب آثاره قبل الاجتهاد اللاحق عليه ، كما هو المفروض ، وبعده أيضا لا بدّ من الحكم بعدم ترتّبها عليه ، ويلزمه الفساد ، كما لا يخفى ؛ إذ لا يراد بالفساد إلّا عدم ترتّب الأثر ، كما لا يراد بالصحّة إلّا ترتّبه.

__________________

(١) مفاتيح الاصول ، ص ٥٨١.

(٢) المصدر.

١٨٦

مضافا إلى عدم الدليل على صحّة ما أدّى إليه الاجتهاد اللاحق بعد السابق ، عدا استصحاب صحّته الظاهريّة المندفعة بما دلّ على فساده الظاهري.

و(١) إن كان بعد العمل والفتوى والحكم به ، فأمّا بالإضافة إلى الحكم التكليفي من الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة الذي هو مقتضى الاجتهاد السابق ، فالحقّ المعتمد حينئذ عدم الحكم بالفساد ، بل الحكم بعدمه ، بلا إشكال فيه ، بل ولعلّه لا خلاف فيه ؛ للأدلّة الدالّة عليه حينئذ ، السليمة بالفرض عمّا يصلح للمعارضة.

مضافا إلى عدم الدليل الدالّ على فساده بهذا المعنى ، عدا ما دلّ على فساد الاجتهاد السابق بعد اللاحق ، وهو أيضا كما ترى لا يصلح للدلالة جدّا.

وأمّا بالإضافة إلى حكمه الوضعي ، من الصحّة والبطلان والجزئيّة والركنيّة والشرطيّة والسببيّة والمانعيّة وآثارها المترتّبة عليها وعدم ترتّبها ، فالحقّ المعتمد أن يقال : إن علم بالاجتهاد اللاحق بطلان السابق بحسب الواقع ، وأنّه لم يكن حكما شرعيّا في نفس الأمر ، فالظاهر أنّه يلزمه الحكم بفساد ما هو مقتضى الاجتهاد السابق ، والظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه بين الأصحاب ، كما في صريح المفاتيح (٢) .

بل الظاهر أنّه لا خلاف فيه بين المخطّئة كافّة ، بل ولعلّه عليه الإجماع ، كما يلوح أو يظهر من مطاوي كلماتهم في الفروع ، ويستفاد من كلماتهم في الاصول بل والفروع أيضا في بيان بطلان التصويب : الإجماع عليه منّا ، المحصّل والمنقول في كثير من العبائر ، وهو الحجّة كغيره من الأدلّة الدالّة على اعتبار العلم وحجّيّته ، ولزوم اتّباعه ، والدالّة على الفساد ، كما هو المفروض.

مضافا إلى أصالة الفساد وعدم الصحّة ولو في الجملة ، وعدم الدليل الدالّ على صحّة ما أدّى إليه الاجتهاد السابق بعد تغيّر الرأي ، عدا استصحاب صحّته الظاهريّة ، وهو أيضا كما ترى مندفع بما دلّ على فساده الواقعي ، الملزوم لفساده الظاهري أيضا

__________________

(١) عطف على قوله : « والذي يقتضيه التحقيق أن يقال : إن كان ... » .

(٢) مفاتيح الاصول ، ص ٥٨١.

١٨٧

جدّا حسبما سنفصّله من ذي قبل.

و(١) إن لم يحصل العلم بذلك ، ففي الحكم فيما اتّصل بالاجتهاد السابق حكم من الحاكم الجامع لشرائط الحكم ، بأن يحكم بصحّته فيما كان مقتضاه الصحّة ، وبفساده فيما كان مقتضاه الفساد ، باستمرار حكمه الصادر عنه المبنيّ على مقتضى الاجتهاد السابق وعدمه ، ونقضه ؛ وجهان :

ولكنّ المعتمد هو الأوّل ، ولعلّه لا خلاف فيه فيما أعلم ، بل ولعلّه عليه الإجماع ، كما صرّح به جماعة يأتي إلى ذكرهم الإشارة في كتاب القضاء.

وهو الحجّة ، مضافا إلى غيره من الوجوه الآتية ثمّة ، الدالّة على عدم جواز نقض حكم الحاكم ، والآتية عن قريب ممّا دلّ عليه ؛ فترقّب.

ولا فرق في ذلك بين الحاكم والمتحاكمين ؛ لعموم الأدلّة.

وفي الحكم باستمرار حكم العمل الصادر من المقلّد المبنيّ على الفتوى بمقتضى الاجتهاد السابق مطلقا ـ كما اختاره جماعة ، منهم شيخنا الشهيد الثاني ـ طاب ثراه ـ في صريح منية المريد (٢) ، وبعض الأعاظم من سادة المشايخ ، وبعض المشايخ من أعاظم العصر ـ طاب ثراهما ـ وصار إليه السيّد السند العلّامة الاستاد دام ظلّه العالي في المفاتيح (٣) ـ وعدمه ، والبناء على مقتضى الاجتهاد اللاحق كذلك ، كما في التهذيب والمنية (٤) ، وعن النهاية (٥) ، وعزّي أيضا إلى الحاجبي والعضدي والآمدي من العامّة (٦) .

