الوصائل الى الرسائل - ج ٩

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل الى الرسائل - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-09-0
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

وفيه أولا : أنّ المستند في وجوب الاجتناب في المحصور اقتضاء دليل نفس الحرام المشتبه لذلك بضميمة حكم العقل ، وقد تقدّم بما لا مزيد عليه : أنّ أخبار حلّ الشبهة لا يشمل صورة العلم الاجمالي بالحرام.

وثانيا : لو سلّمنا شمولها لصورة العلم الاجمالي

______________________________________________________

(وفيه أولا : انّ المستند في وجوب الاجتناب في المحصور : اقتضاء دليل نفس الحرام المشتبه لذلك) اي : لوجوب الاجتناب ، لما تقدّم من ان قوله : اجتنب عن الخمر ، واجتنب عن الميتة ، واجتنب عن الغصب ، يشمل الموارد المعلومة اجمالا.

ومن الواضح : ان الحرام معلوم اجمالا في المحصورة وغير المحصورة ، فيجب الاجتناب عنه فيهما ، وذلك (بضميمة حكم العقل) بوجوب دفع الضرر المحتمل الجاري في كليهما.

إذن : فالمستند لوجوب الاحتياط في العلم الاجمالي ليس هو أخبار الاحتياط حتى يقال باختصاصها بالمحصورة في مقابل اختصاص أخبار الحلّ بغير المحصورة للجمع بينهما (و) ذلك لانّه (قد تقدّم بما لا مزيد عليه : إنّ أخبار حلّ الشبهة لا يشمل صورة العلم الاجمالي بالحرام) اطلاقا لانها لو كانت شاملة لصورة العلم الاجمالي لوقع التعارض بين هذه الاخبار وبين ادلة المحرّمات ، بينما لا تعارض بين الطائفتين.

وإنّما لا تعارض بين الطائفتين لأنّ مقتضى أخبار الاحتياط : وجوب الاحتياط في المحصورة وغير المحصورة على حدّ سواء ، ومقتضى أخبار الحل : حليّة الشبهة البدوية فقط على ما ذكرناه سابقا للقرائن الدالة على ذلك.

(وثانيا : لو سلّمنا شمولها) اي : شمول اخبار الحل (لصورة العلم الاجمالي

٦١

حتى يشمل الشبهة غير المحصورة ، لكنها تشمل المحصورة أيضا ، وأخبار وجوب الاجتناب مختصّة بغير الشبهة الابتدائية إجماعا ، فهي على عمومها للشبهة غير المحصورة أيضا أخصّ مطلقا من أخبار الرّخصة.

______________________________________________________

حتى يشمل الشبهة غير المحصورة) التي هي محل الكلام (لكنها تشمل المحصورة أيضا) تعمّها فتشمل أخبار الحل شبهات ثلاث : المحصورة وغير المحصورة والبدوية ، بينما (وأخبار وجوب الاجتناب مختصّة) بصورة العلم الاجمالي ، اي : (بغير الشبهة الابتدائية إجماعا) فقد قام الاجماع على عدم وجوب الاجتناب في الشبهة البدوية كما ذكرناه سابقا ، فتختص أخبار الاحتياط بالشبهة المحصورة وغير المحصورة ، فتقدّم فيهما على أخبار الحل.

والحاصل : انّه لو سلمنا شمول أخبار الحل لصورة العلم الاجمالي ، سواء الشبهة المحصورة أم غير المحصورة ، فانّ اللازم مع ذلك هو العمل باخبار وجوب الاحتياط وتقديمها على اخبار الحل في مورد العلم الاجمالي في كلتا الشبهتين المحصورة وغير المحصورة ، وذلك لانّ أخبار الاحتياط أخص من اخبار الحل ، فان اخبار الحل تشمل المحصورة وغير المحصورة والشبهة البدوية ، واخبار الاحتياط خاصة بالشبهة المحصورة وغير المحصورة ، فالجمع بينهما يقتضي تقديم أخبار الاحتياط في الشبهة المحصورة وغير المحصورة على اخبار الحل.

إذن : (فهي) اي : أخبار الاحتياط (على عمومها) وشمولها للشبهة المحصورة و (للشبهة غير المحصورة) تكون (أيضا أخصّ مطلقا من أخبار الرّخصة) الدالة على الحل ، وذلك لما عرفت : من انّ اخبار الاحتياط تشمل

٦٢

والحاصل : انّ أخبار الحلّ نصّ في الشبهة الابتدائية واخبار الاجتناب نصّ في الشبهة المحصورة ، وكلا الطرفين ظاهران في الشبهة غير المحصورة ، فاخراجها وادخالها في الآخر ليس جمعا ، بل ترجيحا بلا مرجّح ، الّا ان يقال : إنّ أكثر أفراد الشبهة الابتدائية ترجع بالاخرة الى الشبهة غير المحصورة ،

______________________________________________________

الشبهتين ، واخبار الحل البدوية تشمل الشبهات الثلاث ، فيقدّم الخاص وهو الاحتياط على العام وهو الحل فيعمل بالاحتياط في المحصورة وغير المحصورة ويترك الحل للبدوية.

