تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) (٦)

* * *

معاني المفردات

(نُطْفَةٍ) : النطفة : الماء الصافي ويعبر بها عن ماء الرجل.

(أَمْشاجٍ) : جمع مشيج ، أو المشج بفتحتين أو بفتح فكسر ، بمعنى المختلط الممتزج.

(نَبْتَلِيهِ) : الابتلاء : نقل الشيء من حال إلى حال ، ومن طور إلى طور.

٢٦١

(أَعْتَدْنا) : الاعتاد : التهيئة.

(سَلاسِلَ) : السلاسل : جمع سلسلة ، وهي القيد الذي يقاد به المجرم.

(وَأَغْلالاً) : الأغلال : جمع غلّ بالضم ، وقيل : هي القيد الذي يجمع اليدين على العنق.

(وَسَعِيراً) : السعير : النار المشتعلة.

(الْأَبْرارَ) : جمع البرّ وهو المحسن.

(تَفْجِيراً) : تفجير العين : شق الأرض لإجرائها.

* * *

الإنسان بين غياهب العدم وقدر الوجود

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) إنه السؤال الذي يريد أن يقرّر الحقيقة الوجودية للإنسان من أجل أن يؤكدها في الذهن ، لينفتح على آفاقها الرحبة التي تجعل الإنسان يفكر تفكيرا متوازنا ، فلا يدّعي لنفسه الأزليّة التي قد يرقى بها إلى موقع الألوهية ، كما حدث لبعض نماذجه في الخط المنحرف ، بل يتواضع لله الذي خلقه ، ليدرس كيف يتحرك في حياته من خلال ما جعله الله غاية لوجوده ، ليكون خليفة الله في الأرض ، فيبني الحياة على أساس خط الله ، ويعبد الله عبر الخضوع لإرادته ، وفي امتثال أوامره ونواهيه ، ويؤكد معنى العبودية في شخصه. وهكذا يتصور ذلك الحين من الدهر الذي كانت الحياة فيه خالية من الإنسان ، فهل كان هناك خلق آخر غيره ممن كان يملك العقل والإرادة والحركة ، كما يملكها الإنسان؟! وهذا ما استوحاه البعض من سؤال الملائكة لله عند ما قالوا له : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ

٢٦٢

الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) [البقرة : ٣٠] ، باعتبار أن الملائكة لا يطرحون مثل هذا السؤال إلّا من خلال التجربة السابقة التي عاشوها في الماضي ، أو أن الأرض لم تكن تحتوي أيّ خلق آخر ... وقد لا تكون الآية واردة لإثارة التفكير حول تلك الفترة الخالية من الإنسان ، بل ربما كانت لإثارة التفكير حول هذه الفترة التي تحوّل فيها الإنسان إلى وجود حيّ مذكور متحرّك في خط المسؤولية ، مسلح بالعلم والحركة الخيّرة والعمل المسؤول ، ليجعل الكون أكثر غنى بالتجربة الإنسانية ، بدلا من أن يكون متخبطا في المشاكل إذا ابتعد عن الصراط المستقيم.

وقد فسر البعض كلمة «هل» ب «قد» لأنها أحد معانيها ، ولكننا نجد أن الأقرب إبقاء دلالة «هل» على الاستفهام التقريريّ ، لأنها قد تكون أبلغ من الناحية التعبيرية.

* * *

تطور خلق الإنسان

(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) أي أخلاط ، بمعنى أنها مختلطة ممتزجة باعتبار امتزاج ماء الرجل ببويضة المرأة في عملية التلقيح ، (نَبْتَلِيهِ) أي ننقله من حال إلى حال ومن طور إلى طور ، حيث يجري التحوّل من النطفة إلى العقلة إلى المضغة التي تتحول إلى إنسان سويّ بعد ذلك ، كما ذكره بعض المفسرين (١).

وقد فسر الابتلاء ، بالاختبار أو بالتكليف ، بما يعنيه الإنسان في دخول التجربة الحيّة المتحركة التي قد يفشل في إيصالها إلى النتائج الإيجابية ، وقد ينجح في ذلك تبعا لما يتحرك فيه من طاعة ومعصية ... وردّه صاحب الميزان

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٢٠ ، ص : ١٣٢.

