تفسير ابن عربي - ج ١

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ١

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٥
الجزء ١ الجزء ٢

بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧))

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) أي : ظهر لعزيز الروح ونسوة النفس والقوى وأعوان الروح من العقل والفكر وغيرهما رأي متفق عليه من جميعها وهو ليسجننه ، أي : ليتركنه في الخلوة التي هي أحب إليه. أما الروح فلقهره إياه بنور الشهود ومنعه عن تصرفاته وصفاته ، وأما النفس وسائر القوى فلامتناعها عن استجذابه إليها من بعد ما رأوا آيات العصمة وصدق العزيمة وعدم الميل إليها وبهره عليها بنوره وإخلاصه في الافتقار إلى الله وإلا لما خلته وشأنه في الخلوة ، وأما الوهم فلانهزامه عن نوره وفراره من ظله عند التصلب في الدين والتعوّد بالحق. وأما العقل فلتنوّره بنور الهداية ، وأما الفكر فلحصول سلطانه في الخلوة ، والفتيان اللذان دخلا معه السجن أحدهما قوّة المحبة الروحية اللازمة له وهو شرابيّ الملك الذي يسقيه خمر العشق كما قيل في القصة : إنه كان شرابيه ، والثاني : هوى النفس التي لا تفارقه أيضا بحال ، فإنّ الهوى حياة النفس الفائضة إليها منه لاستبقائها وهو خبّاز الملك الذي يدبر الأقوات في المدينة كما قيل وهما يلازمانه في الخلوة دون غيرهما. ومنام الشرابيّ في قوله : (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) اهتداء قوة المحبة إلى عصر خمر العشق من كرم معرفة القلب في نوم الغفلة عن الشهود الحقيقي ومنام الخبّاز في قوله : (إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) توجه الهوى بكليته إلى تحصيل لذات طير القوى النفسانية وحظوظها وشهواتها ، وشبّهت بالطير في جذب ما تجذبه من الحظوظ لسرعة حركتها نحوه.

وقوله : (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ) إلخ ، إشارة إلى منعه إياهما عن حظوظهما إلا بعد

٣٢١

تبيينه لهما ما يؤول إليه أمرهما من شأنهما الذي يجب لهما القيام به بالسياسة والتسديد والتقويم والإصلاح وإظهار التوحيد لهما بقوله : (إِنِّي تَرَكْتُ) إلى آخره ، بعثه إياهما على القيام بالأمر الإلهيّ الضروري وترك الفضول والامتناع عن تفرّق الوجهة وتشتت الهمّ ، فإنّ خاصية الهوى التفرقة والتوزع وتعبد الشهوات المختلفة للقوى المتنازعة ، وخاصية المحبة في البداية وقبل الوصول إلى النهاية التعلق بحسن الصفات والتعبد لها دون جمال الذات ، فدعاهما إلى التوحيد بقوله : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أي : المشركين ، العابدين لأوثان صفات النفس بل لوجود القلب وصفاته (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) أي : وهم عن البقاء في العالم الروحاني محجوبون ، وبقوله : (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ).

وبقوله : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أي : إذا كان لكل منكما أرباب كثيرة كما قال تعالى : (فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) (١) يأمره هذا بأمر وهذا بأمر متمانعون في ذلك ، عاجزون إمّا للمحبة فكالصفات والأسماء ، وإما للهوى فكالقوى النفسانية كان خيرا له أم ربّ واحد لا يأمره إلا بأمر واحد ، كما قال : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) (٢) ، قهار ، قويّ ، يقهر كل أحد ، لا يمانعه في أمره شيء ، ولا يمتنع عليه. وأجبرهما بالسياسة على اتحاد الوجهة ، فإنّ القلب إذا غلبت عليه الوحدة امتنعت محبته عن حب الصفات وانصرفت إلى الذات ، وإذا تمرّن في التوحيد انقمع هواه عن تعبد الحظوظ والشهوات والتفرّق في تحصيل اللذات واقتصر على الحقوق والضرورات بأمر الحق لا بطاعة الشيطان.

وقوله : (أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) تعيين لشأن الأول بعد السياسة بالمنع عن الشرك وهو تسليط حب اللذات على الروح (وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) بيان لما يؤول إليه أمر الثاني. وصلبه : منعه عن أفعاله بنفسه وقمعه عن مقتضاه وتثبيته وتقريره على جذع القوة الطبيعية النباتية بحيث لا تصرّف للمتخيلة فيه ولا له فيها ولا في سائر القوى الحيوانية وذلك هو إماتة الهوى ، فتأكل بعد الإماتة والصلب طير قوى النفس من رأسه بأمر الحق وهو الوقوف مع الحقوق (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) أي : ثبت واستقرّ أمركما على هذا وذلك وقت وصوله وتقرّبه من الله وأوان ظهور مقام الولاية بالفناء في الله. وإذا تمكنت القوّتان فيما عينه لهما من الأمر تم أمره بالوصول إلى مقام الشهود الذاتي وانقضت خلوته ، فإنّ طول مدة السجن هو امتداد سلوكه في الله ، فإذا تمّ له الفناء استوى أمر القوتين لكونهما بالله حينئذ لا بنفسهما وانتهى زمان الخلوة بابتداء زمان البقاء بالوجود الحقانيّ ، ولكن

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ٢٩.

(٢) سورة القمر ، الآية : ٥٠.

٣٢٢

لم يتم بعد لوجود البقية المشار إليها بقوله :

(اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) أي : اطلب الوجود في مقام الروح بالمحبة والاستقرار فيه ، فإنّ المحبة إذا أسكرت الروح بخمر العشق ارتقى الروح إلى مقام الوحدة والقلب إلى مقام الروح ، ويسمى الروح في ذلك المقام خفيا والقلب سرا ، وهو ليس بالفناء لكونهما موجودين حينئذ مغمورين بنور الحق. ومن الوقوف في هذا المقام ينشأ الطغيان والأنانية فلهذا قال : (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) أي : أنسى شيطان الوهم يوسف القلب ذكر الله تعالى بالفناء فيه لوجود البقية وطلبه مقام الروح وإلا ذهل عن ذكر نفسه ووجوده وللاحتجاب بهذا المقام وهذه البقية لبث (فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) وإليهأشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «رحم الله أخي يوسف ، لو لم يقل اذكرني عند ربّك لما بقي في السجن بضع سنين»، أو أنسى شيطان الوهم المقهور الممنوع المحجوب عن جناب الحق رسول المحبة المقرب عند ارتفاع درجته واستيلائه واستعلاء سلطانه ، والتحيّر في الجمال الإلهي ، والسكر الغالب ذكر يوسف القلب في حضرة الشهود لأن المحب المشاهد للجمال حيران ذاهل عن الخلق كله وتفاصيل وجوده بل نفسه مستغرق في عين الجمع حتى يتم فناؤه وينقضي سكره ثم يرجع إلى الصحو فيذكر التفصيل ثم لما انتهى فناؤه بالانغماس في بحر الهوية والانطماس في الذات الأحدية وانقضى زمان السجن أحياه الله تعالى بحياته ووهب له وجودا من ذاته وصفاته فأراه صورة التبديل في صفات النفس مدّة اعتزاله عنها بالخلوة والسلوك في الله بصورة أكل البقرات العجاف السمان ، وفي صفات الطبيعة البدنية بصورة استيلاء السنبلات اليابسة على الخضر والملك الذي قال :

(إِنِّي أَرى) قيل : هو ريان بن الوليد الذي ملك قطفير على مصر وولّاه عليها لا العزيز المسمّى قطفير ، وإن كان العزيز بلسان العرب هو الملك فعلى هذا يكون الملك إشارة إلى العقل الفعال ملك ملوك الأرواح المسمّى روح القدس ، فإن الله تعالى لا يحيي أهل الولاية عند الفناء التامّ الذي هو بداية النبوّة إلا بواسطة نفخه ووحيه وبالاتصال به تظهر التفاصيل في عين الجمع ولهذا قالوا لما دخل عليه كلمه بالعبرانية فأجابه بها وكان عارفا بسبعين لسانا فكلمه بها ، فتكلم معه بكلمها والملأ الذين قالوا : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) هي القوى الشريفة من العقل والفكر المحجوب بالوهم والوهم نفسه المحجوبة عن سرّ الرياضة والتبديل ، كما ترى المحجوبين بها الواقفين معها يعدّون أحوال أهل الرياضات من الخرافات ورسول المحبة الذي ادّكر بعد أمة إنما يذكر بواسطة ظهور ملك روح القدس وإيحائه وإراءته تفاصيل وجوده بالرجوع إلى الكثرة بعد الوحدة وإلا لكان فيه حالة الفناء ذاهبا في عين الجمع لا يرى فيها وجود القلب ولا غيره ، فكيف يذكره إنما يدّكره بظهوره بنور الحق بعد عدمه.

٣٢٣

والعام الذي (فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) هو وقت تمتيعه للنفس عند الاطمئنان التام والأمن الكلي. وقول نسوة القوى (حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ).

وقول امرأة العزير : (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) إشارة إلى تنوّر النفس والقوى بنور الحق واتصافها بصفة الاتصاف والصدق وحصول ملكة العدالة بنور الوحدة وظهور المحبة حال الفرق بعد الجمع وكمال طمأنينة النفس لإقرارها بفضيلة القلب وصدقه وذنبها وبراءته فإنّ من كمال اطمئنان النفس اعترافها بالذنب واستغفارها عما فرط منها حالة كونها أمارة وتمسكها بالرحمة الإلهية والعصمة الربانية واستخلاص الملك إياه لنفسه استخلافه للقلب على الملك بعد الكمال التامّ ، كما جاء في القصة : أجلسه على سريره وتوّجه بتاجه وختمه بخاتمه وقلّده بسيفه وعزل قطفير ثم توفى قطفير وزوّجه الملك امرأته زليخا واعتزل عن الملك وجعله في يده وتخلّى بعبادة ربه. كل ذلك إشارة إلى مقام خلافة الحق كما قال لداود : (إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) (١). وتوفّي العزيز إشارة إلى وصول القلب إلى مقامه وذهاب الروح في شهوده للوحدة. وتزوّجه بامرأة العزيز إشارة إلى تمتيع القلب النفس بعد الاطمئنان بالحظوظ فإن النفس الشريفة المتنوّرة تقوى بالحظوظ على محافظة شرائط الاستقامة وتقنين قوانين العدالة واستنباط أصول العلم والعمل وهما الولدان اللذان جاء في القصة أنها ولدتهما منه افراثيم وميشا. وروي أنه لما دخل عليها قال لها : أليس هذا خيرا مما طلبت؟ فوجدها عذراء وهو إشارة إلى حسن حالها في الاطمئنان مع التمتيع ومراعاة العدالة ، وكونها عذراء إشارة إلى أنّ الروح لا يخالط النفس لتقدّسه دائما وامتناع مباشرته إياها ، فإن مطالبه كلية لا تدرك جزئياتها بخلاف القلب وإنما كانت امرأته لتسلطه عليها ووصول أثر أمره وسلطانه إليها بواسطة القلب ومحكوميتها له في الحقيقة وسؤال التولية على خزائن الأرض ووصف نفسه بالحفظ والعلم هو أن القلب يدرك الجزئيات المادية ويحفظها دون الروح فيقتضي باستعداده قبول ذلك المعنى من الواهب الذي هو ملك روح القدس وتمكينه في الأرض يتبوّأ منها حيث يشاء استخلافه بالبقاء بعد الفناء عند الوصول إلى مقام التمكين وهو أجر المحسن أي العابد لربّه في مقام الشهود لرجوعه إلى التفصيل من عين الجمع (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ) أي : الحظ المعنوي بلذّة شهود الجمال ومطالعة أنوار سبحات الوجه الباقي (خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان العيني (وَكانُوا يَتَّقُونَ) بقية الأنانية.

[٥٨ ـ ٦٧] (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ

__________________

(١) سورة ص ، الآية : ٢٦.

٣٢٤

لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧))

ولما رجع إلى مقام التفصيل وجلس على سرير الملك للخلافة. جاءه أخوته القوى الحيوانية بعد طول مفارقته إياهم في سجن الرياضة والخلوة بمصر الحضرة القدسية والاستغراق في عين الجمع (فَدَخَلُوا عَلَيْهِ) متقربين إليه بوسيلة التأدّب بآداب الروحانيين لاطمئنان النفس وتنوّرها وتنوّر تلك القوى بها وتدرّبها بهيئات الفضائل والأخلاق ممتارين لأقوات العلوم النافعة من الأخلاق والشرائع (فَعَرَفَهُمْ) مع حسن حالهم وصلاحهم بالذكاء والصفاء وفقرهم واحتياجهم إلى ما يطلبون منه من المعاني (وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) لارتقائه عن رتبتهم بالتجرّد واتصافه بما لا يمكنهم إدراكه من الأوصاف ولهذا استحضر القوّة العاقلة العملية بقوله : (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) إذ المعاني الكلية المتعلقة بالأعمال لا يدركها إلا تلك القوة. واعلم أنّ المحبوبين يسبق كشوفهم اجتهادهم فيعلمون قواهم الشرائع والأحكام ويسوسونها بعد الوصول وإن اطمأنت نفوسهم قبله.

