تفسير ابن عربي - ج ١

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ١

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٥
الجزء ١ الجزء ٢

والمحافظات على أحكامها في المعاملات (وَالْإِنْجِيلَ) بتحقق عنوان الباطن ، والقيام بحقوق تجليات الصفات ، والمحافظة على أحكامها (وَ) احكموا (ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) من علم المبدأ والمعاد وتوحيد الملك والملكوت من عالم الربوبية الذي هو عالم الأسماء (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ) أي : لرزقوا من العالم العلويّ الروحاني العلوم الإلهية والحقائق العقلية اليقينية ، والمعارف الحقانيّة التي بها اهتدوا إلى معرفة الله ومعرفة الملكوت والجبروت (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) أي : من العالم السفليّ الجسماني العلوم الطبيعية والمدركات الحسيّة التي اهتدوا بها إلى معرفة عالم الملك ، فعرفوا الله باسمه الظاهر والباطن ، بل بجميع الأسماء والصفات ووصلوا إلى مقام التوحيدين المذكورين (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) عادلة واصلة إلى توحيد الأسماء والصفات (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ) لم يصلوا إلى توحيد الأفعال بعد فضلا عن توحيد الصفات ، فساء عملهم لأنه من صفات نفوسهم فهو حجابهم الأكثف.

(وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً) على حسب مراتبهم فلما كانوا محجوبين من جميع الوجوه أرسلنا موسى لرفع حجاب الأفعال والدعوة إلى توحيد الملك ، فما هوته أنفسهم لأن دعوته كانت مخالفة لهواها لضراوتها بأفعالها وتبجعها بها وبلذاتها وشهواتها فكذبوه وعبدوا عجل النفس واعتدوا في السبت وفعلوا ما فعلوا حتى إذا آمن به من آمن وبرز من حجاب الأفعال حسب أنه الكمال المطلق ، فأرسلنا عيسى برفع حجاب الصفات والدعوة إلى الباطن ، وتوحيد الملكوت فما هوته أنفسهم لمخالفة دعوته هواها من حسبان الكمال ، فكذّبوه وفعلوا ما فعلوا حتى إذا آمن به من آمن وبرز عن حجاب الصفات بقي على حاله ، حاسبا لنفسه الكمال المطلق فأرسلنا محمدا برفع حجاب الصفات والدعوة إلى توحيد الذات فما هوته أنفسهم فكذبوه.

[٧١ ، ٧٢] (وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢))

(وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) شرك عند توحيد الأفعال وظهور الدعوة العيسوية (فَعَمُوا) عن تجليات رؤية الصفات (وَصَمُّوا) عن سماع علمها (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) بفتح أسماع قلوبهم وأبصارها ، فتابوا ، فقبل توبتهم (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) عند الدعوة المحمدية عن مشاهدة الوجه الباقي وسماع علم توحيد الجمع المطلق (وَاللهُ بَصِيرٌ) بعملهم في المقامات الثلاث وردّ الدعوات وإنكار الأنبياء فيجازيهم على حسب حالهم (اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أي :

١٨١

خصصوا عبادتكم بالذات الموصوفة بجميع الصفات والأسماء التي هي الوجود المطلق ، ولا تعينوه باسم وصفة ، فإنّ نسبة ربوبيته إلى الكل سواء ومن حصر ألوهيته في صورة وخصصها باسم معين وكلمة معينة وصفة معينة ، فقد أثبت غيره ضرورة وجود ما سواه من الأسماء والصور والصفات. ومن أثبت غيره فقد أشرك به ومن أشرك به (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ) جنة شهوده بذاته وصفاته وأفعاله أي : الجنة المطلقة الشاملة ، يعني : فقد حجبه مطلقا (وَمَأْواهُ) نار الحرمان لظلمه بالشرك (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) ينصرونهم فينقذونهم من العذاب.

[٧٣ ـ ٨١] (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١))

(لَقَدْ كَفَرَ) حجب (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) واحد من جملة ثلاثة أشياء الفعل الذي هو ظاهر عالم الملك ، والصفة التي هي باطن عالم الملكوت ، والذات التي تقوم بها الصفة ويصدر عنها الفعل ، إذ ليس هو ذلك الواحد الذي توهموه بل الفعل والصفة في الحقيقة عين الذات ، ولا فرق إلا بالاعتبار ، وما الله إلّا الواحد المطلق ، وإلا لكان بحسب كل اسم من أسمائه إله آخر ، فتتعدّد الآلهة سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوّا كبيرا (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) من كون الصفة والفعل غير الذات (لَيَمَسَّنَ) المحجوبين (عَذابٌ) مؤلم لقصورهم في العرفان مع كونهم مستعدّين (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ) بالرجوع عن إثبات التعدّد في الله إلى عين الجمع المطلق ، ويستغفرونه عن ذنب رؤية وجودهم ووجود غيرهم (وَاللهُ غَفُورٌ) يسترهم بذاته (رَحِيمٌ) يرحمهم بكمال العرفان والتوحيد (ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) إذ لا فعل له فيضرّ أو ينفع ، بل لا وجود فضلا عن الفعل. وقال : ما لا

١٨٢

يملك دون من ، وإن كان المراد عيسى للتنبيه على أنه شيء يعتبر اعتبارا من حيث تعينه ولا وجود له حقيقة (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) بالاحتجاب عن أنوار الصفات (وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا) الآن (عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) طريق الوحدة الذاتية التي هي الاستقامة إلى الله.

