الوصائل الى الرسائل - ج ٩

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل الى الرسائل - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-09-0
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

التعميم ، وعلى التخصيص ، فيخرج عن محلّ النزاع. كما لو علم بكون إحدى المرأتين أجنبيّة ، أو إحدى الذّبيحتين ميتة ،

______________________________________________________

التعميم) في جواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام الى كلتا الصورتين ، سواء صورة أصالة الحلية والطهارة فيهما ، ام صورة أصالة الحرمة والنجاسة فيهما ، فيكون النزاع بينهما في الصورتين.

وأمّا قول المصنّف : «ربما» ، فلعله اشارة الى ان مورد بعض الاخبار هو الصورة الاولى فقط ، وذلك بأن يكون مقتضى الاصل فيهما : الحل والطهارة ، كما هو اذا كان كل من المشتبهين في يد مسلم أو في سوق المسلمين وارضهم.

هذا بناء على تعميم جواز الارتكاب لما عدا مقدار الحرام للصورتين (و) اما بناء (على التخصيص) أي : تخصيص جواز الارتكاب لما عدا مقدار الحرام بالصورة الاولى ، وهو : ما اذا كان الأصل في اطراف العلم الاجمالي يقتضي الحل والطهارة فقط (فيخرج) به ما ذكر من الصورة الثانية وهي صورة كون الاصل في الاطراف يقتضي الحرمة والنجاسة (عن محلّ النزاع).

وعليه : فلا تنازع بين الفريقين في الصورة الثانية ، فانّ كل من يحرّم الارتكاب أو يقول بجوازه لما عدا مقدار الحرام في الصورة الاولى ، يرى في الصورة الثانية حرمة الارتكاب.

أمّا امثلة الصورة الثانية فهي (كما لو علم بكون إحدى المرأتين أجنبيّة) فانّ الاصل في كل منهما هي الحرمة فيما اذا علم اجمالا بأن احداهما صارت زوجة له.

(أو إحدى الذّبيحتين ميتة) فانّ الاصل في كل من اللحمين في نفسه هو الحرمة لعدم كون الحيوان الحي مذكى ، فاذا ذكّيت احدى الذبيحتين واشتبهتا جرى اصالة الحرمة في كلا اللحمين.

٤١

أو أحد المالين مال الغير ، أو أحد الأسيرين محقون الدّم ، أو كان الاناءان معلومي النجاسة سابقا ، فعلم طهارة أحدهما.

وربّما يقال : إنّ الظاهر أنّ محلّ الكلام في المحرّمات المالية ونحوها ، كالنجس ، لا في الأنفس والأعراض ، فيستظهر أنّه لم يقل أحد فيها بجواز الارتكاب ، لانّ المنع في مثل ذلك ضروري.

______________________________________________________

(أو أحد المالين مال الغير) فانّ الاصل في كل مال : الحرمة فيما اذا كان المالان سابقا لغيره ثم صار احدهما له.

(أو أحد الأسيرين محقون الدّم) فانّ الاصل في الانسان انه محترم الدم ، الّا ما خرج عن ذلك بالمحاربة ونحوها (أو كان الاناءان معلومي النجاسة سابقا فعلم طهارة أحدهما) فانّ الاصل في كل منهما في نفسه هو النجاسة.

إذن : فهذه الموارد ونحوها خارجة عن محل النزاع ، اذ لا نزاع بين الفريقين : بين من يقول بوجوب الاجتناب عن كليهما ، ومن يقول بوجوب الاجتناب عن مقدار الحرام منهما فقط : وانّما النزاع بينهما في صورة جريان اصل الحل والطهارة في الاطراف فقط (وربّما يقال) والقائل هو المحقق القمي : (إنّ الظاهر) من كلمات العلماء : (انّ محلّ الكلام) اي : كلام المجوزين في ارتكاب ما عدا مقدار الحرام وكلام المانعين انّما هو (في المحرّمات المالية ونحوها ، كالنجس) والميتة (لا في الأنفس والأعراض) والاموال العظيمة ، فان فيها يجب الاجتناب عن جميع الاطراف ، سواء كان الاصل الحلية فحرم بعضها ، ام الحرمة فحلّ بعضها.

وعليه : (فيستظهر انّه لم يقل أحد فيها) أي : في الأنفس والأعراض والأموال العظيمة (بجواز الارتكاب) لبعض اطرافها (لانّ المنع في مثل ذلك ضروري) شرعا وعقلا.