(والحاصل : انّ أخبار الحلّ نصّ في الشبهة الابتدائية وأخبار الاجتناب نصّ في الشبهة المحصورة ، وكلا الطرفين ظاهران في الشبهة غير المحصورة) وكأنّ هذا الكلام من المصنّف اضراب عن كلامه السابق حيث قال : «انّ اخبار الاحتياط أخص مطلقا من اخبار الحل» فانّه بقوله : و «الحاصل» جعل بين هاتين الطائفتين من الاخبار عموما من وجه ، فيكون مادة التعارض هو الشبهة غير المحصورة.

وعليه : (فاخراجها) اي : عن اخبار الاحتياط (وادخالها في الآخر) اي : في اخبار الحل كما صنعه المستدل (ليس جمعا) بين الطائفتين (بل ترجيحا بلا مرجّح) لانّك قد عرفت : انّ كلا من الطائفتين تشمل الشبهة غير المحصورة على حد سواء ، فلا وجه لترجيح احدى الطائفتين على الأخرى بالنسبة الى الشبهة غير المحصورة.

(الّا ان يقال) في تأييد المستدل لادخال الشبهة غير المحصورة في اخبار الحل : (انّ أكثر افراد الشبهة الابتدائية ترجع بالاخرة الى الشبهة غير المحصورة) فتكون الشبهة الابتدائية المحضة قليلة جدا.

٦٣

لأنّا نعلم غالبا بوجود النّجس والحرام في الوقائع المجهولة غير المحصورة.

فلو أخرجت هذه الشبهة عن اخبار الحلّ لم يبق تحتها من الأفراد إلّا النادر ، وهو لا يناسب مساق هذه الاخبار ، فتدبّر.

______________________________________________________

وانّما ترجع الشبهة الابتدائية في الاكثر الى الشبهة غير المحصورة (لانّا نعلم غالبا بوجود النّجس والحرام في الوقائع المجهولة غير المحصورة) لوضوح : انّا شككنا في نجاسة بدننا ، أو ثوبنا ، أو شككنا في حرمة هذه المرأة او تلك الذبيحة ، أو ما اشبه ذلك ، فليس شكنا هذا بدويا حاصلا من دون علم اجمالي ، بل هو على الاغلب بملاحظة علمنا الاجمالي بوجود نجس وحرام كثير في البلاد ، فيكون غير محصورة.

(فلو أخرجت هذه الشبهة) وهي الشبهة غير المحصورة (عن اخبار الحلّ لم يبق تحتها من الأفراد إلّا) الشك البدوي (النادر) جدا (وهو لا يناسب مساق هذه الاخبار) الكثيرة الظاهرة في انّ الشبهة متعدّدة وكثيرة ، لا انّها قليلة.

والحاصل انّ القدر المتيقن في أخبار الحل وان كان هو الشك البدوي ، إلّا انه لما كان الشك البدوي الذي لا يكون ضمن الشبهة غير المحصورة نادرا جدا ، كان من المستبعد ان يراد بأخبار الحل على كثرتها خصوص هذه الافراد النادرة فقط ، فاللازم ان نقول بشمول أخبار الحل للشبهة غير المحصورة أيضا كما ذكره المستدل.

(فتدبّر) ولعل وجهه : ان الشبهة البدوية كثيرة جدا وليست نادرة ، فانا كثيرا ما نشك في انّه هل تنجس ثوبنا أو بدننا أو شيء ممّا يتعلق بنا ابتداء ، من دون علم اجمالي ، ومع ذلك فانه لو فرضنا ان النسبة بين اخبار الحل واخبار الاحتياط

٦٤

الرابع :

بعض الأخبار الدالّة على انّ مجرد العلم بوجود الحرام بين المشتبهات لا يوجب الاجتناب عن جميع ما يحتمل كونه حراما.

مثل ما في محاسن البرقي عن أبي الجارود قال : سالت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن؟ فقلت : اخبرني من رأى انّه يجعل فيه الميتة ، فقال : أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة ، حرّم جميع

______________________________________________________

عموم من وجه ، فعند تعارضهما في الشبهة غير المحصورة ، يكون الجمع بينهما بتقديم أخبار الحل فيها كما قاله المستدل ، وحينئذ تكون اخبار الحل دليلا على الحلّية في الشبهة غير المحصورة.

(الرابع :) من أدلة الحلية في الشبهة غير المحصورة هو : (بعض الأخبار الدالّة على انّ مجرد العلم بوجود الحرام بين المشتبهات) الكثيرة غير المحصورة (لا يوجب الاجتناب عن جميع ما يحتمل كونه حراما) وذلك (مثل ما في محاسن البرقي عن ابي الجارود قال : سالت أبا جعفر) الباقر (عليه‌السلام عن الجبن؟ فقلت : أخبرني من رأى) بعينيه (انّه يجعل فيه الميتة) لانّ الجبن لا يصلح الّا بالأنفحة.

ثم إنّ الإنفحة قد تكون من الحيوان الحلال اللحم : فهو مذكى وان كان من الميتة ، وقد تكون من الحيوان المحرّم اللحم فهو ميتة وان كان من المذكى ، فالإنفحة من الحيوان المحلّل اللحم الذي مات بدون تذكية شرعية محللة كما ذكروا ذلك في محللات الميتة حيث قالوا : بأن الأنفخة من الميتة من قبيل الشعر ، والعظم ، والقرن ، والظلف ، وغير ذلك.

(فقال) عليه‌السلام في جوابه : (أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة ، حرّم جميع

٦٥

ما في الأرض! فما علمت فيه ميتة فلا تاكله ، وما لم تعلم فاشتر وبع وكل ، والله اني لأعترض السّوق وأشتري اللحم والسّمن والجبن ، والله ما أظن كلّهم يسمّون ، هذه البريّة وهذه السّودان» ، الخبر.

