نفحات القرآن - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-98-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٠٠

استُعملت صفة الخالقية هنا بصورتها المطلقة ، ولم يُذكرْ أي اسمٍ من المخلوقات.

٤ ـ (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخَلَّاقُ العَلِيمُ). (الحجر / ٨٦)

أشارت الآية إلى الخلق الإلهي الواسع والمتنوّع.

٥ ـ (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحسَنُ الخَالِقِينَ). (المؤمنون / ١٤)

وهنا اشارةٌ إلى أهم وأرفع مخلوقات الله ، أي الإنسان ، وذلك في مرحلة نفخ الروح ، لذا فقد وُصِفَ الباري هنا بصفة أحسن الخالقين.

* * *

توضيح وبلاغ :

إنّ كلمة (الخالق) مشتقة من مادّة (خَلْق) وهي في الأصل بمعنى (القياس المباشر) و (الإيجاد والإبداع لأول مرّة) (١).

وأرجعها بعض أرباب اللغة إلى أصليْن : الأول هو المعنى الذي ذكرناه أعلاه ، والثاني هو بمعنى الإستواء والتسطُّح (٢).

قال في مقاييس اللغة : وأمّا الأصل الثاني فصخرة خلقاء أي ملساء ويقال : اخلولق السحاب أي استوى.

ولكن لا يُسْتبعد صدور المعنيين من أصل واحد ، وهو القياس والتنظيم والإبداع.

وعلى أيّة حال فالفرق شاسعٌ مابين تعبير الخالقية الذي قد يُستعمل أحياناً بالنسبة إلى العباد ، وبين تعبير الخالقية الذي يُستعمل بالنسبة إلى الله تعالى ، والمشمول أيضاً بتعبير أحسن الخالقين ، بل يصدق تعبير (الخلق) بمعناه الحقيقي بالنسبة إلى الله فقط الذي يوجِدُ الموجودات من العدم دون وجود أي أثر مُسبَق ، في حين لو ابتدع الإنسان أثراً صناعيّاً أو فنيّاً أو معمارياً فإنّما هو نتيجة تركيب ومزج مواد مختلفة مأخوذة من عالم الطبيعة ،

__________________

(١) مفردات الراغب الأصفهاني.

(٢) مقاييس اللغة.

٢٢١

فيصنعها بأشكال كان قد رآها من قَبْل في عالم الوجود (أو يركّبُ أشكالاً مختلفةً سويةً) ، وعليه ، فلا المادّة من ابداعه ولا شكلها.

ويجب الإلتفات إلى كون صفة (الخالق) أو (الخلاق) من أوسع صفات الفعل الإلهي ، والتي تشمل جميع عالم الوجود بأكمله ، ومظهرهُ السماء والأرض وعالم المادّة وما وراء المادّة.

وخلقُ الله يُعدُّ من أعظم الآيات الدالّة على وجوده ، لأننا أينما نحط رحالنا نشاهد نماذج من خلقه ومخلوقاته التي تدل على وجوده.

ولذلك فكلُ واحدةٍ من الصفات الإلهيّة تحمل في معناها بلاغاً للناس ، وهذا أحد الأهداف المهمّة من طرحها في القرآن الكريم الذي هو كتاب معرفة وتربية ، إذ تقول هذه الصفة للإنسان : إنّ آثار الموجودات دليلٌ على وجود الله ، كأن تخترع أو تصنع شيئاً من الآثار العلميّة والاجتماعيّة وما شاكلها. فإن لم تترك أثراً من عندك فإنّك لا تمتلك أي شَبهٍ مع تلك الذات الإلهيّة الفريدة ، ولم تتخلق بأخلاقه ، ولم تتوفق لسلوك طريق القرب منه تعالى.

حاول أنت أيضاً أن تصنع آثاراً وتسْتنير بهذه الصفة الإلهيّة البارزة.

* * *

٤ ـ الفاطر ٥ ـ الباري ٦ ـ الخالق ٧ ـ البديع ٨ ـ المصوّر

إنّ الصفات الخمس المذكورة أعلاه هي بالحقيقة مشابهة لصفة (الخالق) ، لكنها ممزوجة مع مفاهيم ومعانٍ ومسائل جديدة ، لنتمعن خاشعين في الآيات التالية :

١ ـ (فَاطِرَ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ). (١) (يوسف / ١٠١)

__________________

(١) ورد هذا التعبير في ست آياتٍ من القرآن الكريم : الأنعام ، ٤ ؛ إبراهيم ، ١٠ ؛ فاطر ، ١ ؛ الزمر ، ٤٦ ؛ الشورى ، ١١ ؛ والآية الواردة في البحث.

٢٢٢

٢ ـ (هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ الْمُصَوّرُ). (١) (الحشر / ٢٤)

٣ ـ (إِنَّ اللهَ فَالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَى). (الأنعام / ٩٥)

٤ ـ (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ). (الأنعام / ٩٦)

٥ ـ (بَدِيعُ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ). (٢) (الأنعام / ١٠١)

* * *

توضيح وبلاغ :

إنّ كلمة (فاطر) مشتقة من مادّة (فَطْر) (على وزن سَتْر) ، وتعني الإنفطار أو (الإنفطار الطولي) ، كما ورد في الآية : (إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ). (الانفطار / ١)

وقد وردت هذه الكلمة أيضاً بمعنى حَلْب الشاة ، وإفطار الصوم ، وابتداع وإيجاد شيء لأول مرّة وقد يُراد بها انفطارُ حجابِ ظلماتِ العدم ودخول الموجودِ إلى عالمِ الوجود.

وجاءت كلمةُ (الباري) من مادّة (بُرء) على وزن (قُفل) وهي في الأصل بمعنى الشفاء من مرض أو التخلُّص من الأمور غير المرضية ، وأُطلقت فيما بعد على الخالق الذي يوجِد الأشياء دون نقيصة أو خلل وبصورة موزونة تماماً.

ويعتبرها البعض بأنّها مشتقّة من مادّة (بَرْي) أي بري الخشب ، ومن الواضح أنّ المقصود من بري الخشب هو صقله وتعديله وموازنة أضلاعه ، وهذا مايصدق تماماً بالنسبة إلى الخالق الحكيم لأنّه يخلق كُلّ شيء بصورة موزونة.

وصرح البعض الآخر أيضاً بأنّ (الباري) معناها مَن يُوجِد الأشياء دون أن يكون لها نمودجٌ سابقٌ.