[٨٢ ـ ٨٥] (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥))

(لَتَجِدَنَ) إلى آخره ، الموالاة والمعاداة إنما يكونان بحسب المناسبة والمخالفة ، فكل من والى أحدا دلّ على رابطة جنسية بينهما ، وكل من عاداه دلّ على مباينة ومضادّة بينهما. ولما كان اليهود محجوبين عن الذات والصفات ولم يكن لهم إلا توحيد الأفعال كانت مناسبتهم مع المحجوبين المشركين مطلقا أقوى من مناسبتهم مع المؤمنين الموحدين مطلقا. ولما كان النصارى برزوا من حجاب الصفات ولم يتولّهم إلا حجاب الذات كانت مناسبتهم مع المؤمنين أقوى ، فلذلك كانوا أقرب مودّة لهم من غيرهم. والمشركون واليهود أشدّ عداوة لقوّة حجابهم ، أما ترى كيف علل قربهم في المودة بعلمهم وعبادتهم وعدم استكبارهم؟ ، فإن العبادة توصل إلى جنة الأفعال لتجرّدهم فيها عن أفعال نفوسهم فاعلين ما أمر الله ، والعلم يوصل إلى جنة الصفات لتنزّههم به عن جنة النفوس والوصول إلى مقام القلب الذي هو محل المكاشفة وقبول العلم الإلهي ، وعدم الاستكبار يدل على أنهم ما رأوا نفوسهم موصوفة بصفات العبادة والعلم ولا نسبوا فعلهم وعلمهم إليها بل إلى الله وإلا استكبروا وأظهروا العجب.

(تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) شوقا إلى ما عرفوا من توحيد الذات لأنهم كانوا أهل رياضة وذوق فهاجت نفوسهم بسماع الوحي وذكروا الوحدة (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) بصفاته أو سمعوا من الحق كلامه ، فبكوا اشتياقا كما قال :

ويبكي إن نأوا شوقا إليهم

ويبكي إن دنوا خوف الفراق

(آمَنَّا) بالتوحيد الذاتي إيمانا عينيا فاجعلنا من (الشَّاهِدِينَ) الحاضرين الذين مقامهم الشهود الذاتي واليقين الحقيّ ، وإيمانا علميا يقينيا فاجعلنا مع المعاينين (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ) إيمانا حقيقيا بذاته وما جاءنا من كلامه أو لا نؤمن بالله جمعا (وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِ) تفصيلا

١٨٣

(مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) الذين استقاموا بالبقاء بعد (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) من التجليات الثلاث مع علومها (وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) المشاهدين للوحدة في عين الكثرة بالاستقامة في الله.

[٨٦] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦))

(وَالَّذِينَ) حجبوا عن الذات (وَكَذَّبُوا) بآيات الصفات (أُولئِكَ أَصْحابُ) الحرمان الكليّ في جحيم صفات النفوس.

[٨٧ ـ ٩١] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إيمانا عمليا (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) من مكاشفات الأحوال وتجليات الصفات بتقصيركم في السلوك (وَلا تَعْتَدُوا) بطغيان النفس وظهورها بصفاتها واجعلوا ما رزقكم الله من علوم التجليات ومواهب الأحوال والمقامات غذاء قلوبكم سائغا طيبا واجعلوا الله وقاية لكم في حصول تلك الكمالات بأن تروها منه وله لا منكم ولكم فتطغوا إن كنتم موحدين.

[٩٢] (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢))

(وَأَطِيعُوا اللهَ) بالفناء فيه فتنقادوا فيما يستعملكم فيه كالميت (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) بالبقاء بعد الفناء ، فتستقيموا فيه مراعين للتفصيل ، أحياء بحياته (وَاحْذَرُوا) ظهور البقاء حالة الاستقامة (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا) أن التقصير منكم وما على الرسول إلا البلاغ لا الإلزام.

[٩٣] (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣))

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان الغيبي بتوحيد الأفعال (وَعَمِلُوا) بمقتضى إيمانهم

١٨٤

أعمالا تخرجهم عن حجب الأفعال وتصلحهم لرؤية أفعال الحق ، حرج وضيق فيما تمتعوا به من أنواع الحظوظ إذا ما اجتنبوا بقايا أفعالهم واتّخذوا الله وقاية في صدور الأفعال منهم (وَآمَنُوا) بتوحيد الصفات (وَعَمِلُوا) ما يخرجهم عن حجب الصفات ويصلحهم لمشاهدة التجليات الإلهية بالمحو فيها (ثُمَّ اتَّقَوْا) بقايا صفاتهم واتخذوا الله وقاية في صدور صفاته عليهم (وَآمَنُوا) بتوحيد الذات (ثُمَّ اتَّقَوْا) بقية ذواتهم واتخذوا الله وقاية في وجودهم بالفناء المحض والاستهلاك في عين الذات وأحسنوا بشهود التفصيل في عين الجمع والاستقامة في البقاء بعد الفناء (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) المشاهدين للوحدة في عين الكثرة ، المراعين لحقوق التفاصيل في عين الجمع بالوجود الحقاني.

[٩٤ ـ ٩٥] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالغيب (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ) حال سلوككم وإحرامكم لزيارة كعبة الوصول (بِشَيْءٍ) من الحظوظ يتيسر لكم ويتهيأ ما يتوصل به إليها (لِيَعْلَمَ اللهُ) العلم التفصيلي التابع للوقوع الذي يترتب عليه جزاء (مَنْ يَخافُهُ) في حالة الغيبة فإن الخوف لا يكون إلّا للمؤمنين بالغيب لتعلقه بالخطاب الذي هو من باب الأفعال. وأما في حالة الحضور فأما الخشية فبتجلي الربوبية والعظمة ، وأما الهيبة فبتجلي الذات. فالخوف من صفات النفس ، والخشية من صفات القلب ، والهيبة من صفات الروح (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) بارتكاب الحظوظ بعد الابتلاء (فَلَهُ عَذابٌ) مؤلم للاحتجاب بفعله عن الشوق.

(لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ) لا ترتكبوا الحظوظ النفسانية في حالة الإحرام الحقيقي ، ومن ارتكبه قصدا منه ونيّة بميل قوى من النفس وانجذاب إليه لا لأمر اتفاقي أو رعاية خاطر ضيف أو صاحب (فَجَزاءٌ) أي : فحكمه جزاء قهره تلك القوة التي ارتكب بها الحظ النفساني من قوى النفس البهيمية بأمر يوازي ذلك الحظ (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ) من العاقلتين النظرية والعملية (مِنْكُمْ) أي : من أنفسكم أو من شيوخكم أو من أصحابكم المقدمين السابقين يعينان كيفيته وكميته (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) الحقيقية ، أي : في حال كون تلك القوة البهيمية هديا بإفنائها في الله إن كان صاحبها من الأقوياء ملبيا قادرا (أَوْ كَفَّارَةٌ) أي : ستر بصدقة أو صيام يزيل ذلك الميل ويستر تلك الهيئة عن نفسه أو بإيتاء حق تلك القوة والاقتصار عليه دون الحظ فإنها

١٨٥

مسكينة أو إمساك عن أفعال تلك القوة بقدر ذلك الحظ كيما يزول عنها الميل (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) بالحجب والحرمان (وَاللهُ عَزِيزٌ) لا يمكن الوصول إلى جنات عزّه مع كدورات صفات النفس (ذُو انْتِقامٍ) يحجب بهيئة مظلمة وظهور صفة ووجود بقية ، كما قال تعالى لنبيّه محمد عليه الصلاة والسلام : «أنذر الصديقين بأني غيور».

[٩٦] (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦))

(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ) بحر العالم الروحاني من المعارف والمعقولات والحظوظ العلمية في إحرام الحضرة الإلهية (وَطَعامُهُ) من العلم النافع الذي هو حق واجب تعلمه في المعاملات والأخلاق تمتيعا (لَكُمْ) أيها السالكون لطريق الحق (وَلِلسَّيَّارَةِ) المسافرين لسفر الآخرة ، المحرزين لأرباح النعيم الباقي (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ) بر العالم الجسماني من المحسوسات والحظوظ النفسانية. واجعلوا الله وقاية لكم في سيركم لتسيروا به واجعلوا نفوسكم وقاية الله في صدور الشرور المانعة منها وتيقنوا أنكم (إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) بالفناء في الذات ، فاجتهدوا في السلوك ولا تقفوا مع الموانع وراء الحجاب.

[٩٧] (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧))

(جَعَلَ اللهُ) كعبة حضرة الجمع (الْبَيْتَ) المحرّم من دخول الغير فيه كما قيل : جلّ جناب الحق من أن يكون شريعة لكل وارد. (قِياماً لِلنَّاسِ) من موتهم الحقيقي وانتعاشا لهم به وبحياته وقدرته وسائر صفاته (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) أي : زمان الوصول ، وهو زمان الحج الحقيقي الذي يحرم ظهور صفات النفس فيه (وَالْهَدْيَ) أي : النفس المذبوحة بفناء تلك الكعبة (وَالْقَلائِدَ) وخصوصا النفس القوية ، الشريفة ، المطيعة ، المنقادة ، فإنّ التقرّب بها أفضل وشأنها عند البقاء والقيام بالوجود الثاني والحياة الحقيقية أرفع (ذلِكَ) أي : جعل تلك الحضرة قياما لكم (لِتَعْلَمُوا) بعلمه عند القيام به (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ) حقائق الأشياء في عالم الغيب والشهادة وعلمه محيط بكل شيء ، إذ لا يمكن إحاطة علمكم بعلمه.

[٩٨] (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨))

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) بالحجب لمن ظهر بصفة أو بقية حال الوصول أو ضرب بخطإ واشتغل بغير حال السلوك وانتهك حرمة من حرماته (غَفُورٌ) للتلوينات والفترات (رَحِيمٌ) بهيئة الكمالات والسعادات التي لا يعلم قدرها إلا هو.

١٨٦

[٩٩] (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩))

(ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا) التبليغ لا الإيصال (وَاللهُ يَعْلَمُ) سرّكم وعلانيتكم (ما تُبْدُونَ) من الأعمال والأخلاق (وَما تَكْتُمُونَ) من النيّات والعلوم والأحوال ، هل تصلح للتقرّب بها إليه؟ وهل تستعدّون بها للقائه أم لا؟.

[١٠٠ ـ ١٠٨] (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢) ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨))

(قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ) من النفوس والأعمال والأخلاق والأموال (وَالطَّيِّبُ) منها عند الله تعالى ، فإنّ الطيب مقبول موجب للقرب والوصول والخبيث منها مردود موجب للبعد والطرد والحرمان (وَلَوْ أَعْجَبَكَ) الخبيث بكثرته ووفوره لمناسبته للنفس ولملاءمته لصفاتها ، فاجعلوا الله وقاية لكم في الاجتناب عن الخبيث واختيار الطيب. يا كلّ من له لبّ أي : عقل خالص عن شوب الوهم ومزج هوى النفس (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بالخلاص عن نفوسكم وصفاتها وخبائثها والوصول إلى الله بالفناء فيه.

[١٠٩ ـ ١١٠] (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ

١٨٧

بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠))

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) في عين الجمع المطلق أو عين جمع الذات (فَيَقُولُ ما ذا) أجابكم الأمم حين دعوتموهم إليّ؟ أي : هل تطلعون على مراتبهم في كمالاتهم التي توجهوا إليها في متابعتكم (قالُوا لا عِلْمَ لَنا) أي : العلم كله لك جمعا وتفصيلا ليس لغيرك علم لفناء صفاتنا في صفاتك (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) فغيوب بواطننا وبواطنهم كلها علمك (نِعْمَتِي عَلَيْكَ) بالهداية الخاصة ومقام النبوّة والولاية (وَعَلى والِدَتِكَ) بالتطهير والتزكية والاصطفاء (تُكَلِّمُ النَّاسَ) في مهد البدن (وَكَهْلاً) بالغا إلى نور شيب الكمال بالتجرّد عن البدن وملابسه (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ) كتاب الحقائق والمعارف الثابتة في اللوح المحفوظ بتأييد روح القدس وحكمة السلوك في الله بتحصيل الأخلاق والأحوال والمقامات والتجريد والتفريد ، وتوراة العلوم الظاهرة والأحكام المتعلقة بالأفعال وأحوال النفس وصفاتها ، وإنجيل العلوم الباطنة من علوم تجليات الصفات وأحكامها وأحكام أحوال القلب وصفاته وأعماله.