فانّ قوله : «أمن أجل مكان واحد» الخبر ، ظاهر في انّ مجرّد العلم بوجود الحرام لا يوجب الاجتناب عن محتملاته.

وكذا قوله عليه‌السلام : «والله ما أظنّ كلّهم يسمّون» فانّ الظاهر

______________________________________________________

ما في الأرض؟) ممّا معناه : انه لا أثر للعلم الاجمالي المذكور في التحريم ، بل (فما علمت) تفصيلا ان (فيه ميتة فلا تأكله ، وما لم تعلم فاشتر وبع وكل).

ثم انّ الامام عليه‌السلام أكّد قوله ذلك بسيرته عليها حيث قال : (والله اني لأعترض السّوق) اي : ادخل السوق (وأشتري اللحم والسّمن والجبنّ والله ما أظن كلّهم يسمّون) حتى مثل (هذه البرّيّة) الذين يسكنون البراري بعيدا عن العلم والعلماء ، فلا يعرفون الأحكام ولا يبالون بها اذا عرفوها (وهذه السّودان) (١) الذين يعيشون في الصحاري تحت وهج الشمس حتى اسودّت وجوههم منها ، فبقوا لا يعلمون الآجام ولا يلتزمون بها ، الى آخر (الخبر).

وعليه : (فانّ قوله) عليه‌السلام : («أمن أجل مكان واحد») الى آخر (الخبر ، ظاهر في انّ مجرّد العلم) الاجمالي (بوجود الحرام) في امور كثيرة غير محصورة (لا يوجب الاجتناب عن محتملاته) اي : عن محتملات ذلك العلم الاجمالي الكثير الاطراف.

(وكذا قوله عليه‌السلام : «والله ما أظنّ كلّهم يسمّون») ظاهر في ذلك (فانّ الظاهر

__________________

(١) ـ المحاسن : ص ٤٩٥ ح ٥٩٧ ، وسائل الشيعة : ج ٢٥ ص ١١٩ ب ٦١ ح ٣١٣٨٠ (بالمعنى).

٦٦

منه إرادة العلم بعدم تسمية جماعة حين الذبح ، كالبريّة والسودان ، الّا ان يدّعى انّ المراد انّ جعل الميتة في الجبن في مكان واحد لا يوجب الاجتناب عن جبن غيره من الأماكن. ولا كلام في ذلك ، لا أنّه لا يوجب الاجتناب عن كلّ جبن يحتمل أن يكون من ذلك المكان ، فلا دخل له بالمدّعى.

وامّا قوله : «ما أظنّ كلّهم يسمّون» ، فالمراد منه عدم وجوب الظن ، أو القطع بالحليّة ،

______________________________________________________

منه) اي : من مثل هذه العبارة عرفا : (إرادة العلم بعدم تسمية جماعة حين الذبح ، كالبريّة والسودان) فهو من قبيل العلم الاجمالي بالنجاسة والحرمة ، لا من قبيل عدم العلم.

(الّا ان يدّعى : انّ المراد) منه هو : تحليل الامام الشبهة البدوية ، أو تحليل الامام الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي اذا كان بعض اطرافها خارجا عن محل الابتلاء ، فيكون مراده عليه‌السلام منه هو : (انّ جعل الميتة في الجبن في مكان واحد) كالعراق ـ مثلا ـ (لا يوجب الاجتناب عن جبن غيره من الأماكن) كالحجاز ـ مثلا ـ (ولا كلام في ذلك) لانّه من الشك البدوي ، فلا يكون الخبر متعرّضا للعلم الاجمالي في الشبهة غير المحصورة (لا أنّه) اي : لا ان مراد الامام هو : انّ جعل الميتة في الجبن في مكان (لا يوجب الاجتناب عن كلّ جبن يحتمل أن يكون من ذلك المكان) فالامام عليه‌السلام في صدد نفي الاحتياط في الشك البدوي ، لا في مورد العلم الاجمالي غير المحصور (فلا دخل له) اي : لما ذكره عليه‌السلام على هذا (بالمدّعى) : من حلّية الشبهة غير المحصورة.

(وأمّا قوله) عليه‌السلام : («ما أظنّ كلّهم يسمّون» فالمراد منه : عدم وجوب الظن ، أو القطع بالحليّة) في مورد يشك الانسان شكا بدويا في الحليّة وعدم الحليّة.

٦٧

بل يكفي اخذها من سوق المسلمين ، بناء على انّ السوق أمارة شرعية لحلّ الجبن المأخوذ منه ، ولو من يد مجهول الاسلام. الّا أن يقال : إنّ سوق المسلمين غير معتبر مع العلم الاجمالي بوجود الحرام ، فلا مسوّغ للارتكاب إلّا كون الشبهة غير محصورة ، فتأمل.

الخامس :

أصالة البراءة بناء على انّ المانع من اجرائها

______________________________________________________

(بل يكفي أخذها من سوق المسلمين بناء على انّ السوق أمارة شرعية لحلّ الجبن المأخوذ منه) وكذا اللحم المأخوذ منه ، فان الانسان اذا أخذ شيئا من سوق المسلمين (ولو من يد مجهول الاسلام) فانّه يحكم عليه بالحلية ، كما ان الحال كذلك اذا أخذها من يد المسلم.