و (الفالق) من مادّة (فلْق) على وزن (خلق) ومعناه : فلقُ الشي وفصلُ جزءٍ عن آخر ، ويستعمل هذا التعبير في فلق النباتات (إنباتها) إذ ينفلق قشرُ بذورها ونواها بأمر الباري

__________________

(١) ورد هذا الوصف في الآية ٥٤ من سورة البقرة أيضاً.

(٢) ورد نفس هذا التعبير في الآية ١١٧ من سورة البقرة.

٢٢٣

تعالى على الرغم من استحكامها وسُمكها ، وتخرجُ براعم لطيفة وظريفة جدّاً من ذلك الخفاء!

وبالحقيقة أنّ انفلاق بذور النباتات أثناء تفتحها يُعدُّ من أدق وأجمل لحظات وجود النبات وتشبه بالضبط لحظة خروج الإنسان من بطن أُمّه ، وهذه اللحظة الحساسة تُعد من عجائب قدرة الله ، إنّها لحظة التحوُّل والتغيُّر الشكلي والانتقال من عالمٍ إلى عالمٍ آخر. ماهذه القوة التي تمنح هذا البرعم الظريف جدّاً القوة على اختراق جدار النواة المحكم ليبرز منتصباً من ذلك المهد ، ويخرج من ظلمات رحم أمّه إلى عالم الظهور؟!

وكلمة (بديع) من مادة (بدع) على وزن (منع) ، وكما أشرنا سابقاً فهي بالأصل بمعنى إيجاد الشيء دون وجود نموذج سابقٍ ، لذا يُطلق على البئر المحفور حديثاً (بديع) ، وعلى الأعمال والسُّنن التي لا سابقة لها (بدعة).

وعندما تُستعمل هذه الكلمة بالنسبة إلى الباري فإنّها تعني إيجاد الشي دون الحاجة إلى الآلات والمكان والزمان ، وهي تصدق فقط بحقه سبحانه.

وكلمة (بديع) صفة مشبّهة تدلّ على ثبوت واستمرار هذه الصفة لتلك الذات المقدّسة (١).

وجاءت كلمة (مصوّر) من مادّة (صورة) ، بمعنى رسم وشكل الشيء ، وجمعها (صُوَر) وهي على نوعين : (الصورة المحسوسة) كصورة الإنسان والحيوانات والموجودات الماديّة الاخرى ، و (الصورة المعقولة) وهي التصورات العقليّة والفكريّة والمفاهيم الخاصّة بكل شيء.

وتستعمل كلمة (المصوّر) بخصوص الباري سبحانه وتعالى عندما يُراد الإشارة إلى الصور التي وهبها للموجودات المختلفة.

إلّاأنّ بعض أرباب اللغة يعتقد بأنّ هذه الكلمة تعني في لغة العرب التغيير والتحوير ، (والصورة) بمعنى (الشكل والهيئة) ، مأخوذة من الأصل العبري (صوراه).

* * *

__________________

(١) المفردات ؛ لسان العرب ؛ التحقيق ؛ ومقاييس اللغة (وقد ذُكر في مقاييس اللغة مفهوم آخر لها وهو الإنقطاع والتعب).

٢٢٤

توضيح وبلاغ :

يُستْنتج جيداً من مجموع ما ذُكرَ أنّ صفات (الفاطر) ، (الباري) ، (البديع) تشير جميعاً إلى خلق الشيء بلا أيِّ سابقةٍ إلّاأنّ هذا المعنى أكثر وضوحاً وبياناً في بعض الكلمات ، وأقلُ بياناً في بعضها الآخر ، وعلى أيّة حال فهو يدلّ على أهميّة هذه النقطة وهي خلقِ الله بالقياس مع مايقوم به بعض بني البشر ، والتي قد يُطلق عليها مصطلح (الخلق) مجازاً ، علاوةً على سعتها الخارقة ، وعدم محدوديتها من حيث كون المادّة والشكل في جميع مخلوقات الله غير مسبوقة بحدث مُسْبق.

لذلك لا يُمكن قياسها إطلاقاً مع تغيير الأشكال التي يُمارسها الإنسان في مواد هذا العالَم والمسبوقة بعمل مُسبق.

بل إنّ كلمة (الخلق) بمفهومها الحقيقي لاتصدق أبداً بالنسبة لأعمال البشر.

نقل المرحوم الكفعمي في المصباح عن الغزالي حول تفسير الأسماء الحسنى ، بأنّ البعض اعتقد بأنَّ ألفاظ (الخالق) و (الباري) و (المصور) ألفاظ مترادفة ، وتعني جميعها (الخلق) و (الإبداع) في حين أنّها ليست كذلك ، بل الأشياء المخلوقة من العدم ذات ثلاث مراحل : (التقدير) و (الإيجاد) و (التصوير) ، ثم ضرب مثلاً حول هذا المفهوم فقال :

يلزم ، لإحداث عمارة مرموقة ، أن يرسم خارطتها مهندسٌ قدير ، ثم يُشيدها البنّاء ، وبعد ذلك يزّينها الصبّاغ وأرباب النقوش الماهرون.

وعلى هذا فكلمة (الخالق) تُشير إلى المعنى الأول ، في حين أنّ (الباري) تُشير إلى المعنى الثاني و (المصوّر) إلى المعنى الثالث (١).

وعلى أيّة حال فالبلاغ الذي تحملهُ هذه الصفات الإلهيّة في طيّاتها يشبه مابيّناه في الصفات السابقة ، إضافةً إلى الخصوصيّات الموجودة في صفات بحثنا هذه.

* * *

__________________

(١) مصباح الكفعمي ، ص ٣١٩.

٢٢٥

٩ ـ المالك ١٠ ـ الملك ١١ ـ الحاكم ١٢ ـ الحكيم ١٣ ـ الرّب

إنّ لهذه الصفات الإلهيّة الفعليّة الأربع مفهوماً واسعاً جدّاً يشمل جميع الموجودات في العالم ، وتأتي بعد الخلق والإيجاد من حيث التسلسل المنطقي ، لذا فقد صمّمنا أن نبحثها بعد أن بَحثْنا خلق الله ، بعدَ أن نمعن خاشعين في الآيات التالية.