٢٦٣

بأنه «يدفعه تفريع قوله : (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) على الابتلاء ، ولو كان المراد به التكليف ، كان من الواجب تفريعه على جعله سميعا بصيرا لا بالعكس» (١).

ونلاحظ على كلام صاحب الميزان أن كلمة «نبتليه» صفة للإنسان باعتبار أن ذلك هو العنوان لوجوده للغاية من خلقه ، وإذا كان المعنى اللغوي لكلمة الابتلاء هو الانتقال من حال إلى حال ، فإن المعنى العرفي المتبادر إلى الذهن هو الامتحان والاختبار ، أمّا التفريع فقد كان على أصل خلق الإنسان الموصوف بهذه الصفة ، في ما يريده الله منه في طبيعة وجوده ، وعلى هذا الأساس ، فإن المعنى الثاني أنسب بالآية ، والله العالم.

(فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) باعتبار أن السمع والبصر هما الوسيلتان الحيويتان اللتان يمكن أن يحصل الإنسان من خلالهما على أكثر مصادر المعرفة ، أو من جهة ما يسمعه من كلمات الحق في وحي الله وفي الأحاديث العامة للناس ، أو من ناحية ما يبصره من آيات الله في الكون ، ومن حركة المخلوقات الحيّة من حوله ، ليستعمل المسموعات والمبصرات كموادّ خامّ للفكر الذي يمكن أن ينتجه بعقله ليكون ذلك حجّة له ، في ما يلتزمه من فكر يتصل بالله أو حجّة عليه في ما يلتزمه من فكر يرتبط بالشيطان.

* * *

إنّا هديناه السبيل

(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) الذي يؤدي به إلى الله من خلال ما يدركه عقله وما يتحرك فيه سمعه وبصره ، وما يوحي به الله إليه ، أو يلهمه معرفته بفطرته

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٢٠ ، ص : ١٣٣.

٢٦٤

الصافية ... ومنحناه حرية الاختيار بين الخير أو الشرّ ، سواء في الالتزام بطاعة الله كتعبير حيّ عن شكره له من ناحية عملية ، أو الالتزام بمعصيته كتجسيد حيّ للكفر بالنعمة ، من ناحية واقعية.

(إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) فهو بين هذين الخطين ، وما ينفتح عليه من خيارات من دون أن يواجه أيّ ضغط تكوينيّ في إبعاده عن عملية الاختيار.

وإذا أردنا أن نواجه مسألة الاختيار بين شكر النعمة باختيار الإيمان ، وكفرها باختيار الكفر والعصيان ، فإننا نلاحظ أن الناس بين من يستجيب لنداء فطرته التي تمثّل سرّ العمق في تكوينه ، أو لإرشاد عقله الذي يوازن بين الحسن والقبح في حقائق الأشياء ، أو للاستماع إلى وحي الله وحديث الأنبياء اللذين يفتحان حياة الإنسان على معرفة الخير والشر ، والصلاح والفساد ، ليختار الصلاح بدلا من الفساد ، وليتبع الخير بدلا من الشرّ ، وبين من لا يستجيب لذلك كله من خلال العوامل الطارئة في حركة الغريزة لديه ، أو في نوازع الذات في شخصه ، أو في نقاط الضعف في حياته ، أو في طبيعة الظروف الضاغطة المحيطة به.

وهكذا يقف الإنسان وجها لوجه أمام مسألة الهداية ، في عنصرها الإيجابي أو السلبي ، ليواجه مصيره على أساس مسألة الاختيار لديه. فإن الله لم يضغط عليه ليحوّل إرادته إلى ما يحبه له بالضغط التكويني الذي يشلّ إرادته ويمنعها عن الحركة ، ولكنه أثار أمامه النتائج الأخروية ، في مسألة الثواب والعقاب ، ليضغط عليه ضغطا معنويا في جانب الإحساس ، ليكون اختياره خاضعا للتفكير بالنتائج ، كما هو خاضع للجانب الموضوعي الذي تتحرك فيه الأشياء.

