الوصائل الى الرسائل - ج ٩

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل الى الرسائل - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-09-0
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

١
٢

٣

الوصائل

الى

الرسائل

تتمة المقصد الثالث

«تتمة البرائة»

٤

الخامس :

لو اضطر إلى ارتكاب بعض المحتملات ، فان كان بعضا معينا ، فالظاهر عدم وجوب الاجتناب عن الباقي إن كان الاضطرار قبل العلم الاجمالي أو معه ، لرجوعه إلى عدم تنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام

______________________________________________________

(الخامس) من التنبيهات : (لو اضطر إلى ارتكاب بعض المحتملات) من اطراف الشبهة المحصورة ، فانه قد يكون الاضطرار إلى البعض المعيّن ، كما لو كان أحد المشتبهين لبنا والآخر ماء واضطر الى اللبن لأنه ـ مثلا ـ قد تسمّم وأمره الطبيب بشرب اللبن حيث يكون الاضطرار هنا الى المعيّن وقد يكون الاضطرار إلى البعض غير المعيّن : كما لو كان كلا المشتبهين لبنا حيث لا يختلف اضطراره إلى هذا أو إلى ذاك ، فيكون الاضطرار إلى غير المعيّن.

وعليه : (فان كان) المضطر اليه (بعضا معينا) كما مثّلنا له (فالظاهر : عدم وجوب الاجتناب عن الباقي) فيجوز ارتكاب الجميع.

أمّا اللبن : فلأنه مضطر إليه.

وأمّا الماء : فلأنّه لا تكليف منجّز بالنسبة إليه تفصيلا ولا اجمالا.

هذا ، فيما (ان كان الاضطرار قبل العلم الاجمالي أو معه) بأن اضطر إلى شرب اللبن ثم علم بأن احد الإناءين من اللبن أو الماء نجس ، أو كان اضطراره وعلمه بنجاسة أحدهما في وقت واحد.

وانّما قلنا بعدم وجوب الاجتناب عن الباقي وهو الماء في المثال (لرجوعه) أي : لرجوع الأمر في هذا المثال (إلى عدم تنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام

٥

الواقعي ، لاحتمال كون المحرّم هو المضطرّ إليه ، وقد عرفت توضيحه في الأمر المتقدّم.

وان كان بعده ، فالظاهر وجوب الاجتناب عن الآخر ، لانّ الإذن في ترك بعض المقدّمات العلميّة

______________________________________________________

الواقعي) وذلك (لاحتمال كون المحرّم هو المضطرّ إليه) فيرتفع التكليف بالنسبة الى المضطر اليه وهو اللبن ، ويبقى الماء مشكوك النجاسة ، فيكون من الشبهة البدوية وهو مجرى البراءة.

هذا (وقد عرفت توضيحه في الأمر) الثالث من التنبيهات في البحث (المتقدّم) حيث ذكرنا هناك : إنّ التكليف بالاجتناب عن المشتبهين انّما يتنجّز إذا كان كلّ من المشتبهين بحيث لو فرض القطع بكونه الحرام كان التكليف منجزا.

وأمّا إذا كان أحدهما كذلك دون الآخر ، وذلك اما للاضطرار أو لخروجه عن محل الابتلاء ، أو لعدم انفعاله كما في مثال الكرّ والاناء ، فلا يتنجز التكليف فيه بالاجتناب لأنّ المفروض خروج أحدهما عن كونه كذلك ويبقى الآخر مشكوكا بالشك البدوي فتجري فيه البراءة.

هذا كله إذا كان الاضطرار إلى المعيّن قبل العلم الاجمالي أو مع العلم الاجمالي (و) أما (ان كان) الاضطرار الى المعيّن (بعده) أي : بعد العلم الاجمالي ، بان علم بنجاسة احد المشتبهين من الماء أو اللبن ، ثم اضطر إلى اللبن (فالظاهر : وجوب الاجتناب عن الآخر) وهو الماء في المثال.

وانّما يجب الاجتناب عن الآخر (لانّ الإذن في ترك بعض المقدّمات العلميّة

٦

بعد ملاحظة وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي يرجع إلى اكتفاء الشارع في امتثال ذلك التكليف بالاجتناب عن بعض المشتبهات.

