تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

حجة على الرفض.

وقد تكون المسألة منطلقة من الحجة العقلية التي تتمثل بالفطرة في ما توحي به من الإيمان بالله وبتوحيده ، ومن الانفتاح على مراقبته في ما تفرضه من مواقع رضاه في السلوك الذي تدفع إليه الفطرة التي هي بمثابة الرسول الباطني.

وقد نستطيع استيحاء وجود حالة دينيّة في الواقع التاريخي السابق على رسالة نوح من قصة ابني آدم اللّذين (قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ* لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ* إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) [المائدة: ٢٧ ـ ٢٩] وهكذا نفهم من ذلك وجود مفهوم دينيّ واضح عن القربان المرفوع إلى الله ، وعن التقوى وعن السلوك الأخلاقي الذي يدفع إلى رضى الله ، في مقابل السلوك غير الأخلاقي الذي يدفع إلى سخطه وإلى دخول النار. ولا بد من أن يكون هذا المفهوم ممتدّا في مستقبل الناس بعد ذلك ، في ما يمثله الوجدان الديني من حالة عامة في المجتمع آنذاك ، مما يجعل من الصعب زوالها واندثارها. وبذلك يمكن أن يكون هذا الوجدان قد تنامى بفعل إرسال الرسل الذين لم يقصص الله علينا تاريخهم ، مع ملاحظة مهمّة وهي أن الله لا بد من أن يقيم الحجة على عباده ، بإرسال الرسول قبل أن يعذبهم ، وذلك ما جاءت به الآية الكريمة في قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] وربما نستوحي وجود رسل غير نوح من قوله تعالى : (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ) [الفرقان : ٣٧] فإن الجمع يفرض ذلك وقد ورد الحديث عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام في ما رواه صاحب كتاب إكمال الدين وإتمام النعمة قال : كان بين آدم ونوح عشرة آباء كلهم أنبياء.

١٢١

وربما كان الإنذار بالعذاب باعتبار ما يأتي بعد إرسال نوح إليهم وإبلاغهم رسالة الله ليؤمنوا بها ، لأنهم سيواجهون العذاب عند الانحراف عنها.

أمّا اختصاص رسالته بقومه ، فقد يكون بلحاظ أنهم القاعدة الأولى التي تتحرك في داخلها الرسالة ، كما ورد التعبير بذلك عن كثير من الأنبياء أولى العزم الذين قيل إن رسالتهم تتعدّى محيطهم.

* * *

النذير المبين

(قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) في ما أرادني الله أن أحذّركم من عقابه الذي ينزل على الجاحدين بربوبيته وتوحيده ، المنحرفين عن عبادته ، وذلك من خلال الحجة الواضحة التي لا غموض فيها ولا ضعف في دليلها ، (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) في ما تمثله العبادة من الخضوع لله في كل شيء بحيث تكون الحياة كلها في وجودكم العملي خاضعة له ، منقادة لإرادته ، (وَاتَّقُوهُ) في ما تمثله التقوى من الحالة العقلية التي تراقب الله كحقيقة تفرض نفسها على الجانب العقلي للإنسان ، ليكون ذلك أساسا للمراقبة المسؤولة التي تقود إلى السلوك المسؤول ، وفي ما تثيره من الحالة الشعورية التي تزحف إلى وجدان الإنسان وشعوره فتهزّ الإحساس بالخوف الشعوري من الله ومن عقابه ، حتى يتحوّل ذلك إلى موقف للطاعة في حركة الإنسان في الالتزام العملي.

(وَأَطِيعُونِ) باعتبار أنه الرسول القائد الذي يقود خطاهم إلى الخط المستقيم ، في ما يمكن أن يبلّغه من الأوامر والنواهي التي أراد الله له أن يبلغهم إيّاها ، وفي ما يمكن أن يحرّك أوضاعهم التفصيلية في مجال التطبيق

١٢٢

للنظرية في تفصيلات الحياة وجزئياتها ، وفي ما تتحرك به القيادة من تدريب الناس على طريقة احتواء النظرية العامة في الحياة الواقعية ، (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) التي بدأتموها بالكفر ، وحركتموها في أوضاع التمرد والجريمة في سلوككم العملي المنحرف عن الخط الصحيح. فإن الإيمان السائر على خط العمل يهيئ للغفران الإلهي الذي يناله المؤمنون بالله العاملون في خط طاعته ، فلا يبقى للماضي الأسود أيّ تأثير على مصيرهم المستقبلي في رحمة الله ، (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) فلا يستأصلكم بعذابه بل يمهلكم إلى الأجل الطبيعي الموعود المحدّد لكم في وجودكم الخاص ، (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) فهو الذي حدّده في عملية تحديد جزئيات الوجود.

