تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

الآيات

(كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) (٣٧)

* * *

معاني المفردات

(أَدْبَرَ) : إدبار الليل مقابل إقباله.

(أَسْفَرَ) : إسفار الصبح : انجلاؤه وانكشافه.

* * *

تجلّي العظمة الإلهية في المخلوقات

(كَلَّا) إنها كلمة الرفض التي تتكرر لمواجهة كل الأوهام التي تعيش في أذهان الناس في قضايا العقيدة والحياة ، لتقول لهم : ليس الأمر كما تتوهمون في خيالاتكم المرضيّة المعقّدة ، بل هو ما تفرضه الحقيقة على الواقع الوجداني الذي يعيش صفاء الفطرة في الإنسان ، لتتحول القناعة إلى قسم عظيم بالظاهرة الكونية التي تفرض نفسها على الكون كله ، وهي ظاهرة القمر الذي يريد الله للناس أن يتأمّلوا عظمته في شروقه وغروبه وخط سيره ، وفي تأثيره على الليل في نوره الهادىء الوديع الذي يلامس الجفون بما يشبه الأحلام ، وعلى كثير

٢٢١

من الأوضاع الكونية في الأرض ، ليكون القسم وسيلة من وسائل التفكير به وبالحقيقة التي يراد إثباتها. (وَالْقَمَرِ) أتراه كيف يفرض نفسه على الكون لتتعرف من خلال ذلك كيف تفرض هذه الحقيقة نفسها على الواقع؟!

(وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) وولّى ليترك الأفق كله للنور القادم من قلب الشمس التي تطرد بشعاعها كل ظلام ، (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) وكشف عن وجهه المشرق الذي يتلألأ بكل حبّات الضوء التي تتساقط من الأفق ، كما يتساقط الندى على الزهور ، ثم ينهمر الضياء كالشلال عند ما يتدفق ، فيزداد الشروق حتى يغمر الكون ... إنها الحقيقة : حقيقة الضياء الذي يهزم الليل ، وحقيقة الصبح الذي يحدّق بالكون في كل مواقعه حتى لا تبقى هناك أيّة زاوية لم يشرق فيها النور ، وهكذا هي الحقيقة الدينية التي تشرق في الروح والقلب والضمير ، ليكون القسم بمواقع النور إيذانا بالنور في الحقيقة.

* * *

إنها لإحدى الكبر

(إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) إنها سقر التي تفرض نفسها على الكافرين في جهنم ، إنها إحدى العظائم الكبيرة التي لا يتحملها أحد.

(نَذِيراً لِلْبَشَرِ) الذين تهتز أعماقهم بكل تهاويل الخوف الذي يثيره الله فيها لتفكر في الأمر بكل جدّية ، وتراقب الموقف بكل مسئولية ، لتبقي هؤلاء البشر مع ربّهم ، في ما أمرهم به ونهاهم عنه.

(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) لينطلق في خط التقدم في طاعة الله الذي يدفع الإنسان إلى الأمام ليصل به الطريق إلى الجنة ، أو في خط التأخر في معصية الله الذي يرجع به القهقرى إلى نار جهنم ، إنه الإنذار الصارخ الأخير الذي لا بد للإنسان من أن يواجهه بكل إرادة المسؤولية في ذاته.

* * *

٢٢٢

الآيات

(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ(٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) (٥٦)

* * *

معاني المفردات

(أَصْحابَ الْيَمِينِ) : هم الذين يؤتون كتابهم بأيمانهم يوم الحساب.

(سَلَكَكُمْ) : أدخلكم.

٢٢٣

(نَخُوضُ) : الخوض : الاشتغال بالباطل قولا أو فعلا والغور فيه.

(بِيَوْمِ الدِّينِ) : يوم الجزاء.

(حُمُرٌ) : جمع حمار ، والمراد : الحمر الوحشية.

(مُسْتَنْفِرَةٌ) : الاستنفار بمعنى النفر.

(قَسْوَرَةٍ) : القسورة : الأسد والصائد ، وقد فسر بكل من المعنيين.

(صُحُفاً مُنَشَّرَةً) : المراد هنا : الكتاب السماوي المشتمل على الدعوة الحقة.

(تَذْكِرَةٌ) : موعظة.

(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) : اتّعظ به.

