الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٦

الخطاب القرآني ناسبا ذلك الإختصاص إلى اهل بيت القرآن وهم براء عن هذه النسبة الجاهلة (١) و «السكر اربع سكرات سكر الشراب وسكر المال وسكر النوم وسكر الملك» (٢) فأي سكر من هذه الأربع وسواها ، لا تعلم فيها ما تقول هي مانعة عن الصلاة (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) ، مهما كان المحرم ـ فقط ـ هو سكر الخمر واللهو.

ثم ترى (وَأَنْتُمْ سُكارى) تختص بسكر الخمر أم تختص بسواه ، أم تعم كل سكر؟ طليق «سكارى» وحتى (تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) يعم كل سكر لا يعلم صاحبه ما يقول.

فما على النعسان ولا له أن يصلي حتى يعلم ما يقول وكما عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف فلينم

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٤٨٣ في تفسير العياشي عن الحلبي قال : سألته عن قول الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ ...) قال : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى يعني سكر النوم ، يقول : وبكم نعاس يمنعكم أن تعلموا ما تقولون في ركوعكم وسجودكم وتكبيركم وليس كما يصف كثير من الناس يزعمون أن المؤمنين يسكرون من الشراب والمؤمن لا يشرب مسكرا ولا يسكر وفيه عن العلل بسند متصل عن زرارة عن أبي جعفر (عليهما السّلام) وذكر حديثا طويلا وفيه يقول : لا تقم إلى الصلاة متكاسلا ولا متناعسا ولا متثاقلا فإنها من خلال النفاق وقد نهى الله عز وجل المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة وهم سكارى يعني من النوم» وفي الكافي مثله عن أبي عبد الله (عليه السّلام).

وأقول : الصحيح «منه سكر النوم» كما سبق عن الباقر (عليه السّلام) فالرواية الحاصرة للسكر بغير الخمر أم بسكر النوم ، رواية خاسرة ساكرة تعارض طليق الآية ، والمفسرة له بسكر النوم تفسيره بالمصداق الخفي.

(٢) الدر المنثور ٢ : ١٦٥ ـ أخرج البخاري عن أنس قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ...

وفي نور الثقلين ١ : ٤٨٣ عن الفقيه روى زكريا النقاص عن أبي جعفر (عليهما السّلام) في الآية قال : «منه سكر النوم» أقول : إذا لا يعلم ما يقول فصلاته ممنوعة وإذا يعلم وهو كسلان ـ

٨١

حتى يعلم ما يقول» (١).

والقول ان ذلك الخطاب في سلبية الصلاة حالة السكر يقتضي تأخير الصلاة مع السكر وان انقضى وقتها الحاضر عن بكرته ، وفي ذلك إقرار على بلوغ السكر وهو دليل الرضا فلو لم تكن الحال هكذا لعقب سبحانه بالتعبير وأفصح بشديد النكير.

إنه مردود حيث المنع عن عمود الدين حالة السكر هو من شديد النكير على السكّير فإن الصلاة التي لا تترك بحال ليست لتترك إلا في أسوء الحال وهو السكر.

وليس ترك الصلاة للسكران لفقدان التكليف حالة السكر إذ قد تبقى حالة التكليف حيث تبقى معه مسكة العقل وصحته وثميلة الرأي وبقيته ، فهو يدرك الأمر والنهي مهما يتفلت عنه كلام لا يصح في الصلاة.

وأخرى يصبح كالمجنون ليس عليه تكليف ولكنه يؤخذ بالتكاليف التي يتركها حيث الامتناع بالاختيار لا ينافي الإختيار.

ثم هما يجتمعان في ذلك النهي ، موجها إليهما قبل السكر ، نهيا عن السكر الذي تحرم فيه الصلاة ، وقد تستفاد منها ضابطة التحريم لكل مقدمة تقدم المكلف الى ترك الواجب أو فعل الحرام أيا كان ، وتلحقها المقدمات التي تنقص الواجب كواجد الماء قبل الوقت إذا أتلفه دون ضرورة فاضطر إلى التيمم في الوقت.

ولأن (تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) درجات ، إذا ف «لا تعلمون ما تقولون» ايضا دركات ، وأدنى العلم بما تقول في الصلاة هو علم ألفاظ الصلاة مفروضة

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٦٥.

٨٢

ومندوبة عما سواها ، وأنحس دركات اللّاعلم أن يقلب في الصلاة آية الى ضدها ، ك «ليس لي دين وليس لكم دين» بديلا عن (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).

ذلك وإتيان الصلاة كسالى هو من شيمة المنافقين المترذلين معراج المؤمنين : (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) (٤ : ١٤٢) ـ (.. وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) (٩ : ٥٤).