(الّا أن يقال : انّ سوق المسلمين غير معتبر مع العلم الاجمالي بوجود الحرام) فيه ، اذ العلم الاجمالي كما لا يدع مجالا للاصول العلمية كذلك لا يدع مجالا لسائر الأمارات ، كالسوق واليد ونحوهما (فلا مسوّغ للارتكاب) حينئذ (الّا كون الشبهة غير محصورة) فتكون هذه الرواية دليلا على عدم وجوب الاجتناب عن اطراف الشبهة غير المحصورة.

(فتأمل) فانّا لا نسلم بانّ حصول العلم الاجمالي بحرمة بعض ما في اسواق المسلمين يوجب اسقاط حجيّة السوق ، كما انّ وجود الحرام في يد المسلم لا يوجب اسقاط حجيّة يده على ما قرّر في موضعه.

(الخامس) من أدلة عدم وجوب الاحتياط في اطراف الشبهة غير المحصورة : (أصالة البراءة) الثابتة عقلا ونقلا (بناء! على انّ المانع من اجرائها) اي : من اجراء

٦٨

ليس إلّا العلم الاجمالي بوجود الحرام ، ولكنّه انّما يوجب الاجتناب عن محتملاته من باب المقدّمة العلمية الّتي لا يجب الّا لأجل وجوب دفع الضرر ، وهو العقاب المحتمل في فعل كلّ واحد من المحتملات ، وهذا لا يجري في المحتملات غير المحصورة ، ضرورة أنّ كثرة الاحتمال يوجب عدم الاعتناء بالضّرر المعلوم وجوده بين المحتملات.

ألا ترى الفرق الواضح بين العلم بوجود السمّ في احد اناءين أو واحد من ألفي إناء ،

______________________________________________________

البراءة (ليس الّا العلم الاجمالي بوجود الحرام) فانّ العلم الاجمالي هو الذي يمنع من اجراء البراءة ، لانّ العلم الاجمالي يصلح ان يكون بيانا ، فلا يكون العقاب معه عقابا من غير بيان.

(ولكنّه) اي : لكن العلم الاجمالي (انّما يوجب الاجتناب عن محتملاته) اي : محتملات الحرام (من باب المقدّمة العلمية) المقدمة (الّتي لا يجب) امتثالها (الّا لأجل وجوب دفع الضرر) المحتمل (وهو : العقاب المحتمل في فعل كلّ واحد من المحتملات ، وهذا) اي : احتمال الضرر (لا يجري في المحتملات غير المحصورة).

وإنّما لا يجري في محتملات غير المحصورة (ضرورة ان كثرة الاحتمال يوجب عدم الاعتناء) من العقلاء (بالضّرر المعلوم وجوده بين المحتملات) فدفع الضرر المحتمل لا يكون هنا دليلا لوجوب الاجتناب.

(ألا ترى الفرق الواضح بين العلم بوجود السمّ في احد اناءين) أو خمس أوان ، أو ما أشبه ذلك حيث ان احتمال السم في كل منها يكون بدرجة يوجب اجتناب العقلاء عن ارتكاب ايّ من اطراف هذا العلم (أو) بين (واحد من ألفي

٦٩

وكذلك بين قذف أحد الشخصين لا بعينه وبين قذف واحد من أهل بلد ، فانّ الشخصين كلاهما يتأثران بالأوّل ولا يتأثر احد من أهل البلد بالثاني.

وكذا الحال لو أخبر شخص بموت الشخص المردّد بين ولده وشخص واحد ، وبموت المردّد بين ولده وبين كلّ واحد من اهل بلده ، فانّه لا يضطرب خاطره في الثاني أصلا.

وإن شئت قلت : إنّ ارتكاب المحتمل في الشبهة غير المحصورة لا يكون

______________________________________________________

إناء) حيث ان احتمال السم فيها ضعيف جدا بحيث لا يعتني به العقلاء.

(وكذلك بين قذف أحد الشخصين لا بعينه) بأن قال : أحد ذينك الرجلين زان (وبين قذف واحد من أهل بلد) بأن قال واحد من أهالي البلد الفلاني زان (فانّ الشخصين كلاهما يتأثران بالأوّل) لقوة احتمال ان يكون هو الزاني في نظر العرف (ولا يتأثر احد من أهل البلد بالثاني) لانّ احتمال انطباق الزّنا على كل واحد واحد من مليون انسان ـ مثلا ـ ضعيف جدا.

(وكذا الحال لو اخبر شخص بموت الشخص المردّد بين ولده وشخص واحد) فانّه يتأثر كثيرا (وبموت المردّد بين ولده وبين كلّ واحد من أهل بلده ، فانّه لا يضطرب خاطره في الثاني أصلا) لضعف الاحتمال فيه.

ولهذا نرى العقلاء يسافرون بوسائل النقل الحديثة مع انه يحدث لواحد من كل الف منها حادث اصطدام ـ مثلا ـ ونرى العقلاء يأكلون الجبن مع انّه ما من يوم الّا وبعض الناس يتسممون بسبب أكل الجبن ، الى غير ذلك من الأمثلة الدالة على ان العقلاء لا يعتنون بالضرر المحتمل اذا كان الاحتمال ضعيفا جدا ، وذلك بأن كان الضار غير منحصر ممّا يسمّى بالشبهة غير المحصورة.