ويمكن أن يكون المراد بالأجل يوم القيامة الذي سوف يأتي بحتميته في وقته الحاسم الذي لا مجال لتخلّفه وتأخره ، (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) بالحقائق النهائية الحاسمة التي لا يمكن أن تنحرف عن دائرتها الواقعة في حركة الوجود المنطلق من إرادة الله.

* * *

النبي نوح يقدم تقريره النهائي إلى الله

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) فلم تشغلني أوضاع النهار ومشاغله عن الدعوة إليك ، كما لم يبعدني الليل في راحته الاسترخائية التي تدفع إلى النوم عن ذلك ، لأنني أعتبر مسألة الرسالة مسألة حيويّة تفرض على الرسول أن يتابع إبلاغها وتحريكها في حياة الناس ، لحظة بلحظة ، من خلال مراقبته للأوضاع التي يعيشونها في نقاط ضعفهم وقوّتهم ، ليستفيد من أيّة حالة عميقة أو طارئة ، في سبيل الوصول إلى قناعات الناس الفكرية والروحية التي تتغير وتتبدل ، تبعا لما يحيط بهم من أوضاع ، ولما تحفل به حياتهم من متغيّرات ، لأن الإنسان قد

١٢٣

يقتنع في الصباح على أساس بعض الأوضاع النفسية أو بعض الأحداث الطارئة بما لا يتأثر به في المساء ، باعتبار اختلاف الأوضاع والأحداث ، مما يجعل الرسول أو الداعية في حالة ملاحقة دائمة ورصد دقيق لحركة الناس اليومية ، فلعلّ ذلك الإصرار على التبليغ في مدار الساعة يحقق شيئا من التقدم في قناعاتهم. ولكنّ قوم نوح كانوا بعيدين عن ذلك ، لأنهم قرروا الرفض الحاسم للرسالة وللرسول ، فأغلقوا آذانهم عن السماع ، وعقولهم عن التفكير ، وألسنتهم عن الحوار. وهذا ما عبر عنه نوح في تقريره الرسالي إلى ربه : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) من الحقيقة الدامغة التي تفرض نفسها عليهم ، وتنفذ إلى عقولهم ، وتنساب في مشاعرهم ، وتطبق على وجودهم ، فيفرون منها كما لو كان هناك خطر كبير يتهدّدهم ليخرجهم من واقعهم الذي اعتادوا عليه ، ويربك عاداتهم وتقاليدهم التي ورثوها من أجدادهم ، ولذلك فإن الرسول الماثل أمامهم يمثل الرمز لهذا الخطر ، فيفرون منه وهو الضعيف بينهم في نظرهم ، كما لو كان يريد الإطباق عليهم لافتراسهم.

(وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ) بدعوتهم للسير في خط الهدى بالتزام الإيمان بالله (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) خوفا من أن تنفذ كلمات الرسالة إلى أسماعهم ، فتمتد في عقولهم ، وتأخذ عليهم قناعاتهم ، فيتصورونها كما لو كانت مطارق صاخبة تثير الضجيج الشديد في آذانهم ، فيغلقون آذانهم عنها (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) فغطوا وجوههم بثيابهم ليتفادوا رؤية الرسول الذي يجسّد لهم الخطر القادم من الرسالة ضد الواقع الذي يحرسونه بكل وجودهم ، (وَأَصَرُّوا) على الكفر والضلال ، (وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) في ما توحيه إليهم أوضاعهم المالية والاجتماعية من الكبرياء التي تجعلهم يستعلون على من حولهم من الناس الضعفاء الذين لا يملكون مالا ولا موقعا اجتماعيا متقدما بين الناس ، فيقودهم الاستكبار إلى رفض الأفكار الرسالية التي توحّد بين الناس وتساوي بينهم في إنسانيتهم ، وتلغي الفروق الطبقية فيما بينهم ، لا سيّما

