الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي
المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٧١٢
١٣ ـ قال فقهاء المذاهب الأربعة ، مؤلِّفو كتاب الفقه على المذاهب الأربعة (١) (١ / ٤٢٤) : زيارة القبور مندوبة للاتِّعاظ وتذكّر الآخرة ، وتتأكّد يوم الجمعة ويوماً قبلها ويوماً بعدها (٢). وينبغي للزائر الاشتغال بالدعاء والتضرّع والاعتبار بالموتى وقراءة القرآن للميّت ؛ فإنَّ ذلك ينفع الميّت على الأصحّ.
وممّا ورد أن يقول الزائر عند رؤية القبور : اللهمّ ربّ الأرواح الباقية ، والأجسام البالية ، والشعور المتمزّقة ، والجلود المتقطعة ، والعظام النخرة التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة ، أنزل عليها روحاً منك وسلاماً منّي.
وممّا ورد أيضاً أن يقول : السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون. ولا فرق في الزيارة بين كون المقابر قريبة أو بعيدة ، بل يندب السفر لزيارة الموتى خصوصاً مقابر الصالحين ، أمّا زيارة قبر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فهي من أعظم القرب ، وكما تندب زيارة القبور للرجال تندب أيضاً للنساء العجائز اللاتي لا يخشى منهنّ الفتنة ، إن لم تؤدِّ زيارتهنّ إلى الندب أو النياحة ، وإلاّ كانت محرّمة.
النذور لأهل القبور :
إنّ لابن تيميّة ـ ومن لفَّ لفّه ـ في المسألة هثهثة (٣) ، أتوا فيها بالمهاجر (٤) ؛ ورموا مخالفيهم من فرق المسلمين بمُهجِرات ، وقد مرَّ عن القصيمي (ص ٩٠) أنَّها من شعائر الشيعة الناشئة عن غلوِّهم في أئمّتهم وتأليههم لعليٍّ وولده. إن هذا إلاّ اختلاق
__________________
(١) الفقه على المذاهب الأربعة : ١ / ٥٤٠.
(٢) الحنابلة قالوا : لا تتأكّد الزيارة في يوم دون يوم ، والشافعية قالوا : تتأكّد من عصر يوم الخميس إلى طلوع شمس يوم السبت ، وهذا قول راجح عند المالكية ، كذا في هامش الفقه على المذاهب الأربعة [١ / ٥٤٠]. (المؤلف)
(٣) الهثهثة : كلام الألثغ. والهثهثة : الفساد أيضاً.
(٤) المهاجر والمهجرات : القبيح من الكلام.
وليس إلاّ الهثّ والهِتْر (١) ، وما شذّت الشيعة في المسألة عمّا أصفقت عليه الأُمّة الإسلاميّة سلفاً وخلفاً ؛ فقد بسط الخالدي فيها القول في كتابه صلح الإخوان (ص ١٠٢ ـ ١٠٩).
ومجمل ذلك التفصيل : أنَّ المسألة تدور مدار نيّات الناذرين ، وإنَّما الأعمال بالنيّات ، فإن كان قصد الناذر الميّت نفسه والتقرّب إليه بذلك لم يجز قولاً واحداً ، وإن كان قصده وجه الله تعالى وانتفاع الأحياء بوجه من الوجوه ، وثوابه لذلك المنذور له الميّت ، سواء عيّن وجهاً من وجوه الانتفاع أو أطلق القول فيه ، ويكون هناك ما يطّرد الصرف فيه في عرف الناس من مصالح القبر ، أو أهل بلده أو مجاوريه ، أو الفقراء عامّة ، أو أقرباء الميّت أو نحو ذلك ، ففي هذه الصورة يجب الوفاء بالمنذور. وحكى القول بذلك عن الأذرعي ، والزركشي ، وابن حجر الهيتمي المكّي ، والرملي الشافعي ، والقبّاني البصري ، والرافعي ، والنووي ، وعلاء الدين الحنفي ، وخير الدين الرملي الحنفي ، والشيخ محمد الغزّي ، والشيخ قاسم الحنفي.
وذكر الرافعي نقلاً عن صاحب التهذيب وغيره : أنَّه لو نذر أن يتصدّق بكذا على أهل بلد عيّنه يجب أن يتصدّق به عليهم. قال : ومن هذا القبيل ما ينذر بعثه إلى القبر المعروف بجرجان ، فإنّ ما يجتمع منه على ما يحكى يقسّم على جماعة معلومين ، وهذا محمول على أنَّ العرف اقتضى ذلك فنزل النذر عليه ، ولا شكّ أنّه إذا كان عرف حمل عليه. وإن لم يكن عرف فيظهر أن يجري فيه خلاف وجهين :
أحدهما : لا يصحُّ النذر ، لأنّه لم يشهد له الشرع بخلاف الكعبة والحجرة الشريفة.
والثاني : يصحُّ إذا كان مشهوراً بالخير ، وعلى هذا ينبغي أن يصرف في مصالحه الخاصّة به ولا يتعدّاها ، واستقرب السبكي بطلان النذر في صورة عدم العرف هناك للصرف. راجع فتاوى السبكي (١ / ٢٩٤).
__________________
(١) الهثّ : التخليط في الكلام. الهِتر : الكذب.
وقال العزّامي في فرقان القرآن (ص ١٣٣) : وقال ـ يعني ابن تيميّة ـ : من نذر شيئاً للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أو غيره من النبيّين والأولياء من أهل القبور ، أو ذبح له ذبيحة ، كان كالمشركين الذين يذبحون لأوثانهم وينذرون لها ، فهو عابد لغير الله ، فيكون بذلك كافراً. ويطيل في ذلك الكلام ، واغترَّ بكلامه بعض من تأخّر عنه من العلماء ممّن ابتلي بصحبته أو صحبة تلاميذه ، وهو منه تلبيس في الدين وصرف إلى معنىً لا يريده مسلم من المسلمين ، ومن خبر حال من فعل ذلك من المسلمين وجدهم لا يقصدون بذبائحهم ونذورهم للميّتين ـ من الأنبياء والأولياء ـ إلاّ الصدقة عنهم ، وجعل ثوابها إليهم ، وقد علموا أنّ إجماع أهل السنّة منعقد على أن صدقة الأحياء نافعة للأموات واصلة إليهم ، والأحاديث في ذلك صحيحة مشهورة ؛ فمنها ما صحَّ عن سعد : أنّه سأل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : يا نبيّ الله إنَّ أُمّي قد أفتلتت ، وأعلم أنّها لو عاشت لتصدّقت ، أفإن تصدّقت عنها أينفعها ذلك؟ قال : «نعم». فسأل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أيّ الصدقة أنفع يا رسول الله؟ قال : «الماء». فحفر بئراً وقال : هذه لأُمِّ سعد ، فهذه اللام هي الداخلة على الجهة التي وجّهت إليها الصدقة لا على المعبود المتقرّب إليه ، وهي كذلك في كلام المسلمين ، فهم سعديّون لا وثنيّون. وهي كاللام في قوله : إنّما الصدقات للفقراء. لا كاللام التي في قول القائل : صلّيت لله ونذرت لله ؛ فإذا ذبح للنبيّ أو الوليّ أو نذر الشيء له فهو لا يقصد إلاّ أن يتصدّق بذلك عنه ، ويجعل ثوابه إليه فيكون من هدايا الأحياء للأموات المشروعة المثاب على إهدائها ، والمسألة مبسوطة في كتب الفقه ، وفي كتب الردِّ على هذا الرجل ومن شايعه. انتهى.