١ ـ (قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلكِ). (آل عمران / ٢٦)

٢ ـ (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (١). (الحمد / ٤) ٣ ـ (فَتعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ) (٢). (طه / ١١٤)

٤ ـ (.... وَهُوَ خَيرُ الحَاكِمِينَ) (٣). (الأعراف / ٨٧)

٥ ـ (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبغِى رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَىْءٍ) (٤). (الأنعام / ١٦٤)

٦ ـ (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٥). (البقرة / ٢٠٩)

توضيح وبلاغ :

إنّ كلمة (مَلِكْ) و (مالِك) و (مَليك) جميعها مشتقّة من مادّة (مُلك) ، وكما قال صاحب مقاييس اللغة : فهي تدل بالأصل على القوّة والسلطة ، أُطلقت هذه الصفات على الأثرياء والحكام والسلاطين لتَمتُّعِهم بالقوّة والسلطة.

يقول الراغب في مفرداته : تُطلقْ كلمة (مَلكْ) على الذي يتصرف في عامة الناس عن طريق الأمر والنهي.

وتطلق كلمة (ملِك) عادةً في الملكية السياسيّة ، و (مالك) في المسائل الماليّة ، وقال

__________________

(١) تكررت كلمة مالك ثلاث مرّات فقط في القرآن ، إثنتان منها تخص الباري تعالى ومرّة تخص (مالكاً) مَلكَ النار.

(٢) وردت كلمة «ملك» في القرآن أحدى عشرة مرّةً ، خمس منها في وصف الله (طه ، ١١٤ ؛ المؤمنون ، ١١٦ ؛ الحشر ، ٢٣ ؛ الجمعة ، ١ ؛ الناس ، ٢).

(٣) وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم خمس مرّات فقط جميعها في وصف الباري تعالى ، (الأعراف ، ٨٧ ؛ يونس ، ١٠٩ ؛ هود ، ٤٥ ؛ يوسف ، ٨٠ ؛ التين ، ٨).

(٤) تكررت كلمة «رب» في القرآن الكريم أكثر من تسْعمائة مرّة وهذا يدل على الأهميّة الفائقة لهذه الصفة الإلهيّة!.

(٥) تكررت هذه الكلمة في القرآن لمئة مرّة تقريباً ، أغلبها لوصف الله سبحانه وتعالى.

٢٢٦

البعض : بأنّ (الملك) اشمل من (المالك) لأنّ مالك الشيء حاكمٌ وملكٌ عليه ، ولكن ليس كلّ مالك يكونٌ ملكاً (١).

وقال البعضُ أيضاً : إنّ (المالكَ) مخيرٌّ ليعمل مايشاء في ملكه : في حين أنّ (الملِكَ) لا يمتلك مطلق الخيار في تصرُّفاته.

علاوةً على عدم استطاعة المملوك التمرُّد على مالكية مالكه ، في حين أنّ الرعيّة يستطيعون الخروج على حكومة حاكمهم (مَلكِهم) (٢).

بالطبع عندما تُستعمل هاتان الكلمتان كصفتين لله فانّما يُراد منهما الإشارة إلى المصداق الأتم والأكمل ، وبكلمة واحدة الأشارة إلى مصداقهما الوحيد وهو الله تعالى. لذلك فحينما يصلُ المرحوم (الكفعمي) ـ في كتاب (المصباح) ـ إلى كلمة (مَلِك) يقول : هو التام الملك ، الجامع لأصناف المملوكات ، وله مطلق التصرف والأمر والنهي فيما يريد من مأموريه ، هو الغني عن جميع الموجودات في ذاته وصفاته ، وتحتاج إليه جميع الموجودات في ذاتها وصفاتها (٣).

وتجدر الإشارة إلى هذه النقطة أيضاً ، وهي : أنّ المالكية والحاكمية وليدة الخلق ، ولأنّ (الخالق) بمعناه الحقيقي في عالم الوجود هو الله وحده (فالمالك الأصلي) هو أيضاً ، وإطلاق كلمة (مالك) و (ملك) على غيره له صبغة كنائية من هذه الناحية.

و (الحاكم) من مادّة (حكم) طبقاً لما قاله صاحب مقاييس اللغة : وهي في الأصل بمعنى (المنع) ، وقبل كل شيء (المنع من الظلم) ، وإنّما يُسمى (الحكيم) بهذا الاسم لامتلاكه قوة رادعة تحجبه عن الخطايا والمعاصي.

والسّر في وصف الله بهذه الصفة هو منعه ونهيه جميع الموجودات عن الأعمال السيئة سواءً في عالم التكوين أَمْ في عالم التشريع.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٢٣.

(٢) نقل هذا الاختلاف بين مصطلح (المَلك) و (المالك) الفخر الرازي في تفسيره ، ج ١ ، ص ٢٣٧ ، عن بعض المصادر.

(٣) مصباح الكفعمي ، ص ٣١٨.

٢٢٧

وتُعتبر كلمة (حكيم) من صفات الذات من حيث حكايتها عن علم الله ، ومن صفات الفعل من حيث إشارتها إلى خلق موجودات الوجود على أساس تنظيمٍ وترتيبٍ خاص ، وتشريع القوانين وفق مصالح كاملة ومُتقنة.

وقد ورد في كتاب التحقيق : أنّ الفرق بين (الحاكم) و (الحكيم) و (الحكم) ينشأ من الاختلافات الموجودة بين مشتّقات هذه الكلمات ، فالحكيم تعني من هو ثابت الحُكم والحاكم هو من يَصدُرُ منه الحُكم ، والحَكم ذو معنى مشابهٍ مع ثباتٍ أكثر.

يقول ابن الأثير في النهاية :(الحَكم) و (الحكيم) في أسماء الله تعني (الحاكم) ، ثم ذكر لها عدة معانٍ : منها الذي يوجد الأشياء بأحسن وجه ، والذي يعلم بأفضل الأشياء على أفضل وجه ، والذي يمنع عن الأعمال السيئة ـ وخاصةً الظُّلم ـ.

وكما أشرنا سابقاً فإنّ كلمة (ربّ) ذات مفهوم أصلي واحد ، وسلسلة من اللوازم والأغصان والأوراق (الفروع) ، لهذا فهي لها حالاتُ استعمالٍ كثيرة.

فكما ورد في المفردات فإنّ مفهومها الأصلي هو (التربية) والسَّوْق نحو الكمال ، ولأنّ هذا العمل رافقته مفاهيمُ اخرى ، كالإصلاح ، والتدبير ، والمالكيّة ، والحكومة ، والسيادة ، والتعليم ، والتغذية ، فإنّها تُطلق أيضاً على أي واحدٍ من هذه المفاهيم.