ولو كان المضطرّ اليه بعضا غير معيّن وجب الاجتناب عن الباقي وإن كان الاضطرار قبل العلم الاجمالي ، لأنّ العلم حاصل بحرمة واحد من

______________________________________________________

بعد ملاحظة وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي) بينهما حيث قد كلّف أوّلا باجتناب الحرام الواقعي المشتبه بين اللبن والماء ، فاذا إذن له في ارتكاب اللبن لأنه صار مضطرا إليه ، فهذا الاذن (يرجع إلى اكتفاء الشارع في امتثال ذلك التكليف بالاجتناب عن بعض المشتبهات) لا الترخيص في كل المشتبهات.

وعليه : فانّه بعد تنجّز التكليف بالاجتناب للعلم الاجمالي بوجود النجس بين اللبن والماء إذا أذن له بارتكاب اللبن الذي هو بعض الأطراف لم يكن وجه لسقوط التكليف عن الطرف الآخر الذي هو الماء فيبقى على وجوبه.

هذا تمام الكلام فيما إذا كان الاضطرار الى أحدهما المعيّن.

(و) أمّا (لو كان المضطرّ اليه بعضا غير معيّن) كما مثلنا له بإناءين من لبن حيث لا يختلف الحال في ان يشرب هذا أو ذاك ، فانه إذا اضطر المكلّف إلى أحدهما (وجب الاجتناب عن الباقي) مطلقا سواء كان الاضطرار قبل العلم أم بعد العلم ، ولهذا فسّره بقوله : (وإن كان الاضطرار قبل العلم الاجمالي) بان اضطر الى شرب أحد اللبنين أولا ، ثم علم بأن أحدهما نجس ، ففي كلتا الصورتين يجب الاجتناب عن الباقي.

وانّما يجب الاجتناب عن الباقي مطلقا (لأنّ العلم حاصل بحرمة واحد من

٧

امور لو علم حرمته تفصيلا وجب الاجتناب عنه ، وترخيص بعضها على البدل موجب لاكتفاء الامر بالاجتناب عن الباقي.

فان قلت : ترخيص ترك بعض المقدّمات دليل على عدم إرادة الحرام الواقعي ، ولا تكليف بما عداه ، فلا مقتضي لوجوب الاجتناب عن الباقي.

قلت : المقدّمة العلميّة مقدّمة للعلم ،

______________________________________________________

امور لو علم حرمته تفصيلا وجب الاجتناب عنه ، و) ذلك لفرض ان الاضطرار يرتفع بارتكاب ذلك البعض غير المعين ، فان (ترخيص بعضها على البدل موجب لاكتفاء الامر بالاجتناب عن الباقي).

وعليه : فان التكليف بالاجتناب قد تنجز فاذا أذن له بارتكاب البعض غير المعين ، وكان الاجتناب عن البعض الآخر باقيا على وجوبه ، اذ لا وجه لرفع اليد عنه.

(فان قلت : ترخيص) الشارع في (ترك بعض المقدّمات) أذن بارتكاب المضطر إليه المعين أو غير المعين ، معناه : رفع يده عن بعض المقدّمات العلمية للحرام الواقعي ، وهو (دليل على عدم إرادة) الشارع اجتناب (الحرام الواقعي) وذلك للملازمة بين ارادة الشارع اجتناب الحرام الواقعي ووجوب المقدّمات.

(و) عليه فاذا كان الترخيص في البعض ملازما لعدم التكليف بالواقع ، فلا تكليف رأسا ، اذ (لا تكليف بما عداه) أي : بما عدا الحرام الواقعي ، وحينئذ (فلا مقتضي لوجوب الاجتناب عن الباقي) فمن اين قلتم بوجوب اجتناب الباقي؟.

(قلت : المقدمّة العلميّة مقدّمة للعلم) أي : مقدمة لعلم المكلّف بانّه قد اجتنب عن الحرام الواقعي وليست المقدمة مقدمة لنفس اجتناب الحرام الواقعي ، حتى

٨

واللّازم من الترخيص فيها عدم وجوب تحصيل العلم ، لا عدم وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي رأسا.