* * *

كل نفس بما كسبت رهينة

(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) هذه هي المعادلة الإنسانية في حساب الله ، فقد جعل الله الإنسان يساوي عمله ، وجعل العمل عنوانا للمصير المحتوم في الدار الآخرة ، مما يجعل الإنسان مرهونا بعمله ، محبوسا في دائرته ، فإذا كان عمله خيرا وطاعة ، أطلقه الله لينطلق بكل حريته الروحية إلى جنات النعيم ، وإذا كان عمله شرّا ومعصية اشتد حبسه في دائرة الضيق والضنك ، ليدخل إلى سجن جهنّم الذي لن يخرج منه أبدا.

ولكنّ هناك جماعة من الناس قد أخلصت لله حتى عاشت الصفاء

٢٢٤

الروحي والاستقامة العملية في الآفاق الكبيرة المنفتحة على الله في رحاب رحمته ورضوانه ، وهم أصحاب اليمين الذين يتميّزون عن الناس بعمق العقيدة وامتداد العمل ، وإخلاص الروح لله ، وهؤلاء هم الذين أطلقهم الله من الارتهان ، لأنهم عاشوا مع الحرية بعد ما استطاعوا تحرير إرادتهم من الخضوع للشيطان ، ولهذا كانوا في دائرة الاستثناء.

(إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) الذين أخذوا مواقعهم في الدرجات العليا في الحياة ، وأعطاهم الله الموقع الذي يستطيعون من خلاله أن يوجهوا أسئلتهم للمجرمين الذين كانوا على علاقة بهم في الدنيا لقرابة أو صداقة أو جوار أو نحو ذلك ... وها هم (فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ* عَنِ الْمُجْرِمِينَ) الذين كانت حياتهم تجسيدا للجريمة بعد ممارستهم للمحرّمات التي تمثل الدائرة التي أراد الله لهم أن يخرجوا منها ، أو تركهم الواجبات التي أراد الله لهم أن يتحركوا في داخلها ، (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) ما هو السبب الذي أدى إلى هذه النتيجة ، وألقاكم في وادي جهنم؟!

* * *

أسباب دخول الناس إلى النار

(قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) في ما تمثله الصلاة من الصلة بالله ، والانفتاح عليه ، والعروج الروحي الذي يصعد الإنسان من خلالها إليه ، مما جعلنا بعيدين عن مواقع رحمته ، وقريبين من مواضع غضبه وسخطه.

(وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) فقد كان البخل هو الخلق الذي نتّصف به في مواجهتنا لحالات الحرمان التي يعيشها الناس ، فإذا رأينا مسكينا يعاني من الجوع والعطش والعري رفضنا إعانته ، وقلنا : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) [يس : ٤٧] ونحو ذلك مما يتعلق بالحالات الأخرى للحاجة ، الأمر الذي

٢٢٥

جعل قلوبنا فارغة من الرحمة ، مملوءة بالقسوة ، مغلقة عن كل المشاعر الإنسانية الحميمة ، وبعيدة عن كل معاني المسؤولية.

(وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) في وحول الأفكار والمواقف والكلمات غير المسؤولة ، فلم تكن عندنا قاعدة فكرية ننطلق منها لنحدد مواقفنا على أساسها ، ولم يكن لدينا منطلق للانتماء لنتعرف من خلاله على مواقعنا. وعلى ضوء ذلك ، كنّا نحدّق بالناس أين يتحركون لنتحرك معهم ، وكنا نلاحق الأوضاع كيف تتغير لنتغير معها ، وكانت أحاديث الناس التي تدور حول شخص ما ، أو جهة معينة ، هي الأحاديث التي ننفتح عليها ، ونندمج فيها ، ونتبنى كل أفكارها ، لنردّدها مع الذين يرددونها ، أو لنؤيدها مع الذين يؤيّدونها ، فليست المشكلة عندنا انسجامها مع الحقيقة ، بل المشكلة هي كيف ينظر الناس إليها ، وكيف يلتزمونها في الوجدان العام ، وهذا الذي جعلنا نخطئ من حيث لا يجوز لنا الخطأ ، ونظلم من لا يستحق الظلم ، ونحكم بالباطل من دون حجّة ، ونتنكّر للحق من دون أساس ، لأننا كنّا لا نعيش فكرنا بفعل ما ينتهي إليه العقل من نتائج ، ولا تتحرك مسئوليتنا بفعل ما تحدده المسؤولية لنا من مواقع ، بل كان الآخرون هم الذين يحدّدون لنا ذلك كله ، ولهذا فقدنا رضوان الله علينا ، لأن الله يرضى عن الذين يملكون الحجة من حيث يملكون حركة عقولهم ، ويواجهون القضايا من موقع المسؤولية الواعي ، بين يدي الله.

(وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) وهو يوم الجزاء الذي يقف فيه الناس جميعا للحساب ، ليحاسبهم الله على ما عملوه من خير وشرّ ، وكان لهذا التكذيب أثره في إبعادنا عن مراقبة أعمالنا وأقوالنا وعلاقاتنا في خط المسؤولية أمام الله ، بل كانت كل اهتماماتنا في مصالحنا الدنيوية وأهوائنا الذاتية ، لأننا كنا نعتبر الحياة التي نحياها نهاية المطاف ، فلم يكن لدينا أيّ مبرر للتفكير بما هو خارج الحياة ، مما يختزنه الغيب الذي لم يكن لنا سبيل إلى الإحساس به ، ولم تكن

٢٢٦

الرسالات التي جاء بها الرسل واردة في حسابنا كمصدر لمعرفة الحقيقة ، لأن نوازعنا الذاتية ، وتقاليدنا التاريخية ، كانت ترفض ذلك ، وهذا ما جعلنا نصل إلى الدار الآخرة من دون أيّة فرصة للخلاص.

(حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) وهو الموت الذي لا بد منه ، حيث انفتحت أمامنا كل الآفاق الغيبية الجديدة التي لا عهد لنا بها ، ووقفنا نحدّق بالمشاهد الخارقة للقيامة في مواقف الحساب بين يدي الله وفي نتائجه المتحركة بين الخير الذي يدفع بصاحبه إلى الجنة ، وبين الشرّ الذي يدفع بصاحبه إلى النار ... وهكذا كانت المفاجأة التي لم نحسب لها أيّ حساب ، ولم يكن لنا مجال للرجوع ، لأن الآخرة هي نهاية المطاف التي لا رجوع عنها.

* * *

الشفاعة لمن يرتضي الله

(فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) لأن الشفاعة تخضع للقواعد التي يضعها الله للناس الذين يرتضي شفاعتهم ليكرمهم بذلك في الآخرة من خلال حكمته ، فلا تتحرك الشفاعة إلا في أجواء الإيمان بالله وبالرسل وبالآخرة بما يستتبعه ذلك من قواعد لضبط القول والعمل على خط المسؤولية ، فكيف ينتفع بها هؤلاء الذين لا يصلّون ولا يزكّون ولا يؤمنون بالآخرة ، ويتحركون في المواقف من دون قاعدة.

(فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) ما هو السبب الذي يمنعهم من الإقبال على الحقائق الفكرية ، المتصلة بعقيدة التوحيد وباليوم الآخر ، من خلال الآيات القرآنية التي بلّغها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لتفتح عقولهم على آفاق الحق ، ليتذكروا وليفكروا ، ليتعرفوا على عمق الفكر الذي يقودهم إلى سلامة المصير؟!

إنه السؤال الذي يطرح نفسه على كل واقع الغفلة المطبقة على عقول

٢٢٧

الناس الذين يرفضون أيّة تذكرة تنقذهم منها. هل هي الألفة التي عاشوها في داخلهم لعقائدهم الضالّة ، فلا يطيقون الابتعاد عنها ، أو هي الامتيازات الذاتية أو الطبقية التي حصلوا عليها في مواقعهم الاجتماعية ، فيخافون من زوالها إذا انفتحوا على الإيمان بالله ، أو هي حالة التخلّف الفكري والانحطاط الروحي اللذين يمنعانهم من الدخول في حالة الوعي الجديدة ، المنفتحة على المسؤولية الفكرية والروحية في مضمون الرسالة الجديدة ، فلا يجدون أمامهم إلا النوافذ المغلقة.

إنها مشكلة الإنسان البعيد عن الحق في كل زمان ومكان.