(وَإِذْ تَخْلُقُ) من طين العقل الهيولاني الذي هو الاستعداد المحض بيد التربية والحكمة العملية (كَهَيْئَةِ) طير القلوب الطائرة إلى حضرة القدس لتجرّدها عن عالمها وكمالها (بِإِذْنِي) أي : بعلمي وقدرتي وتيسيري عند تجلّي صفات حياتي وعلمي وقدرتي لك وإنصافك واستنبائي إياك (فَتَنْفُخُ فِيها) من روح الكمال ، حياة العلم الحقيقي بالتكميل والإضافة (فَتَكُونُ طَيْراً) نفسا مجرّدة كاملة تطير إلى جناب القدس بجناح العشق (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) المحجوب عن نور الحق. (وَالْأَبْرَصَ) المعيب بمرض محبة الدنيا وغلبة الهوى (وَإِذْ تُخْرِجُ) موتى الجهل من قبور البدن وأرض النفس (بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ) المحجوبين عن نور تجليات الصفات الجاهلين المضادّين لك لجهلهم بحالك ومقامك (عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالحجج والدلائل الواضحة (فَقالَ الَّذِينَ) حجبوا (مِنْهُمْ) عن دين الحق (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) لحيرتهم فيه.

[١١١ ـ ١١٢] (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢))

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) أي : ألهمت في قلوبهم النورانيين الذين طهروا نفوسهم بماء المنافع والأعمال المزكية حتى قبلوا دعوتك لصفاء نفوسهم وأحبوك بالإرادة التامة لمناسبتهم إياك بنور الفطرة وصفاء الاستعداد (أَنْ آمِنُوا بِي) إيمانا حقيقيا بتوحيد الصفات

١٨٨

والمحو (وَبِرَسُولِي) برعاية حقوق تجلياتها على التفصيل. (قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ) يا إلهنا بعلمك الشامل المحيط بالكل أننا منقادون لك مسلمين وجودات صفاتنا إليك (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ) إذ اقترح عليك أصحابك فقالوا (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) أي : شاهدك من عالم الربوبية ، فإنّ ربّ كل واحد هو الاسم الذي يربّه ويكمله ولا يعبد أحد إلا ما عرفه من عالم الربوبية ولا عرف إلا ما بلغ إليه من المرتبة في الألوهية فيستفيض منه العلوم ويستنزل منه البركات ويستمدّ منه المدد الروحاني ، ولهذا قالوا مع إقرارهم وإسلامهم : ربّك ، ولم يقولوا : ربنا ، لأن ربهم لا يستطيع (أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) شريعة من سماء عالم الروح تشتمل على أنواع العلوم والحكم والمعارف والأحكام فيها غذاء القلوب وقوت النفوس وحياتها وذوقها (قالَ اتَّقُوا اللهَ) احذروه في ظهور صفات نفوسكم واجعلوه وقاية لكم فيما يصدر عنكم من الأخلاق والأفعال تنجوا من تبعاتها وتفوزوا وتفلحوا إن تحقق إيمانكم فلا حاجة بكم إلى شريعة جديدة.

[١١٣ ـ ١١٥] (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥))

(قالُوا نُرِيدُ أَنْ) نستفيد (مِنْها) ونعمل بها ونتقوى بها (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) فإنّ العلم غذاء القلب وقوته (وَنَعْلَمَ) صدقك في الإخبار عن ربك ونبوّتك وولايتك بها وفيها (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) الحاضرين أهل العلم نخبر بها من عدانا من الغائبين ونعلمهم وندعوهم بها إلى الله (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) أمرا أي : شرعا ودينا يعود إليه من في زماننا من أهل ديننا ومن بعدنا ممن سيوجد من النصارى (وَآيَةً مِنْكَ) علامة وعلما منك تعرف بها وتعبد (وَارْزُقْنا) ذلك الشرع والعلم النافع والهداية (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) لا ترزق إلا ما ينفعنا ويكون صلاحنا فيه (فَمَنْ يَكْفُرْ) يحتجب عن ذلك الدين بعد إنزاله ووضوحه (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) لبيان الطريق ووضوح الدين والحجة مع وجود استعدادهم فلا ينكرونه إلا معاندين والعذاب مع العلم أشدّ من العذاب مع الجهل ، إذ الشعور بالمحجوب عنه يوجب شدّة الإيلام.

[١١٦ ـ ١١٧] (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ

١٨٩

رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧))

(أَأَنْتَ) دعوت الناس إلى نفسك وأمّك أو إلى مقام قلبك ونفسك فإنّ من بقي فيه وجود الأنانية وبقية النفس والهوى ، أو كان فيه تلوين بوجود القلب وظهوره بصفته يدعو الخلق إما إلى مقام نفسه وإما إلى مقام قلبه لا إلى الحق (قالَ سُبْحانَكَ) تنزيه لله عن الشريك وتبرئة له عن وجود البقية (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) فإني لا وجود لي بالحقيقة فلا ينبغي ولا يصح أن أقول قولا ليس لي ذلك القول بالحقيقة ، فإن القول والفعل والصفة والوجود كلها لك (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) أي : إن كان صدر مني قول فعن علمك ولا وجود لما لا تعلم وما وجد بعلمك وجد (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) لإحاطتك بالكلّ ، فعلمي بعض علمك (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) أي : ذاتك لأني لا أحيط بالكلّ (ما قُلْتُ لَهُمْ) وما أمرتهم إلا ما كلفتني قوله وألزمتني إياه (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أي : ما دعوتهم إلا إلى الجمع في صورة التفصيل وهو الذي نسبة ربوبيته إلى الكل سواء فغلطوا فما رأوه إلا في بعض التفاصيل لضيق وعائهم (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) رقيبا حاضرا أراعيهم وأعلمهم (ما دُمْتُ فِيهِمْ) أي : ما بقي مني وجود بقية (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) أفنيتني بالكلية بك (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) لفنائي فيك (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) حاضر ، يوجد بك ، وإلا لم يكن ذلك الشيء.