وحيث أنّ الحاكم بوجوب تحصيل العلم هو العقل ، بملاحظة تعلّق الطّلب الموجب للعقاب على المخالفة الحاصلة من ترك هذا المحتمل ، كان الترخيص المذكور موجبا للأمن من

______________________________________________________

يكون رفع اليد عن بعض المقدمات دليلا على اسقاط الشارع الحرام عن الحرمة.

(و) عليه : فانّ (اللّازم من الترخيص فيها) أي : في بعض المقدمات (عدم وجوب تحصيل العلم) بالاجتناب عن الحرام الواقعي (لا عدم وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي رأسا).

إذن : فالشارع يريد اجتناب الحرام الواقعي بقدر الامكان ، فيبقى الباقي على وجوبه ، لانّ الاذن في ارتكاب أحدهما لا يدلّ على عدم وجوب الاجتناب رأسا ، بل يدل على عدم وجوب تحصيل العلم بالاجتناب عن الحرام الواقعي والاكتفاء بالاجتناب الظني وهو يحصل بالاجتناب عن احدهما.

هذا (وحيث انّ الحاكم بوجوب تحصيل العلم) باجتناب الحرام الواقعي المتحقق باجتناب كلا المشتبهين (هو العقل بملاحظة تعلّق الطّلب) من الشارع بالاجتناب عن الحرام الواقعي (الموجب للعقاب على المخالفة الحاصلة) تلك المخالفة (من ترك) اجتناب (هذا المحتمل) معيّنا ، أو مخيّرا بينه وبين المحتمل الآخر.

ومن المعلوم : إنّ الانسان اذا ترك الاجتناب عن هذا المحتمل أو عن ذاك المحتمل ، احتمل العقاب على هذه المخالفة ، ولذلك (كان الترخيص المذكور) من الشارع في ترك الاجتناب عن بعض المقدمات (موجبا للأمن من

٩

العقاب على المخالفة الحاصلة في ترك هذا الذي رخّص في تركه ، فيثبت من ذلك تكليف متوسط بين نفي التكليف رأسا وثبوته متعلّقا بالواقع على ما هو عليه.

وحاصله : ثبوت التكليف بالواقع من الطريق الذي رخّص الشارع في امتثاله منه ،

______________________________________________________

العقاب على المخالفة الحاصلة) احتمالا (في ترك) الاجتناب عن (هذا الذي رخّص في تركه) الشارع فقط ، دون بقية الاطراف.

وعليه : فانّ الشارع سواء رخّص في ترك المعين أو رخّص في ترك أحدهما على البدل ، فانّه ينحصر احتمال العقاب في المحتمل الآخر ، فيجب اجتنابه لا ان يترك الاجتناب عن كلا المشتبهين لأنّه اضطر الى أحدهما.

والحاصل : ان احتمال الحرام الواقعي باق والعقل يرى لزوم اجتنابه ، لأنّ التكليف بالاجتناب منجّز ، والخارج عن محتمل العقاب هو المضطر إليه فقط ، فلا وجه لارتكاب غير المضطر إليه.

وعليه : (فيثبت من ذلك) أي : من تنجّز التكليف من جهة وإذن الشارع في ارتكاب أحدهما من جهة ثانية (تكليف متوسط بين : نفي التكليف رأسا) حتى يجوز له ارتكاب كليهما.

(وثبوته) أي : ثبوت التكليف (متعلّقا بالواقع على ما هو عليه) حتى يلزم عليه اجتناب كليهما لا ، وانّما التكليف ثابت في الجملة ، كما انّه منفي في الجملة لا انّ كل التكليف ثابت ولا انّ كل التكليف منفي.

(وحاصله :) أي : حاصل التكليف المتوسط هو : (ثبوت التكليف بالواقع من الطريق الذي رخّص الشارع في امتثاله) أي : امتثال ذلك الواقع (منه) أي :

١٠

وهو ترك باقي المحتملات.

وهذا نظير جميع الطرق الشرعيّة المجعولة للتكاليف الواقعيّة ، ومرجعه الى القناعة عن الواقع ببعض محتملاته معيّنا ، كما في الأخذ بالحالة السابقة في الاستصحاب ، أو مخيّرا

______________________________________________________

من ذاك الطريق (وهو ترك باقي المحتملات) غير المضطر اليها ، فالمضطر إليه خارج والباقي داخل في التكليف.