فالنذر بالذبح وغيره للأنبياء والأولياء أمر مشروع سائغ من سيرة المسلمين عامّة من دون أيّ اختصاص بفرقةٍ دون أخرى ، وإنّما يُثاب به الناذر إن كان لله ، وذبح المنذور بالذبح باسم الله. قال الخالدي : بمعنى أنَّ الثواب لهم ، والمذبوح منذور لوجه الله كقول الناس : ذبحت لميّتي بمعنى تصدّقت عنه. وكقول القائل : ذبحت للضيف بمعنى أنّه كان السبب في حصول الذبح. انتهى. وليس هناك أيّ وازع من جواز نذر
الذبح ولزوم الوفاء به إن كان على الوجه المذكور ، ولا يتصوّر من مسلم غيره.
وربما يُستدلّ في المقام بما أخرجه أبو داود السجستاني في سننه (١) (٢ / ٨٠) ، بإسناده عن ثابت بن الضحّاك قال : نذر رجل على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن ينحر إبلاً ببُوانة (٢) ، فأتى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فأخبره ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «هل كان فيها وثنيُ عبد من أوثان الجاهليّة؟» قالوا : لا. قال : «فهل كان فيها عبد من أعبادهم؟» قالوا : لا. قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أوفِ بنذرك ؛ فإنّه لا وفاء لنذر في معصية الله تعالى ، ولا فيما لا يملك ابن آدم».
وبما أخرجه أبو داود في السنن (٣) (٢ / ٨١) عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدِّه ؛ أن امرأة قالت : يا رسول الله إنّي نذرت أن أضرب على رأسك الدفّ. قال : «أوفي بنذرك». قالت : إنّي نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا ـ مكان كان يذبح فيه أهل الجاهليّة ـ ، قال : «لصنم؟» قالت لا. قال : «لوثن؟» قالت : لا. قال : «أوفي بنذرك» (٤).
وفي معجم البلدان (٥) (٢ / ٣٠٠) : وفي حديث ميمونة بنت كردم ؛ أنَّ أباها قال للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنّي نذرت أن أذبح خمسين شاة على بُوانة. فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «هناك شيٌّ من هذه النصب؟» ، فقال : لا. قال : «فأوفِ بنذرك». فذبح تسعاً وأربعين وبقيت واحدة ، فجعل يعدو خلفها ويقول : اللهمّ أوفِ بنذري ، حتى أمسكها فذبحها ، وهذا معنى الحديث لا لفظه.
قال الخالدي في صلح الإخوان (ص ١٠٩) بعد ذكر حديثي أبي داود :
__________________
(١) سنن أبي داود : ٣ / ٢٣٨ ح ٣٣١٣.
(٢) بضمّ الموحّدة وتخفيف الواو. هضبة وراء ينبع قريبة من ساحل البحر. (المؤلف)
(٣) سنن أبي داود : ٣ / ٢٣٧ ح ٣٣١٢.
(٤) على القارئ أن يمعن النظر في صدر هذا الحديث ويعرف مكانة النبيّ الأقدس في السنن ، حاشا نبيّ القداسة عن هذه المخازي. (المؤلف)
(٥) معجم البلدان : ١ / ٥٠٥.
وأمّا استدلال الخوارج بهذا الحديث على عدم جواز النذر في أماكن الأنبياء والصالحين ، زاعمين أنّ الأنبياء والصالحين أوثان ـ والعياذ بالله ـ ، وأعياد من أعياد الجاهليّة ، فهو من ضلالهم وخرافاتهم وتجاسرهم على أنبياء الله وأوليائه حتى سمّوهم أوثاناً ، وهذا غاية التحقير لهم خصوصاً الأنبياء ، فإنّ من انتقصهم ـ ولو بالكناية ـ يكفر ولا تُقبل توبته في بعض الأقوال ، وهؤلاء المخذولون بجهلهم يُسمّون التوسّل بهم عبادة ، ويسمّونهم أوثاناً ، فلا عبرة بجهالة هؤلاء وضلالاتهم ، والله أعلم. انتهى. كما لا عبرة بجهالة ابن تيميّة ومن لفَّ لفَّه وضلالاتهم.
(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) (١)
القبور المقصودة بالزيارة
التوسّل والتبرّك بها ، الدعاء والصلاة لديها ، ختم القرآن لمدفونيها
هناك قبور تُقصد بالزيارة ، وقد قُصدت في القرون الإسلاميّة منذ يومها الأوّل ، ولأعلام المذاهب الأربعة حولها كلمات يأخذ الباحث منها دروساً عالية من شتّى النواحي ، ويقف بها على فوائد جمّة ، منها : عرفان سيرة المسلمين وشعارهم في القرون الخالية حول زيارة القبور والتوسّل والتبرّك بها ، والدعاء والصلاة لديها ، وختم القرآن لمدفونيها ، وإليك نبذة منها :
١ ـ بلال بن حمامة الحبشي مؤذِّن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم المتوفّى سنة (٢٠) ، قبره بدمشق ، وفي رأس القبر المبارك تاريخ باسمه رضى الله عنه ، والدعاء في هذا الموضع المبارك مستجاب ، قد جرّب ذلك كثير من الأولياء وأهل الخير المتبرِّكين بزيارتهم. رحلة ابن جبير (٢) (ص ٢٢٩).