[١١٨ ـ ١٢٠] (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠))

(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) بإدامة الحجاب (فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) أحقاء بالحجب والحرمان وأنت أولى بهم تفعل بهم ما تشاء (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) برفع الحجاب (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) القوي القادر على ذلك لا تزول عزتك بتقريبهم ورفع حجابهم (الْحَكِيمُ) تفعل ما تفعله من التعذيب بالحجب والحرمان والتقريب باللطف والغفران بحكمتك البالغة (هذا يَوْمُ) نفع صدقك إياك ، وصدق كل صادق لكونه خميرة الكمالات وخاصية الملكوت (لَهُمْ جَنَّاتٌ) الصفات بدليل ثمرة الرضوان فإنّ الرضا لا يكون إلا بفناء الإرادة ولا تفنى إرادتهم إلا إذا غلبت إرادة الله عليهم فأفنتها ، ولهذا قدّم رضوان الله عنهم على رضوانهم عنه ، أي : لما أرادهم الله تعالى في الأزل بمظهرية إرادته ومحل رضوانه ورضي بهم محلا وأهلا لذلك سلب عنهم إرادتهم بأن جعل

١٩٠

إرادته مكانها وأبدلهم بها فرضي عنهم وأرضاهم (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي : الفلاح العظيم الشأن ولو كان فناء الذات لكان الفوز الأكبر والفلاح الأعظم. له ما في العالم العلويّ والسفليّ باطنه وظاهره (وَما فِيهِنَ) أسماؤه وصفاته وأفعاله (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إن شاء أفنى بظهور ذاته ، وإن شاء أوجد بتستره بأسمائه وصفاته.

١٩١

سورة الأنعام

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١))

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ظهور الكمالات ، وصفات الجمال والجلال على مظاهر تفاصيل الموجودات بأسرها الذي هو كمال الكل. والحمد المطلق مخصوص بالذات الإلهية الجامعة لجميع صفاتها وأسمائها باعتبار البداية الذي أوجد سموات عالم الأرواح وأرض عالم الجسم وأنشأ في عالم الجسم ظلمات مراتبه التي هي حجب ظلمانية لذاته وفي عالم الأرواح نور العلم والإدراك (ثُمَ) أي : بعد ظهور هذه الآيات (الَّذِينَ كَفَرُوا) حجبوا مطلقا (بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) غيره يثبتون موجودا يساويه في الوجود (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) المادة الهيولانية (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) مطلقا غير معين بوقت وهيئة ، لأن أحكام القضاء الثابت الذي هو أمّ الكتاب كلية منزّهة عن الزمان ، متعالية عن المشخصات إذ محلها الروح الأولى المقدّس عن التعلق بالمحل ، فهو الأجل الذي يقتضيه الاستعداد طبعا بحسب هويته المسمّى أجلا طبيعيا بالنظر إلى نفس ذلك المزاج الخاص والتركيب المخصوص بلا اعتبار عارض من العوارض الزمانية (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) معين (عِنْدَهُ) هو الأجل المقدّر الزماني الذي يجب وقوعه عند اجتماع الشرائط وارتفاع الموانع المثبت في كتاب النفس الفلكية التي هي لوح القدر المقارن لوقت معين ملازما له ، كما قال تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (١). (ثُمَّ أَنْتُمْ) بعد ما علمتم قدرته على إبدائكم وإفنائكم وإحاطة علمه بكم تشكون فيه وفي قدرته ، فتثبتون لغيره تأثيرا وقدرة.

[٢ ـ ٨] (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨))

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٣٤.

١٩٢

(وَهُوَ اللهُ) في صورة الكل سواء ألوهيته بالنسبة إلى العالم العلويّ والسفليّ (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ) في عالم الأرواح الذي هو عالم الغيب (وَجَهْرَكُمْ) في عالم الأجسام الذي هو عالم الشهادة (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) فيهما من العلوم والعقائد والأحوال والحركات والسكنات والأعمال صحيحها وفاسدها ، صوابها وخطأها ، خيرها وشرّها ، فيجازيكم بحسبها.

[٩ ـ ١٧] (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١) قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧))

(وَلَوْ جَعَلْناهُ) الرسول (مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) أي : لجسدناه لأن الملك نور غير مرئيّ بالبصر وهم ظاهريون لا يدركون إلا ما كان محسوسا وكل محسوس فهو جسم أو جسماني ولا صورة تناسب الملك الذي ينطبق بالحق حتى يتجسد فيها إلا الصورة الإنسانية ، إما لكونه نفسا ناطقة تقتضي هذه الصورة وإما لوجوب وجود الجنسية التي لو لم تكن لما أمكنهم السماع منه وأخذ القول (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي : ألزم ذاته من حيث هي إفاضة الخير والكمال بحسب استعداد القوابل فما من مستحق لرحمة وجود أو كمال إلا أعطاه عند حصول استحقاقه لها.

(لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) الصغرى والإعادة أو الكبرى في عين الجمع المطلق (لا رَيْبَ فِيهِ) في كل واحد من الجمعين في نفس الأمر عند التحقيق ، وإن لم يشعر به المحجوبون وهم (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بإهلاكها في الشهوات واللذّات الفانية ومحبة ما يفنى سريعا من حطام الدنيا ، وكل محبّ لشيء فهو محشور فيه. فهؤلاء لمحبتهم إياها واحتجابهم بها عموا عن الحقائق الباقية النورانية واستبدلوا بها المحسوسات الفانية الظلمانية (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) قال ذلك مع قوله : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) (١) ، وكذلك قال موسى :

__________________

(١) سورة النحل ، الآية : ١٢٣.