(وهذا) التكليف المتوسط لا بدع فيه ، اذ هو (نظير جميع الطرق الشرعيّة المجعولة للتكاليف الواقعيّة) فان الشارع يريد التكاليف الواقعية ، لكن جعل لها طرقا ، فما وافق الطريق ارادة الشارع من المكلّف ، وما لم يوافقها لم يرده على نحو التنجيز ، لانّ الشارع يريد الواقع الواصل لا الواقع مطلقا.

وعليه : فانّ معنى حجيّة الخبر ـ مثلا ـ انك اذا احتملت كون الشيء في الواقع حراما أو حلالا ، ثم قام الخبر على حليته أو حرمته ، كان معنى ذلك : انّ الشارع يريد الواقع من طريق الخبر سواء وافق الخبر الواقع أم لم يوافق الواقع ، وكذلك حال جميع الامور التي هي حجّة من قبل الشارع مثل : الظواهر ، والاجماع ، والشهرة المحققة ، والسيرة ، وغير ذلك ممّا ذكروه في محله.

(ومرجعه) أي : مرجع التكليف المتوسط (الى القناعة) من الشارع (عن الواقع ببعض محتملاته) أي : محتملات الواقع (معيّنا) كما لو اضطر الى أحد المشتبهين معيّنا ، فانّه يأتي بذلك المشتبه المعين اضطرارا ويترك المشتبه الآخر.

و (كما في الأخذ بالحالة السابقة في الاستصحاب) وترك ما عداها ، فانّ الشارع قنع بها عن الواقع مع امكان أن يكون الواقع فيما عدا ذلك.

(أو مخيّرا) كما اذا اضطر الى أحد المشتبهين لا على التعيين ، فانّ الشارع

١١

كما في موارد التخيير.

وممّا ذكرنا تبيّن أنّ مقتضى القاعدة عند انسداد باب العلم التفصيلي بالاحكام الشرعية وعدم وجوب تحصيل العلم الاجمالي فيها بالاحتياط ،

______________________________________________________

اكتفى بامتثال الواقع بترك أحد المحتملين مخيّرا وارتكاب أحدهما من باب الاضطرار ، فان كان المتروك موافقا للواقع فبها ونعمت ، وان كان مخالفا فقد جعله الشارع بدلا عن الواقع.

و (كما في موارد التخيير) بين الخبرين ، أو المجتهدين ، أو ما اشبه ذلك ، حيث أنّ الشارع اكتفى في امتثال الواقع باختيار أحدهما.

(وممّا ذكرنا) في وجه ترك الاحتياط في بعض أطراف العلم الاجمالي لأجل الاضطرار ، وانه يلزم ان يكون الترك بقدر الاضطرار وهو لا يوجب سقوط التكليف بالنسبة الى باقي الأطراف ، يرد الاشكال الى الانسداديين القائلين بأنّه اذا لم يتمكن المكلّف من جميع المحتملات يأتي بالمظنون منها فقط ، مع ان مقتضى القاعدة : أن يأتي بالقدر الممكن الأعم من المظنونات.

وانّما يكون مقتضي القاعدة ذلك ، لانك قد عرفت : انّ الاضطرار يرفع الحكم بقدر الاضطرار لا أكثر من ذلك ، فان كانت المحتملات ألف حكم ولم يتمكن الّا من خمسمائة وكان أربعمائة منها مظنونات ، فاللازم أن يأتي بالخمسمائة ، وذلك باضافة مائة من غير المظنونات أيضا بالاربعمائة المظنونات فقط.

وانّما يكون اللازم ذلك لانه قد (تبيّن أنّ مقتضى القاعدة عند انسداد باب العلم التفصيلي بالأحكام الشرعية ، وعدم وجوب تحصيل العلم الاجمالي فيها) أي : في كل تلك الأحكام (بالاحتياط) التام ، وذلك باتيان جميع المحتملات ،

١٢

لمكان الحرج ، أو قيام الاجماع على عدم وجوبه ، أن يرجع في ما عدا البعض المرخّص في ترك الاحتياط فيه ، أعني موارد الظنّ مطلقا أو في الجملة ، الى الاحتياط.