أم التفصيل : إمّا بين ما لحقه حكم الحاكم ؛ فالأوّل ، وغيره ؛ فالثاني ، كما عزّاه في بعض العبائر إلى بعضهم ، وإمّا بين ما يستلزم دوام الحكم مطلقا ، وإمّا لم يظهر مزيل

__________________

(١) عطف على قوله : « فالحقّ المعتمد أن يقال : إن علم بالاجتهاد ... » .

(٢) منية المريد ، ص ٣٠٥.

(٣) مفاتيح الاصول ، ص ٥٨٢.

(٤) عزّى إليهم في مفاتيح الاصول ، ص ٥٨٢. وهو في المختصر وشرحه للعضدي ، ص ٤٧٣ ، والإحكام في اصول الأحكام ، ج ٤ ، ص ٤٢٩.

(٥) نهاية الوصول إلى علم الاصول ، الورقة ٣١٤.

(٦) عزّى إليهم في مفاتيح الاصول ، ص ٥٨٢. وهو في المختصر وشرحه للعضدي ، ص ٤٧٣ ، والإحكام في اصول الأحكام ، ج ٤ ، ص ٤٢٩.

١٨٨

شرعيّ من الفتوى ؛ فالأوّل ، وبين ما لا يستلزمه أصلا ؛ فالثاني ، كما ربما يلاح من موضع من كلام بعض الأعاظم من المشايخ طاب ثراه.

أوجه وأقوال ، أجودها : الأوّل ؛ لوجوه :

منها : الاستصحاب ، وتقريره : أنّه لا شكّ في لزوم الاستمرار عليه وصحّته قبل الرجوع والاطّلاع عليه ، فيستصحب فيما بعدهما أيضا ؛ لعدم ثبوت الرافع اليقيني ولا ما يحكمه له ، عدا ما دلّ على بطلان الاجتهاد السابق وصحّة الاجتهاد اللاحق ، وهو كما ترى لا يصلح لذلك ، فإنّه إن كان المراد أنّه يقتضي في هذا الحال وبعد الاجتهاد اللاحق بطلان الاجتهاد السابق رأسا وبالإضافة إلى ما بين الاجتهادين أيضا ، فهو ممنوع جدّا ، خصوصا بعد ما ستقف عليه ؛ وإن كان المراد أنّه يقتضي بعده بطلانه في هذا الحال ، فهو مسلّم ، إلّا أنّ اللازم منه بطلانه بالإضافة إلى ما يصدر عنه حينئذ ، لا بالإضافة إلى ما صدر أيضا.

وبتقرير آخر : إنّ الحكم الشرعي لمّا كان معروضه عقل المكلّف ، فيدور مداره نفيا وإثباتا ، فحيثما تحقّق المعروض ، تحقّق العارض أيضا بشروطه ، وحيثما انتفى ، انتفى ، ومن الواضح أنّ بعد الاجتهاد السابق وقبل الاجتهاد اللاحق إنّما يكون معروض الحكم المؤدّي إليه الاجتهاد السابق والمستنتج من قياسه هو الفعل الصادر عن المقلّد ما بين الاجتهادين ، وبعد الاجتهاد اللاحق يكون معروض الحكم المؤدّي إليه هذا الاجتهاد والمستنتج من هذا القياس إنّما هو الفعل الصادر عنه بعده لا قبله ، فيكون الفعل الصادر قبله المعروض لهذا الحكم بالفرض معروضا له بهذا الاجتهاد والقياس ، ولا يكون معروضا للحكم المؤدّي إليه الاجتهاد اللاحق أصلا ، فأين المنافاة والمضادّة ؟ ! وأنّى دلالته على الرفع حتّى يندفع به الاستصحاب ؟

فإن قيل : هذا إنّما يتمّ بالإضافة إلى فعل المقلّد ، ولكن بالإضافة إلى الأعيان الخارجيّة الموجودة بأشخاصها بعد الاجتهاد اللاحق المحكوم عليها بالطهارة والنجاسة والحلّيّة والحرمة ، غير تامّ ولا متّجه ؛ إذ مقتضى الاجتهاد اللاحق بالفرض

١٨٩

إنّما هو طهارة ما ثبت نجاسته ونجاسة ما يلاقيه مع الرطوبة بالاجتهاد السابق ، ونجاسة ما ثبت طهارته وملاقيه بالرطوبة به ، وحلّيّة ما ثبت حرمته وحرمة ما ثبت حلّيّته به ، ومن الواضح أنّ بعد الاجتهاد اللاحق لا بدّ له من معاملة النجاسة مع ما ثبت نجاسته به وطهارته بالاجتهاد السابق ، ومعاملة الحرمة مع ما ثبت حرمته به مع حلّيّته بالاجتهاد السابق ، وهكذا ، ويلزمه التناقض والتضادّ بين الحكمين ، وارتفاع ما ثبت الأوّل ، فلا يجري الاستصحاب المدّعى.

