تفسير ابن عربي - ج ١

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ١

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٥
الجزء ١ الجزء ٢

الهيبة والخشية (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) عند تجلي الأفعال في مقام النفس فينظرون إلى البطش والعقاب فيلزمهم الخوف.

[٢٢] (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢))

(وَالَّذِينَ صَبَرُوا) في سلوك سبيله عن المألوفات طلبا لرضاه واشتغلوا بالتزكية بالعبادات المالية والبدنية ويدفعون بالفضيلة رذيلة النفس (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) بالرجوع إلى الفطرة أو صبروا عن صفات نفوسهم ابتغاء وجه ربّهم ، أي : لمحبة الذات لا لمحبة الصفات ، وأقاموا صلاة المشاهدة وأنفقوا مما رزقناهم من المقامات والأحوال والكشوف والأعمال سرّا بالتجريد عن هيئاتها وهيئات الركون إليها والمحبة إياها ، وعلانية بتركها وعدم الالتفات إليها ، ويدرؤن بالحسنة الحاصلة من تجلي الصفة الإلهية السيئة التي هي صفة النفس (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) أي : البقاء بعد الفناء.

[٢٣ ـ ٢٧] (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧))

(جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي : ثلاثتها ، يدخلون جنة الذات مع من صلح من آباء الأرواح ، وجنّة الصفات بالقلوب ، وجنّة الأفعال بمن صلح من أزواج النفوس وذريّات القوى (وَالْمَلائِكَةُ) من أهل الجبروت والملكوت (يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) من أبواب الصفات مسلمين محيين إياهم بتحايا الإشراقات النورية والأمداد القدسية كل ذلك بسبب صبرهم على اللذات الحسيّة (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) أي : ليس الهداية والضلال بالآيات فإن في كل شيء آية ، وكفى بالآيات المنزلة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما هما بالمشيئة الإلهية ، يضلّ من يشاء لعدم الاستعداد أو لحجبهم بالغواشي الظلمانية (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) بتصفية الاستعداد من المحبين. وكما أن أهل الضلال فريقان عديم الاستعداد وحاجبه بظلمة البشرية ، فكذلك أهل الهداية قسمان : محبوبون يهتدون بغير الإنابة لقوة الاستعداد ومحبّون يهديهم الله بعد الإنابة ، كما قال تعالى : (يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (١).

__________________

(١) سورة الشورى ، الآية : ١٣.

٣٤١

[٢٨ ـ ٣٢] (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩) كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢))

(الَّذِينَ آمَنُوا) أي : المنيبون الذين آمنوا الإيمان العلميّ بالغيب (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) ذكر النفس باللسان والتفكّر في النعم ، أو ذكر القلب بالتفكّر في الملكوت ومطالعة صفات الجمال والجلال ، فإن للذكر مراتب ذكر النفس باللسان والتفكر في النعم ، وذكر القلب بمطالعة الصفات ، وذكر السرّ بالمناجاة ، وذكر الروح بالمشاهدة ، وذكر الخفاء بالمناغاة في المعاشقة ، وذكر الله بالفناء فيه. والنفس تضطرب بظهور صفاتها وأحاديثها وتطيش فيتلون القلب بسببها ويتغيّر بأحاديثها ، فإذا ذكر الله استقرت النفس وانتفت الوساوس كماقال عليه الصلاة والسلام : «إنّ الشيطان يضع خرطومه على قلب ابن آدم ، فإذا ذكر الله خنس فاطمأن القلب».

وكذا ذكر القلب بالتفكر في الملكوت ومطالعة أنوار الجبروت ، وأما سائر الأذكار فلا تكون إلا بعد الاطمئنان. والعمل الصالح هاهنا : التزكية والتحلية و (طُوبى لَهُمْ) بالوصول إلى الفطرة وكمال الصفات (وَحُسْنُ مَآبٍ) بالدخول في جنة القلب ، جنّة الصفات.

[٣٣ ـ ٤٠] (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠))

٣٤٢

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) أي : يقوم عليها بإيجاد كل ما ينسب إليها من مكاسبها ، قيوم لها وبمكسوباتها ، وإنما سمي مكسوبها وإن كان بخلق الله تعالى لأنه إنما أظهره عليها لاستعداد فيها يناسبه به قبلته من الله تعالى ، فمن جهة قبول المحل وصلاحيته لمظهريته ومحليته ينسب إلى كسبها مع قيام الحق تعالى بإيجاده لأنها اقتضته ، أو قائم عليها بحسب كسبها وبمقتضاه أي كما يقتضي مكسوباتها من الصفات والأحوال التي تعرض لاستعدادها يفيض عليها من الجزاء الذي هو الهيئات الكمالية النورانية المثيبة إياها ، أو الهيئات الكدرة الظلمانية المعذّبة إياها.

(لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) لكل وقت أمر مكتوب مقدّر أو مفروض في ذلك الوقت على الخلق ، فالشرائع معينة عند الله بحسب الأوقات في كل وقت يأتي بما هو صلاح ذلك الوقت رسول من عنده وكذا جميع الحوادث من الآيات وغيرها. (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ) بشيء منها إلا بإذنه في وقته لأنها معينة بإزاء الأوقات التي تحدث فيها من غير تغير وتبدّل وتقدّم وتأخر (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) عن الألواح الجزئية التي هي النفوس السماوية من النقوش الثابتة فيها فيعدم عن المواد ويفنى (وَيُثْبِتُ) ما يشاء فيها فيوجد. (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) أي : لوح القضاء السابق الذي هو عقل الكل المنتقش بكل ما كان ويكون أزلا وأبدا على الوجه الكليّ المنزّه عن المحو والإثبات ، فإن الألواح أربعة : لوح القضاء السابق العالي عن المحو والإثبات وهو لوح العقل الأول. ولوح القدر أي : لوح النفس الناطقة الكليّة التي يفصل فيها كليات اللوح الأول ويتعلق بأسبابها وهو المسمى ب : اللوح المحفوظ. ولوح النفوس الجزئية السماوية التي ينتقش فيها كل ما في هذا العالم بشكله وهيأته ومقداره وهو المسمى بالسماء الدنيا وهو بمثابة خيال العالم كما أن الأول بمثابة روحه والثاني بمثابة قلبه. ثم لوح الهيولى القابل للصور في عالم الشهادة والله أعلم.

[٤١ ـ ٤٣] (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣))

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) نقصد أرض الجسد وقت الشيخوخة (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) بتواكل الأعضاء وتخاذل القوى وكلالة الحواس شيئا فشيئا حتى يموت (وَاللهُ يَحْكُمُ) على هذا الوجه (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) لا رادّ ولا مبدّل لحكمه ، أو نأتي أرض النفس وقت السلوك ننقصها من أطرافها بإفناء أفعالها بأفعالنا أولا كما قال تعالى :«بي يسمع وبي

٣٤٣

يبصر»، ثم بإفناء صفاتها بصفاتها ثانيا ، كما قال تعالى :«كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر». ثم بإفناء ذاتها بذاتنا كما قال تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) (١) وأجاب نفسه بقوله تعالى : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٢) لفناء الخلق كله ، وحينئذ لا حكم إلا لله ، يحكم كما يشاء لا معقب لحكمه لعدم غيره.

__________________

(١ ـ ٢) سورة غافر ، الآية : ١٦.

٣٤٤

سورة إبراهيم (عليه‌السلام)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ) من ظلمات الكثرة إلى نور الوحدة ، أو من ظلمات صفات النشأة إلى نور الفطرة ، أو من ظلمات حجب الأفعال والصفات إلى نور الذات (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) بتيسيره بإيداع ذلك النور فيهم بهيئة الاستعداد من الفيض الأقدس من عالم الألوهية وتوفيقه بتهيئة أسباب خروجه إلى الفعل من حضرة الربوبية ، إذ الإذن منه هبة الاستعداد وتهيئة الأسباب وإلا لم يكن لأحد إخراجهم (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ) القوي الذي يقهر ظلمات الكثرة بنور وحدته (الْحَمِيدِ) بكمال ذاته. وعلى المعنى الثاني : صراط العزيز الذي يقهر صفات النفس بنور القلب الحميد الذي يهب نعم الفضائل والعلوم عند صفاء الفطرة. وعلى الثالث : العزيز الذي يقهر بسبحات ذاته أنوار صفاته ويفنى بحقيقة هويته جميع مخلوقاته الحميد الذي يهب الوجود الباقي الكامل بعد فناء الرذائل الناقص بوجود ذاته وجمال وجهه. (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ) المحجوبين عن الوحدة أو الفطرة أو تجلي الذات وكشفه. ويترتب على الوجوه الثلاثة مراتب العذاب ، فهو إما عذاب محبّة الأنداد في جحيم التضادّ وإما عذاب هيئات الرذائل ونيران صفات النفس ومقتضيات الطبائع أو عذاب حجب الأفعال والصفات والحرمان عن نور الذات.

[٣] (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣))

(الَّذِينَ) يؤثرون (الْحَياةَ الدُّنْيا) الحسيّة على العقلية والصورية على المعنوية لوصفه الضلال بالبعد وكون عالم الحسّ في أبعد المراتب عن الله تعالى.