(وان شئت قلت : انّ ارتكاب المحتمل في الشبهة غير المحصورة لا يكون

٧٠

عند العقلاء ، إلّا كارتكاب الشبهة غير المقرونة بالعلم الاجمالي.

وكأنّ ما ذكره الامام عليه‌السلام في الرواية المتقدّمة من قوله «أمن أجل مكان واحد» الخبر بناء على الاستدلال به اشارة الى هذا المعنى ، حيث انّه جعل كون حرمة الجبن في مكان واحد منشئا لحرمة جميع محتملاته غير المحصورة من المنكرات المعلومة عند العقلاء التي لا ينبغي للمخاطب ان يقبله ،

______________________________________________________

عند العقلاء إلّا كارتكاب الشبهة غير المقرونة بالعلم الاجمالي) اي الشبهة البدوية ، فانّ احتمال الضرر في الشبهتين عند العقلاء بمنزلة واحدة في عدم الاعتناء بأيّ منهما.

(وكأنّ ما ذكره الامام عليه‌السلام في الرواية المتقدّمة) في أكل الجبن (من قوله) عليه‌السلام : (أمن أجل مكان واحد) (١) الى آخر (الخبر؟ بناء على الاستدلال به) اي : بهذا الحديث للشبهة غير المحصورة الاستدلال به ـ على ما تقدّم ـ للشبهة البدوية ، فانه بناء على ذلك يكون ما في الرواية تلك (اشارة الى هذا المعنى) الذي ذكرناه : من عدم اعتناء العقلاء بالشبهة اذا كانت الاطراف فيها غير محصورة.

وإنّما يكون فيها اشارة اليه ، لانه كما قال : (حيث انّه) اي : الامام عليه‌السلام بسبب استفهامه الانكاري (جعل كون حرمة الجبن في مكان واحد منشئا لحرمة جميع محتملاته غير المحصورة) جعلها (من المنكرات المعلومة) والمسلّمة (عند العقلاء) ومن المنكرات (التي لا ينبغي للمخاطب) وهو السائل (ان يقبله) اي : بأن يقبل مثل هذا المنكر حتى يسأل عنه.

__________________

(١) ـ المحاسن : ص ٤٩٥ ح ٥٩٧ ، وسائل الشيعة : ج ٢٥ ص ١١٩ ب ٦١ ح ٣١٣٨٠ (بالمعنى).

٧١

كما يشهد بذلك كلمة الاستفهام الانكاري ، لكن عرفت أنّ فيه احتمالا آخر يتمّ معه الاستفهام الانكاري أيضا.

وحاصل هذا الوجه انّ العقل اذا لم يستقلّ بوجوب دفع العقاب المحتمل عند كثرة المحتملات ، فليس هنا ما يوجب على المكلّف الاجتناب من كل محتمل ، فيكون عقابه حينئذ عقابا من دون برهان.

فعلم من ذلك أنّ الآمر

______________________________________________________

(كما يشهد بذلك) اي : بكونه من المنكرات المسلّمة لدى العقلاء (كلمة الاستفهام الانكاري) من الامام عليه‌السلام حيث قال : «أمن أجل مكان واحد ...؟» (لكن عرفت انّ فيه) اي : في الحديث (احتمالا آخر) وهو : ان السائل سأل الامام عليه‌السلام عن الشبهة البدوية غير المقرونة بالعلم الاجمالي ، و (يتم معه) اي : مع هذا الاحتمال الثاني (الاستفهام الانكاري أيضا) اي : كان تماما على الاحتمال الأوّل ، فانه كما يستنكر العقلاء جعل حرمة بعض الجبن في هذا المكان منشئا لحرمة الجبن المشكوك نجاسته في مكان آخر ممّا يكون الشك فيه بدويا.

(وحاصل هذا الوجه) وهو : الوجه الخامس الذي ذكرناه دليلا لعدم وجوب الاحتياط في أطراف الشبهة غير المحصورة ، هو : (انّ العقل اذا لم يستقلّ بوجوب دفع العقاب المحتمل عند كثرة المحتملات) لضعف احتمال العقاب في كل من الاطراف الكثيرة (فليس هنا ما يوجب على المكلّف الاجتناب من كل محتمل) لانّه غير عقلائي (فيكون عقابه حينئذ عقابا من دون برهان) فيجري فيه البراءة ، لان وجوب دفع الضرر المحتمل انّما هو في الموارد العقلائية.

وعليه : (فعلم من ذلك) اي : من عدم استقلال العقل بدفع العقاب المحتمل اذا كان في أطراف شبهة في محصورة (انّ) الشارع (الآمر) بالاجتناب عن الخمر ،

٧٢

اكتفى في المحرّم المعلوم إجمالا بين المحتملات بعدم العلم التفصيلي باتيانه ، ولم يعتبر العلم بعدم اتيانه ، فتامّل.

السادس :

انّ الغالب عدم ابتلاء المكلّف إلّا ببعض معيّن من محتملات الشبهة غير المحصورة ويكون الباقي خارجا عن محلّ ابتلائه ، وقد تقدّم عدم وجوب الاجتناب في مثله مع حصر الشبهة فضلا عن غير المحصورة.

______________________________________________________

والميتة ، وما اشبه ذلك (اكتفى في المحرّم المعلوم إجمالا بين المحتملات : بعدم العلم التفصيلي باتيانه ، ولم يعتبر العلم بعدم اتيانه) اي : انّه يحرم المخالفة القطعية لا انّه يوجب الموافقة القطعية.