قلت : هذا فاسد ، فإنّ الأعيان الخارجيّة وإن اتّصفت في الظاهر بهذه الأوصاف والأحكام ، إلّا أنّ اتّصافها بها عند التحقيق ليس بذواتها ، بل باعتبار الأفعال المتعلّقة بها ، كما تقرّر في محلّه ، ففي الحقيقة موضوعاتها ومعروضاتها هي الأفعال ، فيتّجه ما قلناه ، كما قاله الخصم أيضا ، فيتمّ جريان الاستصحاب هنا.

وتوضيح هذا المطلب على ما يقتضيه التحقيق : أنّ الأعيان المفروضة المحكوم عليها بما ذكر بعد الاجتهاد السابق ، إمّا أن يكون فعل المكلّف بالإضافة إليها ملحوظا ومتصوّرا ، أو يكون غير ملحوظ ولا متصوّر.

فعلى الثاني : كما لو فرض نجاسة شيء كالماء القليل الملاقي للنجاسة أو طهارته بمقتضى الاجتهاد الأوّل ، أو فرض حرمة شيء كأكل العصير الزبيبي أو حلّيّته بمقتضى هذا الاجتهاد ، وفرض أيضا عدم احتياج المقلّد إلى استعمال هذا الماء وأكل هذا العصير أصلا ، أو فرض عدمهما منه إلى زمان الرجوع بالاجتهاد اللاحق والاطّلاع عليه ، فحينئذ لا شكّ في خروجه عن محلّ البحث ؛ إذ الرجوع هنا إنّما هو قبل العمل بمقتضى السابق ، وقد سبق أنّه لا بدّ حينئذ من الحكم بفساد مقتضاه مطلقا.

وعلى الأوّل : كما لو فرض في المفروض احتياج المقلّد إلى الأكل والاستعمال ، فلا يخلو إمّا أن يكون الحكم المتعلّق بهما بمقتضى الاجتهاد السابق هو الحلّ وجواز الاستعمال ، وإمّا الحرمة وعدم الجواز.

فعلى الثاني : فإن ترك المقلّد الأكل والاستعمال إلى زمان الرجوع بالاجتهاد

١٩٠

اللاحق والاطّلاع عليه ، إمّا بناء على مقتضى فتوى المفتي بالحرمة والمنع له ، وإمّا من باب البخت والاتّفاق ، فلا شكّ في خروجه أيضا من محلّ البحث ، إمّا لأنّ الرجوع هنا أيضا إنّما يكون قبل العمل بمقتضى الاجتهاد السابق ، نظرا إلى كون المراد من العمل ما هو من قبيل الأفعال ، لا التروك ؛ فتأمّل.

وإمّا لأنّ هذا العمل خارج عن محلّ البحث والنزاع ؛ لأنّ التروك تجتمع وتجامع الأفعال ، فلا منافاة بينه وبين الرجوع ، ولا مضادّة حينئذ بين الاجتهادين والعمل في الزمانين ، كما لا يخفى على المتأمّل المنصف.

وإن خالف ، ففعل الأكل والاستعمال ، إمّا عالما عامدا مختارا ، وإمّا جاهلا أو ناسيا أو غير مختار إلى زمان الرجوع بالاجتهاد اللاحق والاطّلاع عليه ، ففي دخوله في محلّ البحث تأمّل وإشكال ، خصوصا بعد ملاحظة المخالفة وصدورها عنه لا من باب التقليد ، إمّا مطلقا ، أو حيثما كانت من باب البخت والاتّفاق أو باعتقاد عدم التقليد له.

مضافا إلى ضميمة حكم الحاكم القائل باشتراطها في صحّة استمرار بعضهم ، كما أشير إليه ، بل احتمال كونه مسألة على حدة لا ربط لها بمحلّ البحث قويّ ، ومع هذا وبالإضافة إلى نفس هذا الفعل واتّصافه بالمنع والحرمة حيثما اتّجه بمقتضى الاجتهاد السابق حينئذ لا ينافيه الاجتهاد اللاحق ، واقتضاؤه عدم اتّصافه بهما كاقتضائه لاتّصافه بهما ؛ إذ متعلّق الحكم المؤدّي إليه الاجتهاد اللاحق إنّما هو غير هذا الفعل.

نعم ، بالإضافة إلى ما يترتّب على هذا الفعل من الأحكام الوضعيّة المترتّبة عليه بمقتضى الاجتهاد السابق حيثما قلنا بترتّبها عليه ، قد يشكل الأمر ، إمّا من جهة تحقّق التنافي حينئذ بين مقتضى الاجتهادين. وإمّا من جهة جريان الاستصحاب المدّعى.

ولكنّه كما ترى يمكن دفع هذا الإشكال بأنّ هذا المخالف بعد المخالفة ، لا بدّ أن يكون بالإضافة إلى الأحكام الوضعيّة المترتّبة على هذا الفعل الصادر عنه أيضا مقلّدا ، فإن قلّد بعدها من يصحّ له تقليده وعمل بمقتضى فتواه من التطهير وغيره ممّا لا بدّ من الإتيان به ، أو عدمه ، فلا كلام في كونه حينئذ بالإضافة إلى ما نقل خارجا عن محلّ

١٩١

البحث ، لما عرفته.