[٤ ـ ٢١] (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ

٣٤٥

يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١))

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) أي : بكلام يناسب ما عليه حالهم بحسب استعدادهم وعلى قدر عقولهم وإلا لم يفهموا لبعد ذلك المعنى عن أفهامهم وعدم مناسبته لمقامهم ، فلم يمكنه أن يبين لهم ما في استعدادهم الأول بالقوة من الكمال اللائق به وما تقتضيه هوياتهم بحسب الفطرة (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) لزوال استعداده بالهيئات الظلمانية ورسوخها والاعتقادات الباطلة واستقرارها (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ممن بقي على استعداده أو لم يترسخ فيه حواجب هيئاته وصور اعتقاداته (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القويّ الذي لا يغلب على مشيئته فيهدي من يشاء هدايته ويضلّ من يشاء ضلالته (الْحَكِيمُ) الذي يدبر أمر هداية المهتدي بأنواع اللطف وأمر ضلال الضالّ بأصناف الخذلان على مقتضى الحكمة البالغة.

٣٤٦

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي : لكل مؤمن بالإيمان الغيبي إذ الصبر والشكر مقامان للسالك قبل الوصول حال العقد الإيماني والسير في الأفعال لتحصيل رتبة التوكل ، وحينئذ آياته التي يعتبر بها ويستمدها يتمسك بها ويعتمدها في سلوكه هي الأفعال ، فكلما رأى نعمة أو سمع بها أو وصلت إليه من هداية وغيرها شكره باللسان وبالقلب بتصوره من عند الله ، وبالجوارح بحسن التلقي والقبول والطاعة والعمل بمقتضاها على ما ينبغي ، وكلما رأى أو سمع بلاء أو نزل به صبر بحفظ اللسان عن الجزع. وقول : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) (١) وربط القلب وتصوّر أن له فيه خير أو مصلحة وإلا لما ابتلاه الله به ومنع الجوارح عن الاضطراب. (أَفِي اللهِ شَكٌ) مع وضوحه ، أي : كيف تشكون فيما ندعوكم إليه وهو الذي لا مجال للشك فيه لغاية ظهوره وإنما يوضح ما يوضح به.

(يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) ليستر بنوره ظلمات حجب صفاتكم فلا تشكّون فيه عند جلية اليقين (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى) غاية يقتضيها استعدادكم من السعادة إذ كل شخص عين له بحسب استعداده الأول كمال هو أجله المعنوي كما أن لكل أحد بحسب مزاجه الأول غاية من العمر هي أجله الطبيعي ، وكما أن الآجال الاخترامية تقطع العمر دون الوصول إلى الغاية المسمّاة بسبب من الأسباب فكذلك الآفات والموانع التي هي حجب الاستعداد تحول دون الوصول إلى الكمال المعين.

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) للخلائق ثلاث برزات ، برزة عند القيامة الصغرى بموت الجسد وبروز كل أحد من حجاب جسده إلى عرصة الحساب والجزاء ، وبرزة عند القيامة الوسطى بالموت الإرادي عن حجاب صفات النفس والبروز إلى عرصة القلب بالرجوع إلى الفطرة ، وبرزة عند القيامة الكبرى بالفناء المحض عن حجاب الإنية إلى فضاء الوحدة الحقيقية وهذا هو البروز المشار إليه بقوله تعالى : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٢) ، ومن كان من أهل هذه القيامة يراهم بارزين لا يخفى على الله منهم شيء. وأما ظهور هذه القيامة للكل وبروز الجميع لله ، وحدوث التقاول بين الضعفاء والمستكبرين ، فهو بوجود المهديّ القائم بالحق ، الفارق بين أهل الجنّة والنار عند قضاء الأمر الإلهي بنجاة السعداء وهلاك الأشقياء.

[٢٢ ـ ٢٦] (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٥٦.

(٢) سورة إبراهيم ، الآية : ٤٨.

٣٤٧

أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦))

(وَقالَ الشَّيْطانُ) ظهر سلطان الحق على شيطان الوهم وتنوّر بنوره ، فأسلم وأطاع وصار محقا عالما بأن الحجة لله في دعوته للخلق إلى الحق لا له ، ودعوته إلى الباطل بتسويل الحطام وتزيين الحياة الدنيا عليهم واهية فارغة عن الحجة ، وأقرّ بأن وعده تعالى بالبقاء بعد خراب البدن والثواب والعقاب عند البعث حق قد وفى به. ووعدي بأن ليس إلا الحياة الدنيا باطل اختلقته ، فاستحقاق اللوم ليس إلا لمن قبل الدعوة الخالية عن الحجة فاستجاب لها وأعرض عن الدعوة المقرونة بالبرهان فلم يستجب لها (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ).

(كَلِمَةً طَيِّبَةً) أي : نفسا طيبة ، كما مرّ في تسمية عيسى عليه‌السلام (كلمة). (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) كما شبهها بالزيتونة في القرآن وبالنخلة في الحديث (أَصْلُها ثابِتٌ) بالاطمئنان وثبات الاعتقاد بالبرهان (وَفَرْعُها فِي) سماء الروح (تُؤْتِي أُكُلَها) من ثمرات المعارف والحكم والحقائق (كُلَ) وقت (بِإِذْنِ رَبِّها) بتسهيله وتيسيره بتوفيق الأسباب وتهيئتها (وَمَثَلُ) نفس (خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) مثل الحنظلة أو الشرجط (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) استؤصلت للطيش الذي فيها وتشوش الاعتقاد وعدم القرار على شيء.