__________________
(١) محمد : ١٦.
(٢) رحلة ابن جبير : ص ٢٥١.
٢ ـ سلمان الفارسي الصحابيّ العظيم ، المتوفّى (٣٦). قال الخطيب البغدادي في تاريخه (١ / ١٦٣) : قبره الآن ظاهر معروف بقرب إيوان كسرى عليه بناء ، وهناك خادم مقيم لحفظ الموضع وعمارته والنظر في أمر مصالحه ، وقد رأيتُ الموضع وزرته غير مرّة. وقال ابن الجوزي في المنتظم (١) (٥ / ٧٥) : قال القلانسي وسمنون : زرنا قبر سلمان وانصرفنا.
٣ ـ طلحة بن عبيد الله المقتول يوم الجمل سنة (٣٦). قال ابن بطوطة في رحلته (٢) (١ / ١١٦) : مشهد طلحة بن عبيد الله أحد العشرة (٣) ، وهو بداخل المدينة وعليه قبّة ومسجد ، وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر ، وأهل البصرة يعظّمونه تعظيماً شديداً وحقّ له ، ثمّ عدَّ مشاهد في البصرة لجملةٍ من الصحابة والتابعين فقال :
وعلى كلّ قبر منها قبّة مكتوب فيها اسم صاحب القبر ووفاته.
٤ ـ الزبير بن العوّام المتوفّى (٣٦) ، قال ابن الجوزي في المنتظم (٤) (٧ / ١٨٧):
فمن الحوادث في سنة (٣٨٦) أنَّ أهل البصرة في شهر المحرّم ادّعوا أنّهم كشفوا عن قبر عتيق ، فوجدوا فيه ميّتاً طريّا بثيابه وسيفه وأنّه الزبير بن العوّام ، فأخرجوه وكفّنوه ودفنوه بالمربد بين الدربين ، وبنى عليه الأثير أبو المسك عنبر بناءً ، وجعل الموضع مسجداً ، ونقلت إليه القناديل والآلات والحصر والسمادات ، وأُقيم فيه قوّام وحفظة ووقف عليه وقوفاً.
٥ ـ أبو أيّوب الأنصاري الصحابي المتوفّى (٥٢) بالروم ، قال الحاكم في المستدرك (٣ / ٤٥٨) : يتعاهدون قبره ويزورونه ويستسقون به إذا قحطوا. وذكره
__________________
(١) المنتظم : ١٢ / ٢٤١ رقم ١٧٦٥.
(٢) رحلة ابن بطوطة : ص ١٨٧.
(٣) المنتظم : ١٤ / ٣٨٣.
(٤) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٥١٨ ح ٥٩٢٩.
ابن الجوزي في صفة الصفوة (١) (١ / ١٨٧).
وقال الخطيب البغدادي في تاريخه (١ / ١٥٤) : قال الوليد : حدّثني شيخ من أهل فلسطين أنّه رأى بنيّة بيضاء دون حائط القسطنطينية ، فقالوا : هذا قبر أبي أيّوب الأنصاري صاحب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فأتيت تلك البنيّة ، فرأيت قبره في تلك البنيّة وعليه قنديل معلّق بسلسلة.
وفي تاريخ ابن كثير (٢) (٨ / ٥٩) : وعلى قبره مزار ومسجد وهم ـ أي الروم ـ يعظِّمونه. وقال الذهبي في الدول الإسلاميّة (٣) (١ / ٢٢) : فالروم تعظّم قبره ويستشفعون إلى اليوم به.
٦ ـ رأس الحسين ـ الإمام السبط الشهيد ـ بمصر : قال ابن جبير المتوفّى (٦١٤) في رحلته (٤) (ص ١٢) : هو في تابوت فضّة مدفون تحت الأرض ، قد بُني عليه بنيان حفيل يقصر الوصف عنه ولا يحيط الإدراك به ، مجلّل بأنواع الديباج ، محفوف بأمثال العمد الكبار شمعاً أبيض ، ومنه ما هو دون ذلك ، قد وضع أكثرها في أتوار فضّة (٥) خالصة ومنها مذهّبة ، وعلّقت عليه قناديل فضّة ، وحفَّ أعلاه كلّه بأمثال التفافيح ذهباً في مصنع (٦) شبيه الروضة ، يقيّد الأبصار حسناً وجمالاً ، فيه من أنواع الرخام المجزّع الغريب الصنعة ، البديع الترصيع ما لا يتخيّله المتخيّلون ، ولا يلحق أدنى وصفه الواصفون ، والمدخل إلى هذه الروضة على مسجد على مثالها في التأنّق والغرابة ، حيطانه كلّها رخام على الصفة المذكورة ، وعن يمين الروضة المذكورة وشمالها بنيان من
__________________
(١) صفة الصفوة : ١ / ٤٧٠ رقم ٤٠.
(٢) البداية والنهاية : ٨ / ٦٥ حوادث سنة ٥٢ ه.
(٣) دول الإسلام : ص ٢٨.
(٤) رحلة ابن جبير : ص ١٩.
(٥) أتوار : جمع تور ، وهو الشمعدان.
(٦) المصنع : المبنى قصراً كان أو حصناً.
كليهما المدخل إليها وهما أيضاً على تلك الصفة بعينها ، والأستار البديعة الصنعة من الديباج معلّقة على الجميع.
ومن أعجب ما شاهدناه في دخولنا إلى هذا المسجد المبارك حجر موضوع في الجدار الذي يستقبله الداخل ، شديد السواد والبصيص (١) ، يصف الأشخاص كلّها كأنّه المرآة الهنديّة الحديثة الصقل. وشاهدنا من استلام الناس للقبر المبارك ، وإحداقهم به وانكبابهم عليه وتمسّحهم بالكسوة التي عليه ، وطوافهم حوله مزدحمين داعين باكين متوسِّلين إلى الله سبحانه وتعالى ببركة التربة المقدّسة ، ومتضرِّعين بما يُذيب الأكباد ، ويصدع الجماد ، والأمر فيه أعظم ، ومرأى الحال أهول ، نفعنا الله ببركة ذلك المشهد الكريم. وإنّما وقع الإلماع بنبذةٍ من صفته مستدلاّ على ما وراء ذلك ، إذ لا ينبغي لعاقل أن يتصدّى لوصفه ، لأنّه يقف موقف التقصير والعجز ، وبالجملة فما أظنُّ في الوجود كلّه مصنعاً أحفل منه ، ولا مرأىً من البناء أعجب ولا أبدع ، قدّس الله العضو الكريم الذي فيه بمنِّه وكرمه.