وقد ورد في (لسان العرب) أنّ كلمة (الرب) علاوةً على إطلاقها على الذات الإلهيّة المقدّسة ، فإنّها تأتي أيضاً بمعنى : المالك ، السيّد ، المدبّر ، المربيّ ، القيّم ، والمنعم.

وقد ورد في مصباح الكفعمي أيضاً أنّ كلمة (رب) تعني في الأصل التربية والسوق التدريجي نحو الكمال ، ثم استُعمل هذا المعنى المصدري للمبالغة في المعنى الوصفي. وبعد ذلك ذكر لها أربعة آراء حول مفهومها الأصلي هي : المالك ، السيّد ، المدبّر ، والمربي ، واستعان بأمثلةٍ منها : ربّ الدار : (أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْراً). (يوسف / ٤١)

و (ربانيون) و (ربائب) ـ أي ابن الزوجة من رجُلٍ آخر ـ.

والذي نستخلصه ممّا تقدم أنّ كل هذه المعاني لها علاقة بمفهوم «التربية».

٢٢٨

اتضح من مجموع ما ورد أعلاه أن هذه الصفات الخمس (الملك) و (المالك) ، و (الحاكم) ، و (لحكيم) و (الرب) ، التي هي بأجمعها صفات فعليّة ماعدا (الحكيم) التي يُمكن اعتبارها من صفات الفعل وصفات الذات أيضاً (كالعالِم). وهي ذات مفاهيم قريبة من بعضها ومتلازمة مع بعضها تقريباً ولا تنفصل (ربوبية الله) عن (ملكه) و (حكمه) وقد امتزجت مالكيته وحاكميته مع ربوبيته.

إنّ الإيمان والتفكير بهذه الصفات بمثابة إشارات وتجليات لها آثار تربوية كبيرة على نفس الإنسان بالطبع بعد التعرف على المعنى الحقيقى لهذه الصفات والتي ، تخص الذات الإلهيّة المقدّسة ، فإيماني بمالكية الله يبعث على الشعور بأني أمينٌ على اموالي وينبغي عليَّ التصرُّف فيها وفق أوامر مالكها الأصلي.

والإيمان بحاكميّة الله يمنعني من الخضوع لسلطة الظالمين والطواغيت.

والإيمان بربوبية الله يمنعني عمن سواه ، واعتبرُ جميع العالم من نفحاته ، وآراه منقاداً لأوامره تعالى ، وبالتالي فإنّ هذا الإيمان يمنعني من السقوط في دوامة عبوديّة المخلوقات.

* * *

١٤ ـ الولي ١٥ ـ الوالي ١٦ ـ المولى ١٧ ـ الحافظ ١٨ ـ الحفيظ ١٩ ـ الرقيب ٢٠ ـ المهيمن

إنّ الصفات المذكورة أعلاه ذات مفاهيم مهمّة ومتقاربة وجميعها من صفات الفعل ، لذا فقد بحثناها في محلٍّ واحد ليتضح ويكتمل تفسيرها في ظل بعضها البعض ، وفي الواقع أنّ هذه المجموعة هي من الصفات الخالقيّة والربوبيّة.

وقد أشار القرآن الكريم إلى جميع هذه الصفات (حيث ذُكرت أحيانا مرّة واحدة وأحياناً اخرى عدّة مرّات) والآن لنتأمل خاشعين في الآيات التالية :

١ ـ (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاءَ فاللهُ هُوَ الوَلِىُّ). (الشورى / ٩)

٢ ـ (وَمَالَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ). (الرعد / ١١)

٣ ـ (بَلِ اللهُ مَولَاكُم). (آل عمران / ١٥٠)

٢٢٩

٤ ـ (فَاللهُ خَيرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ). (يوسف / ٦٤)

٥ ـ (إِنَّ رَبِّى عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَفِيظٌ). (هود / ٥٧)

٦ ـ (وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ رَّقِيبًا). (الأحزاب / ٥٢)

٧ ـ (هُوَ اللهُ الَّذِى لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلَامُ المُؤمِنُ المُهَيمِنُ). (الحشر / ٢٣)

* * *

توضيح وبلاغ :

«الولي» : من (الولاء) ، بالأصل بمعنى استقرار شيئين إلى جوار بعضهما ، وتأتي بمعنى القرب ، سواءً من حيث المكان أم القرابة النسبيّة ، أم من حيث الدين والصداقة والنّصرة والإعتقاد.

هذا ماصرّح به الراغب في مفرداته ، وأضاف : (الوِلاية) بكسر الواو تعني المساعدة والنصرة (والوَلاية) بفتح الواو تعني تدبير الأمور (١).

وقد اعتبر صاحب مقاييس اللغة أيضاً أنّ أصل هذه الكلمة يعود إلى مفهوم القرب ، وفسّر صاحب كتاب لسان العرب أيضاً كلمة (ولي) بمعنى الناصر والمتولّى لُامور العالم والخلائق.

وعلى أيّة حال ، فلهذه الكلمة معانٍ كثيرة ، لكنها عندما تُستعمل بخصوص الله تعالى لا ريب في أنّها تعني الولاية وتدبير أمور العالم ونصرة العباد ومؤازرتهم.

وكلمة (مَولى) مشتقّة أيضاً من هذه المادّة ، وذُكرِت لها معان كثيرة تعود جميعها إلى الأصل الذي ذكرناه أعلاه (وهو القرب).

وقد ذكر المرحوم العلّامة الأميني رحمه‌الله ـ لهذه الكلمة ـ سبعاً وعشرين معنىً مختلفاً

__________________

(١) ذكر المرحوم الكفعمي في المصباح عكس هذا ، وكذلك ابن الأثير في النهاية ، فقد ذكر أنّ الولاية تعني تصدّي إدارة الأمور ، والوَلاية بمعنى النصرة والمساعدة ، ولا يُستبعد أن يكون هنالك خطأ في نقل كتاب المفردات.

٢٣٠

مستخلصاً من كتب اللغة وموارد استعمالها (١).

وكذلك فقد ذكر ابنُ الأثير في النهاية ستة عشر معنىً لها.

وصرّح في إحدى عباراته : بأنّ (مولى) تعني (ولي) ، واستشهد في ذلك بقول عمر لعلي عليه‌السلام : (أصبحت مولى كل مؤمن).