[٢٧ ـ ٢٩] (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩))

(يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان اليقيني بالبرهان الحقيقي (فِي الْحَياةِ) الحسيّة لاستقامتهم في الشريعة وسلوكهم في تحصيل المعاش طريق الفضيلة والعدالة (وَفِي الْآخِرَةِ) أي : الحياة الروحانية لاهتدائهم بنور الحق في الطريقة وكونهم في تحصيل المعارف على بصيرة من الله وبيّنة من ربّهم (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) في الحياتين لنقص استعداداتهم بحظوظ صفات النفس وبقائهم في الحيرة للاحتجاب عن نور الحق (بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ) التي أنعم بها عليهم في الأزل من الهداية الأصلية والنور الاستعدادي الذي هو بضاعة النجاة (كُفْراً) أي :احتجابا وضلالة ، كما قال تعالى : (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (١) أضاعوا النور الباقي واستبدلوا به اللذة الحسية الفانية ، فبقوا في الظلمة الدائمة

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٦.

٣٤٨

(وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ) من في قوى نفوسهم أو من اقتدى بطريقتهم وتأسى بهم وتابعهم في ذلك (دارَ الْبَوارِ).

[٣٠ ـ ٣١] (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١))

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) من متاع الدنيا وطيباتها ومشتهياتها يحبونها كحبّ الله ، إذ كل ما غلب حبه فهو معبود. قال الله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ) (١) إلخ ، (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) كل من نظر إليهم من الأحداث المستعدّين ومن دان بدينهم. (قُلْ تَمَتَّعُوا) أي : اذهبوا فيه بأمر الوهم فإنّ تمتعكم قليل سريع الزوال ، وشيك الفناء ، وعاقبته وخيمة بالمصير إلى النار.

[٣٢ ـ ٣٤] (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤))

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ) سموات الأرواح وأرض الجسد (وَأَنْزَلَ مِنَ) سماء عالم القدس ماء العلم (فَأَخْرَجَ بِهِ) من أرض النفس ثمرات الحكم والفضائل (رِزْقاً لَكُمْ) وتقوى القلب بها (وَسَخَّرَ لَكُمُ) أنهار العلم بالاستنتاج والاستنباط والتفريع والتفصيل (وَسَخَّرَ لَكُمُ) شمس الروح وقمر القلب (دائِبَيْنِ) في السير بالمكاشفة والمشاهدة (وَسَخَّرَ لَكُمُ) ليل ظلمة صفات النفس ونهار نور الروح لطلب المعاش والمعاد والراحة والاستنارة (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) بألسنة استعداداتكم ، فإنّ كل شيء يسأله بلسان استعداده كمالا يفيض عليه مع السؤال بلا تخلف وتراخ كما قال تعالى : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩)) (٢).

(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ) من الأمور السابقة على وجودكم الفائضة من الحضرة الإلهية ومن اللاحقة بكم من أمداد التربية الواصلة عن الحضرة الربوبية (لا تُحْصُوها) لعدم تناهيها كما تقرّر في الحكمة (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ) بوضع نور الاستعداد ومادة البقاء في ظلمة الطبيعة ومحل الفناء وصرفه فيها ، أو بنقص حقّ الله أو حق نفسه بإبطال الاستعداد (كَفَّارٌ) بتلك النعم التي لا تحصى باستعمالها في غير ما ينبغي أن تستعمل وغفلته عن المنعم عليه بها واحتجابه بها عنه.

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٤.

(٢) سورة الرحمن ، الآية : ٢٩.

٣٤٩

[٣٥] (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥))

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) الروح بلسان الحال عند التوجه إلى الله في طلب الشهود (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ) أي : بلد البدن (آمِناً) من غلبات صفات النفس وتنازع القوى وتجاذب الأهواء (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَ) القوى العاقلة النظرية والعملية والفكر والحدس والذكر وغيرها. (أَنْ نَعْبُدَ) أصنام الكثرة عن المشتهيات الحسية والمرغوبات البدنية والمألوفات الطبيعية بالمحبة.

[٣٦] (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦))

(رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) بالتعلق بها ، والانجذاب إليها ، والاحتجاب بها عن الوحدة (فَمَنْ تَبِعَنِي) في سلوك طريق التوحيد (فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ) تستر عنه تلك الهيئة المظلمة بنورك (رَحِيمٌ) ترحمه بإفاضة الكمال عليه بعد المغفرة.

[٣٧] (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧))

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ) ذريّة قواي (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) أي : وادي الطبيعة الجسمانية الخالية عن زرع الإدراك والعلم والمعرفة والفضيلة (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) الذي هو القلب (رَبَّنا لِيُقِيمُوا) صلاة المناجاة والمكاشفة (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً) من ناس الحواس (تَهْوِي إِلَيْهِمْ) فتميزهم بأنواع الإحساسات وتمدّهم بإدراك الجزئيات وتميل إليهم بالمشايعة وترك المخالفة بالميل إلى الجهة السفلية واللذة البدنية (وَارْزُقْهُمْ) من ثمرات المعارف والحقائق من الكليات (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) نعمتك فيستعملون تلك المدركات في طلب الكمال.