وأما جهازهم الذي جهزهم به فهو الكيل اليسير من الجزئيات التي يمكنهم إدراكها والعمل بها ، وقال : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ) من المعاني الكلية الحاصلة (عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) لبعد رتبتكم عن رتبتي إلا بواسطته. ولما كانت العاقلة العملية إذا لم تفارق مقام العقل المحض إلى مقام الصدر لم يمكنها مرافقة القوى الحسيّة وإلقاؤها المعاني الجزئية الباعثة إياها على العمل وتحريك القوة النزوعية الشوقية نحو المصالح العقلية (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) أي : بتصفية الاستعداد لقبول فيضه وقوله (لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) إشارة إلى أمر القلب فتيانه القوى النباتية عند تمتيع النفس حالة الاطمئنان بإيراد موادّ قواهم التي يتقوون بها ويقتدرون على كسب كمالاتهم إذ هي بضاعتهم التي يمكنهم بها الامتيار ، ورحالهم آلات إدراكاتهم ومكاسبهم (لَعَلَّهُمْ) يعرفون قواهم وقدرهم على الاكتساب (إِذَا

٣٢٥

انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ) من سائر القوى الحيوانية كالغضبية والشهوانية وأمثالهما (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إلى مقام الاسترباح والامتيار من قوت المعاني والعلوم النافعة بتلك البضاعة (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ) بتصفية الاستعداد والتمرّن بهيئات الفضائل اقتضوه إرسال القوة العاقلة العملية معهم لإمدادهم في فضائل الأخلاق بالمعاني دائما ، أي : استمدّوا من فيضه (نَكْتَلْ) أي : نستفد منه وإنا لا نستنزله إلى تحصيل مطالبنا فنهلكه كما فعلنا حالة الجاهلية بأخيه بل نحفظه بالتعهد له ومراعاته في طريق الكمال. وأخذ العهد منهم في إرساله معهم واستيثاقه عبارة عن تقديم الاعتقاد الصحيح الإيماني على العمل وإلزامهم ذلك العقد أولا وإلا لم يستقم حالهم في العمل ولم ينجع.

(لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ) أي : لا تسلكوا طريق فضيلة واحدة كالسخاوة مثلا دون الشجاعة أو لا تسيروا على وصف واحد من أوصاف الله تعالى فإن حضرة الوحدة هي منشأ جميع الفضائل والذات الأحدية مبدأ جميع الصفات ، فاسلكوا طرق جميع الفضائل المتفرّقة حتى تتصفوا بالعدالة فتتطرّقوا إلى الحضرة الواحدية ، وسيروا على جميع الصفات حتى يكشف لكم عن الذات. وقد ورد في الحديث : إن الله تعالى يتجلى على أهل المذاهب يوم القيامة في صورة معتقدهم فيعرفونه ثم يتحوّل إلى صورة أخرى فينكرونه (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي : لا أدفع عنكم شيئا إن منعكم توفيقه وحجبكم ببعض الحجب عن كمالاتكم فإن العقل ليس إليه إلا إفاضة العلم لا إجادة الاستعداد ورفع الحجاب.

[٦٨ ـ ٧٦] (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦))

(وَلَمَّا دَخَلُوا) أي : امتثلوا أمر العقل بسلوك طرق جميع الفضائل لم يغن عنهم من جهة الله (مِنْ شَيْءٍ) أي : لم يدفع عنهم الاحتجاب بحجاب الجلال والحرمان عن لذة

٣٢٦

الوصال لأن العقل لا يهتدي إلا إلى الفطرة ولا يهدي إلا إلى المعرفة. وأما التنوّر بنور الجمال ، والتلذذ بلذة الشوق بطلب الوصال ، وذوق العشق بكمال الجلال والجمال ، بل جلال الجمال وجمال الجلال فأمر لا يتيسر إلا بنور الهداية الحقانية (إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ) هي تكميلهم بالفضيلة (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ) لتعليم الله إياه لا ذو عيان وشهود (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك فيحسبون الكمال ما عند العقل من العلم أو ناس الحواس لا يعلمون علم العقل الكلي (آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) للتناسب بينهما في التجرّد (جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) مشربته التي يكيل بها على الناس ، أي : قوة إدراكه للعلوم ليستفيد بها علوم الشرائع ويستنبط قوانين العدالة ، فإن العاقلة العملية تقوى على إدراك المعقولات عند التجرّد عن ملابس الوهم والخيال كما تقوى النظرية وهي القوة المدبرة لأمر المعاش المشوبة بالوهم في أول الحال.

ونسبته إلى السرقة لتعوّده بإدراك الجزئيات في محل الوهم من المعاني المتعلقة بالمواد وبعده عن إدراك الكليات ، فلما تقوّى عليها بالأوي إلى أخيه واستفادته منه تلك القوة بالتجرّد فكأنه قد سرق ولم يسرق. والمؤذن الذي نسبهم إلى السرقة هو الوهم لوجدان الموهم تغير حال الجميع عما كانت عليه ، وعدم مطاوعتها له وتوهمه لذلك نقصا فيهم.

والحمل الموعود لمن يجيئ بالصواع ، وهو التكليف الشرعي الذي يحصل بواسطة العقل العملي عند استفادته علم ذلك من القلب ، والصواع هو القوة الاستعدادية التي يحصل بها علمه. والفاقد لها المفتش لمتاعهم ، المستخرج إياها من رحل أخيه هو الفكر الذي بعثه القلب لهذا الشأن. ولما كان دين روح القدس تحقق المعارف والحقائق النظرية مما لا يتعلق بالعمل (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ) بالبعث على العمليات والاستعمال على الفضائل (فِي دِينِ الْمَلِكِ) لأن دينه العلم وعلمه التعقل (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي : وقت تنوّر النفس بنور القلب المستفاد منه وتفسح الصدر القابل للعمليات وذلك هو رفع الدرجات ، لأن النفس حينئذ ترتفع إلى درجة القلب والقلب إلى درجة الروح في مقام الشهود (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ) كالقوى (عَلِيمٌ) كالعقل العملي وفوقه القلب وفوقه العقل النظري وفوقه الروح وفوقه روح القدس والله تعالى فوق الكل ، علّام الغيوب كلها.