مع أنّ بناء أهل الاستدلال بدليل الانسداد بعد ابطال الاحتياط ووجوب العمل بالظّن مطلقا ، أو في الجملة ، على الخلاف بينهم على الرجوع

______________________________________________________

فانه لا يجب (لمكان الحرج) الحاصل من الاتيان بجميع المحتملات (أو) انه لا يجب لاجل (قيام الاجماع على عدم وجوبه) أي : على عدم وجوب الاحتياط التام.

إذن : فالمقتضي هو : (أن يرجع) عند ذلك (في ما عدا البعض المرخّص في ترك الاحتياط فيه) والمرخّص هو : ما كان مستلزما للعسر أو الخروج أو قام الاجماع على انّه لا يلزم الاحتياط فيه ، كما قال :

(أعني) من المرخّص فيه : (موارد الظّن) بعدم التكليف ، للحرج وما أشبه (مطلقا) حيث انه لا تكليف فيما لم يكن بمظنون سواء كان الظن قويا أم ضعيفا (أو في الجملة) بأن كان الظن بعدمه قويا ، فالمرجع يكون (الى الاحتياط) بالنسبة الى القدر الممكن ، لا ان يترك الاحتياط الى المظنونات فقط مع ان المظنونات اقل من القدر الممكن.

هذا (مع انّ بناء أهل الاستدلال بدليل الانسداد بعد ابطال الاحتياط) التام في كل المحتملات (ووجوب العمل بالظّن) في باب الاحكام (مطلقا) سواء كان الظن قويا أم ضعيفا (أو في الجملة) بأن كان وجوب العمل بالظن القوي فقط ، وذلك (على الخلاف بينهم) في انّ دليل الانسداد هل يوجب الاحتياط بالعمل بالظن القوي فقط ، أو بالظن الأعم من القوي والضعيف؟ هو (على الرجوع

١٣

في غير موارد الظن المعتبر الى الاصول الموجودة في تلك الموارد دون الاحتياط.

نعم ، لو قام بعد بطلان وجوب الاحتياط دليل عقلي ، أو إجماع على وجوب كون الظنّ مطلقا ، أو في الجملة ، حجّة وطريقا في الاحكام الشّرعيّة ، أو منعوا أصالة وجوب الاحتياط عند الشك في المكلّف به ، صحّ ما جروا عليه

______________________________________________________

في غير موارد الظن المعتبر الى الاصول الموجودة في تلك الموارد) المشكوكة بخصوصها : من البراءة ، أو الاحتياط ، أو الاستصحاب ، أو التخيير (دون الاحتياط) التام في كل المحتملات الذي أبطلوه.

إذن : فالانسداديون لا يقولون بلزوم الاحتياط بالقدر الممكن ، لأنه اذا كانت المظنونات بالنسبة الى الميسور من الاحتياط أقل من القدر الممكن لكان ينبغي حينئذ وجوبه العمل بقدر الميسور الذي هو فوق قدر الظن ، لا ان يعمل المكلّف بقدر الظن وان كان فوق قدر الظن ميسورا.

(نعم ، لو قام بعد بطلان وجوب الاحتياط) التام (دليل عقلي أو اجماع على وجوب كون الظّن مطلقا) قويا كان أو ضعيفا (أو في الجملة) بأن كان خصوص الظن القوي ـ مثلا ـ (حجّة وطريقا في الاحكام الشّرعيّة) حتى يكون الظن هو محور الأخذ والرّد والعطاء والمنع.

(أو منعوا اصالة وجوب الاحتياط عند الشك في المكلّف به) بأن أجازوا الرجوع الى البراءة ما لم يؤدّ الى المخالفة القطعية.

وحينئذ : فاذا تم أحد الامرين عند القائلين بالانسداد (صحّ ما جروا عليه) من العمل بالظن فقط دون القدر الميسور من الاحتمالات ، ولكنهم لم يقيموا دليلا على ذلك.

والحاصل : انّه اذا كان دليل العمل بالظن : عدم لزوم الحرج من العمل بكل

١٤

من الرجوع في موارد عدم وجود هذا الطريق الى الاصول الجارية في مواردها.