* * *

فرار المشركين من الهدى

(كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) أرأيت الحمر الوحشية التي تعيش حالة الاستنفار والذعر التي تدفعها إلى الهرب ، (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) وهو الأسد الذي يلاحقها ليفترسها. إن حالة المشركين شبيهة بحال هؤلاء في فرارهم من الرسول وهو يدعوهم إلى الهدى ، إذ يخيل إليهم أنه يهجم عليهم ليفترس أفكارهم الضالّة ، وتقاليدهم البالية ، فيهربون من بين يديه ، خوفا من أن ينفذ إلى قناعاتهم فينزع عنها كل تلك الأغشية الجاهلية التي كانت تحجب نور الحقيقة عنهم.

(بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) أي أن المسألة قد لا تكون مسألة غفلة أو خوف ونفرة ، بل هي حالة الاستكبار الذي يعيشونه في شخصياتهم ، فيخيّل إليهم أن مستواهم ليس هو مستوى الناس الذين يرسل الله إليهم رسولا لا يملك المستوى الذي يملكونه في الوسط الاجتماعي ، بل لا بد من أن ينزل الله على كل واحد منهم كتابا سماويا خاصا به ليتناسب ذلك مع طموحاتهم الذاتية.

٢٢٨

وقد لا تكون هذه الطروحات حقيقة في ما يفكرون به ، بل قد تكون مسألة تحدّ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ما يدعوهم إليه ، ليعطّلوا عليه حركة الدعوة في مجتمعاتهم ، لأنهم يعرفون أنه لا يستجيب لهم في ذلك لأنه طلب غير معقول وغير واقعي ، لأن قضية الرسالة ليست عبثا يخضع للتمنيات ، ولكنها حاجة واقعية تنبعث من إرادة الله المنطلقة من الحكمة الإلهية في إرسال رسله وإنزال رسالاته.

* * *

لا يخافون الآخرة

(كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) إنه الرفض لكل كلماتهم ، لأن المسألة في طلبهم هذا ، إذا كانت مسألة البرهان الذي يثبت حقيقة الرسالة ، فإن الرسالة التي جاء بها الرسول تملك الكثير من البيّنات على ذلك ، لكنهم ليسوا جادين في طلبهم ، بل المسألة أنهم لا يحسبون حسابا للآخرة وما فيها من أهوال وآلام وعقوبات وإلا لدفعهم الخوف من الآخرة إلى مواجهة المسؤولية الرسالية من موقع الحوار الهادىء القائم على التفكير والتأمل الهادىء.

* * *

ما القرآن إلا تذكرة

(كَلَّا) فلا قيمة لهم ، ولن يستجيب الله لاقتراحاتهم ، (إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) فهذا القرآن أنزله الله ليكون تذكرة تكشف الحقيقة ، وترشد إلى المنهج السليم للوصول إليها عبر صنع الوجدان الفكري والروحي للإنسان (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ).

وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) لأن للذكرى أسبابها الداخلية في عمق النفس

٢٢٩

الإنسانية ، والخارجية في الظروف المحيطة بها ، وذلك من خلال القوانين التي أودعها الله في الطبيعة الإنسانية وما يتصل بها من أوضاع وأحداث ، وهي من الأمور الخاضعة لتقدير الله من جهة هذا الرابط بين فعل الإنسان وإرادة الله.

(هُوَ أَهْلُ التَّقْوى) الذي ينبغي أن يتّقى في ما يراقب الإنسان فيه نفسه ، (وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) في ما يتعلق به الإنسان من مغفرته للذنوب التي جناها على نفسه ، مما يوحي بالولاية الإلهية المهيمنة على الإنسان كله في خط الهداية وفي خط المغفرة.

* * *

٢٣٠

سورة القيامة

مكيّة

وآياتها أربعون

٢٣١
٢٣٢

في أجواء السورة

وهذه السورة من السور المكية التي كانت تعالج مسألة الإيمان في المجتمع الجاهلي الذي استغرق في الجانب المادي حتى حوّل المادة إلى إله ، وعدّد نماذجها ليعدّد الآلهة من خلال ذلك ، وأغلق كل نوافذ النفس عن مشارق النور ، فلم يسمح لعلامات الاستفهام أن تتحرك لمواجهة الحقيقة ، ولم يوح للفكر بأيّة فرصة لنقد الواقع الذاتي والموضوعي ، فلا انفتح على أفكار القيامة في اليوم الآخر ، ولا على النفس الإنسانية في نوازعها وهواجسها. إن هذه السورة التي نبّهت الإنسان إلى يوم القيامة ، طافت به في آفاق وجوده منذ أن كان نطفة حتى تحوّل إلى إنسان ينقسم في نوعيته إلى الذكر والأنثى ، ليؤكد له جدّية خلقه ، فلا يمكن لله أن يتركه سدى ، بل حمّله المسؤولية من خلال الكتاب الذي أنزله على رسله ، ومنه القرآن الذي أشارت السورة إلى أن الله يتكفل بجمعه وقرآنه ، ويسهّل على الناس معرفته وبيانه ، إذ ليس هناك مشكلة من هذه الجهة. ثم تثير السورة مسألة قدرة الله على إحياء الموتى من خلال قدرته على تنمية الحياة ، فالنطفة تتطور إلى علقة فإلى خلق سويّ ، وقدرته على