[٧٧ ـ ٨٢] (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ

٣٢٧

كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢))

ومعنى : (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) أن القلب استعدّ لهذا المعنى من قبل دون القوى ، فبقوا منكرين لهما ، متهمين إياهما عند أبيهما لتحصيل مطالبهما وطلب لذة وراء ما يطلبونها. وقيل : كان لإبراهيم صلوات الله عليه وسلامه منطقة يتوارثها أكابر أولاده ، فورثها من إسحاق عمة يوسف لكونها كبرى من أولاده ، وقد حضنته بعد وفاة أمّه راحيل ، فلما شبّ أراد يعقوب انتزاعه منها ، فلم تصبر عنه ، فحزمت المنطقة تحت ثيابه عليه‌السلام ثم قالت : إني فقدت المنطقة ، فلما وجدت عليه سلّم لها وتركه يعقوب عندها حتى ماتت. وهي إشارة إلى مقام الفتوّة التي ورثها من إبراهيم الروح قبل مقام الولاية وقت شبابه. وقد حزمتها عليه النفس المطمئنة التي حضنتها وقت وفاة راحيل اللوّامة. وإرادة انتزاع يعقوب إياه منها إشارة إلى أن العقل يريد الترقي إلى كسب المعارف والحقائق ، وإذا وجده موصوفا بالفضائل في مقام الفتوّة رضي به ، وتركه عند النفس المطمئنة سالكا في طريق الفضائل حتى توفيت بالفناء في الله في مقام الولاية والله أعلم.

وإسرار يوسف في نفسه كلمته علمه بقصورهم عن إدراك مقامه ونقصانهم عن كماله ، وهي قوله : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) والذي اقترح أن يأخذه يوسف القلب مكان أخيه العقل العملي هو الوهم لمداخلته في المعقولات ، وشوقه إلى الترقي إلى أفق العقل ، وحكمه فيها لا على ما ينبغي وميلهم إلى سياسته إياهم دون العقل العملي للتناسب الذي بينهم في التعلق بالمادة ونزوعه إلى تحصيل مآربهم من اللذات البدنية. ولما وجد القلب متاعه من إدراك المعاني المعقولة عند العقل العملي دون الوهم (قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا) إن أخذنا الوهم مكانه وآويناه إلينا وألقينا إليه ما ألقينا إلى أخينا كنا مرتكبين الظلم العظيم لوضعنا الشيء في غير محله ـ ويأسهم منه شعورهم بعدم تكفيل الوهم إياهم وتمتيعهم بدواعيه وحكمه ـ وكبيرهم الذي ذكرهم موثق أبيهم الذي هو الاعتقاد الإيماني ، وتفريطهم في يوسف عند حكومة الوهم هو الفكر ، ولهذا قال المفسرون : هو الذي كان أحسنهم رأيا في يوسف ومنعهم عن قتله.

وقوله : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) أي : لا أتحرك إلا بحكم العقل دون الوهم إلى أن أموت ، وأمرهم بالرجوع إلى أبيهم سياسته إياهم بامتثال الأوامر العقلية (وَما

٣٢٨

شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) أي : إنّا لا نعلم كون ذلك المتاع عند العاقلة العملية إلا نقصا وسرقة لعدم شعورنا به وبكونه كمالا (وَما كُنَّا) حافظين للمعنى العقلي العيني لأنّا لا ندرك إلا ما في عالم الشهادة ، وكذا أهل قريتنا التي هي مدينة البدن من القوى النباتية (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) من القوى الحيوانية ، فاسألهم ليخبروك بسرقة ابنك.

[٨٣ ـ ١٠٠] (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠))

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي : زيّنت طبائعكم الجسمانية لكم أمر التلذذ باللذات البدنية والشهوات الحسيّة فحسبتموها كمالا ، وتتبّع المعقولات والتزام الشرائع والتآمر بالفضائل نقصا (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي : فأمركم صبرجميل في العمل بالشرائع والفضائل دائما والوقوف مع حكم الشرع والعقل ، أو صبر جميل على الاستمتاع على وجه الشرع أجمل بكم من الإباحة والاسترسال بحكم الطبيعة ، أو فأمري صبر جميل في بقاء يوسف القلب وإخوته

٣٢٩

على استشراق الأنوار القدسية واستنزال الأحكام الشرعية واستخراج قواعدها التي لا مدخل لي فيها ، فلا بدّ لي من فراقهم إلى أوان فراغهم إلى رعاية مصالح الجانبين والوفاء بكلا الأمرين ، أي : المعاش والمعاد ، فإنّ العقل كما يقتضي طلب الكمال وإصلاح المعاد ، يقتضي صلاح البدن وترتيب المعاش وتعديل المزاج بالغذاء وتربية القوى باللذات ، أو فأمري صبر جميل على ذلك (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) من جهة الأفق الأعلى والترقي عن طوري إلى ما يقتضيه نظري ورأيي من مراعاة الطرفين ومقامي ومرتبتي من اختيار التوسط بين المنزلتين (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بالحقائق (الْحَكِيمُ) بتدبير العوالم ، فلا يتركهم مراعين للجهة العلوية ، ذاهلين عن الجهة السفلية ، فيخرّب مدينة البدن ويهلك أهلها ، وذلك قبل التمتيع التام الذي أشرنا إليه إذ هو مقام الاجتهاد بعد الكشف والسلوك في طريق الاستقامة بعد التوحيد (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي : أعرض عن جانبهم وذهل عن حالهم ، لحنينه إلى يوسف القلب وانجذابه إلى جهته.

(وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) أولا بوقوعه في غياهب الحبّ وكلال قوة بصيرته لفرط التأسف على فراقه ثم بترقيه عن طوره وفنائه في التوحيد وتخلفه عنه وعدم إدراكه لمقامه وكماله ، فبقي بصره حسيرا غير بصير بحال يوسف (فَهُوَ كَظِيمٌ) مملوء من فراقه.