(فتأمّل) ولعلّه اشارة الى «على الفرق دليل» عدم تمامية هذا الدليل ، لانّ العقل لا يرى فرقا في وجوب الضرر المحتمل قويا كان الاحتياط أو ضعيفا الّا اذا دلّ على الفرق دليل.

(السادس) من أدلة عدم وجوب الاحتياط في اطراف الشبهة غير المحصورة هو : (انّ الغالب عدم ابتلاء المكلّف الّا ببعض معيّن من محتملات الشبهة غير المحصورة ويكون الباقي خارجا عن محلّ ابتلائه) كما إذا كان واحد من بقّالي البلد يبيع الغصب ـ وهم مئات ـ فانّ الغالب عدم ابتلاء الانسان الّا ببعضهم (وقد تقدّم : عدم وجوب الاجتناب في مثله) أي : فيما كان بعضه خارجا عن محل الابتلاء (مع حصر الشبهة فضلا عن غير المحصورة).

وإنّما قال : «فضلا» لما عرفت : من انّ الدليل على الاجتناب عن اطراف الشبهة غير المحصورة ضعيف ، لانّ العلم الاجمالي في اطرافها لا يكون بيانا ،

٧٣

هذا غاية ما يمكن أن يستدلّ به على حكم الشبهة غير المحصورة ، وقد عرفت أنّ أكثرها لا يخلو من منع أو قصور ، لكنّ المجموع منها لعلّه يفيد القطع أو الظّنّ بعدم وجوب الاحتياط في الجملة ، والمسألة فرعيّة يكتفى فيها بالظّن.

______________________________________________________

وذلك من جهة ان احتمال الضرر فيهما غير عقلائي ، فلا يكون معتنى به عند العقلاء.

ثم ان (هذا) الذي ذكرناه من الأدلة الستة ، هو : (غاية ما يمكن ان يستدلّ به على حكم الشبهة غير المحصورة) وهو : عدم الاجتناب عن اطرافها (وقد عرفت : أنّ اكثرها لا يخلو من منع أو قصور) ما عدا الاجماع ، حيث لم يستشكل ، عليه المصنّف من بين هذه الأدلة الستة.

هذا (لكنّ المجموع منها) أي : من تلك الأدلة (لعلّه يفيد القطع أو الظّنّ بعدم وجوب الاحتياط) فيها ، من المعلوم : ان الظنّ الحاصل من هذه الأدلة يكون كافيا للاستناد اليه (في الجملة) أي : مع قطع النظر عن جواز المخالفة القطعيّة وعدم جوازها ، فانّ الكلام الآن في جواز المخالفة الاحتمالية في بعض أطراف الشبهة.

(و) حيث انّ (المسألة فرعيّة) وليست بمسألة اصولية (يكتفى فيها بالظّن) لأنّ الظن حجّة في المسألة الفرعية أما المسألة الاصولية فقد اختلفوا في حجيّة الظن فيها ، مثل : مسألة الاستصحاب ، والبراءة وما أشبههما من المسائل الاصولية ، وذلك لانّ المسائل الاصولية امور شاملة لكثير من المسائل الفرعية ، فالظنّ لا يكون فيها حجّة بخلاف الظن في المسائل الفرعية فانّها حجّة فيها.

لا يقال : فاذا كانت مسألة الشبهة غير المحصورة مسئلة فرعية ، فلما ذا ذكرتموها في الاصول؟.

٧٤

إلّا أنّ الكلام يقع في موارد

الأوّل :

في أنّه هل يجوز ارتكاب جميع المشتبهات في غير المحصورة بحيث لا يلزم العلم التفصيليّ ، أم يجب إبقاء مقدار الحرام؟.

ظاهر إطلاق القول بعدم وجوب الاجتناب هو الأوّل ،

______________________________________________________

لانّه يقال : ذكرناها من باب الاستطراد (إلّا أنّ الكلام يقع في موارد) تخص الشبهة غير المحصورة وهي كما يلي.

(الأوّل : في أنّه هل يجوز ارتكاب جميع المشتبهات في غير المحصورة) وذلك (بحيث لا يلزم العلم التفصيليّ) منه بارتكاب الحرام؟ اذ مع لزوم العلم التفصيلي بارتكاب الحرام يكون خارجا عن محل النزاع وممنوع بالاتفاق ، كما اذا اشترى من كل البقالين جبنا لضيوفه ، حيث يعلم تفصيلا انه أطعم الحرام لضيوفه ، وهذا علم تفصيلي لا يجوز مثله عند احد ، بخلاف ما اذا لم يحصل له مثل هذا العلم ، كما اذا اشترى تدريجا في كل يوم من بقال حتى علم بعد سنة ـ مثلا ـ بأنه استعمل الحرام يوما ما.

(أم يجب إبقاء مقدار الحرام؟) كان ألف بقال في المدينة يبيع احدهم الحرام ـ مثلا ـ جاز له ان يشتري دفعة أو تدريجا من تسعمائة وتسعة وتسعين منهم فقط دون الأخير؟.

(ظاهر إطلاق القول بعدم وجوب الاجتناب) حيث انهم اطلقوا عدم وجوب الاجتناب في غير المحصور : (هو الأوّل) اي : انّه يجوز ارتكاب كل الاطراف ، لكن بحيث لا يلزم منه العلم التفصيلي ـ كما ذكرناه ـ.