لكنّك خبير بأنّه لم يقم ولم يقيموا على وجوب اتّباع المظنونات إلّا بطلان الاحتياط ، مع اعتراف اكثرهم بأنّه الاصل في المسألة وعدم جواز ترجيح المرجوح.

______________________________________________________

المحتملات ، لزم ترك ما يستلزم الحرج فقط لا ترك الأكثر ، بينما الذين يوجبون العمل بالظن فقط يقولون بأنه لا يلزم سائر المحتملات غير المظنونة وان لم يكن في الاتيان بغير المظنونة حرج.

نعم ، لو كان هناك دليل على العمل بالظن فقط بعد ابطال وجوب الاحتياط في جميع المحتملات فانه يصح ما جروا عليه (من الرجوع في موارد عدم وجود هذا الطريق) الظني (الى الاصول الجارية في مواردها) من الاستصحاب والبراءة وغيرهما.

هنا (لكنّك خبير بأنّه لم يقم ، ولم يقيموا) اي : القائلون بالانسداد (على وجوب اتّباع المظنونات إلّا) دليلين فقط ، وهما كالتالي :

أولا : (بطلان الاحتياط) التام في الكل ، ومن المعلوم : انّه لا تلازم بين بطلان الاحتياط في الكل ، وبين حجيّة المظنونات فقط (مع اعتراف اكثرهم : بانّه) اي : الاحتياط هو (الاصل في المسألة) أي : مسألة العلم الاجمالي ، فان الانسداديين يعترفون : بأن الأصل في مسألة العلم الاجمالي هو الاحتياط.

وعليه : فكيف تتركوا من ذلك الى المظنونات فقط مع انّ الاحتياط أوسع دائرة من المظنونات بعد اخراج مقدار الحرج منها؟.

(و) ثانيا : انهم لم يقيموا على وجوب اتباع المظنونات بعد بطلان الاحتياط الّا دليل (عدم جواز ترجيح المرجوح) على الراجح ، وذلك بان يترك الاحتياط

١٥

ومن المعلوم أنّ هذا لا يفيد الّا جواز مخالفة الاحتياط بموافقة الطرف الراجح في المظنون دون الموهوم ، ومقتضى هذا لزوم الاحتياط في غير المظنونات.

السادس :

لو كان المشتبهات ممّا يوجد تدريجا ، كما اذا كانت زوجة الرجل مضطربة في حيضها ، بأن تنسى وقتها وإن حفظت عددها ،

______________________________________________________

لتوهم عدم التكليف أو احتمال عدمه فانه لا يجوز.

(ومن المعلوم انّ هذا) الدليل (لا يفيد الّا جواز مخالفة الاحتياط بموافقة الطرف الراجح في المظنون) فقط فانّه اذا كان التكليف مظنون العدم ، جاز فيه مخالفة الاحتياط وتركه لموافقة الظن بعدم التكليف (دون الموهوم) فانه لا يجوز ترك الاحتياط ومخالفته فيما اذا كان التكليف مشكوك العدم أو موهومه.

وعليه : فاذا دار الأمر بين المظنون والموهوم اخذ بالمظنون وترك الموهوم ، ولكن ليس الامر كذلك في المشكوك ، فان الاخذ به ليس من ترجيح المرجوح (و) بذلك يكون (مقتضى هذا) الدليل وسابقه هو : (لزوم الاحتياط في غير المظنونات) أيضا على ما عرفت تفصيله.

(السادس) من التنبيهات : (لو كان المشتبهات ممّا يوجد تدريجا ، كما اذا كانت زوجة الرجل مضطربة في حيضها ، بأن تنسى وقتها وان حفظت عددها) وذلك فيما اذا كانت مبتلاة بسيلان الدم في تمام الشهر ، فان بعض هذا الدم حيض وبعض هذا الدم استحاضة بلا اشكال.