فحالة الكسل في الصلاة حالة رديئة منافقة قد تبطلها كما في المنافقين ، وقد تقلل من ثوابها كما للمؤمنين المتساهلين بأمر الصلاة حين يعلمون ما يقولون ، وأما الكسل لحد لا يعلم الكسلان ما يقوله في الصلاة فهو في حد السكر الممنوع فيه الصلاة (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ).

وترى هذه الغاية لحظر صلاة السكارى تعني علم المعاني في ألفاظ الصلاة إضافة إلى علم الألفاظ؟ قد تعنيه لكمال الصلاة وليست لتعنيه في صحتها ، حيث الجاهلون لغة الصلاة وهم غير العرب غير المتعلمين العربية ، هؤلاء هم الأكثرية الساحقة من المصلين المسلمين ، وعلم القول في الصلاة يكفيه العلم بأقوال الصلاة واجبة وراجحة ، ولا يصدق على من يعلم قوله في الصلاة انه لا يعلم ما يقول ، ثم التعبير الصالح عن علم المعاني «حتى تعلموا معاني ما تقولون» وعلم القول غير العلم بالقول.

ثم وكثير هؤلاء الذين يعلمون اللغة العربية وهم متغافلون عما يقولون في الصلاة من معانيها فان أبدانهم والفاظهم في الصلاة وأفكارهم وقلوبهم خارجة عن الصلاة ، خاوية عن معاني الصلاة.

٨٣

فهل إن هاتين الكثرتين من المصلين صلواتهم باطلة فضلا عن أن تكون محرمة؟!.

(حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) لها درجات يكتفى بأقلها لصحة صورة الصلاة وهي علم أقوال الصلاة عما سواها ، فقد تصح الصلاة في سكر يعلم صاحبه ماذا يقول فيها ، حيث السكر الممنوع فيه الصلاة هو ما لا تعلم فيه ما تقول في الصلاة.

وهل إن السكر الممنوع فيه الصلاة حدث يبطل الطهارة المشروطة فيها؟

(حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) تجعل السكر الخاص مانعا مؤقتا عن الصلاة ، فلا يبطل الطهارة كسائر الأحداث ، فالطهارة ـ إذا ـ باقية وحدث السكر مانع مؤقت مغيّى ب (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) فإذا علمتم ما تقولون زال المانع فان بقيت الطهارة ـ إن كانت ـ فهي باقية للسماح في الصلاة.

وترى كيف جعلت الغاية لسماح الصلاة للسكارى ـ فقط ـ (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) وللصلاة نيات وفعلات ولا تختص واجباتها بالقولات؟

ذلك لأن علم القول قضيته بأحرى علم النية والفعل ، فإذا لا يعلم ما يقول فقد يعلم النية أو والفعلة ، ولكنه إذا يعلم ما يقول فبأحرى يعلم النية والفعلة.

وترى أن دخول المسجد كما الصلاة محظور على السكران حتى يعلم ما يقول؟ لعله نعم حيث يراد من الصلاة هنا هي المقامة في المسجد بدليل (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) ، ولعله لا حيث الحظر لا يخص الصلاة في المسجد ، ولا قول في المسجد مفروضا فيما سوى الصلاة حتى يغيّى ب (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) ، والأشبه منع دخول السكران في المسجد للصلاة وسواها إذ قد يقول فيه

٨٤

ما يهتك حرمة بيت الله وعباد الله ، وان المسجد هو ضمن المعني من الصلاة ملازمة شرعية وواقعية في حقل المتشرعين ، ولذلك استثني (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) فالحظر يعم الصلاة المقامة في المسجد وسواها ، وكذلك الدخول في المسجد لصلاة وسواها ، فإنهما محظوران للسكران حتى يعلم ما يقول ، وللجنب حتى يغتسل ، وحال السكران بالنسبة للمسجد أسوء إذ لا يجوز له عبوره كمقامه.

ثم وكيف ينهى السكران عن الصلاة حالة السكر وهو لا يعقل فلا يكلف بشيء؟

ذلك النهي له موردان أهمهما أن ينتبه المؤمن مدى المحظور في السكر فلا يسكر كيلا يمنع عن الصلاة فهو ـ إذا ـ منع عن شرب الخمر فالسكر ، ثم إذا سكر فقد يفهم أمر الله ونهيه إذ ليست به جنة تسقط التكليف ، ومن ثم إذا وصل السكر لحد الجنون فالنهي الموجه اليه يوجه إلى من يراه يصلي او يدخل المسجد كما في الذين لم يبلغوا الحلم : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ ...) بفارق أن واقع الحرمة ثابت على هكذا سكران مهما لا يعقل ، حيث الامتناع بالاختيار لا ينافي الإختيار.

(وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا).