١٢٤

إذا كان الذين يحملون هذه الرسالة من المستضعفين الذين هم أدنى الناس في الطبقة الاجتماعية ، أو كان رسولهم من بين هذه الجماعة. وهكذا نرى أن القرآن يتحدث عن الكافرين في كفرهم ليوحي بأن الاستكبار لما يمثّل من عقدة ذاتية لدى المستكبرين هو المسؤول في كثير من الحالات عن كفر الكافرين ، لأن الحالة النفسية قد تترك تأثيراتها الضاغطة على واقع الناس الفكري والعملي ، باعتبار أن الإنسان يخضع في نشاطاته الداخلية والخارجية للعوامل النفسية المعقّدة.

(ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) بالصوت العالي المسموع الذي ينفذ إلى أسماعهم بقوّة ، (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ) بالطريقة العلنية التي تملك الوضوح في الحياة العامة بحيث لا تخفى على أحد (وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) بالطريقة السرية التي كانت تتم بالتشاور والتناجي مع جماعة معينين في دائرة اجتماعية ضيّقة من هؤلاء الذين يملكون التأثير على الناس التابعين لهم ، أو من الذين يخافون إعلان مواقفهم في ما كانوا يريدونه أو يدّعونه من مواقف ، فيطلبون أن يكون اللّقاء سرّيا حتى لا يفتضح أمرهم عند ما يريدون اتّباع الرسالة والعمل على تأييدها ، لئلا يكون لأحد حجّة في الامتناع عن الإيمان على أساس ظروفه الخاصة التي قد تلتقي بالحاجة إلى الإعلان تارة ، وإلى الإسرار أخرى.

* * *

كيف كان نوح يدعو قومه؟

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) فهو الإله الغفّار الذي يمنح عباده الفرصة للرجوع إليه ، ويدعوهم إلى الاستجابة له ، ليرجعوا إلى الحق الذي يكفل لهم رحمة الله ومغفرته ورضوانه ، لأن القضية ليست قضية كلمة تقال ،

١٢٥

بل هي قضية موقف ثابت حاسم ، والمقصود بالذنب الذي يدعوهم إلى الاستغفار منه ، هو الكفر أو الشرك وما يتفرع عنهما على صعيد الأعمال التي تبتعد عن مواقع رضى الله.

(يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) أي ينزل عليكم المطر الغزير من السحاب المرتفع في الفضاء الأعلى ، (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) لأنه مصدر الرزق كله ، ومصدر الخلق كله ، (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) في ما تمتد بها الخضرة الحافلة بألوان الزرع من فاكهة وثمار وعشب ونحو ذلك ، (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) تجري في الأرض من الينابيع التي أودعها الله في أعماقها أو من الثلوج التي جعلها الله في أعالي الجبال ، فتبدع الخصب والرخاء وتحيي الأرض بعد موتها.

* * *

العلاقة بين الإيمان وإنزال هذه النعم!

ولعلّ هذا الربط بين الإيمان الذي يعبّر عنه الاستغفار ، وبين إنزال الله هذه النعم التي تمثل حاجاتهم الحيوية العامة ، ناشئ من أنّ الإيمان الخالص يجعل الناس موضع رحمة الله في ما ينزله عليهم من ألطافه وفيوضاته ، مما قد يزيد من حجمها وامتدادها. كما أنّ الانحراف عن الله قد يجعل القضية في دائرة البلاء الذي قد يقلّل من نعم الله ، ويؤدي إلى فساد الواقع في حياة الإنسان ، وبذلك فإن نوحا عليه‌السلام ربما كان يريد أن يثير في نفوس قومه قيمة العلاقة بالله من موقع الإيمان به في حياة الناس العامة على مستوى النعم التي يحتاجونها. وربما كان الأساس في ذلك هو الإيحاء لهؤلاء الناس الكافرين بأن الله هو وحده المهيمن على الكون كله في ما يشتمل عليه من الظواهر المتصلة بالحياة الإنسانية ، ليرتبطوا به من موقع النعمة ، كما يرتبطون به من

١٢٦

موقع القدرة والعظمة ، وقد أشار القرآن الكريم إلى الجانب الإيجابي في هذا المجال بقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ٩٦] وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ* وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) [المائدة : ٦٥ ـ ٦٦] وقوله تعالى : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ* وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) [هود : ٢ ـ ٣].