٢٣٣

تسوية أصابعه التي هي النموذج البارز في دقة القدرة في خطوطها المتشابكة الدقيقة التي تتقدم في طبيعتها الإبداعية وصعوبتها الوجودية على ما يستبعده الكافرون من جمع العظام ... وهكذا كان يوم القيامة يمثّل حقيقة كونية إيمانية سوف يواجهها الإنسان عند تغير المشاهد الكونية التي تقلب الأوضاع رأسا على عقب ، مما تجعله يشعر بالحاجة إلى الفرار ، ولكن إلى أين؟ ليس هناك إلّا الله الذي يقف الإنسان أمامه غدا ليعرّفه ما قدّمه وأخّره.

ويأتي دور النفس اللوّامة في حركة الإنسان في الحياة لتقوم معه بعملية نقديّة لكل أعماله وأقواله وأوضاعه وعلاقاته ، ليتوازن في دنياه ، وليعرف نفسه ، وليكون على بصيرة من أمره ، فهو الذي يعرف نقاط ضعفه أكثر مما يعرفها الآخرون ، بعيدا عن الأعذار التي يحاول أن يغطّي بها ذلك.

وهكذا قامت هذه السورة بجولة متحركة في أكثر من موقع ، لكنها تمحورت حول الحديث عن يوم القيامة ، باعتبار أن هذا اليوم يمثل العنوان الكبير لكل مفردات الحياة الإنسانية التي يريد الله لها أن تكون متحركة في خط السلامة في الآخرة.

* * *

٢٣٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ(٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) (١٥)

* * *

معاني المفردات

(بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) : نفس المؤمن التي تلومه في الدنيا على المعصية.

(أَيَحْسَبُ) : الحسبان : الظن.

(بَنانَهُ) : البنان : الأصابع. وتسوية البنان : تصويرها على ما هي عليه من الصور.

٢٣٥

(لِيَفْجُرَ) : قال الراغب : الفجر شق الشيء شقا واسعا. قال : والفجور شق ستر الديانة ، يقال : فجر فجورا فهو فاجر وجمعه فجار وفجرة (١).

(بَرِقَ الْبَصَرُ) : بريق البصر : تحيّره في إبصاره ودهشته.

(وَخَسَفَ الْقَمَرُ) : خسوف القمر : زوال نوره.

(أَيْنَ الْمَفَرُّ) : أين موضع الفرار.

(وَزَرَ) : الوزر : الملجأ من جبل أو حصن أو غيرهما.

(بَصِيرَةٌ) : رؤية القلب والإدراك الباطني ، والمراد بالبصيرة : الحجة.

(مَعاذِيرَهُ) : المعاذير : جمع معذرة ، وهي ذكر موانع تقطع عن الفعل المطلوب.

* * *

لا أقسم بيوم القيامة .. ولا بالنفس اللوّامة

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) قيل : إن «لا» ردّ على الذين أنكروا البعث والنشور من المشركين فكأنه قال : لا ، كما تظنون ، ثم ابتدأ القسم فقال : أقسم بيوم القيامة أنكم مبعوثون ، ليكون فرقا بين اليمين التي تكون جحدا وبين اليمين المستأنفة ، وقيل : إنها زائدة ، وقيل : معناه لا أقسم بيوم القيامة لظهورها بالدلائل العقلية والسمعية ، وقيل : معناه لا أقسم بيوم القيامة فإنكم لا تقرّون بها ، ولعل أقرب الوجوه هو الوجه الثالث الذي يجعل من الكلمة إيحاء بالقسم على أساس أنه في مستوى القسم به ، ولكن لا ضرورة لذلك ، لأن الوضوح يوحي بأن الحقيقة لا تحتاج إلى تأكيد بالقسم ، فهي تفرض نفسها على الوجدان بشكل مباشر.