«سبيل» هنا ـ دون ريب ـ هي سبيل المسجد وقد لمحت له «الصلاة» إذ لا سبيل للصلاة ولا عبور ، ولا تشرط الطهارة في عبور كل سبيل ، وعناية المسافرين من (عابِرِي سَبِيلٍ) مرفوضة حيث يذكر حكم المسافر والمريض دون فصل أنه التيمم ، ثم المسافر قد يجد الماء فلا يعم التيمم كل مسافر وكما لا يخص العذر به ، وصحيح العبارة عن المسافرين هي «المسافرين» نفسها دون (عابِرِي سَبِيلٍ) الشاملة لكل عبور.

إذا فهي سبيل امكنة الصلاة المخصصة لها وهي المساجد.

٨٥

وقد تكون هذه السبيل سبيلا للتعرف إلى مدى ملازمة الصلاة مع المسجد كما هي لزام الجماعة ، فالآيات الآمرة بالركوع مع الراكعين تفرض الفريضة في جماعة ، وهذه تلمح بلزوم الجماعة في المسجد ، فقد يعفى عن عبوره للجنب دون أي مكوث ولا تجوّل بلا عبور (حَتَّى تَغْتَسِلُوا).

وترى المتيمم حال عذره عن الاغتسال له المكوث في المساجد لأن التراب أحد الطهورين؟ كلّا حيث الغاية المسامحة له هي (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) دون : «تتطهروا».

فقد انحصر بنص الغاية هذه أن الجنب قبل اغتساله لا يدخل المسجد إلا عابرا دون فرق بين المتيمم عن الجنابة وسواه ، ولا تعني (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) في المائدة إلا واجب المصلي ، فالتراب أحد الطهورين هنا للصلاة لأنها فريضة لا تترك بحال ، لا ودخول المساجد لأنه ليس فريضة إلّا ضمن الصلاة ، وواجب الصلاة جماعة في المسجد من باب تعدد المطلوب ، والثابت من هذا المثلث هو الصلاة لآية المائدة ، دون المكوث في المسجد لآية النساء هذه وصحاح الروايات.

وعموم المنزلة للتيمم عن الطهارة المائية ـ إن كان ـ مخصّص بالآية في دخول المساجد (١) في التيمم بدلا عن الغسل ، اللهم إلّا المسجد الحرام لمن ضاق

__________________

(١) مثل صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليهما السّلام) قال قلنا له : الحائض والجنب يدخلان المسجد أم لا؟ قال : الحائض والجنب لا يدخلان المسجد إلا مجتازين ان الله تبارك وتعالى يقول : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) (الوسائل ب ١٥ من أبواب الجنابة ح ١٠) واما خبر محمد بن القاسم قال سألت أبا الحسن (عليه السّلام) عن الجنب ينام في المسجد فقال (عليه السّلام) يتوضأ ولا بأس أن ينام في المسجد ويمر فيه» (المصدر ح ١٨) فمحمول على حالة الضرورة.

٨٦

وقته لواجب الطواف وصلاته لمكان التعارض بين الواجبين : واجب الطواف وواجب الاغتسال عن الجنابة والمعذور عن الاغتسال لا يعذر عن الطواف بتيمم ولكنه يؤخر حتى يضيق الوقت والأحوط مع ذلك الجمع بين طوافه نفسه والاستنابة فيه

وقد يستثنى عن عبور السبيل المسجدان الأعظمان بدليل السنة (١) ولكن يشكل الفتوى بحظر المرور فيهما بخبر واحد ، وطليق الآية تسمح بعبور السبيل ، وقد كان جماعة من الأصحاب تفتح أبواب بيوتهم في مسجد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكيف يستثنى مسجد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والحال هذه ، وأنه أبرز المساجد في المدينة المنورة ، والأمر بالتيمم للجنب في الحرمين للخروج لأنه خارج عن (عابِرِي سَبِيلٍ) فخروج الماكث في المسجد كدخوله خارجان عن (عابِرِي سَبِيلٍ) (٢).

ذلك ، والأحوط استثناء العبور فيهما لحرمتهما الزائدة على سائر المساجد ، لحديث سد لأبواب الشارعة إلى المسجد.

__________________

(١) آيات الأحكام للجصاص ١ : ٢٤٨ روى سفيان بن حمزة عن كثير بن زيد عن المطلب ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يكن يأذن لأحد أن يمر في المسجد ولا يجلس فيه وهو جنب إلا علي بن أبي طالب (عليه السّلام) فإنه كان يدخله جنبا ويمر فيه لأن بيته كان في المسجد.

وفيه بسند متصل عن عائشة تقول : جاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال : وجهوا هذه البيوت عن المسجد ثم دخل ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل لهم رخصة فخرج إليهم بعد فقال : «وجهوا هذه البيوت فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب» أقول : لا أحل تعم الاجتياز في المسجد إلى الدخول.