[٣٨] (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨))

(رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي) مما فينا بالقوّة (وَما نُعْلِنُ) مما أخرجناه إلى الفعل من الكمالات (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ) في أرض الاستعداد ولا في سماء الروح.

[٣٩] (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩))

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى) كبر الكمال (إِسْماعِيلَ) العاقلة النظرية (وَإِسْحاقَ) العلمية (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) أي : لسميع لدعاء الاستعداد ، كما قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي.

٣٥٠

[٤٠ ـ ٤٧] (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١) وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤))

(وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ) صلاة الشهود (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) كلا منهم مقيم صلاة تخصه (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) أي : طلبي للفناء التامّ فيك (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي) بنور ذاتك ذنب وجودي فلا أحتجب بالطغيان (وَلِوالِدَيَ) ولما يتسبب لوجودي من القوابل والفواعل فلا أرى غيرك ولا ألتفت إلى سواك فأبتلى بزيغ البصر ، ولمؤمني القوى الروحانية (يَوْمَ يَقُومُ) حساب الهيئات الروحانية النورانية والنفسانية الظلمانية أيها أرجح.

[٤٨ ـ ٥٢] (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢))

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) تبدّل أرض الطبيعة بأرض النفس عند الوصول إلى مقام القلب وسماء القلب بسماء السرّ وكذا تبدّل أرض النفس بأرض القلب وسماء السرّ بسماء الروح ، وكذا كل مقام يعبره لسالك يبدّل ما فوقه وما تحته كتبدّل سماء التوكل في توحيد الأفعال بسماء الرضا في توحيد الصفات ، ثم سماء الرضا بسماء التوحيد عند كشف الذات ثم يطوى الكل (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ) الذي لا موجود غيره (الْقَهَّارِ) الذي يفنى كل ما عداه بتجليه (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ) المحتجبين بصفات النفوس وهيئات الرذائل (مُقَرَّنِينَ) في أماكنهم من سجين الطبيعة وهاوية هوى النفس بقيود علائق الطبيعيات وأرسان محبات السفليات (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) لاستيلاء سواد الهيئات المظلمة من تعلقات الجواهر الغاسقة عليها (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ) نار القهر والإذلال والاحتجاب عن لذّة الكمال ، وفيه سرّ آخر لا ينكشف إلا لأهل القيامة ممن شاهد البعث والنشور ، والله أعلم.

٣٥١

سورة الحجر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢٠] (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠))

(وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) أي : جامع لكل شيء ، مظهر له (وَلَقَدْ جَعَلْنا) في سماء العقل (بُرُوجاً) مقامات ومراتب من العقل الهيولاني والعقل بالملكة والعقل بالفعل والعقل المستفاد (وَزَيَّنَّاها) بالعلوم والمعارف (لِلنَّاظِرِينَ) المتفكرين فيه (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) من الأوهام الباطلة (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) فاختطف الحكم العقليّ باستراق السمع لقربه من أفق العقل (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) أي : برهان واضح فنطرده ونبطل حكمه. وأرض النفس (مَدَدْناها) بسطناها بالنور القلبي (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) الفضائل (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) من الكمالات الخلقية والأفعال الإرادية والملكات الفاضلة والمدركات الحسيّة (مَوْزُونٍ) معين مقدّر بقدر عقلي عدلي غير مائل إلى طرفي الإفراط والتفريط لكل قوة بحسبها (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) بالتدابير الجزئية والأعمال البدنية (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) ممن ينسب إليكم ويتعلق بكم ، أو جعلنا في سماء القلب بروجا مقامات كالصبر والشكر والتوكل والرضا والمعرفة والمحبة ، وزيناها بالمعارف والحكم والحقائق وحفظناها من كل شيطان رجيم من الأوهام والتخيلات (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨)) (١) أي : إشراق نوري من طوالع أنوار الهداية.

__________________

(١) سورة الحجر ، الآية : ١٨.

٣٥٢

[٢١] (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١))

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) أي : ما من شيء في الوجود إلا له عندنا خزانة في عالم القضاء أولا بارتسام صورته في أمّ الكتاب الذي هو العقل الكليّ على الوجه الكليّ ، ثم خزانة أخرى في عالم النفس الكليّة وهو اللوح المحفوظ بارتسام صورته فيه متعلقا بأسبابه ، ثم خزانة أخرى بل خزائن في النفوس الجزئية السماوية المعبّر عنها بسماء الدنيا ولوح القدر بارتسام صورته فيها جزئية مقدّرة بمقدارها وشكلها ووضعها (وَما نُنَزِّلُهُ) في عالم الشهادة (إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) من شكل وقدر ووضع ووقت ومحل معينة واستعداد مختص به في ذلك الوقت.