وإن لم يقلّده أصلا إمّا عالما عامدا مختارا ، وإمّا جاهلا ، وإمّا ناسيا ، وإمّا اضطرارا ، فهو حينئذ بالإضافة إلى ما لم يفعل أيضا خارج عن محلّ البحث ، كما لا يخفى ، وداخل إمّا في مسألة الرجوع قبل العمل ، وإمّا في مسألة اخرى على حدة ، ومع الغمض عن هذا أيضا ، فاللازم عليه حينئذ إنّما هو البناء على ترتّب هذه الآثار والأحكام المفروضة عليه ، ولزوم الحكم به بمقتضى الاستصحاب المدّعى ؛ لصحّته وسلامته عن المعارض ، كما لا يخفى ؛ فتأمّل.

وعلى الأوّل ـ أي ما إذا كان مقتضى الاجتهاد السابق هو الحلّ والجواز ـ فإن ترك المقلّد الأكل والاستعمال هنا أيضا ـ ولو من باب البخت والاتّفاق أو الغفلة والذهول أو التشهّي أو الاحتياط إلى زمان الرجوع والاطّلاع عليه ـ فلا شكّ في خروجه أيضا عن محلّ البحث ، كما لا يخفى ، سيّما بعد ما مضى.

وإن أتى بهما ما بين الاجتهادين ، فهذا هو المبحوث عنه ، وحينئذ نقول :

مقتضى الاجتهاد اللاحق إنّما هو المنع والحرمة وما يلزمهما ويترتّب عليهما ، من الأحكام الوضعيّة بالإضافة إلى الأفعال الصادرة بعد هذا الاجتهاد لا مطلقا ، حتّى بالإضافة إلى الأفعال الصادرة قبله أيضا.

غاية ما في الباب إنّما هو الشكّ في الشمول والعموم ، بحيث يشمل ما قبله أيضا ، فيدفع بالأصل والاستصحاب المقتضيين لعدمهما ، فحينئذ يبقى الاستصحاب المدّعى ـ المقتضي لصحّة ما فعل قبله ولزوم الاستمرار عليه ـ سليما عن المعارض.

نعم ، لو كان الإتيان بهما حينئذ لا من باب التقليد ، بل من باب البخت والاتّفاق أو الغفلة والذهول أو محض التشهّي ، لاتّجه الإشكال من جهة جريان الاستصحاب المدّعى ؛ نظرا إلى عدم تحقّق الحكم بالحلّيّة والجواز بهذا الفعل ، وعدم عروضه له قبل التقليد المعتبر ، كما هو المفروض ، ولكن يمكن دفعه بنحو ما مرّت إليه الإشارة جلّ ما قلناه وغيره أيضا ؛ فتدبّر.

١٩٢

وممّا ذكرنا ظهر حال سائر الأحكام الوضعيّة وسائر الموارد والوقائع ؛ فافهم.

فإن قيل : هذا إنّما يتمّ على القول بالتصويب ، وأمّا على القول بالتخطئة ـ كما عليه قاطبة الشيعة ومعظم العامّة (١) ـ فلا ؛ إذ صحّة الأفعال مطلقا في العبادات والمعاملات على مذهب المخطّئة إنّما تعتبر بالنظر إلى الأحكام الواقعيّة ، دون الظاهريّة ، ويتفرّع عليه في المعاملات بطلان المعاملة باختلال بعض الشرائط في نفس الأمر وإن ظنّ حصولها حال المعاملة ، وفي العبادات وجوب الإعادة ؛ إذا انكشف فساد الظنّ الذي هو مبنى الحكم الظاهري ، والقضاء كذلك إن كان المأمور به ممّا يجب استدراكه شرعا ، ولازم ذلك بطلان مقتضى الاجتهاد السابق من رأس بعد الرجوع والاطّلاع عليه فيما أدّى الاجتهاد اللاحق إلى خلاف مقتضى السابق ، وعليه فلا معنى حينئذ للتمسّك بالاستصحاب وإجرائه هنا ، كما لا يخفى.

قلنا : هذا ـ كما ترى ـ بيّن الفساد ، فإنّ ما ذكر من مذهب المخطّئة كلمة حقّ اريد بها إثبات باطل ، من دعوى استلزامه بطلان مقتضى الاجتهاد السابق رأسا وانكشافه كذلك بعد الاجتهاد اللاحق.