٧٥

لكن يحتمل أن يكون مرادهم عدم وجوب الاحتياط فيه في مقابلة الشبهة المحصورة التي قالوا فيها بوجوب الاجتناب ، وهذا غير بعيد عن مساق كلامهم ، فحينئذ لا يعمّ معقد إجماعهم لحكم ارتكاب الكلّ ، الّا أنّ الأخبار لو عمّت المقام دلّت على الجواز.

______________________________________________________

وعليه : فاذا علم ـ مثلا ـ بأنّ في أغنامه الكثيرة شاة مغضوبة لا يجوز له بيعها جميعا في صفقة واحدة ، لانه يعلم حينئذ علما تفصيليا بوجود مال حرام مقابل الشاة المغصوبة في أمواله ، لكن يجوز له بيعها تدريجا.

هذا (لكن يحتمل ان يكون مرادهم) من (عدم وجوب الاحتياط فيه) اي : في غير المحصور ليس هو جواز المخالفة القطعية في غير المحصور ، كما كان يجب الموافقة القطعية في المحصور بل هو (في مقابلة الشبهة المحصورة التي قالوا فيها بوجوب الاجتناب) اي : بوجوب الاحتياط ، فيكون قولهم : يجوز في غير المحصور مقابلا لقولهم : لا يجوز في المحصور ، وحيث كان في المحصور يجب الاجتناب عن جميع الاطراف ففي غير المحصور لا يجب الاجتناب الّا عن مقدار الحرام.

(وهذا) الاحتمال : بأن يكون كلامهم في غير المحصور مقابل كلامهم في المحصور (غير بعيد عن مساق كلامهم) واذا كان كذلك (فحينئذ لا يعمّ معقد إجماعهم) اي : اجماع القوم على عدم وجوب الاجتناب في الشبهة غير المحصورة (لحكم ارتكاب الكلّ) بل الواجب ابقاء مقدار الحرام.

(الّا انّ الأخبار) الدالة على حلّية المشتبه (لو عمّت المقام) الذي هو مورد العلم الاجمالي (دلّت على الجواز) لارتكاب الكل ، لانّه يصدق على كل من الاطراف انّه ممّا لم يعلم حرمته ، فيشمله «كلّ شيء لك حلال حتى تعرف انّه

٧٦

وأمّا الوجه الخامس ، فالظاهر دلالته على جواز الارتكاب ، لكن مع عدم العزم على ذلك من اوّل الأمر ، وأمّا معه ، فالظاهر صدق المعصية عند مصادفة الحرام ، فيستحق العقاب.

فالأقوى في المسألة عدم جواز الارتكاب اذا قصد ذلك من اوّل الأمر ، فإنّ قصده ، قصد للمخالفة والمعصية ، فيستحقّ العقاب بمصادفة الحرام.

______________________________________________________

حرام» (١) وما أشبهه.

(وأمّا الوجه الخامس) من الوجوه المتقدّمة لحلية الشبهة غير المحصورة ، وهو : اصالة البراءة على التقريب المتقدم (فالظاهر : دلالته على جواز الارتكاب) لكل الاطراف لما عرفت : من ضعف احتمال الضرر في كل واحد ، فلا يجب دفعه في شيء من الاطراف.

(لكن) انّما يجوز ارتكاب جميع الاطراف (مع عدم العزم على ذلك من اوّل الأمر ، وأمّا معه) اي : مع العزم عليه ، كما اذا أتى الى بلد فيه مائة بقال فعزم على ان يشتري الجبن كل يوم من بقال منهم وهو يعلم بأنّ احدهم يبيع الجبن الذي فيه الميتة (فالظاهر : صدق المعصية) عرفا (عند مصادفة الحرام).

وعليه : (فيستحق العقاب) عند مصادفة الحرام وان لم يستحق العقاب في صورة عدم المصادفة بل يكون تجريا فقط ، وقد عرفت : انّ التجري ليس بمحرّم.

إذن : (فالأقوى في المسألة) على فرض تمامية الدليل وقيامه على جواز ارتكاب الكل ، هو : (عدم جواز الارتكاب) للكل (اذا قصد ذلك) اي : ارتكاب الكل (من أوّل الأمر) لانّه قد عزم على ما هو مقطوع الضرر كما قال :

(فإنّ قصده ، قصد للمخالفة والمعصية ، فيستحق العقاب بمصادفة الحرام)

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ (بالمعنى).

٧٧

والتحقيق : عدم جواز ارتكاب الكلّ ، لاستلزامه طرح الدليل الواقعي ، الدالّ على وجوب الاجتناب عن المحرّم الواقعي ، كالخمر في قوله : «اجتنب عن الخمر» ، لانّ هذا التكليف لا يسقط من المكلّف مع علمه بوجود الخمر بين المشتبهات.

غاية ما ثبت في غير المحصور الاكتفاء في امتثاله بترك بعض المحتملات ، فيكون البعض المتروك بدلا ظاهريا عن الحرام الواقعي ،

______________________________________________________

لأنّه اذا صادف الحرام فقد فعله عالما عامدا ، سواء كان في الفرد الأوّل أم في الفرد الوسط أم في الفرد الأخير.

هذا تمام الكلام في وجه جواز ارتكاب الكل وعدم جوازه.