(٢) كصحيحة أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليهما السّلام) قال : إذا كان الرجل نائما في المسجد الحرام أو مسجد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فاحتلم فأصابته جنابة فليتيمم ولا يمر في المسجد إلا متيمما ولا بأس أن يمر في سائر المساجد ولا يجلس في شيء من المساجد» (الوسائل ب ١٥ من الجنابة ح ٦).

وعن الكافي روايتها عن أبي حمزة بسند فيه رفع ولكنه زاد فيها «وكذلك الحائض إذا أصابها الحيض تفعل ذلك ولا بأس أن يمرا في سائر المساجد» (المصدر ح ٣).

٨٧

واما أخذ الجنب من المسجد دون عبور ووضعه فيه ، فلا فرق بينهما في محظور الدخول ، اللهم إلّا عند الاضطرار وعليه تحمل الصحيحة (١) الفارقة بينهما ولكن لا فرق في حالة الاضطرار بينهما.

ولا تختص (عابِرِي سَبِيلٍ) بحالة الاضطرار حيث الوقوف فيه مسموح دون فارق بينهما في الاضطرار ، كما ولا تختص بما إذا انحصر الطريق في عبور سبيل المسجد ، فما صدق (عابِرِي سَبِيلٍ) فهو مسموح ، فمن يدخل من بابه متجولا حوله ثم يخرج من نفس الباب هو متفرج وليس من (عابِرِي سَبِيلٍ) ومثله من يدخل من باب ويخرج من الباب التي بجنبها اللهم إلّا أن يصدق عليه عبور السبيل.

وحين يشك في صدق عبور السبيل وعدمه فالأصل الحرمة حيث المسموح فقط عبور السبيل لم يحرز.

ثم ان مورد التيمم هو فقط (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) لوضوء أو غسل وقد عددت موارده هنا وفي المائدة (إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ) الذي لا يوجد فيه ماء ، ثم الحدث الذي يتيمم بدلا عن الطهارة المائية (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ).

و (صَعِيداً طَيِّباً) هو المرتفع من الأرض المستطاب ، والقصد منه هو الطاهر الطيب.

__________________

(١) وهي صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم ـ إلى أن قال ـ : ويأخذان من المسجد ولا يضعان فيه شيئا قال زرارة قلت : فما بالهما يأخذان منه ولا يضعان فيه؟ قال : لأنهما لا يقدران على أخذ ما فيه إلا منه ويقدران على وضع ما بيدهما في غيره» (الوسائل ب ١٧ الجنابة ح ٢).

أقول : وقد يعكس الأمر انه لا يضطر إلى أخذ شيء منه وهو مضطر إلى وضع شيء فيه فلا يعم ـ

٨٨

(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً).

هنا الآخريان من الأربع حدثان أولاهما الأصغر وثانيتهما الأكبر ، فما هما الأوليان؟ إنهما المحدثون فقط ، حيث المتطهر لا يتحرى عن ماء لها حتى تشمله (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) ثم (أَوْ جاءَ ..) تعني من كان على طهارة ثم حدث له حدث ، وإنما اختص المحدث السابق بالذكر في (مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ) لأنهما الحالتان الغالبيتان لعدم وجدان الماء صحيا او واقعيا.

إذا (فَلَمْ تَجِدُوا) تعم كافة الأعذار عن الطهارة المائية ، صحيا او واقعيا أن لم يوجد عنده ماء ، أم شرعيا أنه عنده وهو معذور لمرض أو عدم إباحة الماء وعدم إمكانية الاشتراء او ضيق الوقت ، وهنا (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً) صاعدا على الأرض لأنه طاهر ، ثم «طيبا» تستطيبه الطباع ، فالطيب يشمل الطاهر حيث لا يستطيب المسلم النجس او المتنجس ، ثم صعيدا إشارة صارحة إلى شريطة الطهارة.

(فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) تعني بعض الوجوه وبعض الأيدي ـ لمكان الباء ـ المعروضة في الوضوء ، المبينة في السنة ، فمن الوجوه الجباه ومن الأيدي ظهور الأكف.

ثم «منه» في المائدة تزيد المسح بيانا أنه من أثر الضربة على الصعيد فلا بد أن يكون ترابا أو فيه أثر تتأثر به تأمل.

فهنا لا ريب أن (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) توطئة وجزاء ل (إِنْ كُنْتُمْ

__________________

ـ حكم الجواز الوضع دون الأخذ ، والاضطرار يستثنى عن حرمة الدخول وفي غير الاضطرار فنص الآية انه محرم.

٨٩

مَرْضى ..) وليس المرض والسفر من الأحداث فكيف ذكرا في صف الأحداث.