١٦

فتعلم اجمالا أنّها حائض في الشهر ثلاثة أيام ـ مثلا ـ فهل يجب على الزوج الاجتناب عنها في تمام الشهر؟ ويجب على الزّوجة أيضا الامساك عن دخول المساجد وقراءة العزيمة تمام الشهر ، أم لا؟ وكما اذا علم التاجر اجمالا بابتلائه في يومه أو شهره بمعاملة ربويّة ، فهل يجب عليه الامساك عمّا لا يعرف حكمه من المعاملات في يومه أو شهره أم لا؟.

______________________________________________________

وحينئذ : (فتعلم اجمالا أنّها حائض في الشهر ثلاثة أيام ـ مثلا ـ) لكنّها لا تعلم هل هو في أول الشهر ، أو في وسط الشهر ، أو في آخره ، أو ما بين ذلك؟.

وعليه (فهل يجب على الزوج الاجتناب عنها في تمام الشهر؟ ويجب على الزّوجة أيضا الامساك عن دخول المساجد وقراءة العزيمة) ومسّ كتابة القرآن وما أشبه ذلك في (تمام الشهر ، أم لا) يجب؟ وهذا البحث إنّما هو لمعرفة الحكم حسب مقتضى الاصل مع غض النظر عن الدليل الخاص ، فان احكام المضطربة حتى مثل هذه مذكورة في الفقه حسب الروايات ، أو مراجعة الاقران ، أو ما اشبه ذلك.

(وكما اذا علم التاجر اجمالا بابتلائه في يومه أو شهره بمعاملة ربويّة) أو معاملة غير جائزة كمعاملة الميتة ، أو ما أشبه ذلك (فهل يجب عليه الامساك عمّا لا يعرف حكمه من المعاملات) أو لم يعرف موضوعه بان يعلم انه ميتة او مذكاة ، فهل يجب الامساك (في يومه أو شهره أم لا) يجب عليه الامساك بل يصح له التعامل طول الشهر؟.

في المسألة احتمالات اربعة :

الأول : الامساك طول الشهر وهو مقتضى العلم الاجمالي.

خروج ما عدا الموجود بالفعل عن

١٧

التحقيق أن يقال : إنّه لا فرق بين الموجودات فعلا والموجودات تدريجا في وجوب الاجتناب عن الحرام المردّد بينهما إذا كان الابتلاء دفعة ، وعدمه

______________________________________________________

الشهر خارج عن محل الابتلاء فيجري في اول الشهر أصل البراءة بلا معارض والجريان إنّما هو من الشك البدوي ، وهكذا في بقية أيام الشهر ، فيجوز حينئذ ارتكاب الجميع.

الثالث : التخيير الابتدائي أو الاستمراري في حصر الحرام بوقت خاص كأول الشهر ـ مثلا ـ والجريان عليه او تغييره في الاشهر المتعددة ، أو المعاملات المتعددة ، وهو مقتضى الجمع بين حقه في التصرف وحق الله سبحانه تعالى في المنع.

الرابع : الارتكاب الى أن تبقي ثلاثة أيّام من الشهر ، او الى ان تبقى معاملة واحدة مجهولة ، حيث يحصل العلم بأن الحرام اما فيما سبق ، او في هذه الاخيرة ، وهو مقتضي كون العلم منجزا للتكليف.

وهناك بعض الاحتمالات الأخر مثل : القرعة والعمل بالظن ، وقاعدة الانصاف في موارده ، الى غير ذلك.

ولا يخفى : ان مثل هذا الأمر يأتي أيضا فيما اذا لم يقدر على القيام في الصلاة الّا في ركعة واحدة ـ مثلا ـ فهل يأتي بالركعة من قيّام أولا أو يتخيّر بينها؟ وكذا اذا لم يتمكن من صيام كل الشهر ، فهل يجوز أن يفطر أوّل الشهر أو اللازم تأخير الافطار الى وقت الاضطرار؟.

(التحقيق أن يقال : إنّه لا فرق بين الموجودات فعلا) أي : المجتمعات في الزمان (والموجودات تدريجا) أي : المتفرقات في أزمنة متعددة (في وجوب الاجتناب عن الحرام المردّد بينهما إذا كان الابتلاء دفعة ، وعدمه) أي : عدم كون الابتلاء دفعة بل تدريجا ، فانّه لا فرق بين الابتلاء الدفعي والتدريجي في وجوب

١٨

لاتحاد المناط في وجوب الاجتناب.