* * *

٢٦٥

حصيلة الكفر والإيمان

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) فهذه هي حصيلة الكفر في الآخرة ، فالكافرون يعانون من القيود والأغلال في جهنم ، لأنهم عاشوا في الدنيا سجناء مقيدين بأغلال شهواتهم وسلاسل أطماعهم ، وهم يحترقون بالسعير في النار ، لأنهم خضعوا للاحتراق بسعير شهواتهم المحرّمة في الدنيا.

(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً) هؤلاء الذين عاشوا الإيمان في عقولهم ، والإخلاص في قلوبهم ، والطهارة في مشاعرهم ، والالتزام بأوامر الله ونواهيه في حياتهم العملية العامة والخاصة ، وساروا في خطّ الله والدعوة إليه والجهاد في سبيله ، والإنفاق على المحرومين ابتغاء لوجهه ، وجعلوا من حياتهم عنوانا للعبودية الخالصة المخلصة لله ، هؤلاء الذين عاشوا البرّ فكرا وقولا وعملا ، فعاشوا الظمأ لرحمة الله ولرضوانه ، وبحثوا عن الريّ ، حتى سقاهم الله من كؤوس النعيم شرابا يمتزج بالكافور الذي هو رمز العطر في رائحته الطيبة التي تملأ الروح والقلب والشعور إحساسا بالسعادة الغامرة التي تنساب في كل مكامن الإحساس ، ولكن من أين هذا الشراب الطيب المعطر؟ (عَيْناً) أي من عين على طريقة نزع الخافض ، (يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) الذين ارتضاهم الله لعبادته في عمق معنى العبودية الخالصة المنفتحة عليه (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) فهي خاضعة لإرادتهم ، فإذا شاءوا أن يفجروها فإنها تستجيب لهم ، ليشربوا منها في كل حين.

* * *

٢٦٦

الآيات

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) (٢٢)

* * *

معاني المفردات

(مُسْتَطِيراً) : المستطير : من استطار إذا فشا وانتشر في الأقطار غاية

٢٦٧

الانتشار.

(وَأَسِيراً) : الأسير : المأخوذ من أهل دار الحرب.

(فَوَقاهُمُ) : الوقاية : الحفظ والمنع من الأذى.

(وَلَقَّاهُمْ) : لقي الشيء بكذا يلقيه : أي استقبله به.

(نَضْرَةً) : النضرة : ، البهجة ، وحسن اللون والسرور ، مقابل المأساة والحزن.

(الْأَرائِكِ) : جمع أريكة ، وهو ما يتكأ عليه.

(زَمْهَرِيراً) : الزمهرير : البرد الشديد.

(ظِلالُها) : الظلال : جمع ظل.

(قُطُوفُها) : قطوف : جمع قطف بالكسر فالسكون ، وهو الثمرة المقطوفة المجتناة.

(بِآنِيَةٍ) : جمع إناء ، وهو الوعاء.

(وَأَكْوابٍ) : جمع كوب وهو إناء الشراب الذي لا عروة له ولا خرطوم.

(سَلْسَبِيلاً) : السلسبيل : الشراب السهل اللذيذ.

(سُندُسٍ) : ما رقّ نسجه من الحرير.

(خُضْرٌ) : الخضر : صفة ثياب.

(وَإِسْتَبْرَقٌ) : الإستبرق : ما غلظ نسجه من ثياب الحرير.

(أَساوِرَ) : جمع سوار.