وأضاف قائلاً : قال جماعة بأنّ سبب هذا الأمر هو قول أُسامة لعلي عليه‌السلام : أنت لستَ بمولاي! بل مولاي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فسمع الرسول هذا الكلام فقال : «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه» (٢).

ومما ذكرناه يتّضح أنّ معنى كلمة (والي) أيضاً والتي هي اسم فاعل من هذه المادة.

لهذا فالله (وليٌ) و (مولى) و (والي) في نفس الوقت ، فهو مدبّر أمورنا ومخيَّرٌ فيها وحاكمنا وناصرنا ، وهكذا شأنه مع بقية موجودات عالم الوجود.

وكلمة (حافظ) مشتقّة من مادّة (حفظ) وهي ذات معنى مشهور وواضح ، وهو الحفظ ، وقال الراغب : إنّها تعني رعاية ومراقبة شيء معين ، لذلك يُطلق على حالة كظم الغضب (حفيظة) لأنّها تستلزم أن يهتم الإنسان بمراقبة نفسه.

وقد ورد تعبير جامع حول هذا المجال في كتاب التحقيق :

وتعطي كلمة حفظ معانيَ مختلفة تبعاً لاختلاف الموارد والموضوعات على الرغم من كون أصلها واحد ، فقد يُقال : حفِظَ المال ، أي من التلف ، وحفِظَ الأمانة ، أي من الخيانة ، وحفِظَ الصلاة ، أي من الفوت ، وحفِظَ فلاناً ، أي رعاه ، وحفظ يمينه وعهده ، أي من مخالفته ، وحفظ الأمر الفلاني ، أي أودعه في ذهنه (بحيث لاينساه) ... (٣).

ومن هنا يتضح معنى كلمة (حافظ) أيضاً ، وتعتبر كلمة (حفيظ) التي هي صفة مشبهة أبلغ

__________________

(١) من معانيها رب ، عم وأولاد العم ، ولد ، ابن الأخت ، مطلق سراح العبد ، مالك ، تابع ، المنعم عليه ، شريك ، زوج ، صاحب ، جار ، ضيف ، زوج البنت ، قريب ، مُنعم ، عقيد ، ولي ، أولى ، سيد ، صديق ، ناصر ، المتصرف في الأمور ، مدبّر الأمور. الغدير ، ج ١ ، ص ٣٦٢.

(٢) نهاية ابن الأثير ، ج ٥ ، ص ٢٢٨ ، مادّة (ولي).

(٣) التحقيق في كلمات القرآن الكريم ، مادّة (حفظ).

٢٣١

معنىً وأكثر ثباتاًمن كلمة (حافظ) التي هي اسم فاعل.

وعلى أيّة حال ، فعندما تختص هذه الصفة بالله تعالى فإنّها تُعطي معنىً واسعاً يشمل حفظ الله ورعايته لجميع الموجودات الماديّة والمعنويّة ، والسماوات والأرض ، وكذلك حفظ أعمال العباد ، والشرائع والكتب السماوية ، وحفظ الأنبياء والأئمّة المعصومين من المزالق (الخطايا) ، وحفظ أي عهدٍ عاهد به عباده.

وعليه فإنّ (حافظية) الله و (حفيظيته) تشمل مفاهيم اخرى (كالقيمومية).

ولولا الحفظ الإلهي لما بقي في السماء والأرض موجودٌ على قيد الحياة لحظة واحدة ، كما ورد في الآية : (وَهُوَ القَاهِرُ فَوقَ عِبَادِهِ وَيُرسِلُ عَلَيكُم حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوتُ تَوَفَّتهُ رُسُلُنَا وَهُم لَايُفَرِّطُونَ). (الأنعام / ٦١)

يتضح من هذه الآية أنّ الله قد أمر الملائكة بحفظ الناس من الحوادث والبلايا حتى وصول الأجل المعيَّن.

وقد ورد شبيهٌ لهذا المعنى في قوله تعالى : (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَينِ يَدَيهِ وَمِن خَلفِهِ يَحفَظُونَهُ مِن أَمرِ اللهِ). (الرعد / ١١)

ونظيرهُ ما جاء عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في نهج البلاغة : «إِنَّ مع كل إنسانٍ ملكين يحفظانه فإذا جاء القدر خليّا بَينَهُ وبَينَهُ» (١).

وقد ورد في سورة الإنفطار أيضاً مايخص الملائكة المكلَّفين بحفظ وتسجيل أعمال العباد ، قال تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُم لَحَافِظِينَ* كِرَاماً كَاتِبِينَ* يَعلَمُونَ مَاتَفعَلُونَ). (الإنفطار / ١٠ ـ ١٢)

وعليه فإنّ حفظ الله ، بالمعنى الواسع للكلمة ، يتحقق عن طريق علمه وقدرته سبحانه من جهة ، وعن طريق الملائكة المكلَّفين بإداء هذه المهمّة من جهةٍ اخرى.

وكلمة (رقيب) كما ورد في المفردات هي بالأصل مشتقّة من مادّة (رقبة) أي العنق ، وأُطلقت فيما بعد على المحافظين والمراقبين ، إمّا لكونهم يحفظون رقبة مَنْ يرعونَهُ

__________________

(١) نهج البلاغة ، القصار الكلمات ، الكلمة ٢٠١.

٢٣٢

ويحمونه (لأنّ الرقبة من أهم أعضاء البدن فإنّها تُعدّ كناية عن كل وجود الإنسان) ، وإمّا لأنّهم يمدّون رقابهم وينظرون إلى ماحولهم بحذرٍ تحسُّباً من المخاطر ، لذلك يُطلق على المحل الذي يقف فيه مثل هؤلاء الأفراد (المرقَبْ) (١).

إلّاأنّه ذُكر في بعض كتب اللغة عكس هذا المفهوم ، أي أنّ المفهوم الأصلي لهذه الكلمة هو الحراسة والإشراف على الشيء ، وإنّما سمي العنق (بالرقبة) لأنّه يُستعان بحركاتها عند الحراسة والمراقبة بواسطة العين والأذن (٢).

وقد ورد في كتاب (العين) بأنّ أصل هذه الكلمة يعني (الإنتظار) ، وفي كتاب مقاييس اللغةبأنه يعني (الإستطالة برعاية شيء وحراسته).

وعلى أيّة حال فعندما تختصّ هذه الصفة بالباري تعالى فإنّها تعني الحافظ الذي لا يخفى عليه شيء.