__________________

(١) الأصفهاني ، الراغب ، معجم مفردات ألفاظ القرآن ، دار الفكر ، ص : ٣٨٧.

٢٣٦

(وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) أي لا أحتاج إلى القسم بها ، مع أنها في مستوى القسم من خلال قيمتها في ميزان حركة الوجود الإنسانية في ارتفاعه إلى الأعلى ، باعتبار أنها تعمل على تخفيف الأثقال الروحية والأخلاقية التي تشدّ الإنسان إلى الأسفل ، لينطلق من موقع إنسانيته في حالات الصفاء الروحي الذي ينفتح به على الله ، وبذلك كانت تمثل قمّة النموذج الإنساني في أصالة التجربة الحيّة الواعية في حركة الحياة في داخله.

* * *

ما هو مفهوم النفس اللوّامة؟

ولكن ما هو مفهوم النفس اللوّامة؟

قيل المراد به النفس الإنسانية التي تعمّ النفس المؤمنة الصالحة والكافرة الفاجرة فإنها تلوم الإنسان يوم القيامة ، أمّا الكافرة فعلى كفره وجحوده ، وأمّا المؤمنة فعلى قلة الطاعة وعدم الاستكثار من الخير.

وقيل : هي النفس المؤمنة التي تلوم نفسها في الدنيا وتحاسبها فتقول : ماذا فعلت؟ ولم قصّرت؟ فتكون مفكرة في العواقب أبدا ، والفاجرة لا تفكر في أمر الآخرة ولا تفكر في العواقب.

ولعل هذا هو الوجه الأقرب ، لأن مسألة اللوم في يوم القيامة ، لا تمثل أيّ تأثير على مستوى حركية الإنسان في الارتفاع بموقفه إلى الأعلى ، فلا تكوّن قيمة في المعنى الإنساني الكبير ، لأنها لا تمارس إلّا حالة طبيعية ناشئة من الاصطدام بالواقع على أساس الخسارة ، أو على مستوى الربح القليل الذي كان من الممكن أن يكون كثيرا ، كما كان من الممكن أن لا تكون هناك خسارة. أمّا اللوم الذي يتابع كل أفكار الإنسان وكل أقواله وأفعاله وعلاقاته

٢٣٧

ليواجه الموقف بالتعديل والتغيير ، وليخفّف عن الإنسان كل أثقال السلبيات الأخلاقية ، وليدفعه إلى التوازن في الدنيا الذي يؤدي به إلى التوازن في المصير في الآخرة ... أمّا هذا اللوم ، فإنه يمثل القيمة التي تكون في مستوى القسم ، ولعلّ الحديث عن النفس اللوّامة في أجواء الحديث عن يوم القيامة ، يوحي بأن النفس اللوّامة هي التي تتعاطى مع مسألة يوم القيامة بالجدّية اللازمة التي تدفع بالاحتمال الفكري ـ في ما يثأر من قضايا الغيب ـ إلى الملاحقة الفكرية بالتأمّل والتدبّر والحوار ، لتصل من خلال ذلك كله إلى القناعات الواعية الثابتة القائمة على الدليل والبرهان ، لأن عمق اللوم على الغفلة وعلى التقصير ، لا يترك النفس سادرة في هواها وفي غفلتها ، ولا يقف بها في أجواء اللّامبالاة تجاه ما يثأر حولها من قضايا ، لا سيّما إذا كانت القضية تتصل بالمصير الأبديّ ، مما يجعلها في مستوى الأهمية الكبرى في مواقع الفكر والإيمان.

إنها الحقيقة التي لا مجال فيها لأيّ ريب أو استبعاد مما يمكن أن يثيره الناس في العقول على أساس ما درجوا عليه من خضوع الإيمان للحسّ المألوف لديهم ، ليقيسوا الأشياء غير المرئيّة ، على الأشياء المرئيّة ، فيكون عالم الغيب خاضعا لعالم الحسّ ، وهذا ما تعالجه الآيات التالية.