* * *

٢٦٨

من صفات الأبرار : الوفاء بالنّذر

كيف كانت صفة هؤلاء الأبرار في الدنيا؟ وكيف كانت علاقتهم بالجانب الخيّر من الحياة؟

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) وللنذر معنى مصطلح يتحدد بما يلتزمه الإنسان على نفسه من مال أو عمل بصيغة معيّنة ، وقد يتوسع البعض في معناه ليشمل كل التزامات الإنسان الإيمانية ، سواء كانت في دائرة الخط الإيماني المنفتح على أحكام الشريعة كلها أو كانت في دائرة الالتزامات الذاتية ، لأن النذر الخاص بالمعنى العرفي لا يحمل أيّة خصوصية تفرض التركيز عليه ، بل كلّ ما هناك هو ما يعبّر عنه من التزام مرتبط بالله في ما يستتبعه من الوفاء الدالّ على صدقه في التزاماته ، في ما يتحمله من تبعاته ، ويحمله من أعبائه.

(وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) ويتحركون على أساس هاجس الخوف الذي يشمل كل كيانهم حتى ليهتز تحت تأثير ذكره في ما كانوا يعرفونه من شرّ ذلك اليوم الذي كان فاشيا منتشرا ذاهبا في الجهات ، بالغا أقصى المبالغ ، وقد سمي العذاب شرّا لأنه لا خير فيه للناس الذين ينالهم العقاب ، ولذلك فإنهم يعملون على الابتعاد عن دائرة التقصير في طاعة الله ، لشعورهم بضخامة المسؤولية ، وثقل التبعة ، وعظمة النتائج السلبية في الدار الآخرة.

* * *

إطعام الطعام على حبه

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) فهم يعيشون روحية العطاء في

٢٦٩

أجواء الحرمان الذي يصيب بعض الفئات الاجتماعية المحرومة الخاضعة لبعض الظروف الضاغطة عليهم ، كما هي حال اليتم في اليتيم ، والفقر في المسكين ، والأسر في الأسير ، فيعانون الجوع في كثير من الحالات ، لكنهم يجدون لدى هؤلاء الأبرار انفتاحا على حاجاتهم الغذائية ، فيقدمون لهم الطعام في لمسة تعبيرية رائعة ، في الوقت الذي قد يكونون محتاجين إليه في حياتهم الخاصة ، ولعل هذا هو معنى (عَلى حُبِّهِ) ، أي مع توق النفس إليه لشدة الحاجة ، وهذا هو ما نستوحيه من قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران : ٩٢].

(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) حيث التعبير عن الرغبة في القرب إليه ، فهم يقدمونه لله عند ما يقدّمونه لهم ابتغاء مرضاته بعيدا عن النوازع الذاتية ، (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) لا التعويض المادي ولا المعنوي ، فهي الرحمة العميقة في القلب المنفتح على الناس من خلال انفتاحه على الله ، وهي الروح التي تعيش العطاء كرسالة روحية تتحسّس حاجات الآخرين وآلامهم ، ولذا فإنها تبذل وتبذل ، وتتدفّق بالخير كله تماما كما هو الينبوع عند ما يتدفق بالماء إلى الأرض العطشى ، وكما هي الشمس تبذل النور إلى كل الآفاق المظلمة التي تتطلع إلى رحاب الشروق.

* * *

بين سموّ العطاء والخوف من الله

وهذا ما تنطلق فيه التربية الإسلامية للشخصية الإنسانية من أجل أن يكون العطاء عنصرا ذاتيا في الإنسان بحيث يتحرك في ذاته بشكل عفويّ ، وأن يكون الدافع الأساس في ذلك كله هو ابتغاء وجه الله ، حيث ينفتح على الله كما لم ينفتح على غيره ، فهو الوجود كله ، ولا وجود لغيره ، وهو الغاية في كل

٢٧٠

شيء ولا قيمة لسواه ، فتكبر الأشياء لديه إذا ارتبطت بالله ، وتصغر الأمور عنده إذا انفصلت عن الله ، وتتلوّن حياته بهذا اللون السماويّ المشبع بالصفاء ، فلا معنى للحياة إلا إذا التقت بالله في مواقع الحياة.

وإذا كان الهدف هو ابتغاء وجه الله في عمق المحبة ، فإن الخوف منه قد يؤكّد الارتباط الروحي من جهة أخرى ، فهؤلاء الناس الذين يتمثلون في هذا النموذج الإنساني ، يتطلعون إلى اليوم الآخر في أهواله ومشاهده العابسة المرعبة ، فيدفعهم الخوف منه إلى الوقوف في خط المسؤولية ، فيقدّمون كل شيء لديهم من أجل أن يتخلصوا من عذاب الله في ذلك اليوم.

(إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) أي صعبا شديدا ، وذلك ما يريد الله أن يثيره في وعي الإنسان ، من أجل أن يربّي نفسه على الانضباط في الالتزام بأوامره ونواهيه ، على أساس التطلّع إلى يوم القيامة حيث يواجه نتائج عمله في عذاب الله ، وهذا هو الهاجس الذي عاشه هؤلاء الأبرار عند ما كانوا يطعمون الطعام وهم في أشد حالات الحاجة إليه ، طلبا لمرضاة الله ، واتّقاء لعذابه.

* * *

قصة الآية في حياة أهل البيت عليه‌السلام

وجاء في تفسير الكشاف ، عن ابن عباس «أن الحسن والحسين مرضا فعادهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ناس معه فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك ، فنذر عليّ وفاطمة ، وفضة ـ جارية لهما ـ إن برئا أن يصوموا ثلاثة أيام. فشفيا وما معهم شيء ، فاستقرض عليّ من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير ، فطحنت فاطمة صاعا واختبزت خمسة أقراص على

٢٧١

عددهم ، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا ، فوقف عليهم سائل فقال : السّلام عليكم أهل بيت محمد ، مسكين من مساكين المسلمين ، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة ، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء ، وأصبحوا صياما. فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم ، وقف عليهم يتيم فآثروه ، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك.

فلما أصبحوا أخذ علي رضي الله عنه بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع ، قال : ما أشدّ ما يسوءني ما أرى بكم. وقام فانطلق معهم ، فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها ، وغارت عيناها ، فساءه ذلك ، فنزل جبريل وقال : خذها يا محمد ، هنّاك الله في أهل بيتك ، فأقرأه السورة» (١).

هذا وقد أورد الرواية القمي في تفسيره بصيغة أخرى ، مرفوعة إلى أبيه عن عبد الله بن ميمون عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كان عند فاطمة عليه‌السلام شعير فجعلوه عصيدة (شعير يلتّ بالسمن ويطبخ) ، فلما أنضجوها ووضعوها بين أيديهم جاء مسكين فقال : مسكين رحمكم الله ، فقام علي عليه‌السلام فأعطاه ثلثا ، فلم يلبث أن جاء يتيم فقال يتيم رحمكم الله فقام علي عليه‌السلام ، فأعطاه الثلث ، ثم جاء أسير ، فقال : أسير رحمكم الله ، فأعطاه عليه‌السلام الثلث وما ذاقوها ، فأنزل الله سبحانه الآيات فيهم ، وهي جارية في كل مؤمن فعل ذلك اللهعزوجل(٢).

وفي مطلق الأحوال ، إذا كانت هذه الآيات قد نزلت بهذه المناسبة ، فإنها في الوقت الذي تدل فيه على فضل أهل البيت عليه‌السلام في تكريم الله لهم ،

__________________

(١) تفسير الكشاف : ج : ٤ ، ص : ١٩٧.

(٢) ذكرها صاحب الميزان نقلا عن تفسير القمي ، ج : ٢٠ ، ص : ١٤٦.

٢٧٢

فإنها لا تختص بهم في الإيحاء الأخلاقي العام للشخصية المسلمة التي تقدّم النموذج القدوة ، بل تنطلق لتتحرك في الخط الأخلاقي في كل زمان ومكان.