وقولهم : (تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) إشارة إلى شدّة حنينه ونزوعه وانجذابه إلى جهة القلب في تلك الحالة دونهم لشدة المناسبة بينهما في التجرّد والميل إلى العالم العلوي. وقوله : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) إشارة إلى علم العقل برجوع القلب إلى عالم الخلق ووقوفه مع العادة بعد الذهاب إلى الجهة الحقانية وانخلاعه عن حكم العادة عن قريب ، كما سئل أحدهم : ما النهاية؟ قال : الرجوع إلى البداية. ولهذا العلم قال : (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) وذلك عند فراغه عن السلوك بالكلية ووصول أثر ذلك الفراغ إلى العقل بقربه إلى رتبته في التنزل والتدلي فيأمر القوى باستنزاله إلى مقامهم بطلب الحظوظ في صورة الجمعية البدنية وتدبير معاشهم ومصالحهم الجزئية ، وذلك هو الروح الذي نهاهم عن اليأس منه ، إذ المؤمن يجد هذا الروح والرضوان في الحياة الثانية التي هي بالله فيحيا به ويتمتع بحضوره بجميع أنواع النعيم ولذات جنّات الأفعال والصفات والذات بالنفس والقلب والروح دون الكافر كما قال : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ).

وقولهم : (مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) إشارة إلى عسرهم وسوء حالهم ، وضيقهم في الوقوف مع الحقوق (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) إلى ضعفهم لقلّة مواد قواهم وقصور غذائهم عن بلوغ مرادهم.

وقولهم : (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) استعطافهم إياه بطلب الحظوظ. وقوله :

٣٣٠

(هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) إشارة إلى تنزل القلب إلى مقامهم في محل الصدر ليعرفوه فيتذكروا حالهم في البداية وما فعلوا به في زمان الجهل والغواية. وقولهم : (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) تعجب منهم عن حاله بتلك الهيئة النورانية والأبهة السلطانية وبعدها عن حال بدايته.

وقوله : (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) إلى آخره ، إشارة إلى علّة ذلك وسبب كمالهم. وقولهم : (تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) إشارة إلى تهدي القوى عند الاستقامة إلى كماله ونقصها.

وقوله : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) لكونها مجبولة على أفعالها الطبيعية. وقوله : (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) إشارة إلى براءتها من الذنب عند التنوّر بنور الفضيلة والتأمر بأمره عند الكمال.

والقميص هو الهيئة النورانية التي اتصف بها القلب عند الوصول إلى الوحدة في عين الجمع والاتصاف بصفات الله تعالى. وقيل : هو القميص الإرثي الذي كان في تعويذه حين ألقي في البئر ، وهو إشارة إلى نور الفطرة الأصلية. كما أن الأول إشارة إلى نور الكمال الحاصل له بعد الوصول ، والأول أولى بتبصير عين العقل فإنّ العقل لما لم تكتحل بصيرته بنور الهداية الحقانية عمي عن إدراك الصفات الإلهية. (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) أي : ارجعوا إليّ عن آخركم في مقام الاعتدال ومراعاة التوسط في الأفعال ، فإن القلب متوسط بين جهتي العلو والسفالة ، وانضموا إليّ ، وائتمروا بأمري ، واقربوا مني ولا تبعدوا عن مقامي في طلب اللذات البدنية بمقتضى طباعكم. وريحه الذي وجده من بعيد هو وصول أثر رجوع القلب إلى عالم العقل والمعقول ، وإقباله إليه من محض التوحيد بتجهيز القوى الحيوانية بجهاز الحظوظ على حكم العدالة وقانون الشرع والعقل ، فقد قيل : إنه جهّز العير بأجمل ما يكون ، ووجهها إلى كنعان. وضلاله القديم هو : تعشّقه بالقلب أزلا وذهوله عن جهتهم.

وقوله : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) إشارة إلى سابق علمه برجوع القلب إلى مقام العقل. واستغفاره لهم : تقريره إياهم على حكم الفضائل العقلية بالاستقامة بعد صفائهم وذكائهم وقبولهم للهيئات النورانية بعد خلع الظلمانية. ودخولهم على يوسف هو وصولهم إلى مقام الصدر حال الاستقامة. ودخولهم مصر كون الكل في حضرة الجمعية الإلهية الواحدية مع تفاضل مراتبهم في عين جمع الوحدة. ورفع أبويه على العرش عبارة عن ارتفاع مرتبتي العقل والنفس عن مراتب سائر القوى وزيادة قربهما إليه وقوّة سلطنتهما عليها. وخرورهم له سجدا عبارة عن انقياد الكل وطاعتهم له بالأمر الوحداني بلا فعل حركة بأنفسهم بحيث لا يتحرك منها شعر ولا ينبض لها عرق إلا بالله. وتأويل رؤياه صورة ما تقرّر في استعداده الأول من قبول هذا الكمال.

(قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) أخرجها من القوة إلى الفعل (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) بالبقاء بعد الفناء

٣٣١

(إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ) سجن الخلوة التي كنت فيها محجوبا عن شهود الكثرة في عين الوحدة ومطالعة الجمال في صفات الجلال (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ) بدو خارج مصر الحضرة الإلهية (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ) شيطان الوهم (بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) بتحريضه إياهم على إلقائي في قعر بئر الطبيعة ، بانهماكهم وتهالكهم على اللذات البدنية (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ) يلطف بأحبابه بتوفيقهم للكمال وتدبير أمورهم بحسب مشيئته الأزلية وعنايته القديمة (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بما في الاستعدادات (الْحَكِيمُ) بترتيب أسباب الكمال وتوفيق المستعدّ للوصول إليه.

[١٠١ ـ ١٠٨] (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥))

(وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) أي : من توحيد الملك الذي هو توحيد الأفعال (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي : معاني المغيبات وما يرجع إليه صورة الغيب ، وهو من باب توحيد الصفات. (فاطِرَ) سموات الصفات في مقام القلب وأرض توحيد الأفعال في مقام النفس (أَنْتَ وَلِيِّي) بتوحيد الذات في دنيا الملك وآخرة الملكوت (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) أفنني عني في حالة كوني منقادا لأمرك لا طاغيا ببقاء الإنية (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) الثابتين في مقام الاستقامة بعد الفناء في التوحيد.

(وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ) الإيمان العلمي (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) بإثبات موجود غيره أو الإيمان العيني إلا وهم مشركون باحتجابهم بأنانيتهم (غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) حجاب يحجب استعدادهم عن قبول الكمال من هيئة راسخة ظلمانية (أَوْ تَأْتِيَهُمُ) القيامة الصغرى (بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بنور الكشف والتوحيد ، فلا يرتفع حجابهم فيبقون في الاحتجاب أبدا.