وفي ليلة اليوم المذكور بتنا بالجبّانة المعروفة بالقرافة ، وهي أيضاً إحدى عجائب الدنيا لما تحتوي عليه من مشاهد الأنبياء ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ ، وأهل البيت والصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ ، والتابعين والعلماء والزهّاد والأولياء ذوي الكرامات الشهيرة والأنباء الغريبة ، وإنَّما ذكرنا منها ما أمكنتنا مشاهدته ، فمنها : قبر ابن النبيّ صالح ، وقبر روبيل بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ ، وقبر آسية امرأة فرعون ، ومشاهد أهل البيت ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ مشاهد أربعة عشر من الرجال وخمس من النساء ، وعلى كلّ واحد منها بناء حفيل ، فهي بأسرها روضات بديعة الإتقان عجيبة البنيان ، قد وكّل بها قوم يسكنون فيها ويحفظونها ، ومنظرها منظر عجيب ، والجرايات متّصلة
__________________
(١) البصيص : اللمعان.
لقوامها في كلّ شهر. ثمّ ذكر تفصيل المشاهد.
عقد الشبراوي الشيخ عبد الله الشافعي ، المتوفّى (١١٧٢) في كتابه الإتحاف بحبِّ الأشراف (١) (ص ٢٥ ـ ٤٠) باباً في ذلك المشهد ، وذكر فيه زيارته وشطراً من الكرامات له وإحياء يوم الثلاثاء بزيارته ، وقال : والبركات في هذا المشهد مشاهدة مرئيّة ، والنفحات العائدة على زائريه غير خفيّة ، وهي بصحّة الدعوى مليّة ، والأعمال بالنيّة ، ولأبي الخطّاب بن دحية في ذلك جزء لطيف مؤلّف ، واستفتي القاضي زكيّ الدين عبد العظيم في ذلك فقال : هذا مكان شريف وبركته ظاهرة والاعتقاد فيه خير ، والسلام. وما أجدر هذا المشهد الشريف والضريح الأنور المنيف بقول القائل :
نفسي الفداءُ لمشهدٍ أسرارُه |
|
من دونها سترُ النبوّةِ مُسبَلُ |
ورواقُ عزٍّ فيه أشرفُ بقعةٍ |
|
ظلّت تحارُ لها العقولُ وتذهلُ |
تغضى لبهجتِهِ النواظرُ هيبةً |
|
ويردُّ عنه طرفَهُ المتأمِّلُ |
حسدت مكانتَهُ النجومُ فودَّ لو |
|
أمسى يجاورُهُ السماك الأعزلُ |
وسما علوّا أن تُقبِّل تُربَهُ |
|
شفةٌ فأضحى بالجباه يُقبَّلُ |
وقال في ذكر الكرامات : منها : أنّ رجلاً يقال له شمس الدين القعويني كان ساكناً بالقرب من المشهد ، وكان معلّم الكسوة الشريفة حصل له ضرر في عينيه فكفّ بصره ، وكان كلّ يوم إذا صلّى الصبح في مشهد الإمام الحسين يقف على باب الضريح الشريف ويقول : يا سيّدي أنا جارك قد كفَّ بصري ، وأطلب من الله بواسطتك أن يردّ عليّ ولو عيناً واحدةً ، فبينما هو نائم ذات ليلة إذ رأى جماعة أتوا إلى المشهد الشريف فسأل عنهم فقيل له : هذا النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والصحابة معه جاءوا لزيارة السيّد الحسين رضى الله عنه ، فدخل معهم ، ثمّ قال ما كان يقوله في اليقظة ، فالتفت الحسين إلى
__________________
(١) الإتحاف بحبّ الأشراف : ص ٧٥ ـ ١١٠.
جدّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وذكر له ذلك على سبيل الشفاعة عنده في الرجل ، فقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم للإمام عليّ رضى الله عنه : يا عليّ كحِّله. فقال : سمعاً وطاعةً ، وأبرز من يده مكحلةً ومروداً ، وقال له : تقدّم حتى أكحّلك ، فتقدّم فلوّث المرود ووضعه في عينه اليمنى ، فأحسَّ بحرقانٍ عظيم ، فصرخ صرخةً عظيمة فاستيقظ منها وهو يجد حرارة الكحل في عينه ، ففتحت عينه اليمنى فصار ينظر بها إلى أن مات ، وهذا الذي كان يطلبه ، فاصطنع هذه البسط التي تُفرش في مشهد الإمام الحسين رضى الله عنه وكتب عليها وقفاً ، ولم تزل تُفرش حتى تولّى مصر الوزير المعظّم محمد باشا الشريف من طرف حضرة مولانا السلطان محمد خان ـ نصره الله ـ فجدّد بُسطاً أخرى ، وهي التي تُفرش إلى الآن.