ومن الطبيعي أنّ رعاية الله وحفظه لما في الوجود ، وجميع العباد ، وأعمالهم ، تكون بواسطة وجوده في كل مكان ، فلا حاجةَ له إلى نظرٍ أو مدّ رقبةٍ ، ولا ما شاكل ذلك من عوارض الموجودات الماديّة.

ووردت كلمة (مهيمن) في موضعين من القرآن الكريم ، الأول في الآية ٢٣ من سورة الحشر ، كصفة لله ، والتي ذكرناها أعلاه ، والثاني في الآية ٤٨ من سورة المائدة ، كصفة للقرآن الكريم.

وهناك رأيان حول أصل هذه الكلمة ، يتمثل الأول باعتقاد جماعة بأنّها مأخوذة من مادّة (هَيْمَنَ) أي بمعنى الرعاية والحفظ ، لكن الكثير من أرباب اللغة يعتقدون بأنّها مشتقة من مادّة (إيمان) التي تبدلت همزتها إلى هاء ، وتعني الواهب للسكينة والأمان ، وعندما تختصُّ هذه الكلمة بالباري تعالى فانّها تأتي بمعنى الحفيظ.

__________________

(١) المصباح المنير للفيومي.

(٢) التحقيق في كلمات القرآن الكريم.

٢٣٣

وفسّرها البعض بمعنى الشاهد والناظر أو القيّوم بأمور الخلائق (١).

وقد ورد في مصباح الكفعمي عن بعض العلماء ـ حول تفسير هذه الكلمة ـ : إنّها تعني الحافظ لأعمال العباد ومقدرات أعمارهم وأرزاقهم (٢) ، ولكن كما قلنا : إنّ لهذه الكلمة معنىً أوسعَ.

* * *

من مجموع ما ذكرناه في تفسير هذه الصفات السبع ، التي لها مفاهيم متقاربة أو متلاصقة مع بعضها ، تتجلى أمامنا صفحة اخرى من المعارف وصفات الفعل الإلهيّة ، صفحة ذات آثار تربويّة ثمينةٍ وقيمّة جدّاً.

إنّها تدعو الناس إلى فعل الخيرات واجتناب أي لونٍ من القبائح والسيئات ، وذلك لأنّهم يعلمون بأنّ الله يراهم حيثما كانوا ، وتطمئنهم إزاء الحوادث الصعبة ، لأنّهم يعلمون بأنّ الله هو الحافظ.

لهذا فإننا نقول : إنّ ذكر الصفات الإلهيّة في القرآن الكريم ذو هدفين اساسيين : أحدهما رفع مستوى معرفة الإنسان بربّه ، والآخر تربيته في مختلف الجوانب.

* * *

٢١ ـ الرازق ٢٢ ـ الرزّاق ٢٣ ـ الكريم ٢٤ ـ الحميد ٢٥ ـ الفتّاح

إنّ لهذه الصفات الخمس ـ المذكورة أعلاه ـ مفاهيم متقاربة ومتلازمة مع بعضها ، وتحكي جميعها عن تأمين أرزاق بني البشر ، بل حتى جميع الكائنات الحية ، وتدل على أنّ المتولي لأمر خلق الموجودات يلتزم تأمين مايديم حياتها أيضاً ، وأنّ آثار نعمته الوفيرة

__________________

(١) لسان العرب ، مقاييس اللغة ، ونهاية ابن الأثير. وقد نُقل في بعض التفاسير عن أبي عبيدة أحد علماء اللغة بأنّه قال : يوجد في كلام العرب خمسة أسماء فقط على هذا الوزن هي : (المهيمن) (المبيطر) ، (المسيطر) ، (المبيقر) ، و (المخيمر) ... عن تفسير روح الجنان.

(٢) مصباح الكفعمي ، ص ٣١٨.

٢٣٤

وسعت كل شيء ، ورحمته اللامتناهية شملت الجميع.

وعلى ضوء تلك المفاهيم نُمعن خاشعين في الآيات التالية :

١ ـ (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيرُ الرَّازِقِينَ). (الحج / ٥٨)

٢ ـ (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ). (الذاريات / ٥٨)

٣ ـ (يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَاغَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ) (١). (الإنفطار / ٦)

٤ ـ (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ) (٢). (البقرة / ٢٦٧)

٥ ـ (وَهُوَ الفَتَّاحُ العَلِيمُ). (سبأ / ٢٦)

توضيح وبلاغ :

جاءت كلمة (رزّاق) و (رازق) من مادّة (رزق) ، وفي الأصل بمعنى العطاء المستمر وفي أوقات معيّنة ، سواءً كان دنيوياً أم أخروياً ومعنوياً ، وقد يطلق الرزق أحياناً على (النصيب والربح).

وقال البعض أيضاً : إنّ (الرزق) في الأصل بمعنى (الإنعام والعطاء) الخاص المناسب لحال الفرد وحاجته ، لتستمر حياته ومعيشته ، وهنا يفترق مفهوم الرزق عن مفهوم (الإحسان) و (الإنعام) و (العطاء) و (الربح والنصيب) و (الإنفاق) (٣).

والجدير بالذكر أنّ التعبير الفارسي المقابل لكلمة (رزق) وهو (روزي) يعطي مفهوم الإنعام والعطاء اليومي وفي أوقات معينة ليشمل جميع الأشخاص.

ولا يخفى أنّ الرزق الحقيقي هو الأشياء التي يحصل عليها الإنسان بالطرق المحللة ، وأمّا ما يحصل عليه من الطرق المحرّمة فهو بالحقيقة رزقٌ كاذب.

__________________

(١) يجدر الانتباه إلى أنّ كلمة «كريم» قد وردت في سبعةٍ وعشرين موضعاً من القرآن الكريم ، لكنها ذُكرت كصفة للباري في موارد محدودة جدّاً.

(٢) وردت كلمة حميد في سبعين موضعاً من القرآن ، مصحوبة غالباً بكلمة غني وذكرتا كصفتين من الصفات الإلهيّة.

(٣) مفردات الراغب ، مقاييس اللغة ، والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.

٢٣٥

يُستنتج ممّا ذكرناه أنّ الرزق يأتي بالمرحلة التي تلي الخلق وإيجاد الإنسان ، ويرتبط باستمرار حياته الماديّة والمعنوية ، ولذا اعتبر البعض أنّ أصل وجود الإنسان أو قواه وامكانياته جزء من الرزق (كالمرحوم الكفعمي في المصباح حيث يقول : إن رزق الله يعني بانّه خلق الأرزاق والمرتزقين) ، وهذا في الحقيقة نوعٌ من المجاز والاتساع في المعنى الحقيقي.