* * *

أجر العاملين لوجه الله يوم القيامة

(فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) أي حفظهم من كل أهوال يوم القيامة وعذاباته ، (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) فاستقبلهم بكل الحيوية الروحية التي تمنح وجوههم النضارة ، وقلوبهم الفرح والسرور ، في ما كانوا يتطلعون إليه من مشاهد النعيم ، (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا) بعد ما عانوه من الشدائد والآلام والمحن التي تحملوها بفعل مواقفهم الثابتة الصعبة في مواجهة التحديات المفروضة عليهم من الكفر والطغيان ، فتحملوا ذلك بالصبر الواعي المنفتح على الله ، صبر الإنسان الذي يعيش الفرح الروحي ، لأنه يتحمل ذلك بعين الله ، فكان جزاؤهم (جَنَّةً) تكفل لهم كل ألوان النعيم ، وتمنحهم كل أجواء السعادة ، وتطوف بهم في كل ما يشتهون ، (وَحَرِيراً) من اللباس الذي يوحي بمنتهى الرّقة والنعومة والجمال ، أو من الفراش الذي يتقلبون فيه وينامون عليه ، كعنوان للحياة الناعمة الرضيّة التي تقدّم إليهم في الجنة.

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) وهي الأسرّة ، أو الفرش فوق الأسرّة أو كل ما يتّكأ عليه ، مما يولد حالة من الاسترخاء المعبّر عن السعادة الروحية والراحة النفسية ، (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) فليس هناك ما يتأذون بحرّه أو ببرده ، بل هو الجوّ المعتدل الذي لا يثير إلا الرضى والانتعاض والطمأنينة الروحية والجسدية.

٢٧٣

(وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) بحيث تنبسط عليهم في رقّة وحنان ، كأنها تقترب إليهم لتمسح على رؤوسهم مسحة اللطف والعطف ، ولتضمّهم إلى أحضانها ، (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) بحيث إنها تقدّم نفسها إليهم ليقطفوا من ثمارها وفاكهتها ، فلا تكلفهم مشقة الصعود إليها للحصول عليها. (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا) أي أكواب زجاجية في صفاء الفضة ونقائها (قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً) بحيث تتناسب مع حاجتهم إليها ، فلا تزيد عن حجم الحاجة ولا تنقص عنها.

(وَيُسْقَوْنَ فِيها) أي في الجنة (كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) وهو ـ كما في مجمع البيان ـ : «ضرب من القرفة طيب الطعم يحذو اللسان ، ويربى بالعسل ، ويستدفع به المضارّ ، وإذا مزج به الشراب فاق في الإلذاذ ، والعرب تستطيب الزنجبيل جدا» (١). فوعدهم الله بذلك في الجنة بما هو أطيب وألذّ ككل الأشياء الموجودة في الجنة ، ممّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. (عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) والسلسبيل هو الشراب السهل اللذيذ الذي هو من هذه العين.

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) يتحركون في خدمة هؤلاء الأبرار في الجنة بما يريدونه من الطعام والشراب ، في أجمل صورة ، (إِذا رَأَيْتَهُمْ) في إشراقة جمالهم ، وصفاء ألوانهم (حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) في الإشراق والصفاء والجمال النقيّ البديع ، (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَ) وإذا رأيت هناك ما أعده الله لعباده المتقين من النعيم (رَأَيْتَ نَعِيماً) عظيما (وَمُلْكاً كَبِيراً) لا حدّ لقدره ، ولا زوال له لأنه النعيم والملك الخالد.

(عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ) وهو الديباج الرقيق الفاخر الحسن ، كما قيل.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١٠ ، ص : ٦٢٠.

٢٧٤

(وَإِسْتَبْرَقٌ) وهو الديباج الغليظ الذي له بريق ، (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) بما تعبّر عنه الفضة من شفافية وبياض وصفاء ، (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) كطهارة أرواحهم وأبدانهم وأعمالهم وقلوبهم ، فليس فيه شيء من القذر ، وليس فيه شيء من الخبث.

(إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) أي مكافأة على إيمانكم وعملكم الصالح وطاعتكم الخالصة ، (وَكانَ سَعْيُكُمْ) في الحصول على مرضاة الله (مَشْكُوراً) ، لأن الله يشكر لعباده ما يشكرونه به من خير وعمل صالح.

* * *

٢٧٥

الآيات

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٣١)

* * *

معاني المفردات

(بُكْرَةً) : البكرة : أوّل النّهار.

(وَأَصِيلاً) : الأصيل : العشيّ.