(قُلْ هذِهِ) السبيل التي أسلكها ، وهي سبيل توحيد الذات (سَبِيلِي) المخصوص بي ، ليس عليه إلا أنا وحدي (أَدْعُوا إِلَى) الذات الأحدية الموصوفة بكل الصفات في عين الجمع (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) في هذه السبيل وكل من يدعو إلى هذه السبيل فهو من أتباعي ، إذ الأنبياء قبلي كلهم كانوا داعين إلى المبدأ والمعاد وإلى الذات الواحدية الموصوفة ببعض الصفات إلا إبراهيم عليه‌السلام فإنه قطب التوحيد ، ولهذا كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أتباعه باعتبار الجمع دون التفصيل ،

٣٣٢

إذ لا متمم لتفاصيل الصفات إلا هو عليه الصلاة والسلام وإلا لكان غيره خاتما السبيل الحق كما ختم لأن كل أحد لا يمكنه الدعوة إلا إلى المقام الذي بلغ إليه من الكمال (وَسُبْحانَ اللهِ) أنزهه من أن يكون غيره على سبيله ، بل هو السالك سبيله والداعي إلى ذاته (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) المثبتين للغير في مقام التوحيد الذاتي ، المحتجبين عنه بالأنائية ، بل أنا به ، فإن عنى فهو الداعي إلى سبيله.

[١٠٩] (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩))

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) أي : من كان فيه بقيّة من الرجولية من أهل قرى الصفات والمقامات لا من مصر الذات ، فإن البقاء الحاصل لأهل التمكين لا يكون إلا بقدر الفناء. والرجوع إلى الخلق لا يكون إلا على حسب العروج. فالفناء التام والعروج الكامل لا يكون إلا للقطب الذي هو صاحب الاستعداد الكامل الذي لا رتبة إلا قد يبلغها ويلزم أن يكون الرجوع التامّ الشامل لجميع تفاصيل الصفات عند البقاء له وهو الخاتم ولهذاقال عليه الصلاة والسلام : «كان بنيان النبوّة تم ورصف وبقي منه موضع لبنة واحدة ، فكنت أنا تلك اللبنة».

وإلى هذا المعنىأشار بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أرض استعدادهم (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ) نهاية أمر (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وغاية كمالهم ، فيبلغوا منتهى إقدامهم ويحصلوا كمالاتهم بحسب استعداداتهم ، فإنّ لكل أحد خاصية واستعداده الخاص يقتضي سعادة خاصة هي عاقبته ، ومن الاطلاع على خواص النفوس وغايات إقدامهم في السير يحصل للنفس هيئة اجتماعية من تلك الكمالات هي كمال الأمّة المحمدية على حسب اختلاف استعداداتهم وهي الدار الآخرة التي هي خير للذين اتّقوا صفات نفوسهم التي هي حجب الاستعدادات (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أنّ هذا المقام خير مما أنتم عليه من الدار الفانية وتمتعاتها ، فإنها (لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (١).

[١١٠] (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠))

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) أي : ساروا واتّقوا وتراخى فتحهم ونصرهم في الكشوف على كفرة قوى النفس حتى إذا استيأس الرسل الذين هم أشراف القوم من بلوغ الكمال

__________________

(١) سورة العنكبوت ، الآية : ٦٤.

٣٣٣

(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ) كذّبتهم ظنونهم في استعدادهم للكمال أو رجائهم (جاءَهُمْ نَصْرُنا) بالتأييد والتوفيق من إمداد أنوار الملكوت والجبروت (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) من أهل العناية من الرسل وأتباعهم (وَلا يُرَدُّ) قهرنا بالحجب والتعذيب (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) بإظهار صفات نفوسهم على قلوبهم فيكسبونها الهيئات الغاسقة الحاجبة المؤذية.

[١١١] (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١))

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ) أي : ما يعبر بها عن ظاهرها إلى باطنها ، كما عبرنا في قصة يوسف عليه‌السلام لأولي العقول المجرّدة عن قشور الوهميات الخالصة عن غشاوات الحسيّات (ما كانَ) هذا القرآن (حَدِيثاً يُفْتَرى) من عند النفس (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي) كان ثابتا قبله في اللوح (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) أجمل في عالم القضاء وهداية إلى التوحيد (وَرَحْمَةً) بالتجليات الصفاتية من وراء أستار آياته (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالغيب لصفاء الاستعداد.

٣٣٤

سورة الرعد

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) المر) أي : الذات الأحدية ، واسمه العليم ، واسمه الأعظم ، ومظهره الذي هو الرحمة التامّة على ما أشير إليه (تِلْكَ) معظمات علامات كتاب الكل الذي هو الوجود المطلق وآياته الكبرى (وَ) المعنى (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) من العقل الفرقاني ، وهذا الذي ذكر من درج المعاني في الحروف هو الحق (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ).

[٢] (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢))

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) أي : بعمد غير مرئية هي ملكوتها التي تقوّمها وتحرّكها من النفوس السماوية أو سموات الأرواح بلا مادة تعمدها فتقوم هي بها ، بل مجرّدة قائمة بأنفسها (ثُمَّ اسْتَوى) مستعليا (عَلَى الْعَرْشِ) بالتأثير والتقويم أو على عرش القلب بالتجلي (وَسَخَّرَ) شمس الروح بإدراك المعارف الكلية واستشراق الأنوار العالية وقمر القلب بإدراك ما في العالمين جميعا ، والاستمداد من فوق ومن تحت ثم قبول تجليات الصفات بالكشف. (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي : غاية معينة هي كماله بحسب الفطرة الأولى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) في البداية بتهيئة الاستعداد وترتيب المبادئ (يُفَصِّلُ الْآياتِ) في النهاية بترتيب الكمالات والمقامات المترتبة في السلوك على حسب تجليات الأفعال والصفات (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ) عند مشاهدات آيات التجليات (تُوقِنُونَ) عين اليقين.