[٢٢] (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢))

(وَأَرْسَلْنَا) رياح النفحات الإلهية (لَواقِحَ) بالحكم والمعارف ، مصفيّة للقلوب ، معدّة للاستعدادات لقبول التجليات (فَأَنْزَلْنا) من سماء الروح ماء من العلوم الحقيقية (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) وأحييناكم به (وَما أَنْتُمْ) لذلك العلم (بِخازِنِينَ) لخلوكم عنها.

[٢٣] (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣))

(وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي) بالحياة الحقيقية بماء الحياة العلمية والقيام في مقام الفطرة (وَنُمِيتُ) بالإفناء في الوحدة (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) للوجود ، الباقون بعد فنائكم.

[٢٤ ـ ٢٥] (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥))

(وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) أي : المستبصرين ، المشتاقين من المحبين الطالبين للتقدّم (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) المنجذبين إلى عالم الحس ومعدن الرجس باستيلاء صفات النفس ومحبة البدن ولذاته ، الطالبين للتأخر عن عالم القدس (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) مع من يتولونه ويجمعهم إلى من يحبونه وينزعون إليه (إِنَّهُ حَكِيمٌ) يدبّر أمرهم في الحشر على وفق الحكمة بحسب المناسبة (عَلِيمٌ) بكل ما فيهم من خفايا الميل والانجذاب والمحبة وما تقتضيه هيئاتهم وصفاتهم فسيجزيهم وصفهم.

[٢٦ ـ ٤٣] (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ

٣٥٣

أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣))

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) أي : من العناصر الأربعة الممتزجة إذ الحمأ هو الطين المتغير والمسنون ما صبّ عليه الماء حتى خلص عن الأجزاء الصلبة الخشنة الغير المعتدلة المنافية لقبول الصورة التي يراد تصويرها منه. والصلصال ما تخلخل منه بالهواء وتجفّف بالحرارة (وَالْجَانَ) أي : أصل الجنّ وهو جوهر الروح الحيواني الذي تولّد منه قوى الوهم والتخيل وغيرهما (خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) أي : من الحرارة الغريزية ومن بخارية الأخلاط ولطافتها المستحيلة بها ، وإنما قال من قبل لتقدّم تأثير الحرارة في التركيب بالتمزيج والتعديل وإثارة ذلك البخار على صور الأعضاء بل القوى الفعالة المؤثرة متقدّمة على التركيب في الأصل وقد مرّ معنى انقياد الملائكة له وعدم انقياد إبليس.

(فَاخْرُجْ) من جنّة عالم القدس التي ترتقي إلى أفقه (فَإِنَّكَ) مرجوم ، مطرود منها لكونك غير مجرّد عن المادة (وَإِنَّ عَلَيْكَ) لعنة البعد في الرتبة (إِلى يَوْمِ) القيامة الصغرى وتجرّد النفس عن البدن بقطع علاقتها أو الكبرى بالفناء في التوحيد (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ) الشهوات واللذات في الجهة السفلية (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ) أي : المخصوصين بك ، الذين أخلصتهم من شوائب صفات النفس وطهّرتهم من دنس تعلق الطبيعة ، وجرّدتهم بالتوجه إليك من بقايا صفاتهم وذواتهم ، أو الذين أخلصوا أعمالهم لك من غير حظ لغيرك فيها (هذا صِراطٌ عَلَيَ) حق نهجه ومراعاته (مُسْتَقِيمٌ) لا اعوجاج فيه ، وهو أن لا سلطان لك على عبادي المخلصين إلّا الذين يناسبونك في الغواية والبعد عن صراطي فيتبعونك.

[٤٤] (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤))

(لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) هي الحواس الخمس والشهوة والغضب (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) عضو خاص به ، أو بعض من الخلق يختصون بالدخول منه لغلبة قوّة ذلك الباب عليهم.

[٤٥ ـ ٤٦] (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦))

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ) الذين تزكّوا عن الغواشي الطبيعية وتجرّدوا عن الصفات البشرية (فِي

٣٥٤

جَنَّاتٍ) من روضات عالم القدس (وَعُيُونٍ) من ماء حياة العلم مقولا لهم (ادْخُلُوها) بسلامة من الهيئات الجسدانية وأمراض القلوب المانعة عن الوصول إلى ذلك المقام (آمِنِينَ) من آفات عالم التضادّ وعوارض الكون والفساد ، وتغيرات أحوال الأزمنة والموادّ.