وعلى أيّة حال فإنّ وصف الباري في الآيات المذكورة بصفة : (خير الرازقين) يشير إلى الأبعاد المختلفة التالية :

فالبعد الأول : إنّ أي شيء يعطيه الباري إنّما هو من عنده ، وكل ما يمنحه الآخرون فهو ليس منهم ، بل هم واسطة لانتقال الأرزاق.

البعد الثاني : إنّه سبحانه يُعطي كُلّ شيء من أنواع النعم الماديّة والمعنوية والروحية ، الدنيوية والأخرويّة ، الظاهريّة والباطنية ، العلنية والخفيّة و.... ، في حين أنّ كل شيء يعطيه الآخرون محدودٌ من جميع النواحي.

والبعد الثالث : إنّه تعالى يأخذ بنظر الاعتبار حاجة العباد عند تقدير أرزاقهم ويرزقهم بما يُناسب حالهم ، لأنّه عليم باسرار المرتزقين الظاهريّة والباطنيّة ، ونعلمُ أنّ الآخرين ليسوا كذلك.

والبعد الرابع : إنّه الرّزاق الذي لا تنفد خزائنه أبداً لأنّ خزائن كل الأشياء بيده : (وَإِنْ مِّن شَيءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ). (الحجر / ٢١)

وفي حين يتصف الآخرون بالمحدوديّة التّامّة من هذه الجهة.

أمّا البعد الخامس : إنّه الرازق الذي يتناول من مائدته الصديق والعدو ، وجميعهم يتزوّدون من نعمته بمقتضى كونه الرحمن والرحيم.

لكن الآخرين لا يفكرون سوى بأصدقائهم وأقربائهم.

والبعد السادس : إنّه لا ينتظر لقاء عطائه وإنعامه جزاءاً ولا شكوراً ، لأنّه غني من كل ناحية ، لكن الآخرين ينتظرون ألف لونٍ من قبيل ذلك.

٢٣٦

أمّا البعد السابع : فهو أنّ رزقه بدرجة من السعة والشمول بحيث يبدأ منذ لحظة انعقاد النطفة في عالم الرحم ، ويستمر طيلة مرحلة وجود الجنين في بطن أُمّه ، وبعد الولادة من خلال حليبها وحنانها أيضاً ، حتّى لحظات الموت الأخيرة ، فهل من رازقٍ يُناظره؟ أجَلْ هذا سر قوله سبحانه (خير الرازقين).

واللطيف هو ماورد في روايات عديدة منقولة عن أهل البيت عليهم‌السلام حول تفسير الآية الشريفة التالية : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَومَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ). (التكاثر / ٨)

(إنّ الله أجلّ من أن يسأل الناس يوم القيامة عن مأكلهم ومشربهم ، فهذا فضله على عباده ولن يسألهم عنه بل عن (العقائد الحقّة) ومن جملتها (نعمة الولاية) (١).

وعليه فقد عكست لنا هذه الرواية معنىً آخر من معاني (خير الرازقين) لأنّه سبحانه ـ طبق ماجاء في الحديث ـ لايسأل عن هذه الأرزاق!

أمّا السّر من اطلاق كلمة (الرزاق) على الباري تعالى ، ثم (ذو القوة المتين) فهو لأنّ كلمة (الرزّاق) صيغة من صيغ المبالغة ، وترمز إلى أنواع الأرزاق التي يهبها الله المنان لجميع المرتزقين ، لذا لا تليق هذه الكلمة إلّابشأنه ، بل وكما أشرنا سابقاً من أنّ سواه لايُمكن أن يكون (رازقاً) ناهيك عن أن يكون رزّاقاً.

لأنّ اولئك لايملكون شيئاً ليمنحوه للغير ، بل يمكنهم أن يكونوا واسطةً لإيصال الأرزاق إلى الآخرين.

وكلمةُ (متين) تعني المحكم ، وأخذت من مادّة (مَتْن) التي هي في الأصل تعني العضلتين

__________________

(١) واليك نماذج من تلك الاحاديث :

أ) عن أبي خالد الكابلي قال : دخلت على أبي جعفر عليه‌السلام فدعا بالغداء فأكلت منه طعاماً ما اكلت طعاماً قط اطيب منه ولا الطف فلما فرغنا من الطعام قال : ياابا خالد كيف رأيت طعامك او قال طعامنا؟ قلت : جعلت فداك ما اكلت طعاماً أطيب منه قط ولا أنظف ولكن ذكرت الآية في كتاب الله عزوجل (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَومَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ) فقال أبو جعفر عليه‌السلام : «إنّما يسئلكم عمّا أنتم عليه من الحق».

ب) عن الإمام جعفر بن محمد عليه‌السلام أنّه قال : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) والله ماهو الطعام والشراب ولكن ولايتنا أهل البيت.

تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٥٠٢ ، ح ٤ ، ٥ ، ٦ ، ٧ ، ٨ ، ٩ ، ١١ ، ١٢ ، ١٣.

٢٣٧

القويتين الموجودتين على جانبي العمود الفقري اللتين تقويّان ظَهر الإنسان وتجعلانه مستعداً لممارسة الأعمال الثقيلة ، لذا فقد وردت بمعنى منتهى القدرة والقوّة.

ووصفُ الباري بهاتين الصفتين يرمز إلى قدرته التامّة على إيصال الرزق إلى عباده أينما وحيثما كانوا ، ولا يحتاج إلى شيء.

إنّ التمعُّن في هذه الصفات الإلهيّة الخاصّة يمنح المؤمنين السكينة ، ويُغنيهم عن السير في الطرق المحّرمة لتحصيل أرزاقهم ، بل يحثهم على طلب الرزق الحلال ، إيماناً بلطفه سبحانه.

كلمة (كريم) مأخوذة من مادّة (كَرَم) والتي تعني : الشرف والقيمة الذاتية أو الأخلاقية ـ حسب رأي مقاييس اللغة ـ لذا يطلق على الغيوم الممطرة (كريمة) وعلى الأرض المنتجة الخصبة (مكرمة).

ويقول الراغب أيضاً : إذا كانت كلمة (كرم) صفة للإنسان فإنّها تعني الأخلاق والأفعال الحميدة التي تبدر منه ، وإذا كانت صفة لله فإنّها تعني الإحسان والإنعام العلني الواضح.