كيف ؟ وهذه الدعوى أوّل الكلام ، بل عين المدّعى ، غاية ما في الباب تغاير الحكم المتعلّق بموضوعه بعد الاجتهاد اللاحق ، مع الحكم المتعلّق بموضوع قبله وبعد الاجتهاد السابق ، وتبدّل هذا الحكم بذاك وتغيّر التكليف في الزمانين والحالين ، وأمّا بطلان الحكم الثابت سابقا بالإضافة إلى موضوعه بسبب ذاك الحكم ، فلا دلالة له عليه بوجه ، ففي الحقيقة هنا انتقال من ظنّ وظاهر وحكم ظاهري إلى آخر ، وسقوط بدل شرعيّ من الحكم الواقعي وقيام بدل شرعيّ آخر مقامه ، وذلك غير عزيز في الشرعيّات والأحكام الظاهريّة ، بل الواقعيّة أيضا ، كما في القصر والإتمام في السفر والحضر ، والصوم والإفطار في حال الصحّة والمرض المضرّ به ، وغير ذلك.

__________________

(١) انظر من الخاصّة : معالم الدين ، ص ٢٣٦ ؛ تهذيب الوصول إلى علم الاصول ، ص ٢٨٧ ؛ ومن العامّة : الإحكام في اصول الأحكام ، ج ٤ ، ص ٤٠٩.

١٩٣

فإن قيل : هب ، ولكن هذا الاستصحاب معارض في بعض المواضع باستصحاب الفساد وعدم الصحّة وعدم حصول الامتثال وبقاء الذمّة ، على ما عليها من الاشتغال ، فلا بدّ من التوقّف والرجوع إلى الأصل ، ومقتضاه خلاف مدّعاك ، وبضميمة عدم القائل بالفصل في المسألة يثبت خلاف مدّعاك مطلقا ، ولا يتّجه التمسّك بالاستصحاب.

قلت : هذا أيضا بيّن الفساد ؛ إذ ما ذكره من الاستصحاب لا يقاوم ما ادّعيناه من الاستصحاب ؛ لتقدّمه عليه ، ورجحانه بالإضافة إليه ، كما تقرّر في محلّه.

مضافا إلى اعتضاده ولو في الجملة بالاصول الأخر ، كما لا يخفى.

مضافا إلى اعتضاده أيضا بما ستقف عليه.

مضافا إلى كونه أخصّ من المدّعى ، واستلزامه التفصيل في المسألة بما لا يقول به أحد.

وتتميمه بالضميمة أيضا كما يمكن بمثل ما ذكر ، فكذا يمكن بما يتمّ مذهبنا ، كما لا يخفى على المتأمّل ؛ فتأمّل.

ومنها : العمومات الدالّة على عدم جواز نقض اليقين إلّا باليقين ؛ بناء على تغايرها مع الاستصحاب ، بالتقريب المشار إليه.

ومنها : العمومات الدالّة على نفي الحرج والعسر والضرر في الشريعة ، من الكتاب والسنّة المعتبرة ؛ لاستلزام القول بخلاف المختار للحرج والعسر الشديدين ، والضرر بما لا يتحمّل عادة لو لم نقل باستلزامه للتكليف بما لا يطاق ، كما لا يخلو عن وجه ولو في الجملة.

ومنها : الإجماع العملي والتقريري من العلماء ، كما أفاده ولو في الجملة بعض الأعاظم من سادة المشايخ ـ طاب ثراه ـ بقوله : ولإجماع العلماء في جميع الأعصار والأمصار على إمضاء القضايا والأحكام مع تغيّر الاجتهاد أو عروض الشكّ ، وعدم الإلزام والالتزام بإعادة العبادات وقضاء مثل الصوم والصلاة عند ذلك ، إلّا ما يحكى عن العلّامة مذاكرة ، من التزام الإعادة والقضاء عند تغيّر الرأي ، ولعلّه إن ثبت النقل

١٩٤

فهو لكمال الاحتياط ورفع الريب المندوب إزالته ، دون أن يكون مذهبا له ورأيا (١) . انتهى ؛ فتدبّر.

ومنها : عموم قوله سبحانه : ﴿ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢) لاستلزامه القول بخلاف المختار للفساد ، كما لا يخفى على اولي الرشاد.

ويعضد المختار أو يؤيّده أيضا عموم أكثر الوجوه الآتية الدالّة على حجّيّة قول المفتي وما أدّى إليه اجتهاده وأفتى به ، وما قالوه في وجه عدم جواز نقض الحكم ، من لزوم التسلسل والمنافاة لما هو المصلحة الباعثة على القضاء ، من حفظ النظام عن الاختلال والهرج والمرج ، وغير ذلك ممّا سيأتي إليه الإشارة في محلّه ، لجريانه بعينه هنا حرفا بحرف ؛ فتذكّر.

وفي الحكم باستمرار حكم عمله الصادر عنه المبنيّ على ما أدّى إليه اجتهاده السابق مطلقا ـ كما اختاره بعض السادة من أفاخم العصر ، وبعض الأعاظم من مشايخ العصر ( طاب ثراهما ) ولعلّه اللائح من غيرهما أيضا ـ وعدمه ، والبناء بالإضافة إليه أيضا على مقتضى ما أدّى إليه اجتهاده الثاني. كما في ظاهر موضع من منية اللبيب (٣) ، وعزّاه في بعض العبائر إلى ظاهر بعضهم ، وفي آخر إلى الحاجبي والعضدي من العامّة (٤) .