(و) لكن (التحقيق) عندنا هو : (عدم جواز ارتكاب الكلّ) ولزوم ابقاء مقدار الحرام (لاستلزامه) اي : ارتكاب الكل (طرح الدليل الواقعي الدالّ على وجوب الاجتناب عن المحرّم الواقعي كالخمر) فيما اذا تردّدت بين ما هو غير محصور حيث نهى عنها (في قوله) اي قول الشارع : («اجتنب عن الخمر»).

وانّما قلنا بعدم جواز ارتكاب الكل (لانّ هذا التكليف) بالاجتناب عن الخمر (لا يسقط من المكلّف مع علمه) اي : على المكلّف (بوجود الخمر بين المشتبهات) غير المحصورة.

وعليه : فيجب الاحتياط بترك مقدار الحرام وان جاز ارتكاب سائر الاطراف ، وذلك لانّ (غاية ما ثبت في غير المحصور) بمقتضى الادلة التي ذكرناها هو : (الاكتفاء في امتثاله) اي : في امتثال التكليف (بترك بعض المحتملات) الذي ذلك البعض بقدر الحرام (فيكون البعض المتروك بدلا ظاهريا عن الحرام الواقعي) فان صادف الواقع فهو ، وان لم يصادف كان بدلا عنه.

٧٨

والّا فاخراج الخمر الموجود يقينا بين المشتبهات عن عموم قوله : «اجتنب عن كلّ خمر» اعتراف بعدم حرمته واقعا وهو معلوم البطلان.

هذا اذا قصد الجميع من أوّل الأمر لأنفسها ، ولو قصد نفس الحرام من ارتكاب الجميع فارتكب الكلّ مقدّمة له ، فالظاهر استحقاق العقاب للحرمة من اوّل الارتكاب بناء على حرمة التّجري ، فصور ارتكاب الكلّ ثلاثة ، عرفت كلّها.

______________________________________________________

(والّا) بأن قلنا بجواز ارتكاب الكل الذي معناه ارتكاب الخمر (فاخراج الخمر الموجود يقينا بين المشتبهات عن عموم قوله) اي : قول الشارع : («اجتنب عن كلّ خمر» اعتراف) منّا (بعدم حرمته) اي : حرمة الخمر (واقعا وهو معلوم البطلان).

وإنّما يكون معلوم البطلان لانّ قوله : «اجتنب عن الخمر» يشمل كل خمر ويتنجّز اجتنابه على الانسان في صورة علمه ، والمفروض انّه في كلتا الصورتين عالم بالخمر وان كانت أطراف المحصورة قليلة وأطراف غير المحصورة كثيرة ، فانّ مجرد هذا الفرق لا يوجب سقوط الخمر عن الحرمة في غير المحصور ، وقد سبق : انّ العلم التفصيلي ليس مقيّدا لحرمة المحرّمات.

(هذا) تمام الكلام في جواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام (اذا قصد الجميع من أوّل الأمر لا نفسها) اي : لا نفس الخمر (و) أمّا (لو قصد نفس الحرام) أي : شرب الخمر (من ارتكاب الجميع ، فارتكب الكلّ مقدّمة له ، فالظاهر : استحقاق العقاب للحرمة من اوّل الارتكاب) وان لم يصادف الحرام ولم يرتكب الكلّ ، وذلك (بناء على حرمة التّجري) فانّ أول ما يرتكبه يكون تجريا.

وعليه : (فصور ارتكاب الكلّ) تدريجا (ثلاثة) ، قد (عرفت كلّها) :

٧٩

الثاني :

اختلفت عبارات الأصحاب في بيان ضابط المحصور وغيره.

______________________________________________________

الاولى : ارتكاب الكل تدريجا بدون ان يكون قصده من الأوّل ارتكاب الكل ، وقد عرفت : انّه يجوز بالنسبة الى ما عدا الخمر الواقعي ، فانّه يجب عليه استثناء مقدار الحرام ولو أخيرا.

الثانية : ارتكاب الكل تدريجا مع قصد ارتكاب الكل من أوّل الأمر ، فتتحقق المعصية بمصادفة الحرام وان ترك الباقي.

الثالثة : ارتكاب الكل تدريجا لكن قصده من أوّل الأمر ارتكاب الحرام ، وانّما يأتي بالمشتبهات مقدمة للتوصل الى ذلك الحرام ، فان قلنا بحرمة التجري كان من أوّل الأمر حراما ، وان لم نقل بحرمته كان المصادف للحرام حراما لا غيره وان كان غيره تجرّيا.

لكن ربّما يقال : القصد لا مدخلية له في الحرمة اطلاقا ، فان الذي يجوز له ارتكابه هو غير مقدار الحرام ، فان ارتكب الكل فقد ارتكب مقدار الحرام فيحرم المصادف دون غيره ، وان لم يرتكب الكل لم يفعل الحرام حتى وان صادف الواقع وكان قاصدا له ، فانه قد عرفت سابقا : عدم حرمة التجري عند المصنّف وهذا هو الذي اخترناه أيضا ، خلافا لصاحب الكفاية الذي يرى حرمة التّجري.

(الثاني) مما يخص الشبهة غير المحصورة هو : انه قد (اختلفت عبارات الأصحاب في بيان ضابط المحصور وغيره) فقد ذكر الفقهاء لغير المحصور ضوابط نذكرها مجملا ، ثم نشرح عبارات المصنّف فيها :

الأوّل : انّ غير المحصور : ما يعسر عدّه ، وزاد فيه بعض : قيد في زمان قليل ، فقال ما يعسر عدّه في زمان قليل.

٨٠