* * *

أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه؟

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) عند ما تتناثر وتتفرّق وتتحول إلى قطع صغيرة ، أو ذرّات دقيقة ضائعة في التراب؟ وهذا ما يدعوه إلى الإنكار الارتجاليّ السريع ، لصعوبة تصور جمع كل هذه القطع والأجزاء لتتحول إلى

٢٣٨

هيكل عظميّ متماسك ، ثم لتكتسي باللحم ، ثم لتدب فيها الحياة بعد أن تأخذ صورتها الإنسانية الطبيعية ، ولكن لماذا يجد الإنسان صعوبة في هذا التصوّر؟ ولماذا يسارع إلى الإنكار؟ فما عليه إلا أن يدقق في روعة الإبداع في خلق أعضاء جسده ، ليعرف أن الله القادر على أن يبدع ما هو أكثر خطورة ، وأشدّ صعوبة ، بحسب طبيعته ، قادر على خلق غيره ، لأنه الأسهل والأقل خطورة ... (بَلى) إن الله الخالق يؤكد القدرة على جمع عظامه لقدرته على ما هو أكبر من ذلك ... (قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ).

* * *

لماذا التركيز على البنان كمظهر للقدرة؟

وقد ذكر بعض المفسرين أن مسألة الحديث عن تسوية البنان ، كناية عن إعادة التكوين الإنساني بأدقّ ما فيه ، وإكماله بحيث لا تضيع منه بنان ولا تختل عن مكانها ، بل تسوّى تسوية لا ينقص معها عضو ، ولا شكل هذا العضو ، مهما صغر ودقّ (١).

ولكننا نلاحظ على هذا التفسير بأن استبعاد هذا الإنسان جمع العظام سوف يستتبعه استبعاد جمع الأشياء الدقيقة في نطاق إعادة التكوين الإنساني ، فتكون الآية الثانية مجرد تأكيد للموضوع الذي ينفيه الإنسان الكافر بالآخرة من دون إضافة أيّ دليل ، لتبقى المسألة في دائرة الإيحاء بالفكرة لا في دائرة الاستدلال عليها.

وهناك تفسير آخر وهو : «والمعنى : بلى نجمعها ، والحال أنّا قادرون

__________________

(١) قطب ، سيد ، في ظلال القرآن ، دار إحياء التراث العربي ، ط : ٥ ، ١٣٨٦ ه‍ ـ ١٩٦٧ م ، م : ٨ ، ص : ٣٨٠.

٢٣٩

على أن نصوّر بنانه على صورتها التي كانت عليها بحسب خلقنا الأول.

وتخصيص البنان بالذكر ـ لعله ـ للإشارة إلى عجيب خلقها بما لها من الصور وخصوصيات التركيب والعدد ، إذ تترتب عليها فوائد جمّة لا تكاد تحصى من أنواع القبض والبسط ، والأخذ والردّ ، وسائر الحركات اللطيفة والأعمال الدقيقة والصنائع الظريفة التي يمتاز بها الإنسان من سائر الحيوان ، مضافا إلى ما عليها من الهيئات والخطوط التي لا يزال ينكشف للإنسان منها سرّ بعد سرّ» (١).

ولعلّ هذا أقرب إلى طبيعة الجوّ الاستدلالي في الآية ، وقد يضاف إلى أسرار الإبداع في خلق البنان ، أنها تمثل في خطوطها الدقيقة دليل الشخصية ، لأن الناس يختلفون في بصمات أصابعهم ، بحيث لا يتفق واحد في ذلك مع الآخر ، مهما اقتربت علاقاتهم النسبية ، مما يجعل من معرفة طبيعة البصمة سبيلا لمعرفة صاحبها لاكتشاف مسئوليته عن الجريمة ونحوها من القضايا المتصلة بمسؤولية الناس في قضاياهم العامة والخاصة.

* * *

مشكلة الكافر أنه لا ينظر إلى الأمور نظرة بعيدة

ولكن مشكلة الإنسان الكافر ، أنه لا يركز عقله ، ولا يحرّكه في الاتجاه الصحيح الذي يكشف من خلاله الحقائق ، (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) ليحوّل امتداد عمره في ما يستقبله منه إلى حركة في الانحراف العقيدي الذي يمثل حالة من الفجور الفكري يمتد إلى الفجور العملي ، لأن الإنسان الذي لا يؤمن بالآخرة يشعر بالحرية المطلقة تجاه كل المعاصي التي يقوم بها ، لأنها لا تحمل أيّة مسئولية جزائية في مفهومه ، فلا تعود للقضايا الكبيرة معانيها في القيم

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٢٠ ، ص : ١١٤.

٢٤٠