ثمّ ذكر كرامة أخرى وقعت للشيخ أبي الفضل نقيب السادة الخلوتيّة ، وقال ـ بعد بيان اختصاص يوم الثلاثاء بزيارة ذلك المشهد ـ : ولنذكر في هذا الباب نبذةً من القصائد التي مدحتُ بها آل البيت الشريف ، وتوسّلتُ فيها بساكن هذا المشهد المنيف ، فممّا قلت فيه :
آلَ طه ومن يقل آلَ طه |
|
مستجيراً بجاهِكمْ لا يُردُّ |
حبُّكمْ مذهبي وعقدُ يقيني |
|
ليس لي مذهبٌ سواه وعقدُ |
منكمُ أستمدُّ بل كلُّ من في ال |
|
كون من فيضِ فضلِكمْ يستمدُّ |
بيتُكم مهبطُ الرسالةِ وال |
|
وحيِ ومنكم نورُ النبوَّة يبدو |
ولكم في العلى مقامٌ رفيعٌ |
|
ما لكم فيه آلَ يس ندُّ |
يا ابن بنتِ الرسولِ من ذا يضاهي |
|
كَ افتخاراً وأنت للفخرِ عقدُ |
يا حسيناً هل مثلُ أُمِّك أُمٌ |
|
لشريفٍ أو مثلُ جدّك جدُّ |
رام قومٌ أن يلحقوك ولكن |
|
بينهم في العلى وبينك بُعدُ |
خصّكَ اللهُ بالسعادة في دن |
|
ياك ثمّ بالشهادة بَعدُ |
لك في القبر يا حسيناً مقامٌ |
|
ولأعداك فيه خزيٌ وطردُ |
يا كريمَ الدارينِ يا من له الده |
|
ـرُ على رغمِ من يعاندُ عبدُ |
أنت سيفٌ على عِداك ولكنْ |
|
فيكَ حلمٌ وما لفضلِكَ حدُّ |
كلُّ من رامَ حصرَ فضلِكَ غِرٌّ |
|
فضلُ آلِ النبيِّ ليس يُعدُّ |
طيبةٌ فاقتِ البقاعَ جميعاً |
|
حينَ أضحى فيها لجدِّك لحدُ |
ولمصرٍ فخرٌ على كلِّ مصرٍ |
|
ولها طالعٌ بقبرك سعدُ |
مشهدٌ أنت فيه مشهدُ مجدٍ |
|
كم سعى نحوه جوادٌ مجدُّ |
وضريحٌ حوى علاك ضريحٌ |
|
كلّه مندلٌ يفوح وندُّ (١) |
مددٌ ما له انتهاءٌ وسرٌّ |
|
لا يُضاهى ورونقٌ لا يُحدُّ |
رحماتٌ للزائرين توالت |
|
وجزيلٌ من العطاء ورفدُ |
رضي اللهُ عنكمُ آلَ طه |
|
ودعاءُ المقلِّ مثليَ جهدُ |
وسلامٌ عليكمُ كلَّ وقتٍ |
|
ما تغنّت بكم تهامٌ ونجدُ |
أنا في عرض تربةٍ أنت فيها |
|
يا حسيناً وبعدُ حاشا أُردُّ |
أنا في عرض جدِّك الطاهرِ ال |
|
طهر إذا ما الزمانُ بالخطبِ يعدو |
أنا في عرض من يعول كلّ ال |
|
رسل عليه وما لهم عنه بدُّ |
أنا في عرض من أتته غزالٌ |
|
فحماها والخصم خصمٌ ألدُّ |
أنا في عرض جدِّك المصطفى من |
|
كلِّ عامٍ له الرحالُ تُشدُّ |
وقلت فيهم أيضاً ـ رضي الله تعالى عنهم ـ :
آلَ بيتِ النبيِّ مالي سواكمْ |
|
ملجأٌ أرتجيه للكربِ في غدْ |
لست أخشى ريبَ الزمانِ وأنتمْ |
|
عمدتي في الخطوبِ يا آلَ أحمدْ |
من يضاهي فخارَكمْ آل طه |
|
وعليكمْ سُرادقُ العزِّ مُمتدْ |
__________________
(١) المندل : العود الطيّب الرائحة جمعها منادل ، النّد ـ بالفتح والكسر ـ : عود يتبخّر به. (المؤلف)
كلُّ فضلٍ لغيرِكمْ فإليكمْ |
|
يا بني الطهرِ بالأصالة يُسندْ |
لا عدمنا لكم موائدَ جودٍ |
|
كلّ يومٍ لزائريكمْ تُجدَّدْ |
يا ملوكاً لهم لواء المعالي |
|
وعليهم تاج السعادة (١) يُعقدْ |
أيُّ بيت كبيتِكمْ آلَ طه |
|
طهَّر اللهُ ساكنيه ومجَّدْ |
روضةُ المجدِ والمفاخرِ أنتم |
|
وعليكم طيرُ المكارم غرَّدْ |
ولكم في الكتابِ ذكرٌ جميلٌ |
|
يهتدي منه كلُّ قارٍ ويسعَدْ |
وعليكمْ أثنى الكتابُ وهل بع |
|
دَ ثناءِ الكتابِ مجدٌ وسؤددْ |
ولكمْ في الفخارِ يا آلَ طه |
|
منزلٌ شامخٌ رفيعٌ مشيَّدْ |
قد قصدناك يا بنَ بنتِ رسولِ ال |
|
لّه والخير من جنابِكَ يُقصدْ |
يا حسيناً ما مثلُ مجدِك مجدٌ |
|
لشريفٍ ولا كجدِّكَ من جدْ |
يا حسيناً بحقِّ جدِّك عطفاً |
|
لمحبٍّ بالخيرِ منك تعوَّدْ |
كلّ وقت يودُّ يلثمُ قبراً |
|
أنت فيه بمقلتيه ويشهدْ |
سادتي أنجِدوا محبّا أتاكمْ |
|
مطلِقَ الدمعِ في هواكمْ مقيّدْ |
وأغيثوا مقصّراً ماله غي |
|
ـرُ حماكم إن أعضلَ الأمرُ واشتدْ |
فعليكم قصرت حبّي وحاشا |
|
بعد حبّي لكم أُقابل بالردْ |
يا إلهي مالي سوى حبِّ آل ال |
|
بيت آلِ النبيِّ طه الممجّدْ |
أنا عبدٌ مقصِّرٌ لست أرجو |
|
عملاً غيرَ حبِّ آل محمّدْ |
إلى آخر [الأبيات]
وقال في المشهد الحسيني أيضاً :
يا نديمي قم بي إلى الصهباءِ |
|
واسقنيها في الروضةِ الغنّاءِ |
حيث مجرى الخليجِ والماءُ فيه |
|
يتثنّى كالحيّة الرقشاءِ |
هاتها يا نديمُ صرفاً ودعني |
|
من صريع الهوى قتيلِ الماءِ |
__________________
(١) في المصدر : السيادة.