أم التفصيل بين ما لحقه حكم الحاكم ـ أي : العمل الصادر عنه باجتهاده السابق [ و] حكم الحاكم بمقتضاه ـ فالأوّل ، وغيره ؛ فالثاني ، كما في ظاهر التهذيب (٥) ، وموضع من منية اللبيب (٦) ، وصريح المفاتيح (٧) ، وعزّاه في بعض العبائر إلى العلّامة منّا في النهاية (٨) ،

__________________

(١) انظر ما حكي عن العلّامة في رجال السيّد بحر العلوم ( المعروف بالفوائد الرجاليّة ) ج ٢ ، ص ٢٩٠.

(٢) البقرة (٢) : ٢٠٥.

(٣) حكاه عنه في مفاتيح الاصول ، ص ٥٨١.

(٤) المختصر مع شرحه للعضدي ، ص ٤٨٢.

(٥) تهذيب الوصول إلى علم الاصول ، الورقة ٣١٥.

(٦) مفاتيح الاصول ، ص ٥٨٢.

(٧) المصدر.

(٨) نهاية الوصول إلى علم الاصول ، الورقة ٣١٥.

١٩٥

والحاجبي والعضدي أيضا والبدخشي منهم (١) ، وفي آخر إلى المشهور.

أوجه وأقوال ، أجودها : الأوّل ؛ للوجوه السالفة المشار إليها ، المعتضدة بالاتّفاق المنقول عن إحكام الآمدي والمختصر الحاجبي والشرح العضدي على الاستمرار فيما لحقه حكم الحاكم (٢) ، المؤكّدة بما دلّ على عدم جواز نقض الحكم فيما لحقه حكم الحاكم السليمة عمّا يصلح للمعارضة ؛ إذ لا معارض هنا بالفرض ، عدا الإجماع المنقول على العدم فيما لم يلحقه حكم الحاكم عن العلّامة في صريح النهاية والسيّد عميد الدين في ظاهر المنية (٣) .

وما احتجّ عليه العلّامة أيضا في النهاية ـ على ما حكي ـ بقوله : وإن لم يتّصل حكم الحاكم ، لزم مفارقتها إجماعا ، وإلّا لكان متلائما لحلّ الاستمتاع بها على خلاف معتقده ، ومرتكبا لما يجزم بتحريمه ، وهو خلاف الإجماع (٤) . انتهى.

وما احتجّ عليه أيضا غيره من العامّة ـ على ما حكي ـ بقوله : لأنّه ظنّ خطّأه بصواب الاجتهاد الثاني ، والعمل بالظنّ واجب (٥) . انتهى.

وشيء من هذه الوجوه الثلاثة لا يصلح للدلالة على المدّعى :

أمّا الأوّل : فلمنع الإجماع إن اريد المحصّل منه ، وهذا المنع واضح لا يخفى ، سيّما بعد ما مضى.

وان اريد المنقول منه ، فهو وإن كان مسلّم الثبوت من ناقله ، غير أنّه لا عبرة به ؛ لوهنه بما مضى.

ومع الغمض عنه ، فيعارضه ما هو أقوى منه من وجوه شتّى ممّا مضى. ومع الغمض عنه أيضا ، فلا بدّ من الاقتصار على مورده ، وهو ما لو عقد الباكرة لنفسها بدون

__________________

(١) المختصر مع شرحه للعضدي ، ص ٤٧٣ ؛ شرح البدخشي ، ج ٣ ، ص ٢٨٧ وص ٢٩٧.

(٢) الإحكام في اصول الأحكام ، ج ٤ ، ص ٤٢٩ ، وانظر المختصر مع شرحه للعضدي ، ص ٤٣٧.

(٣) مضى تخريجه قبيل هذا.

(٤) نهاية الوصول إلى علم الاصول ، الورقة ٣١٥.

(٥) وهو البدخشي في شرح المنهاج ، ج ٣ ، ص ٢٨٦.

١٩٦

إذن الوليّ ، ولم يلحقه حكم الحاكم ، ثمّ تجدّد رأيه ، وأين هو من العموم المدّعى ؟ وعدم القول بالفصل أيضا باطل ؛ لوجوه كما عرفته.

والاتّفاق المنقول في بعض العبائر عن ظاهر كلام بعضهم على العدم أيضا ، فيما لو تغيّر رأي المجتهد في المعاملة التي حلّلها أوّلا ، وبنى عليها لنفسه ، ثمّ حوّلها على تقدير مغايرته ـ لما نقل عن النهاية والمنية من الإجماع أو الاتّفاق ـ غير صالح للدلالة على المدّعى ، كما لا يخفى ، سيّما بعد ما مضى.

أمّا الثاني : فلأنّه وإن كان جازما حقيقة بتحريم ما أحلّ قبل الاجتهاد اللاحق ، فبطلان التالي مسلّم ، ولكنّ الملازمة ممنوعة ؛ إذ الكلام في غير صورة الجزم بالاجتهاد اللاحق بخلاف ما أدّى إليه الاجتهاد الأوّل ، كما هو المفروض.