«كنتم» خطاب ـ فقط ـ للمحدثين فإنهم هم الذين يستوجدون ماء حتى إذا لم يجدوه فالتيمم ، وتخصيصها بالذكر بين المعذورين لأن المرض هو أصل العذر عن الطهارة المائية ثم السفر زمن النزول لعدم توفر الماء فيه ، ف (إِنْ كُنْتُمْ ..) تعني المحدثين المعذورين بمرض او سفر ثم (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) هم المتطهرون الذين يعرض لهم الحدث.

ف (جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) إشارة الى حدثي البول والغائط ومن خلالهما الريح ، فقد يخيل إلى الإنسان أنه بحاجة إلى تخلية ثم لا يجد إلا ريحا ، كما وأن حدثية الريح ـ اضافة إلى لمحة الآية ـ ثابتة بالسنة ، ومن ثم النوم مدلول على حدثيته بآية أخرى هي (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ..) ولم يذكر ما يحتاج الى التطهير إلّا تغشية النعاس.

وأما (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) فقد تدل ـ فقط ـ على الجماع لمكان المفاعلة دون لمستم ، ثم باقي أسباب الجنابة مطوية في (وَلا جُنُباً) حيث ثبت بالسنة أن إخراج المني حدث كبير يجنب ، سواء بالجماع ام سواه.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا

٩٠

وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٤٧) إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) (٤٨)

في هذه الآيات لفتات مؤنبة إلى المتخلفين من أهل الكتاب ، معارك يخوضها القرآن بالمؤمنين في مواجهة الجاهليات الشركية والكتابية ، معارك مع العساكر المعادية يجب أن يخوضها المؤمنون بهدي القرآن العظيم.

ولقد بنى القرآن المجتمع الإسلامي على الأسس الجديدة الإسلامية ما إن تمسكوا بها نجحوا في المعارك الخارجية ضد الأعداء الخارجيين.

فإلى خوض تلكم المعارك في الجبهات الخارجية بعد خوضنا معارك

٩١

الضمائر والمشاعر ونجحنا فيها على الأعداد الداخليين.

وليس التفوق الإيماني في هذه المعارك على الجاهليات تفوقا ـ فقط ـ بالسيف والنار ، بل ـ وفي الأصل ـ بالحجج الدامغة والخلق العالية السامقة ، والصمود المطلق المطبق أمام كل العراقيل المتربصة بهم دوائر السوء.

وقد اجتاحت القوة الإيمانية الإمبراطوريتين العظيمتين الإيراني والرومي ، بعد ما اجتاح الجاهلية في الجزيرة ، ومن ثم في سائر الأرض سواء أكان معها جيش وسيف مكافح أم كان معها مصحف وأذان.

أجل! إنها لم تكن غلبة عسكرية فحسب في ردح من الزمن ، بل وبأحرى غلبة عقيدية ثقافية سياسية خلقية اقتصادية وحتى في اللغة ، حيث أثرت لغة القرآن في امم آمنت به فغيرت لغاتها كمصر وسوريا او مزجت بلغاتها كما في إيران.

ونرى هذه الآيات تبدأ بسؤال التنديد الشديد عن موقف أهل الكتاب :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) (٤٤).

«الكتاب» هنا هو كتاب الوحي ككلّ حيث يجمعه القرآن دون إبقاء ، وما الكتب السابقة إلّا نماذج محدودة مؤقتة تعبّد الطريق لنزول (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).

ثم هؤلاء لم يؤتوا ـ بالفعل ـ إلّا نصيبا من وحي التوراة والإنجيل قضية الخلط بين وحي الأرض والسماء فيهما ، سواء فيما حرفوه من الكتاب أم ما حرفه سواهم (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) (٥ : ١٣).

٩٢

(أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) حال أنهم (يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ) وهي الآيات الدخيلة والمحرفة في الكتاب ، أم المؤولة بغير تأويلها ، ثم (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا) أنتم «السبيل» كما هم.

ومن اشتراءهم الضلالة بالهدى بقاءهم على ما هم عليه من شرعة منسوخة ولو لم تكن محرفة ، حيث الشرعة المنسوخة محظورة كما التخلف عن أصل الشرعة الربانية محظور.

ولقد كانت شرعة التوراة لهم هدى قبل القرآن ثم هي هدى لهم إلى شرعة القرآن ، وهم تركوا الهديين التوراتيين إلى الضلالة حيث ظلوا هودا وأضلوا كثيرا وهم أولاء (يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ)! طمسا لمعالم الهدى عن بكرتها حتى يعيشوا هم مع المهتدين في سواء الضلال وسوآته.

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) (٤٥).