(وَشَدَدْنا) : الشدّ خلاف الفكّ.

٢٧٦

(أَسْرَهُمْ) : الأسر ـ في الأصل ـ : الشدّ والرّبط ، ويطلق على ما يشدّ ويربط به.

* * *

القرآن كتاب هداية والتزام

كان ذلك حديث الناس الذين انفعلوا بالرسالة والرسول إيجابا وسلبا ، وكيف كان مصيرهم في النتائج الحاسمة في موقفهم بين يدي الله ، وهذا هو الفصل الأخير من السورة الذي يتوجه به إلى الرسول في موقفه إزاء هؤلاء الذين واجهوا بالشدّة والتحدي والتمرّد على الرسالة والرسول ، لتكون نهاية المطاف مع المصير الذي ينتظر الناس يوم القيامة ، ويبقى للإنسان أن يتذكر مصيره دائما ، ليخرج من غفلته.

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) لتنذر به الناس ، ولتوجههم إلى السير في الصراط المستقيم الذي ينتهي بهم إلى الله ، فيسيروا وفق ما يشرّع لهم من النظام المتوازن الذي يجمع لهم الخير كله من خلال الحق كله. وفي ضوء ذلك ، لا بد لك من أن تبلّغه للناس كافّة ، ليعيشوا في رحاب فكره ، ويتحركوا في خط هداه ، ويغترفوا من ينابيع الخير فيه ، ويثيروا حركية منهجه في قضايا الإيمان ، ويؤكدوا التزامهم بآياته ، وتطبيقهم لأحكامه ، ليغيّروا الحياة على أساس عقائده ومفاهيمه وشرائعه ... ولا بد لك من أن تتحمل الكثير من المعاناة في سبيل ذلك ، لأنهم سوف يبادرون إلى توجيه مختلف الاتهامات التي يريدون من خلالها إحباط موقفك ، وإسقاط حركتك ، وربما عمدوا إلى إثارة مختلف ألوان الإغراء التي يخاطبون بها مشاعرك وتطلعاتك ، إذ يخيّل إليهم أنك سوف تخضع لذلك وللضغوط النفسية التي يضغطون بها على روحيتك وإحساسك كما يخضع الآخرون من الناس لأمثال ذلك ، الأمر الذي

٢٧٧

يفرض عليك أن تستنفر كل طاقاتك ، لتكون في مواقع القوّة التي تثبت أمام الهزاهز ، ولا تنحني أمام العواصف ، ولا تخضع للضغوط ، ولا تسقط أمام التحديات ، ولا تصرخ في مواقع الألم ، ولا تجزع في أوضاع البلاء ، وهذا ما يمثل معنى الصبر على الأذى وعلى الطاعة ، وعلى المعصية ، فإن الصبر هو أساس الإيمان كله.

* * *

فاصبر لحكم ربك

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) الذي كلّفك تبليغ الرسالة ، فتعرضت بسبب ذلك لأنواع البلاء ، (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) من الذين يريدون منك الرجوع عن أمر الرسالة ، ويعملون على إغرائك بالمال والسلطان ، أو يهددونك بالقتل أو التشريد ... وهذا ما يريده الله منك بصفتك الرسالية التي تمتد إلى كل الذين يلتزمون الإسلام كدين دعوة وانتماء ليصبروا كما تصبر ، وليتمردوا على القوى الظالمة والطاغية والكافرة والضالة والباغية ، كما تمرّدت ، لأن المسألة في تجربتك ليست مسألة شخص يواجه المشكلة الذاتية لتتجمد الآية في ذاتك فلا تتعداها إلى غيرك ، بل المسألة تتعلق بتجربتك الرسالية التي تشمل كل رسالي في ساحة الصراع.