وإن كان غير جازم كذلك ، بل ظانّا بالظنّ المعتبر ، فالملازمة حينئذ لو كانت مسلّمة ، فبطلان التالي غير مسلّم جدّا ؛ إذ لا دليل عليه عدا الإجماع المدّعى ، وهو بعد كما ترى.

مضافا إلى أنّ ما ادّعي من بطلان التالي هو عين المدّعى ، فيكون مصادرة ، مع أنّ استدامته لحلّ النكاح والاستمتاع بها لأجل ما مرّت إليه الإشارة ، لا تنافي كون معتقده خلافه ، بالإضافة إلى ما يفعل بعد الاجتهاد اللاحق ، كما لا يخفى.

نعم ، ينافي كونه خلافه بالإضافة إلى ما فعل أيضا إن ثبت وتحقّق ، ولكنّه أين وأنّى من ثبوت ذلك ؟ بل عدمه بحكم ما مرّت إليه الإشارة ثابت ، ولذا لم يعدّ أحد من الفقهاء هذا أيضا من أسباب انفساخ النكاح والمعاملة والإيقاع ؛ فتأمّل.

وممّا ذكر هنا وفي مطاوي الكلمات السالفة ، ظهر أيضا ما في الثالث ؛ فتذكّر.

[ الثامنة والعشرون : ] قال بعض السادة الأجلّة من أفاخم العصر ـ طاب ثراه ـ : لو أدّى ظنّ المجتهد إلى ترك ما هو واجب في الواقع ، ثمّ ظهر الخطأ والوقت باق ، فإنّه ينبغي القطع بوجوب فعله ؛ لوجود المقتضي وانتفاء ما يحصل به الامتثال ولو ظنّا.

أقول : ما صار إليه في الصورة الاولى ، هو المعتمد ؛ لما ذكره ، ولأنّه في الحقيقة من أفراد الرجوع قبل العمل ، ولا اختصاص له بالواجب ، بل ويشمله وغيره أيضا ، ممّا

١٩٧

هو من هذا القبيل ؛ لما مرّت إليه الإشارة.

ولكن ما صار إليه في الصورة الثانية ؛ لا يخلو عن إشكال وإن كان أحوط ؛ إذ من أتى بالصلاة مجرّدة عن السورة حال اعتقاده صحّتها كذلك ، ثمّ تجدّد رأيه واعتقد بطلانها كذلك والوقت باق ، وجب عليه الإعادة ، وهو فرع الدليل على وجوب الإعادة في حقّه مع انتفائه بالفرض.

مضافا إلى الأصل السليم عن المعارض ، المعتضد بما عرفته ، وفقد الأمر بالإعادة ، وامتثال الأمر الظاهري السابق بالفرض الموجب للإجزاء والصحّة ، ولذا ذهب السيّد السند العلّامة الاستاد ـ دام ظلّه ـ إلى عدم وجوبها (١) ، وفاقا للمولى المحقّق السمي المقدّس في مجمع الفائدة (٢) .

اللهمّ إلّا أن يكون مراده ـ طاب ثراه ـ ما إذا لم يثبت الدليل الدالّ على البدليّة المطلقة ، أو يمنع إطلاق البدليّة والدليل الدالّ عليه ، فحينئذ يتّجه ما صار إليه ؛ عملا بأصالة الاشتغال والاستصحاب والعمومات المانعة عن نقض اليقين إلّا باليقين على تقدير مغايرتها للاستصحاب.

ومثل ذلك : العقد والإيقاع المجرّد عن الشرط حال اعتقاد صحّته بدونه ، ثمّ تجدّد رأيه واعتقد صحّته لا بدونه.

ومثل ذلك : التطهير من البول مثلا مرّة باعتقاد كونه كذلك مطهّرا ، ثمّ تجدّد رأيه واعتقد عدم حصوله إلّا مرّتين.

وكيف ما كان ، فالاحتياط في أمثال هذه الموارد ممّا لا ينبغي تركه ، فإنّها بعد لا تصفو عن شوب إشكال.

[ التاسعة والعشرون : ] إذا اشكل على المفتي طريق الواقعة ، فهل يجب عليه في مقام العمل ، العمل على ما يقتضيه الاصول التقيّديّة العمليّة ، كأصالة الفساد ، والعدم ،

__________________

(١) مفاتيح الاصول ، ص ٥٨٢.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٢ ، ص ٨٥.

١٩٨

وأصالة البراءة ، وأصالة الإباحة ، وأصالة الاشتغال ، وأصالة التخيير ، وأصالة التسامح ، والاستصحاب ، كما صرّح به السيّد السند العلّامة الاستاد ـ دام ظلّه ـ في المفاتيح (١) ، أم لا ، بل يجوز له الرجوع إلى الأعلم منه إن كان ، كما عن صريح المعارج (٢) ؟

قولان : أجودهما : الأوّل ؛ للأصل والاستصحاب ، والعمومات السالفة المانعة عن التقليد ، وعدم مشروعيّته ، وعدم صحّته ، وعدم صحّة الاعتماد على غير العلم ، السليمة عمّا يصلح للمعارضة ، المعتضدة بما أفاده السيّد السند الاستاد ـ دام ظلّه العالي ـ بقوله : والظاهر أنّ ما ذكرنا طريقة الأصحاب كما لا يخفى ، وصرّح بذلك بعض محقّقيهم (٣) . انتهى.