هو أعلم منكم بأعداءكم فيعرّفكم إياهم لكي تتحذروهم (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا) لكم دون عباده ككل فضلا عن هؤلاء الأنكاد (وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) لكم عن بأسهم ، فهو الذي يلي أموركم وينصركم.

(مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (٤٦).

«من» هنا قد تعني كلا البيانية والتبعيضية ، بيانية عن (الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً) وتبعيضية بالنسبة ل (الَّذِينَ هادُوا) فليسوا كلهم هكذا ، فإنما هم بعضهم.

وتحريف الكلم عن مواضعه يعم كلام الله وكلام رسول الله وكلامهم معه

٩٣

(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فذلك الثالوث من التحريف كان دأبهم الدائب تدجيلا وتضليلا بذلك التحويل العليل ، وهي ظاهرة ملحوظة في رجّالات من رجالات الدين ، انحرافا عن الدين الحق واتخاذا لشرعة الله حرفة وصناعة يتجرون بها في متاجر الأهواء الساقطة والأجواء الماقتة ، ليّا في كثير من مظاهر الدين اعمالا وأقوالا وأحوالا.

فهم ينكسون ـ دوما ـ الكلام عن حقائقه ويزيلونه عن جهة صوابه ، حملا له على أهوائهم وعطفا على آرائهم.

ذلك كما وأن تحريف كلام الله كسائر الكلام يعم اللفظي إلى المعنوي تأويلا إلى غير تأويله ما وجدوا إليه سبيلا ، إذ يهدفون تغطية الحقايق عن أهلها كما يستطيعون ، ومن ضوابطهم في التحريف أن الغاية تبرر الوسيلة.

وقد يعم تحريفهم الكلم عن مواضعه ، تحريفا موضعيا لفظيا إلى تحريفه معنويا وإلى تغيير مواضع الألفاظ ادبيا ، ليغطوا في هذا الثالوث على الحقائق المعنية ، كما في كثير من البشارات المحمدية (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأحكام وقصص أمّاهيه.

في «راعنا» القائلة في اللغة العربية «انظرنا» كما في (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢ : ١٠٤) هؤلاء الأنكاد يحولونها (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ) فقد جمعوا هنا إلى تحريف اللفظ تحريف المعنى بذلك اللّي الخفي وقد فضحهم الله حيث نهى المؤمنين عن أن يقولوا «راعنا» كيلا يجد هؤلاء مدخلا منها إلى ليّهم وتحريفهم.

ف «راعنا» في العربية تعني «وأنظرنا» وهم حرفوها ليّا بألسنتهم الى ضدها في المعنى ، وذلك الطعن في الدين قد يناسب ليّ «راعنا» إلى ما يناسب ذلك الطعن ، والرعن في العبرانية هي الحمق ، إذا ف «رعنا» ليا في «راعنا»

٩٤

قد تعني : حمقا ، وذلك هو أطعن الطعن في الدين أن يكون الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (ـ وعوذا بالله ـ من الحمقاء!.

وقد يعني «راعنا» الملوية ـ إضافة الى ما عنت ـ «راعنا» من الرعونة أن «يا راعنا» مدللا فيما تدعيه من الرسالة ، أم ليّ المعنى ـ فقط ـ أن «ارعنا» سمعك فكن لنا أذنا ، وهم قد جمعوا بين لي اللفظ إلى ليّ المعنى ولي المعنى إلى غير ما يعنى!.

ففي ترك المؤمنين قول «راعنا» سد على ثغرة يهودية لئيمة وآخر على مجهلة إسلامية ، كيلا يخيل إلى المسلمين السذج أن «راعنا» من هؤلاء هي ك «راعنا» منهم كيف وهم قائلون (سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) مما يدل على تدجيلهم في «راعنا» ... (وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) العميق الحميق (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا) إيمانا «قليلا» و «إلا قليلا» منهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) (٤٧).

(أُوتُوا الْكِتابَ) تحريض على مراجعة الكتاب وجاه الشرعة الأخيرة ، ان لصاحب الشرعة الكتابية مسئولية ليست على الأميين ، و (آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) إنباء بأن نبأ هذه الشرعة الجديدة آت في كتابات السماء لو كانوا يعقلون.

فالقرآن يصدق مع البشارات المحمدية في كتابات السماء تجاوبا رائعا بين القرآن وبين هذه الكتب ، يصدق رسالات هذه الكتب ورسلها.

(آمِنُوا ... مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) كما انطمست

٩٥

وجوههم عن النظر إلى كتبهم المصدقة للقرآن ونبيه ، وإلى القرآن نفسه ، فإنه بينة مستقلة لصدق وحيه ، فالوجوه المطموسة المردودة على أدبارها هنا نفسيا تطمس بعد الموت وترد على ادبارها هناك واقعيا جزاء وفاقا.

(أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) : (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٧ : ١٦٦) (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) في الأولى والأخرى حيث الجزاء الوفاق هو العدل الحاسم القاصم.

ويلاهم كيف لا يؤمنون وهم أهل الكتاب ، ليست غريبا عنهم هذه الهدى الأخيرة المصدقة لما معهم ، فهم أقرب إلى الشرعة الكتابية من الأميين المشركين وقد آمن منهم كثير! ، فلا يصدهم أولاء عن إيمانهم وهو بأيمانهم إلا أحقاد طائفية وتصلّبات عنصرية أمّاهيه ، فلأنهم انطمست وجوههم عن الفطرة والعقلية الإنسانية والإيمانية بذات أيديهم ماشين على أدبارهم القهقري ، فقد (نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ ..) (١) : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٦ : ١١٠) وقلب وجوه الفطر والعقول والأفئدة والأبصار هو من خلفيات التقلبات المتخلفة عن الهدى ، المتردية الى الردى ، جزاء وفاقا في الدنيا وفي الآخرة عذاب عظيم.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٣٨٧ عن المجمع نطمسها عن الهدى فنردها على ادبارها في ضلالتها دما لها بأنها لا تفلح ابدا ، رواه أبو الجارود عن أبي جعفر (عليهما السلام) ، وعن جابر الجعفي عنه (عليه السّلام) في حديث طويل حول قيام القائم بحوادثه ـ إلى أن قال ـ : وينزل أمير جيش السفياني البيداء فينادي مناد من السماء يا بيداء أبيدي بالقوم فيخسف بهم فلا يفلت منهم إلا ثلاثة نفر يحول الله وجوههم إلى أقفيتهم وهم من كلب وفيهم نزلت هذه الاية (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً ..).

٩٦

ان لعنهم كاصحاب السبت ـ وهو أحد شقي العذاب ـ هو للأولى ، ولكن طمس وجوههم قد يعم النشأتين ، فهنا طمس لوجوه عقولهم على أدبارها حتى لا يعقلوا الحق وإن قصدوه كما الختم على القلوب ، وهناك إضافة لطمسها واقعيا كما انطمسوا هنا (١) ، وهذه هي حيلولة من الله بين المرء وقلبه ، تقليبا له عن إنسانيته ، ومطموسو الوجوه في الأخرى هم الذين يؤتون كتابهم وراء ظهورهم : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ. فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) (٨٤ : ١٠) فقد ينظر الى كتابه بوجهه المقلوب وراء ظهره حتى يقرء كتابه الذي أوتيه وراء ظهره ، وانقلاب وجه الإنساني إلى حيوانية الحياة هو ـ حقا ـ الرجعية اللعينة ، رجوعا إلى الأدبار ، إلى البوار والدمار : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) (٤٧ : ٢٥).

ومن طمس وجوه طمس وجوه من الكفرة اليهود وهم رؤوس الضلالة حيث يشملهم الذل والصغار وكما نراه في الضالين من علمائهم وكبارهم وكما حصل من ذي قبل في إجلاء قريظة والنضير إلى الشام فرد الله وجوههم على أدبارهم حين عادوا إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام كما جاء وامنها بدءا.

__________________

(١) في الدر المنثور ٢ : ١٦٨ ـ أخرج ابن أبي حاتم عن أبي إدريس الخولاني قال كان ابو مسلم الخليلي معلم كعب وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال بعثه لينظر أهو هو؟ قال كعب : حتى أتيت المدينة فإذا قال يقرأ القرآن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً ...) فبادرت الماء أغتسل واني لامس وجهي مخافة أن أطمس ثم أسلمت.

وفيه عن ابن عباس قال كلم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رؤوساء من أحبار يهود منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن أسد فقال لهم يا معشر يهود اتقوا الله واسلموا فو الله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق فقالوا : ما نعرف ذلك يا محمد فأنزل الله هذه الآية.

٩٧

ويؤيد هذا الوجه من الوجوه «أو نلعنهم» دون «نلعنها» و «هم» تعني إياهم أنفسهم ، لا ـ فقط ـ وجوههم ، والتنكر في «وجوها» دليل أن المقصود ليسوا هم كلهم ، وإنما «وجوههم» الوجهاء الرؤوس في حمل مشاعل الضلال والإضلال.

ومن طمسهم ما تأذن الله (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) (٧ : ١٦٧) وهم ملاحقون طول تاريخهم النحس النجس وحتى يقضى عليهم في مرتي إفسادهم العالميين.

وقد يجمع كل هذه المعاني أن الله يزيل تخاطيط هذه الوجوه ومعارفها ، تشبيها بالصحيفة المطموسة التي عميت سطورها وأشكلت حروفها ، طمسا عن معانيها المعنية فتصبح الوجوه كما الأدبار والأدبار كما الوجوه في معاكسة الكيان.