وأدِرْها ممزوجةً بالتهاني |
|
غيرَ ممزَوجةٍ بماءِ السماءِ |
هاتها يا نديمُ من غيرِ خلطٍ |
|
إنّ خلطَ الدواءِ عينُ الداءِ |
والقني يا نديمُ تحت الأُثَيلا |
|
تِ سحيراً إذا أردت لقائي |
في كثيبٍ من الجزيرة يختا |
|
لُ دلالاً في حلّةٍ خضراءِ |
روضةٌ راضها النسيمُ سحيراً |
|
باعتلالٍ صحّت به واعتلاءِ |
ولطيفُ النسيمِ يعبثُ بالغص |
|
ن فيهتزُّ هزَّةَ استهزاءِ |
يا خريرَ الخليجِ تفديكَ نفسي |
|
فلَكَمْ نلتُ في حماك منائي |
يا نديمي جدِّد بذكراه وجدي |
|
وأحيي ذاك الغرامَ بالإغراءِ |
هاتِ حدِّثْ عن نيلِ مصرَ ودعني |
|
من فراتٍ ودجلةٍ فيحاءِ |
وأعدْ لي حديث لذّات مصرٍ |
|
فحديثُ اللذّاتِ عنّيَ نائي |
إنّ مصراً لأحسنُ الأرضِ عندي |
|
وعلى نيلِها قصرتُ رجائي |
وغرامي فيها وغايةُ قصدي |
|
أن أرى سادتي بني الزهراءِ |
وإلى المشهدِ الحسينيِّ أسعى |
|
داعياً راجياً قبول دعائي |
يا ابن بنتِ الرسولِ إنّي محبٌ |
|
فتعطّفْ واجعل قبولي جزائي |
يا كرامَ الأنامِ يا آلَ طه |
|
حبُّكم مذهبي وعقدُ ولائي |
ليس لي ملجأٌ سواكم وذخرٌ |
|
أرتجيهِ في شدَّتي ورخائي |
إلى آخر [الأبيات]
وقال فيه أيضاً :
يا آلَ طه من أتى حبَّكم (١) |
|
مؤمِّلاً إحسانَكمْ لا يُضامْ |
لذنا بكمْ يا آلَ طه وهل |
|
يُضامُ من لاذَ بقومٍ كرامْ |
تزدحمُ الناسُ بأعتابكمْ |
|
والمنهلُ العذبُ كثيرُ الزحامْ |
من جاءكم مستمطراً فضلَكمْ |
|
فازَ من الجودِ بأقصى مرامْ |
__________________
(١) في المصدر : حيَّكم.
يا سادتي يا بضعةَ المصطفى |
|
يا من لهم في الفضلِ أعلى مقامْ |
أنتم ملاذي وعياذي ولي |
|
قلبٌ بكم يا سادتي مستهامْ |
وحقّكمْ إنّي محبٌّ لكم |
|
محبَّةً لا يعتريها انصرامْ |
وقفتُ في أعتابكمْ هائماً |
|
وما على من هام فيكم ملامْ |
يا سبطَ طه يا حسيناً على |
|
ضريحكَ المأنوسِ منّي السلامْ |
مشهدُكَ السامي غدا كعبةً |
|
لنا طوافٌ حولَهُ واستلامْ |
بيتٌ جديدٌ حلَّ فيه الهدى |
|
فصار كالبيتِ العتيقِ الحرامْ |
تفديك نفسي يا ضريحاً حوى |
|
حسيناً السبطَ الإمامَ الهمامْ |
إنّي توسَّلتُ بما فيك من |
|
عزٍّ ومجدٍ شامخٍ واحتشامْ |
يا زائراً هذا المقام اغتنم |
|
فكم لمن يسعى إليه اغتنامْ |
ينشرحُ الصدرُ إذا زرتَهُ |
|
وتنجلي عنه الهمومُ العظامْ |
كم فيه من نورٍ ومن رونقٍ |
|
كأنَّه روضةُ خيرِ الأنامْ |
إلى آخر [الأبيات]
وقال الحمزاوي العدوي المتوفّى (١٣٠٣) في مشارق الأنوار (١) (ص ٩٢) بعد كلام طويل حول مشهد الإمام الحسين الشريف : واعلم أنّه ينبغي كثرة الزيارة لهذا المشهد العظيم متوسّلاً به إلى الله ، ويطلب من هذا الإمام ما كان يطلب منه في حياته ، فإنّه باب تفريج الكروب ، فبزيارته يزول عن الخطب الخطوب ، ويصل إلى الله بأنواره والتوسّل به كلّ قلب محجوب ، ومن ذلك ما وقع لسيّدي العارف بالله تعالى سيدي محمد شلبي شارح العزيّة ـ الشهير بابن الستّ ـ وهو أنَّه قد سُرقت كتبه جميعها من بيته ، قال : فتحيّر عقله ، واشتدّ كربه ، فأتى إلى مقام وليّ نعمتنا الحسين منشداً لأبيات استغاث بها ، فتوجّه إلى بيته بعد الزيارة ومكثه في المقام مدّة فوجد
__________________
(١) مشارق الأنوار : ١ / ١٩٧.
كتبه في محلّها قد حضرت من غير نقص لكتاب منها ، وها هي الأبيات :
أيحومُ حول من التجا لكمُ أذىً |
|
أو يشتكي ضيماً وأنتم سادتُه |
حاشا يُردُّ من انتمى لجنابِكمْ |
|
يا آلَ أحمد أو تسرُّ شوامتُه |
لكمُ السيادةُ مِن ألستُ بربّكم (١) |
|
ولكم نطاقُ العزِّ دارت هالتُه |
هل ثَمَّ بابٌ للنبيِّ سواكمُ |
|
مَن غيرُكم من ذي الورى ريحانتُه |
تبّا لطرفٍ لا يشاهدُ مشهداً |
|
يحوي الحسينَ وتستلمهُ سلامتُه |
فالزم رحاباً ضمَّ سبطَ محمدٍ |
|
ما أمَّه راجٍ وعيقتْ حاجتُه |
ها خادماً للحبّ يرفعُ حاجةً |
|
ممّا يلاقي من بلايا هالتُه |
أمدَّنا الله من فيض أمداده ، ومتّعنا من فيض قربه ، وتقبيل أعتابه ، وذكر لبعضهم في ذلك المشهد قوله :
منزلٌ كمّلَ الإلهُ سناهُ |
|
تتوارى البدورُ عند لقاهُ |
خصّهُ ربُّنا بما شاء في الأر |
|
ضِ تعالى من في السماءِ إلهُ |
صانه زانه حماه وقاه |
|
وكساه بمنِّه ورضاهُ |
أن غدا مسكناً لعزّة آل ال |
|
بيتِ من ثمّ قدره وعلاهُ |
الإمامُ الحسينُ أشرفُ مولىً |
|
أيّد الدين سرّه ووقاهُ |
مدحتْهُ آيُ الكتابِ وجاءت |
|
سنّة الهاشميِّ طرز حلاهُ |
وهناك كلمات ضافية تضمّ ما ذُكر حول مشهد الرأس الشريف لو جمعتها يد التأليف لأتت كتاباً حافلاً ، وممّن أفرده بالتأليف الشيخ عبد الفتّاح بن أبي بكر
__________________
(١) إشارة إلى قوله تعالى في سورة الأعراف : الآية ١٧٢ (وَإذ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَني آدَمَ مِن ظُهُورِهِم ذُرّيَّتَهُم وَأشْهَدَهُم عَلَى أَنفُسِهِم أَلَسْتُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى شَهِدنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ القيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَن هَذَا غَافِلِينَ).