وللمفسّرين تعابير مختلفة حول تفسير كلمة (كرم) عندما تأتي كصفة لله سبحانه وتعالى.

فقد قال جماعة : إنّ كلمة (كريم) تعني الواهب الذي لايفعل إلّاالإحسان ، ولا يقصد من وراء ذلك الحصول على أي ربح.

وقال جماعة آخرون : (الكريم) هو من يقبل القليل ويجزي إزاءه بالكثير.

وقال بعضهم : (الكريم) هو الذي لا ينفذُ عطائه أبداً.

وقال آخرون أيضاً : (الكريم) هو من يعطي مايجب عليه وما لا يجب.

ولا يوجد دليل خاص حول ترجيح أيّ من هذه التفاسير ، ولكن بما أنّ كرم الله أكملُ أنواع الكرم ، فإنّه يشتمل على جميع هذه المفاهيم وغيرها.

ويجدُر الإنتباه إلى هذه المسألة أيضاً وهي أنّ هذه الكلمة قد وردت في القرآن الكريم على عدّة وجوه ، فأحياناً كصفة للرزق مثل : (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ). (الأنفال / ٤)

٢٣٨

وأحيانا كصفة للملائكة مثل : (مَلَكٌ كَرِيمٌ). (يوسف / ٣١)

وأحياناً كصفة للعرش مثل (رَبُّ العَرشِ الكَرِيمِ). (المؤمنون / ١١٦)

وأحياناً كصفة للقرآن مثل : (إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَرِيمٌ). (الواقعة / ٧٧)

ولكل واحدة من هذه الأمور نوع من (الكرامة) والقيمة السامية.

واشتقت كلمة (حميد) من مادّة (حمد) وتعني الثناء ، وبعكسها الذم والتوبيخ ، لذا (فالحميد) هنا يأتي بمعنى (المحمود) ، ويرمز إلى استحقاق الله لكل أنواع الثناء ، الثناء على ذاته المقدّسة المنقطعة النظير ، الثناء على صفاته وأسمائه ، الثناء على أفعاله وأعماله الحميدة ، وبالنهاية الثناء على كل تلك المواهب والأرزاق المادية والمعنوية المتنوعة التي وهبها لجميع عباده.

قال المرحوم الكفعمي في مصباحه : (الحميد) هو من يستحق الثناء على أفعاله في السراء والضرّاء والأفراح والأحزان (١).

وقال ابن الأثير في النهاية : (الحميد) كصفة من صفات الخالق تعني المستحق للحمد والثناء في جميع الأحوال وأضاف قائلاً :

مفهوما (الحمد) و (الشكر) متقاربان من بعضهما ، ولو أنّ الحمد أكثر عموماً ، لأنّ الحمد يشمل كُلًّا من الصفات الذاتية والعطايا والمواهب ، في حين أنّ الشكر يشمل المواهب والعطايا فقط لا الصفات.

وعلى أيّة حال ، فإنّ تعبير (الحمد) كما قلنا : ذو مفهومٍ واسعٍ يشمل الثناء على كل من الذات والصفات والأفعال.

ويجدر الإنتباه إلى أنّ كلمة (حميد) قد تكررت في ستة عشر موضعاً من القرآن ، وغالباً مارافقتها صفة (الغني) أو (العزيز) ، ولعل السبب في ذلك هو كون الأثرياء والأقوياء يقودهم غرورهم في الغالب إلى ممارسة الأفعال غير المتّزنة والذميمة التي هي محل للمذمّة والتوبيخ ، أمّا الله سبحانه ففي نفس الوقت الذي نجده غنيّاً وعزيزاً ، لا يصدر منه سوى

__________________

(١) مصباح الكفعمي ، ص ٣٢٧.

٢٣٩

الأفعال المحمودة ، ولا يوجد من بين صفات جماله وكماله أي صفةٍ ذميمة ، إذن فهو (حميد) من كل ناحية ويستحق الثناء.

وجاءت كلمة (الفتاح) من مادّة (فتح) ، كما قال الراغب في المفردات وابن فارس في مقاييس اللغة : إنّها تعني بالأصل فتح كلِّ مغلقٍ سواء فتح بابٍ أم حل مشاكل اخرى.

لذلك يُطلق مصطلح (الفتح) على النصر ، لأنّه يحل مشكلة الحرب ، ويُطلق على الحكم أيضاً ، لأنّه يحل النزاع.

ولهذا التعبير معنىً واسعٌ جدّاً عندما يُعبَّر به عن الخالق جلَّ وعلا ، فهو يشمل كل من فتح الأبواب المسدودة ، وحل جميع معضلات العباد المعنويّة والماديّة ، والحكم بالحق ، والحكم الفصل.

قال المرحوم الكفعمي في مصباحه : (الفتّاح) معناه الحاكم بين عباده ، وفتح الحاكم بين خصمين إذا قضى بينهما ، وأيضاً ، الذي يفتح أبواب الرزق والرحمة لعباده ، وهو الذي بعنايته ينفتح كل مغلق (١).

والأثر التربوي الناجم عن التمعُّن بهذه الصفة الإلهيّة واضحٌ جدّاً ، فمن يعتقد بأنّ الله وحده هو الحاكم ، ويعتقد بأنّ حل المشاكل وفتح الأبواب المغلقة يسير عليه سبحانه ، لا يهاب حجم المشاكل وصعوبتها أبداً ، ولا تتراكم على قلبه ذرات غبار اليأس والقنوط ، ولا يكف عن الجدّ والإجتهاد المصحوبين بالإيمان بالنصر بلطفه سبحانه.

ويجدر الانتباه إلى أنّ كلمة (الفتّاح) لم تتكرر أكثر من مرّة في القرآن وقد رافقتها صفة (العليم) وهذا يوضح صلتها بصفة (الفتّاح) ، وذلك لأنّ حل المشاكل وفتح عُقَد المعضلات يحتاج إلى علم وفير ، فالعليم بكل شيء هو الذي يستطيع حل جميع المشاكل ، وإذا ماأردت ـ أيّها الإنسان ـ أن تحل مشكلة في حياتك أو حياة الآخرين فعليك أن تحيط بها علماً بالمستوى المطلوب!

ولعل وصف الباري بصفة (خير الفاتحين) ، في الآية الشريفة عن لسان قوم شُعيب : (رَبَّنَا

__________________

(١) مصباح الكفعمي ، ص ٣٢١.

٢٤٠