أمّا في الجانب السلبي فقد جاء في قوله تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم : ٤١] وقوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠].

* * *

في خلقكم أطوارا سرّ عظمة القدرة الإلهية

(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) أي لا تأملون له توقيرا أي تعظيما ، وقد يبدو أن الرجاء هنا وارد على سبيل الكناية باعتبار ما يمثله الرجاء من محبة الشيء المرجوّ ، والالتزام به ، في ما يمثله من مواقع الالتزام. وبذلك يكون المقصود ـ والله العالم ـ ما لكم لا تلتزمون مواقع العظمة لله في ما تفرضه من توقير لمقامه بالإيمان بالله والالتزام بأوامره ونواهيه.

(وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) أي خلق كلّ واحد منكم تارات متنوّعة ، وذلك في ما تعبر عنه الأطوار الجنينية من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى الهيكل العظمي إلى الخلق الكامل ، أو في ما تعبر عنه مراحل النموّ الإنساني من الطفولة إلى الشباب ، إلى الشيخوخة.

١٢٧

وربما يكون المراد تعدّد الأطوار بتعدّد الأشخاص والجماعات في اختلاف ألوانهم وألسنتهم وأوضاعهم الجسدية المتنوّعة.

ولا بد لهذا التنوّع العجيب في خلق الإنسان من دلالات وجدانية فكرية على سرّ العظمة في القدرة الإلهية التي تخلق ما تخلق من دون مثال ، وتبدع الألوان والأوضاع والأحجام المختلفة من نطفة مماثلة لا تختلف أشكالها ولا طبيعتها ولا أحجامها ، فكيف انطلق التعدد من الوحدة؟

* * *

١٢٨

الآيات

(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً(١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) (٢٠)

* * *

معاني المفردات

(تَرَوْا) : هنا : يراد بها العلم ، لا النظر.

(طِباقاً) : إمّا من المطابقة ، أي : أن السماوات بعضها فوق بعض ، وإمّا يراد بها التطابق والتماثل.

(أَنْبَتَكُمْ) : أي أنبتكم إنبات النبات.

(سُبُلاً) : جمع سبيل بمعنى الطريق.

١٢٩

(فِجاجاً) : جمع فجّ ، بمعنى الطريق الواسعة ، وقيل : الطريق الواقعة بين جبلين.

* * *

نوح يحثّ قومه على التفكّر

ويتابع نوح حديثه مع قومه ، فيوجههم إلى التفكير في السماء وفي القمر والشمس ، وفي حياة الإنسان على الأرض ، وفي عودته إليها وخروجه منها ، وفي الأرض التي مهّدها ليسهّل على الإنسان سكناها ، وشقّ فيها السبل ليسهل عليه سلوكها ، ليزيد بذلك معرفتهم الكونيّة التي تفتح لهم آفاق المعرفة الإلهية في ما تؤدي إليه من الإيمان بالله والخضوع له.

(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) قد لا يراد من الرؤية هنا ما يصل إليه الإنسان بنفسه من طريق الحسّ أو من طريق العقل ، لأن ذلك لم يكن متوفرا لهؤلاء أو لمن بعدهم في تعدّد السماوات وفي تحديد عددها ، بل ربما يكون المراد تقرير هذه الحقيقة بالإيحاء بثباتها ووضوحها كما لو كانت شيئا حسنا ، في ما هو وضوح الرؤية الحسيّة ، أو كما لو كانت شيئا عقليا قاطعا في ما هي المعرفة العقلية الواضحة.

(وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) هادئا يختلط فيه الظلام من دون أن يثير في الأجواء عتمته ، ويبعث الحذر الوديع في المشاعر المتوترة ، ويثير الأحاسيس الحميمة بحبات النور الذي ينساب في الكيان حتى يحوّله إلى أحلام حلوة ساهمة ، (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) يبعث الدفء والإشراق في الكون ، وينفذ إلى كل موجود حيّ ليمنحه حرارة الحياة حتى لا يتعفّن في داخله أخلاطها من

١٣٠

خلال المؤثّرات السلبية التي تتأثر بها الأشياء الحيّة. وقد ذكر في الفرق بين التعبير عن القمر بالنور والشمس بالسراج ، أنه اختلاف كلمة الضياء التي توحي بها كلمة السراج عن النور الذي لم يبلغ قوة ضياء الشمس.

(وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) فمنها خلقتم ، من البذرة التي انطلقت عناصرها من الغذاء الذي يمتد بكل عناصره من التراب ، تماما كما هي البذرة التي تنمو فتتحول إلى خضرة وثمرة وفاكهة ، (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) بعد أن تموت الحياة في أجسادكم وتدفنون في داخلها وتتحلل أجزاؤها إلى تراب ، ثم تدبّ الحياة في التراب بقدرة الله التي أعطت التراب في البداية حيويّة التحول ، وسرّ النموّ ، فإذا بكم تعودون بشرا حيّا متحركا كما كنتم ، (وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) لتواجهوا الموقف النهائي الحاسم الذي تقفون فيه بين يدي الله في موقف الحساب ، حيث ينطلق كل التاريخ المضيء ليضيء لكم الطريق نحو الجنة وكل التاريخ المظلم ليقودكم إلى النار.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) تفترشونه في نومكم وراحتكم ، وفتحها لكم في الطريق التي تخترق الجبال والوهاد ، (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) أي واسعة ، لتصلوا من خلالها إلى ما تقصدونه من أهدافكم وغاياتكم في العيش في جميع جهاتها ، فلا يغلق عنكم موقع من مواقعها ، لتكون الأرض كلها تحت سيطرتكم وتصرفكم.

* * *

١٣١

الآيات

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً(٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً) (٢٤)

* * *

معاني المفردات

(كُبَّاراً) : اسم مبالغة من الكبير.

(وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) : خمسة من آلهة قوم نوح كان لهم موضع اهتمام خاصّ.

* * *

نوح يتحدّث عن دور المترفين في إضلال الناس

كيف كان ردّ فعل قوم نوح على كلماته الهادئة الهادية ، وما هي

١٣٢

المؤثرات السلبية التي كانت تترك تأثيراتها المضادة على موقفهم منه؟

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) وابتعدوا عن الاستجابة لكل المنطق العاقل المتّزن الذي كنت أثيره في عقولهم ، وعن الالتزام بكل النصائح التي أقدّمها لهم ، لأن مشكلتهم أنهم لا يملكون منطق العقل الذي يدفعهم إلى التفكير العميق ، أو لا يريدون تحريك هذا المنطق في حياتهم الفكرية أو العملية ، بل عملوا على تجميد حركة الوعي في وجدانهم ، كما أن مأساتهم هي أنهم لا يعيشون الجدّية التي هي قضية المسؤولية العملية في سلوكهم الأخلاقي في جميع المجالات ، بل كل ما لديهم هو أنهم يخضعون لسلطة المال فينبهرون بمظاهره وزخارفه وخيلاء أصحابه وكبريائهم ، كما يعتبرون كثرة الأولاد قيمة اجتماعية لدى هؤلاء الناس الذين يستغرقون في كثرة أموالهم وأولادهم حتى يضلّوا عن السبيل.

(وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) لأنه استغرق في ذلك حتى ضلّ عن معرفة الحقيقة التي تشرق في وجدان المنفتحين على الله وعلى النور القادم من وحيه.

وهكذا تطوّر الأمر به ، أي بالذي «لم يزده ماله وولده الا خسارا» إلى أن اجتذب المستضعفين من الفقراء والمحرومين ، أو من المنبهرين به من سائر الناس ، فمنعهم عن الاستجابة للرسالات السماوية التي تزرع القيمة الروحية في الحياة ، ليكون التفاضل بالعلم والعمل الصالح بعيدا عن كل الأمور المادية ، فتبعد الناس عن القيم الروحية التي تعمّق في الإنسان شعوره بإنسانيته ، وتدفع الجميع إلى المعاملة الإنسانية على صعيد العلاقات العامة.