* * *

واذكر اسم ربك واسجد له

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) فذلك هو الذي يجعلك تعيش حضور الله

٢٧٨

في وعيك الفكري والروحي ، لتتمثل وجوده في رقابته الإلهية عليك ، في حضوره في ساحتك العملية في أيّ موقع تختاره في ساحة الصراع ، وعند أيّ موقف ترفعه في مواقف التحدي ، وذلك هو الذي يمنحك القوّة عند ما تندفع قوة الآخرين إليك لتسقط روحك ، ولترهق أعصابك ، ولتضعف قوتك ، لأنك ـ من خلال ذكره ـ تستمد قوتك من قوته ، فلا تهاب أيّة قوّة أخرى ، لأنه يملأ شعورك الداخلي وإحساسك وروحيتك بكل قوة.

إن تحصين ذاتك في مواجهة التحديات والشدائد يفرض عليك أن تذكره صباحا عند ما تشرق الشمس بقدرته فتضيء الحياة كلها من حولك بنوره ، وأن تذكره عند الأصيل عند ما يطبق الظلام على الكون بإرادته ، فتنام الحياة في ظلال رحمته ، ليكون ذكر الله هو الذي يخرجك من الغفلة لتصحو على نداء مسئوليتك ، وهو الذي يدفعك إلى اليقظة لتتحرك في التزامك من موقع وضوح الرؤية في عقلك ووجدانك. إنه ذكر القلب والعقل واللسان ، والموقف العملي الذي يتوازن بين يديه.

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) فإن السجود هو آية الخضوع ، ورمز الإعلان عن العبودية لله ، بما يمثله من الذوبان الروحي في الله ، حتى كأن السجود في تعفير الجبهة التي هي رمز العنفوان ، بالتراب بين يدي الله ، يمثل سجود القلب في نبضاته ، واللسان في كلماته ، والحياة في كل مظاهرها العملية : في خضوعها له وانفعالها بأوامره ونواهيه ، (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) في ابتهالات الداعي ، وخشوع العابد ، وهمسات المحبّ التي تعبّر بكل أساليبها وكلماتها عن عظمته ، بما يوحيه التسبيح من ذلك ، ليمتد مع الليل الطويل الذي تشرق الروح في قلب ظلامه ، عند هدوء الأصوات ، وصفاء المشاعر. ولعل السرّ في السجود الذي يعبّر عن الصلاة في الليل ، وفي التسبيح الذي يعبر عن الدعاء والمناجاة في أجواء السحر ، هو أن الله يريد لعباده أن يكونوا مشدودين إليه

٢٧٩

دائما ، منفتحين عليه أبدا ، ليبقى ارتباطهم به أساسا للبقاء في مواقع طاعته وعبادته.

* * *

الله يذكّر عباده بخلقهم من العدم

(إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) هؤلاء الذين يرفضون الإيمان بك والالتزام برسالتك ، يستغرقون في الحبّ الدنيوي الذي يخلد إلى الأرض ، وينفعل لكل شهوات الحياة الدنيا ولذاتها ، فلا يفكرون في غيرها ، ولا يلتفتون إلى ما هو أبعد منها على صعيد الغيب الذي تؤكده الرسالات ، وينطلق منه الرسل ... ولذلك فإنهم يبتعدون عن كل شيء يربطهم بالله وباليوم الآخر ، (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ) أي خلف ظهورهم (يَوْماً ثَقِيلاً) فلا يعملون له ، ولا يستعدّون لمواقفه الصعبة ، بل يتصرفون معه تصرّف اللامبالاة.

(نَحْنُ خَلَقْناهُمْ) وكانوا عدما قبل ذلك ، فكان وجودهم بإرادتنا.

(وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) أي قوّتهم ، كناية عن كيانهم القويّ الشديد الذي يتماسك في كل مواقع الزلزال ، (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) لأن الذي خلقهم قادر أن يخلق مثلهم ، أو الأقوى منهم ، فلا يأخذهم الغرور ، ولا تأخذهم العزة بالإثم ، ليخيّل إليهم أن الله لا يستغني عنهم ، وأن الحياة لا تملك أن تفارقهم ، وأن الله لن يخلق مثلهم ، فالخلق كلهم فقراء إلى الله بكل معاني الفقر ، والله وحده هو الغني ، بكل معاني الغنى في الوجود.

* * *

٢٨٠