١٩٣

(سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (١) لأنّ مراتب الأرواح مختلفة في القرب والبعد من الهوية الإلهية. وكل من كان أبعد فإيمانه بواسطة من تقدّمه في الرتبة ، وأهل الوحدة كلهم في المرتبة الإلهية أهل الصف الأول فكان إيمانهم بلا واسطة وإيمان غيرهم بواسطتهم الأقدم فالأقدم ، وكل من كان إيمانه بلا واسطة فهو أول من آمن وإن كان متأخر الوجود بحسب الزمان كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : «نحن الآخرون السابقون».

فلا يقدح اتباعه لملّة إبراهيم في سابقيته لأن معنى الاتباع هو السير في طريق التوحيد مثل سيره في الزمان الأول. ومعنى أوليته كونه في الصف الأول مع السابقين.

[١٨ ـ ٢١] (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١))

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) بإفنائهم ذاتا وصفة وفعلا بذاته وصفاته وأفعاله ، فيكون قهره عين لطفه كما لطف بهم بإيجادهم وتمكينهم وإقدارهم على أنواع التمتعات وهيأ لهم ما أرادوا من أنواع النعم والمشتهيات فحجبوا بها عنه وذلك عين قهره. فسبحان الذي اتسعت رحمته لأوليائه في شدّة نقمته واشتدّت نقمته على أعدائه في سعة رحمته (وَهُوَ الْحَكِيمُ) يفعل ما يفعل من القهر الظاهر المتضمن للطف الواسع أو اللطف الظاهر المتضمن للقهر الكامل بالحكمة (الْخَبِيرُ) الذي يطلع على خفايا أحوالهم واستحقاقها للطف والقهر (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بإثبات وجود غيره (أَوْ كَذَّبَ) بصفاته بإظهار صفات نفسه ، فأشرك به. وغاية الظلم الشرك بالله (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) لاحتجابهم بما وضعوه في موضع ذات الله وصفاته.

[٢٢ ـ ٢٣] (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣))

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) في عين جمع الذات (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) بإثبات الغير (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) لفناء الكل في التجلي الذاتي (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ) عند تجلية الحال وبروز الكل للملك القهّار نهاية شركهم وعاقبته (إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) لامتناع وجود شيء نشركه بالله.

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ١٤٣.

١٩٤

[٢٤ ـ ٢٦] (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦))

(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) بافتراء الوجود والصفات لها وضاع (عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) فلم يجدوه شيئا بل وجدوه لا شيء سوى المفتري أو كذبوا على أنفسهم بنفي الشرك عنها مع رسوخ ذلك الاعتقاد فيها.

[٢٧ ـ ٢٩] (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩))

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى) نار الحرمان والتعذّب بهيئات نفوسهم المظلمة واستيلاء صور المفتريات عليهم في العذاب (فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا) من تجليات صفاته (وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الموحدين ، لكان ما لا يدخل تحت الوصف (بَلْ بَدا) ظهر (لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ) من العقائد الفاسدة والصفات المهلكة والهيآت المظلمة ببروزهم لله وانقلاب باطنهم ظاهرا ، فتعذبوا به (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) لرسوخ تلك الاعتقادات والملكات فيهم (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في الدنيا والآخرة لكون الكذب ملكة راسخة فيهم.

[٣٠] (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠))

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) في القيامة الكبرى وهو تصوير لحالهم في الاحتجاب والبعد وإلا لم يكن ثم قول ولا جواب ، لحرمانهم عن الحضور والشهود ، وإن كانوا في عين الجمع المطلق.

واعلم أن الوقف على الشيء غير الوقوف معه ، فإن الوقوف مع الشيء يكون طوعا ورغبة ، والوقف على الشيء لا يكون إلا كرها ونفرة ، فمن وقف مع الله بالتوحيد كمن قال :

وقف الهوى من حيث أنت فليس

لي متأخر عنه ولا متقدّم

لا يوقف للحساب ، بل هو من أهل الفوز الأكبر الذين قال فيهم : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (١) ، (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) (٢)

__________________

(١) سورة الكهف ، الآية : ٢٨.

(٢) سورة الأنعام ، الآية : ٥٢.

١٩٥

ويثاب بأنواع النعيم في الجنان كلها. ومن وقف مع الغير بالشرك وقف على الربّ وعذب بجميع أنواع العذاب في مراتب النيران كلها ، لكون حجابه أغلظ وكفره أعظم. ومن وقف مع الناسوت بمحبة اللّذات والشهوات ، ولبث في حجاب الآثار وقف على الملكوت وعذّب بنيران الحرمان عن المراد ، وسلّط عليه زبانية الهيآت المظلمة ، وقرن بشياطين الأهواء المردية. ومن وقف مع الأفعال وخرج عن حجاب الآثار ، وقف على الجبروت ، وعذّب بنار الطمع والرجاء ، وردّ إلى مقام الملكوت. ومن وقف مع الصفات وخرج عن حجاب الأفعال ، وقف على الذات ، وعذّب بنار الشوق في الهجران وإن كان من أهل الرضا وهذا الموقف ليس هو الموقف على الربّ ، فإن الموقوف على الذات يعرف ربّه الموصوف بصفات اللطف كالرحيم ، والرؤوف ، والكريم ، دون الموقوف على الربّ فهو حجاب الإنية كما أنّ الواقف مع الأفعال في حجاب أوصافه ، والواقف مع الناسوت في حجاب أفعاله التي هي من جملة الآثار. فالمشرك موقوف في المواقف الأربعة أولا على الربّ فيحجب بالبعد والطرد ، كما قال : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (١) ، وقال : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٢) ، ثم على الجبروت فيطرد بالسخط والقهر كما قال : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) (٣) ، ثم على الملكوت فيزجر بالغضب واللعن كما قيل : (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) (٤) ثم على النار ، فيعذب بأنواع النيران أبدا ، كما قال على لسان مالك : (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) (٥) ، فيكون وقفه على النار متأخرا عن وقفه على الربّ ، معلولا منه ، كما قال : (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٦). وأما الواقف مع الناسوت فيقف للحساب على الملكوت ثم على النار ، وقد ينحى لعدم السخط وقد لا ينحى لوجوده. والواقف مع الأفعال لا يوقف على النار أصلا ، بل يحاسب ويدخل الجنة. وأما الواقف مع الصفات فهو من الذين : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (٧) والله أعلم بحقائق الأمور.