[٤٧] (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧))

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) أي : حقد راسخ وكل هيئة متصاعدة من النفس إلى وجه القلب الذي يليها بفيض النور واستيلاء قوة الروح وتأييد القدس ، وهم الذين غلبت أنوارهم على ظلماتهم من أهل العلم واليقين فاضمحلت وزالت عنهم الهيئات النفسانية الغاسقة وآثار العداوة اللازمة لهبوط النفس والميل إلى عالم التضادّ ، وأشرقت فيهم قوّة المحبة الفطرية بتعاكس أشعة القدس وأنوار التوحيد واليقين من بعضهم إلى بعض ، فصاروا إخوانا بحكم العقد الإيمانيّ والتناسب الروحاني. (عَلى سُرُرٍ) مراتب عالية (مُتَقابِلِينَ) لتساوي درجاتهم وتقارب مراتبهم وكونهم غير محتجبين.

[٤٨ ـ ٨٦] (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ

٣٥٥

الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦))

(لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) لامتناع أسباب المنافاة والتضادّ هناك (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) لسرمدية مقامهم وتنزّهه عن الزمان وتغيراته. وأما كيفية نزول الملائكة على النبيين وتجسد الأرواح العالية للمتجرّدين المنسلخين عن الهيئات البدنية المتقدّسين ، فقد مرّت الإشارة إليها في سورة (هود).

[٨٧ ـ ٩٧] (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١))

(فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً) أي : الصفات السبع التي ثبتت لله تعالى وهي : الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والتكلّم (مِنَ الْمَثانِي) التي كرّر وثنى ثبوتها لك أولا في مقام وجود القلب عند تخلقك بأخلاقه ، واتصافك بأوصافه ، فكانت لك. وثانيا : في مقام البقاء بالوجود الحقاني بعد الفناء في التوحيد (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) أي : الذات الجامعة لجميع الصفات وإنما كانت لمحمد عليه الصلاة والسلام سبعا ، ولموسى تسعا لأنه ما أوتي القرآن العظيمبل كان مقامه التكليم ، أي : مقام كشف الصفات دون كشف الذات ، فله هذه السبع مع القلب والروح.

[٩٨ ـ ٩٩] (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩))

(فَسَبِّحْ) بالتجريد عن عوارض الصفات المتعلقة بالمادة لتكون منزّها لله تعالى بلسان الحال ، حامدا لربّك بالاتصاف بالصفات الكمالية لتكون حامدا لنعم تجليات صفاته بأوصافك (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) بسجود الفناء في ذاته (وَاعْبُدْ رَبَّكَ) بالتسبيح والتحميد والسجود المذكورة (حَتَّى يَأْتِيَكَ) حق (الْيَقِينُ) فتنتهي عبادتك بانقضاء وجودك ، فيكون هو العابد والمعبود جميعا لا غيره.

٣٥٦

سورة النحل

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢٧] (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧))

(أَتى أَمْرُ اللهِ) لما كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل القيامة الكبرى يشاهدها ويشاهد أحوالها في عين الجمع ، كماقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين». أخبر عن شهوده بقوله تعالى : (أَتى أَمْرُ

٣٥٧

اللهِ) ولما كان ظهورها على التفصيل بحيث تظهر لكل أحد لا يكون إلا بوجود المهدي عليه‌السلام قال : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) لأن هذا ليس وقت ظهوره ، ثم أكد شهوده لوجه الله وفناء الخلق في القيامة بقوله : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) من إثبات وجود الغير. ثم فصّل ما شهد في عين الجمع لكونه في مقام الفرق بعد الجمع يشاهد كثرة الصفات في عين أحدية الذات بحيث لا يحتجب بالوحدة عن الكثرة ولا بالعكس ، كما ذكر في قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ) (١) الآية ، فقال : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ) أي : العلم الذي يحيي به القلوب ، يعني :القرآن (مِنْ) عالم (أَمْرِهِ) الذي انتقش فيه (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) المخصوصين بمزيد عنايته ، إن أخبروهم بالتوحيد والتقوى ، فبين بعد بيان أحديّة الذات عالم الصفات الحقيقية بتنزيل الروح الذي هو العلم ، وإثبات المشيئة التي هي الإرادة ، وعالم الأسماء بإثبات الملائكة ، وعالم الأفعال بالإنذار. ثم عدّ الصفات الإضافية كالخلق والرزق ، وفصّل النعم المتعددة كالنعم وغيرها. ولما ظهر الحق والخلق ظهر طريق الحق والباطل ، فقال : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) أي : عليه لزوم السبيل المستقيم والهداية إليها لأهله ، كما قال : (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢) أي : كل من كان على هذا الصراط الذي هو طريق التوحيد لا بدّ وأن يكون من أهله تعالى لأنه طريقه الذي يلزمه.

ومن السبيل (جائِرٌ) يعني بعض السبل ، وهي السبل المتفرقة مما عدا سبيل التوحيد جائر عادل عن الحق ، موصل إلى الباطل لا محالة ، فهي سبيل الضلالة كيفما كانت. ولم يشأ هداية الجميع إلى السبيل المستقيم لكونها تنافي الحكمة.