[٣] (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣))

(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ) أرض الجسد (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) العظام وأنهار العروق (وَمِنْ كُلِ) ثمرات الأخلاق والمدركات (جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي : صنفين متقابلين كالجود والبخل ، والحياء والقحة ، والفجور والعفّة ، والجبن والشجاعة ، والظلم والعدالة وأمثالها. وكالسواد والبياض ، والحلو والحامض ، والطيب والنتن ، والحرارة والبرودة ، والملاسة والخشونة وأمثالها. (يُغْشِي) ليل ظلمة الجسمانيات على نهار الروحانيات كتغشية القوى

٣٣٥

الروحانية بآلاتها والروح بالجسد (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في صنع الله وتطابق عالميه الأصغر والأكبر.

[٤] (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤))

(وَفِي) أرض الجسد (قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) من العظم واللحم والشحم والعصب ، وجنّات من أشجار القوى الطبيعية والحيوانية والإنسانية من أعناب القوى الشهوانية التي يعصر منها خمر هوى النفس ، والقوى العقلية التي يعصر منها خمر المحبة ، يعصر العشق وزرع القوى النباتية وتخيل سائر الحواس الظاهرة والباطنة (صِنْوانٌ) كالعينين والأذنين والمنخرين (وَغَيْرُ صِنْوانٍ) كاللسان وآلة الفكر والوهم والذكر (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) هو : ماء الحياة (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي) أكل الإدراكات والملكات كتفضيل مدركات العقل على الحسّ والبصر على اللمس وملكة الحكمة على العفة وأمثالها (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) عجائب صنعه.

[٥] (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥))

(وَإِنْ تَعْجَبْ) عن قولهم فهو مكان التعجب لأن الإنسان في كل ساعة خلق آخر جديد ، بل العالم لحظة فلحظة خلق جديد بتبدّل الهيئات والأحوال والأوضاع والصور ، فكيف ينكر الخلق الجديد من نظر في عالم الكون والفساد بعين الاعتبار؟ (أُولئِكَ الَّذِينَ) حجبوا عن شهود أفعال الربوبية وتجلياتها ، فكيف عن تجليات الصفات الإلهية؟ (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) فلا يقدرون أن يرفعوا رؤوسهم المنتكسة إلى الأرض القاصر نظرها إلى ما يدانيها من الحسّ فيروا ملكوت الأرواح ويشاهدوا عالم القدرة وما يبعد عن منازل الحسّ من المعقولات (وَأُولئِكَ أَصْحابُ) نيران جهنم الأفعال في قعر هاوية الطبيعة (هُمْ فِيها خالِدُونَ).

[٦] (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦))

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) بمناسبة استعدادهم للشرّ لاستيلاء الهيئات المظلمة والرذائل عليها فينزعون إلى الشرّ لغلبة الشرّ عليهم. (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ) عقوبات أمثالهم (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ) مع ظلمهم على أنفسهم باكتساب تلك الهيئات الغاسقة الحاجبة عن النور لمن لم ترسخ فيه ولم تبطل استعداده فيزيلها بنور رحمته (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) لمن ترسخت فيه وصارت رينا وأبطلت الاستعداد.

٣٣٦

[٧ ـ ٨] (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧) اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨))

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) حجبوا ، فلم يروا الآيات الشاهدة على النبوّة من اتصافه بصفات الله لعدم إدراكهم وعمى بصائرهم ، فلذلك لم يعدوها آيات واقترحوها على حسب هواهم ما عليك إلا إنذارهم لا هدايتهم ، إذ الهداية إلى الله (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) يناسبهم بحسب الجنسية الفطرية فيألفونه عند كماله وتلقيه النور الإلهي ، ويقبلون الهداية منه فيهديهم الله على مظهره ، فمن ناسبك بتلك الجنسية الأصلية قبل الهداية منك ومن لا فلا ، وتلك أسرار خفية لا يعلمها إلا (اللهُ) الذي (يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) فيعلم ما تحمل أنثى النفس من ولد الكمال ، أي ما في قوة كل استعداد وما تزيد أرحام الاستعداد بالتزكية والتصفية وبركة الصحبة من الكمالات وما تنقص منها بالانهماك في الشهوات (وَكُلُّ شَيْءٍ) من الكمالات (عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) معين على حسب القابلية أو كل شيء من قوة قبول في استعداد مقدّر عنده بمقدار في الأزل من فيضه الأقدس لا يزيد ولا ينقص ، أو لكل قوم هاد هو الله تعالى كما قال : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (١) لعلمه بما في الاستعدادات من قوة القبول وزيادتها ونقصانها فيقدّر بحسبها كمالاتهم.

[٩] (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩))

(عالِمُ) غيب ما في الاستعدادات من قوة القبول وشهادة الكمالات الحاضرة الخارجة إلى الفعل (الْكَبِيرُ) الشأن الذي يجل عن إعطاء ما يقتضيه بعض الاستعدادات بل يسع كلها فيعطيها مقتضياتها (الْمُتَعالِ) عن أن ينقطع فيضه فيتأخر عن حصول الاستعداد وينقص مما يقتضيه.

[١٠] (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠))

(سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ) في مكمن استعداده (وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) بإبراز العلم من القوّة إلى الفعل (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ) بليل ظلمة نفسه (وَ) من هو (سارِبٌ) بخروجه من مقام النفس وذهابه في نهار نور الروح.

[١١] (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١))

__________________

(١) سورة القصص ، الآية : ٥٦.

٣٣٧

(لَهُ مُعَقِّباتٌ) أمداد متعاقبة من الملكوت واصلة إليه من أمر الله (يَحْفَظُونَهُ مِنْ) خطفات جنّ القوى الخيالية والوهمية وغلبات البهيمية والسبعية وإهلاكها إياه (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) من نعمة وكمال ظاهر أو باطن (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) من الاستعداد وقوة القبول ، فإنّ الفيض الإلهي عامّ متصل كالماء الجاري ، ألم تر إلى قوله تعالى : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) (١) فيتلوّن بلون الاستعداد ، فمن تكدّر استعداده تكدّر فيضه فزاد في شرّه ، ومن تصفّى استعداده تصفّى فيضه فزاد في خيره ، وكذا النعم الظاهرة لا بدّ في تغيرها إلى النقم من استحقاق جلي أو خفي ، ولهذا قال المحققون : إنّ الدعاء الذي لا يتخلف عنه الاستجابة المشار إليه بقوله تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (٢) هو الذي يكون بلسان الاستعداد. وعن بعض السلف : أن الفأرة مزقت خفيّ ، وما أعلم ذلك إلا بذنب أحدثته وإلا ما سلطها الله عليّ. وتمثل بقول الشاعر :

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي

[١٢] (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢))

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ) برق لوامع الأنوار القدسية والخطفة الإلهية (خَوْفاً) أي : خائفين من سرعة انقضائه وبطء رجوعه (وَطَمَعاً) أي : طامعين في ثباته وسرعة رجوعه (وَيُنْشِئُ) سحاب السكينة (الثِّقالَ) بماء العلم اليقيني والمعرفة الحقة.