فلا يرد أن هذا الوعيد لم يتحقق على هؤلاء الكافرين من أهل الكتاب إذ نراهم طوال القرون الإسلامية مستمرين في كفرهم ولمّا تطمس وجوههم الظاهرة ردا على أدبارهم!.

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) (٤٨).

آية منقطعة النظير في سلبية الغفران عن الإشراك بأسره وإيجابيته لما دونه من الذنوب من المذنبين ، فهل إن طليق الكفر ـ حتى الإلحاد ـ هو دون الإشراك بالله حتى يحتمل الغفران؟ ومتى لا يغفر الإشراك وهو مغفور في حياة التكليف بأسرها اللهم إلا إيمانا عند رؤية البأس فيها ، اللهم إلّا إذا كان إيمانا صادقا كما في قوم يونس ، والإشراك بالله هنا قد يعنى فقط تألية من دون الله عبادة للأوثان والطواغيت كما في أخرى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً. إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ

٩٨

يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) (٤ : ١١٨).

ذلك بل وهكذا كل إشراك بالله في أي من شؤون الربوبية ما صدق (أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) كحق التشريع والتكوين الخاص بالله ، لمكان (أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الطليقة لكل إشراك ، دون «المشركين» الخاص في ظاهر التعبير بالرسميين منهم الوثنيين.

فسلبية غفر الإشراك بالله تعم كافة الطوائف مهما كانوا موحدين او كتابين ام مسلمين دون إبقاء ، فحتى الرئاء لا تغفر إذا لم يتب صاحبه ، فضلا عن سائر الإشراك الجلي بالله.

فالإشراك بالله ـ أيا كان ـ مانع عن الغفران لأنه انقطاع الصلة بين العبد وربه مهما كان دركات ، وكيف يشرك بالله ما سواه ودلائل التوحيد في الآفاق والأنفس ظاهرة وبراهينه باهرة؟ اللهم إلّا الإشراك الخفي قصورا مهما سببه التقصير ، فقد لا تشمله (فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً).

ثم و (لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ليس إلا على من مات مشركا (١) في اي من دركاته حيث الدعوة القرآنية كانت مركّزة على المشركين الأصلاء وهم الوثنيون مهما حلقت على كل من أشرك بالله وعلى أهل الكتاب ايضا والملحدين.

ولو أن المشرك هنا لا يغفر له بعد قبول التوحيد فتلك الدعوة المركزة ـ

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٦٩ ـ أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ما من عبد يموت لا يشرك بالله شيئا إلا حلت له المغفرة ان شاء غفر له وإن شاء عذبه ان الله استثنى فقال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) وفيه أخرج أبو يعلى عن أنس قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه له ومن وعده على عمل عقابا فهو بالخيار.

٩٩

كأصل ـ على المشركين تصبح قاحلة جاهلة ، فلا تعني سلبية الغفران إلّا بعد حياة التكليف.

فمن مات مشركا لا يرجى له غفرانه أبدا ، ومن مات موحدا فله رجاء الغفران ، ولا يحتّم الرجاء الغفران لأيّ كان ، وإنما «لمن يشاء» أن يغفر له حسب الرحمة والحكمة الربانية ، حسب الفاعليات والقابليات ، و «لمن يشاء» هو الغفران بصالح الاستغفار.

ولا يعني الغفر إلّا ترك العذاب المستحق بما دون الإشراك أم تخفيفه ، فيدخل صاحبه بذلك الجنة ، أو يموت في النار قبل فناء النار ، ان لم يكن له صالح يستحق به الثواب.

فالمشرك رسميا مخلد في النار ما دامت النار ثم يفنى بفناء النار ، ومن دون هذا المشرك في إشراكه لا بد وأن يعذب ـ إن عذب ـ دون ذلك المشرك ، خلودا مع المشرك في النار قدره زمانا ودونه عقوبة ، وهو أدرك دركات النار.

أم موتا في النار قبل فناء النار ، أم خروجا منها إلى الجنة بعد ما ذاق وبال امره ، أم عفوا عن النار الأخرى بما ذاق في النار البرزخية ، أم عفوا عن خلود النار الأولى دخولا في الجنة البرزخية ، أماهيه من أطوار هي دون الأبدية الاولى في جحيم النار.

فالخالدون في النار أبدا هم المشركون الرسميون ومعهم رؤوس الكفر والضلالة ممن دونهم إذ هم موحدون ، فعذابهم ـ إذا ـ دون عذاب المشركين وان لم يغفر لهم ، حيث التسوية بين المشرك والموحد ظلم ، ويجمعهم في أبدية الخلود الحابطة أعمالهم بأسبابه المسرودة في القرآن.

١٠٠