[٣١ ـ ٣٢] (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢))

__________________

(١) سورة المؤمنون ، الآية : ١٠٨.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٠٦.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ٧٧.

(٤) سورة الزمر ، الآية : ٧٢.

(٥) سورة الزخرف ، الآية : ٧٧.

(٦) سورة يونس ، الآية : ٧٠.

(٧) سورة المائدة ، الآية : ١١٩.

١٩٦

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ) المحجوبون المكذبون بلقاء الحق (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ) القيامة الصغرى ندموا على تفريطهم فيها (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ) من أعباء التعلقات ، وأفعال محبة الجسمانيات ، ووبال السيئات ، وآثام هيآت الحسيّات (عَلى ظُهُورِهِمْ) أي : ارتكبتهم واستولت عليهم للرسوخ في نفوسهم فحجبتهم وعذّبتهم وثبطتهم عما أرادوا (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي : الحياة الحسيّة ، لأن المحسوس أدنى إلى الخلق من المعقول (إِلَّا لَعِبٌ) أي : إلا شيء لا أصل له ولا حقيقة سريع الفناء والانقضاء (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ) أي : عالم الروحانيات (خَيْرٌ لِلَّذِينَ) يتجرّدون عن ملابس الصفات البشرية واللذات البدنية (أَفَلا تَعْقِلُونَ) حتى تختاروا الأشرف الأطيب على الأخس الأدون الفاني.

[٣٣ ـ ٣٧] (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧))

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ) عتاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بظهور نفسه بصفة الحزن (لا يُكَذِّبُونَكَ) إلى آخره ، أي : ليس إنكارهم تكذيبك لأنك لست في هذه الدعوة قائما بنفسك ولا هذا الكلام صفة لك ، بل تدعوهم بالله وصفاته وهذه عادة قديمة (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا) بالله ، سلّاه بالله بعد ما عاتبه لئلا يبقى في التلوين ولا يتأسف بعد ذهابه عليه فيقع في القبض بل يطمئن قلبه ، ولهذا عقبه بقوله : (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) أي : صفات الله التي يتجلى بها لعباده ولا تتغير ولا تتبدّل بإنكار المنكرين ولا يمكنهم تبديلها. ونفى عنه القدرة وعجزه بقوله : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) إلى آخره ، لئلا تظهر نفسه بصفاتها (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) الذين لا يطلعون على حكمة تفاوت الاستعدادات ، فتتأسف على احتجاب من احتجب. فإن المشيئة الإلهية اقتضت هداية بعض وحرمان بعض لحكمة ترتب النظام وظهور الكمالات الظاهرة والباطنة ، فلا يستجيب إلا من فتح الله سمع قلبه بالهداية الأصلية ووهب له الحياة الحقيقية بصفات الاستعداد ونور الفطرة ، لا موتى الجهل الذين ماتت غريزتهم بالجهل المركب أو بالحجب الجبلية ، أو لم يكن لهم استعداد بحسب الفطرة فإنهم لا يمكنهم السماع ، بل : (يَبْعَثُهُمُ اللهُ) بالإعادة في النشأة الثانية (ثُمَّ إِلَيْهِ

١٩٧

يُرْجَعُونَ) في عين الجمع المطلق للجزاء أو المكافأة مع احتجابهم. وقد يمكن رفع الحجب في الآخرة للفريق الثاني دون الباقين (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) نزول الآيات ، فإن ظهور كل صفة من صفاته على كل مظهر من مظاهر الأكوان آية له يعرفه بها أهل العلم.

[٣٨] (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨))

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) إلى آخره ، يمكن حمله على المسخ أي : أمم أمثالكم في الاحتجاب والاعتداء وارتكاب الرذائل كأصحاب السبت الذين مسخوا قردة وخنازير (ما فَرَّطْنا) ما قصرنا في كتابهم الذي فيه صور أعمالهم وهو صحيفة النفس الفلكية أو صحيفة نيتهم التي ثبتت فيها صور أعمالهم (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) للجزاء ، محجوبين في عين الجمع المطلق. والظاهر أن المراد أنهم أمم أمثالكم مربوبون بما احتاجوا إليه من معايشهم ، مكفيون مؤنتهم بتقدير من الله وحكمه. ما قصرنا في كتاب اللوح المحفوظ من شيء يصلحهم بل أثبتنا فيه أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم وكل ما احتاجوا إليه ، ثم إلى ربّهم يحشرون لجزاء أعمالهم كما هو مروي في الحديث من حشر الوحوش ، وقصاص الأعمال بينهم ، وكل واحدة منها آية لكم تعرف بها أحوالكم وأرزاقكم وآجالكم وأعمالكم ، فاعتبروا بها ولا تصرفوا هممكم ومساعيكم في طلب الرزق وإصلاح الحياة الدنيا فتخسروا أنفسكم وتضرّوها وتشقوا بها في آخرتكم.