ـ الشهير بالرسّام الشافعيّ ـ له رسالة نور العين في مدفن رأس الحسين.
٧ ـ عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي المتوفّى (١٠١) ، قبره بدير سمعان يُزار. طبقات الحفّاظ (١) (١ / ١١٤).
٨ ـ أبو حنيفة النعمان بن ثابت إمام الحنفيّة المتوفّى (١٥٠) ، قبره في الأعظميّة ببغداد مزار معروف ، روى الخطيب في تاريخه (١ / ١٢٣) عن عليّ بن ميمون قال : سمعت الشافعي يقول : إنّي لأتبرّك بأبي حنيفة وأجيء إلى قبره في كلّ يوم ـ يعني زائراً ـ فإذا عرضت لي حاجة صلّيت ركعتين وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده فما تبعد [عنّي] (٢) حتى تُقضى. وذكره الخوارزمي في مناقب أبي حنيفة (٢ / ١٩٩) ، والكردري في مناقبه (٢ / ١١٢) ، وطاش كبرى زاده في مفتاح السعادة (٣) (٢ / ٨٢) ، والخالدي في صلح الإخوان (ص ٨٣) نقلاً عن السفيري وابن جماعة.
وقال ابن الجوزي في المنتظم (٤) (٨ / ٢٤٥) : في هذه الأيّام ـ يعني سنة (٤٥٩) ـ بنى أبو سعد المستوفي الملقّب شرف الملك مشهد أبي حنيفة ، وعمل لقبره ملبناً ، وعقد القبّة وعمل المدرسة بإزائه ، وأنزلها الفقهاء ورتّب لهم مدرساً ، فدخل أبو جعفر ابن البياضي إلى الزيارة فقال ارتجالاً :
ألم ترَ أنَّ العلمَ كان مضيَّعاً |
|
فجمَّعه هذا المغيّبُ في اللحدِ |
كذلك كانت هذه الأرضُ ميتةً |
|
فأنشرها جودُ العميدِ أبي سعدِ |
ثمّ قال : قال المصنّف : قرأت بخطِّ أبي الوفاء بن أبي عقيل قال : وضع أساس
__________________
(١) تذكرة الحفّاظ : ١ / ١٢١ رقم ١٠٤.
(٢) الزيادة من المصدر.
(٣) مفتاح السعادة : ٢ / ١٩٣.
(٤) المنتظم : ١٦ / ١٠٠.
مسجد بين يدي ضريح أبي حنيفة بالكلس والنورة وغيره ، فجمع سنة ستّ وثلاثين وأربعمائة وأنا ابن خمس سنين أو دونها بأشهر ، وكان المنفق عليه تركيّ قدم حاجّا ، ثمّ قدم أبو سعد المستوفي وكان حنفيّا متعصّباً ، وكان قبر أبي حنيفة تحت سقف عمله بعض أمراء التركمان ، وكان قبل ذلك ـ وأنا صبيٌّ ـ عليه خربشت (١) خاصّ له وذلك في سنتي سبع أو ثمان وثلاثين قبل دخول الغُزّ (٢) بغداد سنة سبع وأربعين ، فلمّا جاء شرف الملك سنة ثلاث وخمسين عزم على إحداث القبّة وهي هذه ، فهدم جميع أبنية المسجد وما يحيط بالقبر وبنى هذا المشهد ، فجاء بالقطّاعين والمهندسين وقدّر لها ما بين أُلوف آجر ، وابتاع دوراً من جوار المشهد ، وحفر أساس القبّة ، وكانوا يطلبون الأرض الصلبة فلم يبلغوا إليها إلاّ بعد حفر سبعة عشر ذراعاً في ستّة عشر ذراعاً (٣) ، فخرج من هذا الحفر عظام الأموات الذين كانوا يطلبون جوار النعمان أربعمائة صنّ (٤) ، ونقلت جميعها إلى بقعة كانت ملكاً لقوم ، فحفر لها ودُفنت. إلى أن قال :
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ ، أنبأنا أبو الحسين المبارك بن عبد الجبّار الصيرفي ، قال : سمعت أبا الحسين بن المهتدي يقول : لا يصحُّ أنَّ قبر أبي حنيفة في هذا الموضع الذي بنوا عليه [القبَة] (٥) ، وكان الحجيج قبل ذلك يردون ويطوفون حول المقبرة فيزورون أبا حنيفة لا يعيّنون موضعاً.
وقال ابن خلّكان في تاريخه (٦) (٢ / ٢٩٧) : قبره مشهور يزار ، بُني عليه المشهد والقبّة سنة (٤٥٩) ، وقال ابن جُبير في رحلته (٧) (ص ١٨٠) : وبالرصافة مشهد حفيل
__________________
(١) خربشْت : كلمة فارسية ، ومعناها المظلّة التي يظلّل بها السقف لوقايته من الشمس والمطر.
(٢) الغُزّ : جنس من الترك.
(٣) في النسخة المعتمدة لدينا : يوماً.
(٤) الصَّنّ : زبيل كبير مثل السلّة المطبقة.
(٥) الزيادة من المصدر.
(٦) وفيات الأعيان : ٥ / ٤١٤ رقم ٧٦٥.
(٧) رحلة ابن جبير : ص ٢٠٢.
البنيان ، له قبّة بيضاء سامية في الهواء ، فيه قبر الإمام أبي حنيفة رضى الله عنه.
وقال ابن بطوطة في رحلته (١) (١ / ١٤٢) : قبر الإمام أبي حنيفة رضى الله عنه عليه قبّة عظيمة ، وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر ، وليس بمدينة بغداد اليوم زاوية يطعم الطعام فيها ما عدا هذه الزاوية. ثمّ عدَّ جملة من قبور المشايخ ببغداد فقال : وأهل بغداد لهم في كلّ جمعة يوم لزيارة شيخ من هؤلاء المشايخ ، ويوم لشيخ آخر يليه ، هكذا إلى آخر الأُسبوع.
وقال الذهبي في الدول (٢) (١ / ٧٩) : وقبره عليه مشهد كبير وقبّة عالية ببغداد.