* * *

١٣٣

مكروا ليضلّوا الناس

(وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) وبدأوا يخططون بكل ما لديهم من أساليب شيطانية للإجهاز على الرسالة وصاحبها ، وأثاروا الكثير من التهاويل حولها ، وامتدت الحيل والمؤامرات لتحاصر كل وجودها ، لأنهم شعروا بالمنطق الإيماني يمتدّ إلى عقول الناس البسطاء الطيبين ، فأرادوا بالمكر الكبير جدا أن يعطّلوا ذلك الامتداد ، ويبطلوا تأثيره على صعيد الواقع الجديد. وكان من تلك الأساليب محاولة الإثارة العاطفية التي تستثيرهم للدفاع عن أصنامهم التي ارتبطوا بها بوحي الألفة والعادة ، لأنهم عاشوا طفولتهم في رحاب عبادتهم إيّاها ، وخضوعهم لها ، (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) التي تمثل الآلهة الكبار التي هي في موقع الأهمية الكبيرة ، (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) وقيل : إن هذه الخمسة ظلت تعبد إلى عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن ودّا كان لقبيلة كلب ، وسواعا لهذيل ، ويغوث لغطيف ، ويعوق لهمدان ، ونسرا لحمير ، بالإضافة إلى ما استحدثوه من هبل واللّات ومناة والعزى.

وهكذا كان أسلوبهم العاطفي يستهدف الوقوف ضد الأسلوب التأمّلي الهادىء المتوازن الذي كان نوح يطرحه على هؤلاء لينطلقوا في أوضاعهم الفكرية والعملية ، في محاكمة عقليّة واعية ، من أجل تصحيح الخط المنحرف في حياتهم ، وتقويم العادات العوجاء في تاريخهم ، كما هي قضية الرسالات الإلهية التي تريد أن تقود الإنسان إلى مصيره من خلال مسئوليته عما يفكر ويعمل بعيدا عن تفكير الآخرين وسلوكهم ، لأن المسؤولية في دائرة الإيمان فردية (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤] ، ولا يكسب الإنسان عمل غيره ، إلّا من الناحية التي يمثل فيها مقدّمة لعمل الآخرين ، ولم تكن مشكلة نوح هؤلاء الرؤساء المترفين عند أنفسهم ، بل كانت المشكلة هي وقوفهم حجر

١٣٤

عثرة في طريق الدعوة.

(وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) من الناس بضلالهم ، فمنعوهم من الاستجابة للحق لمّا جاءهم ، فظلموا أنفسهم وظلموا الناس معهم ، مما جعل نوحا يدعو عليهم ربّه ، (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) أي هلاكا في ما تختزنه كلمة الضلال من معنى الهلاك بلحاظ ما تؤدي إليه ، وذلك قوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) [القمر : ٤٧].

* * *

١٣٥

الآيات

(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً) (٢٨)

* * *

معاني المفردات

(دَيَّاراً) : الدّيّار : نازل الدار.

(فاجِراً) : الفجور : الفسق الشنيع.

(كَفَّاراً) : الكفّار : المبالغ في الكفر.

(تَباراً) : التّبار : الهلاك.

* * *

١٣٦

إجابة الله دعاء نوح

واستجاب الله لنوح دعاءه ، فزادهم هلاكا بالطوفان الذي أغرقهم ولم يظلمهم ، لأنهم استحقّوا ذلك بالخطايا التي ارتكبوها.

(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) أي أنهم أغرقوا من خلال إصرارهم على الامتداد في طريق الخطيئة التي تحولت إلى طوفان أحاط بهم من جميع جوانبهم ، فهلكوا ووقفوا بين يدي الله للحساب ليواجهوا كل تاريخهم الكافر المتمرد على الله.

(فَأُدْخِلُوا ناراً) أعدّها الله للكافرين المعاندين ، (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) يخلّصونهم من عذاب الله ، في ذلك اليوم الذي (لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار : ١٩]. وقد ذكرت هذه الجملة عن طريق الاعتراض ، في داخل تقرير نوح الذي لم يستكمل بعد ، لمناسبتها للدعاء السابق عليها بالهلاك والدمار لهؤلاء القوم ، ثم تابعت السورة حكاية التقرير الرسالي الذي رفعه نوح إلى ربّه.