[١٣] (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣))

(وَيُسَبِّحُ) رعد سطوة التجليات الجلالية أي يسبّح الله ويمجده عما يتصوّر في العقل من ترد عليه تلك التجليات لوجد أنه ما لا يدركه العقل ويحمده حق حمده بالكمال المستفاد من ذلك التجلي حمدا فعليا فيكون التسبيح للرعد الموجب لذلك أو السطوة تسبح بنفس التجلي المنزّه عن أن يدرك بالإدراك العقلي (وَالْمَلائِكَةُ) أي : ملكوت القوى الروحانية من هيبته وجلاله (وَيُرْسِلُ) صواعق السبحات الإلهية بتجلي القهر الحقيقي المتضمن للطف الكلي فيسلب الوجود عن المتجلي عليه ويفنيه عن بقية نفسه ، كماورد في الحديث : «إنّ لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه». (فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) من عباده المحبوبين والمحبين العشاق المشتاقين (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ)

__________________

(١) سورة الرعد ، الآية : ٤.

(٢) سورة غافر ، الآية : ٦٠.

٣٣٨

بالتفكر في صفاته والنظر العقلي في إثباته وما يجب له ويمتنع عليه من الصفات (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) القوي في رفع الحيل العقلية في الإدراك وطمس نور بصيرته بالتجلي وإحراقه بنور العشق.

[١٤] (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤))

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) أي : الدعوة الحقيّة التي ليست بالباطل له لا لغيره يدعو نفسه فيستجيب كما قال تعالى : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) (١) أي : الدين الخالص ليس إلا دينه ومعناه : أنّ الدعوة الحقّة الحقيقة بالإجابة هي دعوة الموحد الفاني عن نفسه ، الباقي بربّه ، وكذا الدين الخالص دينه. والدعاة القائمون بأنفسهم لا يدعون إلا من تصوّروه ونحتوه في خيالهم فلا يستجاب لهم إلا كاستجابة الجماد الذي يطلب منه الشيء ، ولعمري أنه لا يدعو الله إلا الموحد وغيره يدعو الغير الموهوم الذي لا قدرة له ولا وجود فلا استجابة ، وهو الذي حجب استعداده بصفات نفسه فلا يعلم ما استحقه فضاع دعاؤه ولا يكون مثل هذا الدعاء إلا في ضياع أو دعوة الحق جل وعلا ، لا تكون إلا له ، أو دعوة المدعوّ الذي هو الحق هي الدعوة المختصة بذاته لا يدعى بها غيره من أسمائه وصفاته والواصفيون الذين يدعون أسماءه وصفاته من دون ذاته لا يستجيبهم المدعو إلا استجابة كاستجابة داعي الماء بالإشارة لكونهم محجوبين (وَما دُعاءُ) المحجوبين (إِلَّا فِي) ضياع.

[١٥ ـ ١٦] (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦))

(وَلِلَّهِ) ينقاد (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الحقائق الروحانيات كأعيان الجواهر وملكوت الأشياء (وَظِلالُهُمْ) أي : هياكلهم وأجسادهم التي هي أصنام تلك الروحانيات وظلالها ، ولهذاقرأ النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السجدة : «سجد لك وجهي ، وسوادي ، وخيالي»أي :حقيقة ذاتي وسواد شخصي وخيال نفسي ، أي : وجودي وعيني وشخصي (طَوْعاً وَكَرْهاً) أي : شاؤوا أو أبوا ، والمعنى يلزمهم ذلك اضطرارا ، لا أن بعضهم طائع وبعضهم كاره (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أي : دائما (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ) أي : من كل ما عداه كائنا من كان (أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) إذ القادر المالك هو الله لا غير.

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ٣.

٣٣٩

[١٧] (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧))

(أَنْزَلَ) من سماء روح القدس ماء العلم (فَسالَتْ) أودية القلوب بقدر استعداداتها (فَاحْتَمَلَ) سيل العلم (زَبَداً) من خبث صفات أرض النفس ورذائلها ودناياها (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ) في نار العشق من المعارف والكشوف والحقائق والمعاني التي تهيج العشق (ابْتِغاءَ) زينة النفس وبهجتها بها لكونها كمالات لها (أَوْ مَتاعٍ) من الفضائل الخلقية التي يحصل بسببها ، فإنها مما يتمتع به النفس (زَبَدٌ مِثْلُهُ) خبث كالنظر إليها ورؤيتها وتصور النفس كونها كاملة أو فاضلة متزينة بزينة تلك الأوصاف وإعجابها واحتجابها وسائر ما يعدّ من آفات النفس وذنوب الأحوال (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) مرميا به منفيا بالعلم كما قال تعالى : (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) (١) ، (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) من المعاني الحقيّة والفضائل الخالصة (فَيَمْكُثُ) في أرض النفس.

[١٨ ـ ٢١] (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١))

(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ) بتصفية الاستعداد عن كدورات صفات النفس (الْحُسْنى) أي :المثوبة الحسنى وهو الكمال الفائض عليهم عند الصفاء المعبر عنه بقوله تعالى : (نُورٌ عَلى نُورٍ) (٢) ، (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا) لم يتزكوا عن الرذائل البشرية والكدورات الطبيعية لا يمكنهم الافتداء بكل ما في الجهة السفلية من الأموال والأسباب التي انجذبوا إليها بالمحبة فأهلكوا نفوسهم ، لأن تلك سبب زيادة البعد والهلاك ، فكيف تكون سببا لخلاصهم عن تلك الظلمات وتبرئهم عنها؟ ، لا ينفعهم عند رسوخ هيئات التعلق بها في أنفسهم (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) لوقوفهم مع الأفعال في مقام النفس الذي هو مقام العدل الإلهي ، فلا بد لهم من المناقشة في الحساب (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) صفات النفس ونيران الحرمان وهيئات السوء (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) عند تجلي الصفات في مقام القلب ، فيشاهدون جلال صفة العظمة ويلزمهم

__________________

(١) سورة الأنفال ، الآية : ١١.

(٢) سورة النور ، الآية : ٣٥.

٣٤٠