وقال ابن حجر في الخيرات الحسان (٣) في مناقب الإمام أبي حنيفة (٤) ، في الفصل الخامس والعشرين : إنَّ الإمام الشافعيّ أيّام كان هو ببغداد كان يتوسّل بالإمام أبي حنيفة ، ويجيء إلى ضريحه يزور فيسلّم عليه ، ثمّ يتوسّل إلى الله تعالى به في قضاء حاجاته ، وقال : قد ثبت أنَّ الإمام أحمد توسّل بالإمام الشافعيِّ حتى تعجّب ابنه عبد الله ابن الإمام أحمد ، فقال له أبوه : إنَّ الشافعيّ كالشمس للناس وكالعافية للبدن. ولمّا بلغ الإمام الشافعي أنَّ أهل المغرب يتوسلون بالإمام مالك لم ينكر عليهم.
٩ ـ مصعب بن الزبير المتوفّى (١٥٧). قال ابن الجوزي : زارت العامّة قبره بمسكن كما يُزار قبر الحسين عليهالسلام. المنتظم (٥) (٧ / ٢٠٦).
__________________
(١) رحلة ابن بطوطة : ص ٢٢٦.
(٢) دول الإسلام : ص ٩٢.
(٣) الخيرات الحسان : ص ٩٤.
(٤) حكاه عنه السيّد أحمد زيني دحلان في خلاصة الكلام : ص ٢٥٢ ، والدرر السنيّة [ص ٩٦](المؤلف)
(٥) المنتظم : ١٥ / ١٤.
١٠ ـ ليث بن سعد الحنفي إمام مصر ، توفّي (١٧٥) ، ودفن بالقرافة الصغرى ، وقبره يُزار رأيته غير مرّة. الجواهر المضيّة (١) (١ / ٤١٧).
١١ ـ مالك بن أنس إمام المالكيّة المتوفّى (١٧٩) ، قبره ببقيع الغرقد في المدينة المنوّرة. قال ابن جبير في رحلته (٢) (ص ١٥٣) : عليه قبّة صغيرة مختصرة البناء. وقد مرَّ (ص ١٥٩) أنّ الفقهاء عدّوا زيارته من آداب من زار قبر النبيّ الأقدس صلىاللهعليهوآلهوسلم.
١٢ ـ الإمام الطاهر موسى بن جعفر عليهماالسلام المدفون بالكاظميّة الشهيد سنة (١٨٣) ، أخرج الخطيب البغدادي في تاريخه (١ / ١٢٠) بإسناده عن أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي قال : سمعت الحسن بن إبراهيم أبا عليّ الخلاّل شيخ الحنابلة في عصره يقول : ما همّني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسّلت به إلاّ سهّل الله تعالى لي ما أُحبّ.
وفي شذرات الذهب (٣) (٢ / ٤٨) : توفّي ببغداد الشريف أبو جعفر محمد الجواد ابن عليّ بن موسى الرضا الحسيني ، أحد الاثني عشر إماماً الذين تدّعي فيهم الرافضة العصمة ، ودُفن عند جدّه موسى ، ومشهدهما ينتابه العامّة بالزيارة.
١٣ ـ الإمام الطاهر أبو الحسن عليّ بن موسى الرضا عليهالسلام ، قال أبو بكر محمد ابن المؤمّل : خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة وعديله أبي عليّ الثقفي ، مع جماعة من مشايخنا وهم إذ ذاك متوافرون إلى زيارة عليّ بن موسى الرضا بطوس ، قال : فرأيت من تعظيمه ـ يعني ابن خزيمة ـ لتلك البقعة ، وتواضعه لها وتضرّعه عندها ما تحيّرنا. تهذيب التهذيب (٤) (٧ / ٣٨٨).
__________________
(١) الجواهر المضيّة : ٢ / ٧٢٠ رقم ١١٣١.
(٢) رحلة ابن جبير : ص ١٧٣.
(٣) شذرات الذهب : ٣ / ٩٧ حوادث سنة ٢٢٠ ه.
(٤) تهذيب التهذيب : ٧ / ٣٣٩.
١٤ ـ عبد الله بن غالب الحدّاني البصري المقتول سنة (١٨٣) ، قتل يوم التروية ، كان الناس يأخذون من تراب قبره كأنّه مسك يصيّرونه في ثيابهم. حلية الأولياء (٢ / ٢٥٨) ، تهذيب التهذيب (١) (٥ / ٣٥٤).
١٥ ـ عبد الله بن عون ، أبو عون الخرّاز البصري قال محمد بن فضالة : رأيت النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في النوم فقال : زوروا ابن عون فإنّ الله يحبّه. حلية الأولياء (٣ / ٣٩) ، تهذيب التهذيب (٢) (٥ / ٣٤٨).
١٦ ـ عليّ بن نصر بن عليّ الأزدي أبو الحسن البصري المتوفّى (١٨٩) ، مشهده بالبصرة معروف يُزار. هامش الخلاصة (٣) (ص ٢٣٥).
١٧ ـ معروف الكرخي المتوفّى (٢٠٠) ، قال إبراهيم الحربي : قبر معروف الترياق المجرّب. وعن الزهري أنّه قال : قبر معروف الكرخي مجرّب لقضاء الحوائج ، ويقال : إنّه من قرأ عنده مائة مرّة قل هو الله أحد وسأل الله ما يريد قضى الله حاجته. ورُوي عن أبي عبد الله المحاملي أنّه قال : أعرف قبر معروف الكرخي منذ سبعين سنة ما قصده مهموم إلاّ فرّج الله همّه. تاريخ بغداد (١ / ١٢٢).
وقال ابن الجوزي في صفة الصفوة (٤) (٢ / ١٨٣) : عن أحمد بن الفتح قال : سألت بشراً ـ التابعيّ الجليل (٥) ـ عن معروف الكرخي فقال : هيهات حالت بيننا وبينه الحجب ... إلى أن قال : فمن كانت له إلى الله حاجة فليأت قبره وليدع ، فإنّه
__________________
(١) تهذيب التهذيب : ٥ / ٣١٠.
(٢) تهذيب التهذيب : ص ٣٠٥.
(٣) هامش خلاصة الخزرجي : ٢ / ٢٥٨ رقم ٥٠٥٧.
(٤) صفة الصفوة : ٢ / ٣٢٤ رقم ٢٦٠.
(٥) اعتبار بشر من التابعين فيه محل للنظر ؛ لأنّ بشراً ولد سنة (١٥٠) ، وتوفي أبو الطفيل عامر بن واثلة ، وهو آخر من مات من الصحابة ، سنة (١١٠).