* * *

رب لا تذر من الكافرين ديّارا

(وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) أي شخصا حيّا يعيش في داره ليتحرك فيها في ساحة الحياة ، فلا بدّ من إهلاك كل الجيل القديم الذي تربّى على الكفر وأصرّ عليه واستغرق فيه ، حتى أصبح الكفر جزءا من ذاته ، لينشأ جيل جديد على الإيمان وتقوى الله من أجل أن يبني الحياة بناء قائما على الحق والخير والعدل.

ولم ينطلق نوح في هذا الدعاء المدمّر من عقدة نفسية مستحكمة في

١٣٧

داخله ، كما يفعل البعض من الناس عند ما يواجهون التحدي والتمرّد والعناد من الآخرين الذين يرتبطون بهم من خلال الدعوة ، أو من خلال أشياء أخرى ، بل انطلق من خلال دراسة طويلة شاملة عميقة ، استنفد فيها كل التجارب ، فلم يعد هناك أيّ أمل في هدايتهم ، بل أصبحت المسألة مسألة الخطر الذي يمثله وجود هؤلاء على الأجيال القادمة من أولادهم ، (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) بما يملكونه من وسائل الضغط من خلال امتيازاتهم القائمة على الكثرة العددية ، والقوّة المالية ، مما يجعل الناس مشدودين إليهم من موقع الحاجة والخوف ، فيخضعون لهم في انتماءاتهم لأنهم هم الذين يتولّون مهمّة تنشئة أولادهم على الكفر والفجور ، ويمنعون غيرهم من العمل على إرشادهم إلى الطريق المستقيم. وقيل : إن الرجل من قوم نوح كان ينطلق بابنه إليه ، ويقول له : احذر هذا ـ مشيرا إلى نوح ـ فإنه كذّاب ، وإنّ أبي أوصاني بمثل هذه الوصية ، فيموت الكبير وينشأ على ذلك الصغير.

ويختم نوح تقريره ، بالابتهال إلى الله والانقطاع إليه في طلب المغفرة منه لنفسه في ما يمكن أن يكون قد قصّر فيه من تبليغ الرسالة ، ولوالديه وللمؤمنين معه ، في ما توحي به كلمة المغفرة من الرضى والرحمة واللطف الإلهي الكبير.

(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً) من المجتمع الكافر الذي استطاع هؤلاء أن يتمردوا على قيمه وضغوطه فآمنوا من موقع القناعة العميقة.

(وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) الذين عانوا الكثير في خطّ الرسالة ، وثبتوا على الإيمان بالرغم من كل الضغوط الهائلة والإغراءات الكثيرة. (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) أي هلاكا. وينتهي التقرير الرساليّ ، ويسود الصمت في تاريخ نوح والمؤمنين معه بعد نهاية الطوفان ممّا لا يعلم سرّه إلا الله.

* * *

١٣٨

كيف نستوحي السورة؟

وتبقى للدعاة إلى الله ، العاملين في سبيله ، مسألة العبرة التي تفتح قلوبهم على مواقع الثبات على الحق ، وآفاق الحركة في ساحات الصراع والامتداد في التجربة إلى أبعد مدى ، حتى لا يبقى هناك أيّ مجال لتجربة جديدة ولأمل أخضر. فلا موقع لليأس في طريق العاملين المخلصين ، لأن مسألة الأمل ليست شيئا يأخذونه من زوايا الواقع المحدود الذي يحاصرهم في حدوده وحواجزه ، بل هي شيء يستمدّونه من إيمانهم بالله الذي يجعل للمتّقين المخرج حيث لا مخرج ، وللمحرومين الرزق من حيث لا يحتسبون ، وللمجاهدين النصر من حيث لا ينتظرون.

هذا بالإضافة إلى أن مسألة الدعوة ليست حالة ذاتية مزاجيّة لتخضع للنوازع النفسية والطوارئ العابرة ، بل هي حالة رسالية متصلة بالله ، في ما يستهدفه الإنسان من خلالها من رضى الله ، فلا مشكلة لديه إذا كان الله راضيا عنه ، حتى في أشد ساعات الشدة ، فهو الغاية في كل عمل ، والهدف الكبير في كل شيء.

* * *

١٣٩
١٤٠