وبما مرّت إليه الإشارة ، من عدم جواز التقليد للمجتهد بعد الاجتهاد ؛ فتأمّل.

نعم ، لو فرض عدم التمكّن من العمل بمقتضى هذه الاصول أيضا ولم يتمكّن من الاحتياط أيضا بسهولة ، لاتّجه الجواز ؛ بناء على ثبوت التكليف وعدم سقوطه ، واستحالة التكليف بغير المقدور.

[ الثلاثون : ] لا يشترط في إفتاء المفتي ـ بحيث يصحّ للمستفتي العمل به والاعتماد عليه ـ أن يكون قادرا على الكتابة ، فلو استجمع غير القادر عليها سائر المعتبرة فيه ، صحّ إفتاؤه والعمل لغيره بفتواه على الأصحّ ؛ وفاقا لظاهر المعظم ، بل لا خلاف فيه فيما أعلم ، إلّا من شيخنا الشهيد الثاني في الروضة ، فقال بالاشتراط ، وأنّه الأشهر (٤) .

وهو كما ترى ـ مع أنّه لا شاهد له ، ولا عليها بيّنة ـ مدفوع بما أفاده سيّدنا الاستاد ـ دام ظلّه ـ في المفاتيح بقوله : إذ لم أجد أحدا من الفقهاء والاصوليّين نبّه على ذلك ، بل ظاهرهم عدم الاشتراط. وهو المعتمد ؛ لأصالة بقاء جواز تقليده فيما إذا عجز عن الكتابة بعد جواز تقليده ، فيثبت مطلقا ؛ إذ لا قائل بالفصل. ويعضده العمومات الدالّة

__________________

(١) مفاتيح الاصول ، ص ٦١٠.

(٢) معارج الاصول ، ص ٢٨٠.

(٣) مفاتيح الاصول ، ص ٦١٠.

(٤) الروضة البهيّة ، ج ٣ ، ص ٦٢.

١٩٩

على صحّة التقليد وظهور الاتّفاق عليه أو الشهرة العظيمة (١) . انتهى.

[ الحادية والثلاثون : ] لا يشترط أيضا في المفتي وصحّة إفتائه كذلك أن يكون بصيرا ، بلا خلاف ظاهر أجده فيه ، بل الظاهر أنّه موضع وفاق من الفقهاء والاصوليّين ، كما في المفاتيح (٢) .

وهو الحجّة ، مضافا إلى ما مرّت إليه الإشارة.

وكذا لا يشترط فيه أيضا أن يكون ناطقا قادرا على التكلّم ، فيصحّ إفتاء الأخرس ومن بحكمه على الأصحّ ، وفاقا لظاهر المعظم (٣) ؛ لما مرّت إليه الإشارة. وخلافا لظاهر الروضة فيشترط (٤) ، ولا وجه له يعتدّ به.

وكذا لا يشترط فيه السلامة من الصمم ، بلا خلاف فيه فيما أعلم ؛ لما تقدّم.

[ الثانية والثلاثون : ] هل يشترط فيه الحرّيّة ـ كما في الروضة (٥) ، وجعله الأشهر ـ أم لا ، كما هو ظاهر المعظم ؟

قولان ، أحوطهما ـ ولو في الجملة ـ الأوّل ، ولكنّ أجودهما : الثاني ؛ لما مرّت إليه الإشارة ، مع أنّه لا دليل على الاشتراط ، عدا الأصل والعمومات المانعة من العمل بغير العلم ، وعموم قوله سبحانه : ﴿ عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ (٦) .

وما قيل ـ من أنّ العبد لا تسمع شهادته مطلقا أو في الجملة ـ فعدم صحّة فتواه أولى ، فإنّ الفتوى من المناصب الجليلة التي لا تليق بحال العبد (٧) .

وفي الجميع نظر لا يخفى على من أمعن النظر.

[ الثالثة والثلاثون : ] هل يشترط فيه الضبط وغلبة الحفظ ، كما في الروضة وعن

__________________

(١) مفاتيح الاصول ، ص ٦١٣.

(٢) المصدر.

(٣) انظر تهذيب الوصول إلى علم الاصول ، ص ٢٨٩ ؛ ومعالم الدين ، ص ٢٣٩ حيث لم ينصّ به ومفاتيح الاصول ، ص ٦١٣.

(٤) الروضة البهيّة ، ج ٣ ، ص ٦٢.

(٥) المصدر.

(٦) النحل (١٦) : ٧٥.

(٧) قال به في مفاتيح الاصول ، ص ٦١٣.

٢٠٠