[٢٨ ـ ٣٤] (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤))

(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) قد مرّ أن السابقين الموحدين يتوفاهم الله

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٨.

(٢) سورة هود ، الآية : ٥٦.

٣٥٨

تعالى بذاته ، وأما الأبرار والسعداء فقسمان : فمن ترقى عن مقام النفس بالتجرّد ووصل إلى مقام القلب بالعلوم والفضائل يتوفّاهم ملك الموت ، ومن كان في مقام النفس من العباد والصلحاء والزهّاد والمتشرّعين الذين لم يتجرّدوا عن علائق البدن بالتزكية والتحلية تتوفاهم ملائكة الرحمة بالبشرى بالجنة ، أي : جنّة الأفعال والآثار. وأما الأشرار الأشقياء فكيفما كانوا تتوفاهم ملائكة العذاب ، إذ القوى الملكوتية المتصلة بالنفوس تتشكل بهيئات تلك النفوس ، فإذا كانت محجوبة ظالمة كانت هيئاتهم غاسقة ظلمانية هائلة ، فتتشكل القوى الملكوتية القابضة لنفوسهم بتلك الهيئات لمناسبتها ، ولهذا قيل : إنما يظهر ملك الموت على صورة أخلاق المحتضر ، فإذا كانت رديئة ، ظلمانية ، كانت صورته هائلة ، موحشة ، غلب على من يحضره الخوف والذعر ، وتذلّل وتمسكن ، ونزل عن استكباره ، وأظهر العجز والمسكنة ، وهذا معنى قوله : (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) أي : سالموا ، وهانوا ، ولانوا ، وتركوا العناد والتمرّد وقالوا : (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) فأجيبوا بقولهم : (بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) الأفعال. وأما المتّقون عن المعاصي والمناهي ، الواقفون مع أحكام الشريعة ، المعترفون بالتوحيد والنبوّة على التقليد لا التحقيق ، وإلا لتجرّدوا بعلم اليقين عن صفات النفس إلى مقام القلب ، فتتوفاهم الملائكة طيبين على صورة أخلاقهم وأعمالهم الطيبة الجميلة ، فرحين مستبشرين (يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) أي : الجنة المعهودة عندهم ، وهي جنة النفوس من جنات الأفعال (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

[٣٥ ـ ٣٩] (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩))

(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) إنما قالوا ذلك عنادا وتعنتا عن فرط الجهل ، وإلزاما للموحدين بناء على مذهبهم ، إذ لو قالوا ذلك عن علم ويقين لكانوا موحدين لا مشركين بنسبة الإرادة والتأثير إلى الغير ، لأن من علم أنه لا يمكن وقوع شيء بغير مشيئة من الله ، علم أنه لو شاء كل من في العالم شيئا لم يشأ الله ذلك لم يمكن وقوعه ، فاعترف بنفي القدرة والإرادة عما عدا الله تعالى فلم يبق مشركا ، قال الله تعالى : (وَلَوْ

٣٥٩

شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) (١). (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) في تكذيب الرسل بالعناد.

[٤٠ ـ ٤٧] (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧))

(إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) الفرق بين إرادة الله تعالى وعلمه وقدرته لا يكون إلا بالاعتبار ، فإن الله تعالى يعلم كل شيء ويعلم وقوعه في وقت معين بسبب معين على وجه معين ، فإذا اعتبرنا علمه بذلك قلنا بعالميته ، وإذا اعتبرنا تخصيصه بالوقت المعين والوجه المعين قلنا بإرادته ، وإذا اعتبرنا وجوب وجوده بوجود ما يتوقف عليه وجوده في ذلك الوقت على ذلك الوجه المعلوم قلنا بقدرته ، فمرجع الثلاثة إلى العلم. ولو اقتضى علمنا وجود شيء ولم يتغير ولم يحتج إلى تروّ وعزيمة غير كونه معلوما وتحريك الآلات لكان فينا أيضا كذلك.

[٤٨] (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨))

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) أي : ذات وحقيقة مخلوقة ، أية ذات كانت من المخلوقات (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) أي : يتجسد ويتمثل هياكله وصوره ، فإن لكل شيء حقيقة هي ملكوت ذلك الشيء وأصله الذي هو به هو كما قال تعالى : (بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) (٢). وظلاله هو : صفته ومظهره ، أي : جسده الذي به يظهر ذلك الشيء. (عَنِ الْيَمِينِ وَ) عن (الشَّمائِلِ) أي : عن جهة الخير والشرّ (سُجَّداً لِلَّهِ) منقادة بأمره ، مطواعة لا تمتنع عما يريد فيها ، أي : يتحرك هياكله إلى جهات الأفعال الخيرية والشرّية بأمره (وَهُمْ داخِرُونَ) صاغرون ، متذللون لأمره ، مقهورون.

[٤٩ ـ ٥٣] (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠) وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣))

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ١٠٧.

(٢) سورة يس ، الآية : ٨٣.

٣٦٠