[٣٩ ـ ٥٠] (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩) قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي

١٩٨

الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠))

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا) بتجليات صفاتنا لاحتجابهم بغواشي صفات نفوسهم (صُمٌ) بآذان القلوب فلا يسمعون كلام الحق (وَبُكْمٌ) بألسنتها التي هي العقول فلا ينطقون بالحق في ظلمات صفات نفوسهم وجلابيب أبدانهم وغشاوات طبائعهم كالدواب ، فكيف يصدّقونك وما هداهم الله لذلك بالتوفيق (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) بإسبال حجب جلاله (وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) بإشراق نور وجهه وسبحات جماله (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ) إلى آخره ، أي : كل مشرك عند وقوعه في العذاب أو عند حضور الموت إن فسرنا الساعة بالقيامة الصغرى أو رفع الحجاب بالهداية الحقانية إلى التوحيد الحقيقي ، إن فسرناها بالقيامة الكبرى يتبرّأ عن حول من أشركه بالله وقوته ويتحقق أن لا حول ولا قوة إلا بالله ولا يدعو إلا الله ، وينسى كل من تمسك به وأشركه بالله من الوسائل ، ولهذا قيل : البلاء سوط من سياط الله ، يسوق عباده. أما ترى كيف عقب كلامه بمقارنة الأخذ بالبأساء والضرّاء بإرسال الرسل.

لعل تضاعف أسباب اللطف ، كقود الأنبياء وسوق العذاب ، يزعجهم عن مقارّ نفوسهم ويكسر سورتها وشدّة شكيمتها ، فيطيعوا ويبرزوا من الحجاب وينقادوا متضرّعين عند تجلي صفة القهر وتأثيرها فيهم ، ثم بيّن أنهم ما تضرّعوا لقساوة قلوبهم بكثافة الحجاب وغلبة غشّ الهوى وحب الدنيا وميل اللذات الجسمانية.

[٥١] (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١))

(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ) أي : أنذر بما أوحى إليك المستعدّين الذين هم أهل الخوف والرجاء ، وأعرض عن الذين قست قلوبهم فإنه لا ينجع فيهم كما قال في أوّل الكتاب : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (١). (أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) أي : يعلمون بصفاء استعدادهم أنه لا بد من الرجوع إلى الله ، فيخافون أن يحشروا إليه في حال كونهم محجوبين عنه بحجب صفاتهم وأفعالهم لا وليّ ينصرهم غير الله فينقذهم من ذلّة البعد وعذاب الحرمان ، ولا شفيع يشفع لهم فيقرّبهم منه ، ويكرمهم لفناء الذوات والقدر كلها في الله ، وقهره إياهم ، كما قال تعالى : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦)) (٢) ، فيتعظون بسماعهم له ويحدث فيهم الرجاء فيشمرون في السلوك بالجدّ والاجتهاد (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) لكي يحذروا حجب أفعالهم وصفاتهم وذواتهم ، ويتجرّدوا

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢.

(٢) سورة غافر ، الآية : ١٦.

١٩٩

عنها بالمحو والفناء في الله ، ويتجه أن يكون الوليّ القلب ، والشفيع الروح ، أي : لم يصلوا إلى مقام القلب الذي هو وليّ النفس فينقذها من العذاب وينصرها من الحرمان ، ولا إلى مقام الروح فتشفع لهم بإمداد مدد القرب لها واستمدادها من الله وتتوسل بينهم وبين الله.

[٥٢ ـ ٥٣] (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣))

(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ) أي : لا تزجرهم به ، وهم أهل الوحدة الكاملون الواصلون ، فإن الإنذار كما لا ينجع في الذين قست قلوبهم لا ينفع في الذين طاشت قلوبهم في الله وتلاشت (رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) أي : يخصونه بالعبادة دائما بحضور القلب وشهود الروح وتوجه السرّ إليه ، لا يريدون بالعبادة إلا ذاته بالمحبة الأزلية لا يجعلون عبادتهم معللة بغرض من توقع ثواب جنة أو خوف عقاب أو نقمة ، ولا يريدونه بمحبة الصفات فتتغير إرادتهم باختلاف تجلياتها ولا يستحلون توسيط ذاته في مقصد أو مطلب بل شاهدوا فناء الوسائط والوسائل فيه ولم يبق في شهودهم شيء يقع نظرهم عليه حتى ذواتهم (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ) فيما يعملون من شيء ، أي : لا واسطة بينهم وبين ربّهم من ملك أو نبيّ فلست من دعوتهم إلى طاعة أو إلى جهاد أو إلى غير ذلك في شيء ، فحسابهم على الله إذ عملهم ليس إلا بالله وفي الله (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي : لا يخوضون في أمور دعوتك بنصر وإعانة للإسلام ولا بدفع وقمع للكفر لاشتغالهم بالله عما سواه ودوام حضورهم كما قال تعالى : (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣)) (١) لا يعنيهم شأن من أمرك ونبوّتك (فَتَطْرُدَهُمْ) عما هم عليه من دوام الحضور بإنهاضهم لشغل ديني أو مصلحة أو تشوّش وقتهم وجمعيتهم (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ* وَكَذلِكَ فَتَنَّا) أي : مثل ذلك الفتن والابتلاء العظيم فتنّا (بَعْضَهُمْ) وهم المحجوبون بالبعض ، فإن المحجوبين لما لم يروا منهم إلا صورتهم وسوء حالهم في الظاهر وفقرهم ومسكنتهم ، ولم يروا قدرهم ومرتبتهم وحسن حالهم في الباطن ، استحقروهم وازدرتهم أعينهم بالنسبة إلى ما هم فيه من المال والجاه والتنعم وخفض العيش فقالوا فيهم : (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) بالهداية استخفافا وهم والله الأطيبون عيشا ، الأرفعون حالا ومنزلا ، الأعظمون قدرا ورتبة عند الله وعند من يعرفهم كما قال نوح عليه‌السلام : (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) (٢) بل الخير كل الخير ما آتاهم الله

__________________

(١) سورة المعارج ، الآية : ٢٣.

(٢) سورة هود ، الآية : ٣١.

٢٠٠