نعم ، قد يمنع الابتلاء دفعة في التدريجيات ، كما في مثال الحيض ، فانّ تنجّز تكليف الزّوج بترك وطي الحائض قبل زمان حيضها ممنوع ، فانّ قول الشارع : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى

______________________________________________________

الاجتناب عن الجميع.

وانّما لا فرق بينهما (لاتحاد المناط في وجوب الاجتناب) وهو : العلم الاجمالي وفعلية التكليف على التقديرين ، فانّ العقلاء لا يفرّقون في وجوب الاجتناب بين قول المولى : لا تشرب هذا الماء وتردد بين الماء في الاناء الأبيض أو الماء في الاناء الأحمر ، وبين قول المولى : لا تشرب هذا الماء ، وتردّد بين ان قال له : لا تشربه هذا اليوم أو لا تشربه غدا.

كما ان الشأن كذلك في وجوب الاحتياط في باب الأوامر : بأن قال له المولى : صلّ هذا اليوم وتردّد بين الظهر أو الجمعة ، أو قال له : صلّ وتردّد في انّه يجب عليه الصلاة هذا اليوم أو الصلاة غدا؟.

وكذلك الحال في القسم الثالث : وهو ما اذا كان امر ونهي وتردّد بينهما هذا اليوم ، أو تردّد بينهما في كون هذا اليوم الأمر وغدا النهي ـ مثلا ـ؟.

(نعم ، قد يمنع الابتلاء دفعة في التدريجيات) كمثال الحيض وما أشبه ذلك ، فيقال : بأنه لا يمكن فيها كون التكليف فعليا ، لان فعلية التكليف متوقفة على فعلية المكلّف به ولا فعلية للمكلف به (كما في مثال الحيض ، فانّ تنجّز تكليف الزّوج بترك وطي الحائض قبل زمان حيضها ممنوع) فلا تكليف فعليّ به.

وعليه : (فانّ قول الشارع : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى

١٩

يَطْهُرْنَ) ، ظاهر في وجوب الكفّ عند الابتلاء بالحائض ، اذ الترك قبل الابتلاء حاصل بنفس عدم الابتلاء ، فلا يطلب بهذا الخطاب ، كما أنّه مختصّ بذوي الأزواج ، ولا يشمل العزّاب ، إلّا على وجه التعليق ، فكذلك من لم يبتل بالمرأة الحائض.

ويشكل الفرق بين

______________________________________________________

يَطْهُرْنَ) (١) ، ظاهر في وجوب الكفّ عند الابتلاء بالحائض) لا انّه يشمل في الحال الحاضر الحيض المستقبل ، فانه لا يقال للخروج في شهر شعبان : يحرم عليك الوطي ويراد بذلك الوطي في شهر رمضان.

وإنّما يكون ظاهرا في وجوب الكف عند الابتلاء (اذ الترك قبل الابتلاء حاصل بنفس عدم الابتلاء) فانّ عدم وطي المرأة قبل الحيض أمر قهري في أنه لا يكون وطيا في حال الحيض (فلا يطلب بهذا الخطاب) لأنه اذا طلب كان من تحصيل الحاصل.

والحاصل : (كما أنّه) اي : الخطاب بترك وطي الحائض (مختصّ بذوي الأزواج ، و) ذلك بان تكون له زوجة وهي حائض ، لا الذي ليس له زوجة ، أو له زوجة لكنها منقطعة ـ مثلا ـ فانه لا يشمله الخطاب بترك وطيها ، وكذلك لا يشمله الخطاب بترك وطيها ان لم تكن حائضا بالفعل.

إذن : فالخطاب بترك وطي الحائض (لا يشمل العزّاب إلّا على وجه التعليق) وذلك بأن يقول ان ابتليت بزوجة حائض فاترك وطيها ، فانه كما يختص الخطاب بذوي الازواج (فكذلك من) تزوج وهو (لم يبتل بالمرأة الحائض) فانّه لا يشمله الخطاب : ايضا الّا على وجه التعليق.

(و) لكن اذا قلنا بعدم تنجز التكليف بالنسبة الى الحيض (يشكل الفرق بين

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٢٢٢.

٢٠