٤٢

التاسع :

إنّ المشتبه بأحد المشتبهين حكمه حكمهما ، لأنّ مقدّمة المقدّمة مقدّمة ، وهو ظاهر.

______________________________________________________

وفيه نظر ؛ لأنّ من يقول بجواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام ، كلامه مطلق يشمل حتى الاعراض والدماء ، والاموال العظيمة : فانّ القائل بجواز الارتكاب لا يفرّق بين الموارد إطلاقا.

(التاسع) من التنبيهات (: انّ المشتبه بأحد المشتبهين) كما اذا كان هناك اناءان أحدهما أبيض ، والآخر أحمر ، ثم اشتبه الأبيض بأبيض آخر ، فلم يعلم ان ايهما هو المشتبه الاصلي وايهما هو المشتبه الفرعي ، فانه يكون (حكمه حكمهما) في وجوب الاجتناب.

وإنّما يكون حكمه كذلك (لأنّ مقدّمة المقدّمة مقدّمة ، وهو ظاهر) فان في قياس المساوات يشترط ان تكون المقدمة المطويّة صحيحة ، فيصح القياس فيها ، مثل : مقدمة المقدمة مقدمة ، مثل : جزء الجزء جزء ، وما اشبه ذلك ، بخلاف ما اذا لم تصح المقدمة المطوية مثل : الواحدة نصف الاثنين والاثنان نصف الاربعة ، فلا يصح الواحد نصف الاربعة ، لعدم صحة المقدمة المطوية وهي : نصف النصف نصف.

نعم ، اذا بلغ مورد الاشتباه في بعض الاطراف الى حدّ الشبهة غير المحصورة فانه لا يجب الاجتناب فيها ، على ما سيأتي بحثه إن شاء الله تعالى

والحاصل : ان العلم الاجمالي المنجّز للتكليف الذي يتوقف تحصيله على الاجتناب عن المشتبهين اذا اشتبه احد هذين المشتبهين أو كلاهما بشيء آخر ، فانه يتوقف حينئذ العلم بالاجتناب عنه على اجتناب كل اطراف الشبهة.

٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

التنبيه العاشر : اذا اضطر المكلّف أو اكره على ارتكاب احد المشتبهين بين علمين اجماليين ، فان لم يكن أحدهما أهم الى حد المنع عن النقيض كان مخيّرا بينهما ، أمّا اذا كان احدهما أهم الى الحد المذكور ، لزم تقديم الأهم على المهم سواء في التحريم أم في الايجاب.

وعليه : فاذا اشتبه ـ مثلا ـ خمر بين اناءين ونجس بين اناءين ، فانه يجب الاجتناب عن الاربعة ، لكن اذا اضطر الى ارتكاب اناء واحد منها ، فاللازم اختيار ارتكاب واحد من المشتبه بالنجس ، حيث ان النجس اضعف حرمة عن الخمر ، بدليل : ان في شرب الخمر عمدا الحدّ ، وفي شرب النجس التعزير.

هذا اذا اضطرّ الى واحد من الاربعة ، واما اذا اضطرّ الى اثنين منها ، فهل اللازم ارتكاب اثنين من الطرفين ، او اثنين من طرف النجس فقط؟ احتمالان :

الأوّل : من جهة انه بعد الارتكاب لا يعلم بارتكاب محرّم أصلا لاحتمال انه ارتكب في كلّ من المشتبهين الحلال منه.

الثاني : من جهة ان احتمال ارتكاب الخمر يقاوم العلم بارتكاب النجس ، وربّما يكون احتمال حرام غليظ اولى بالترك من القطع بارتكاب حرام خفيف ، كما اذا احتمل ان يفترسه السبع لو بقي في الصحراء ، فانه اولى بالترك من الذهاب الى بيت اللصوص وهو يقطع بأنهم يجرحونه جرحا يحرم الاقدام عليه ابتداء ، وهذا بحث طويل نكتفي منه بهذا القدر ، وفي عكس مسألة التحريم مسألة الايجاب كما لا يخفى.

هذا ، وقد ذكرنا هذا التنبيه لتتميم التنبيهات عشرة كاملة ، والله العالم.

ثم ان المصنّف حيث انتهى من الكلام في المقام الأوّل وهو الشبهة

٤٤

المقام الثاني

في الشبهة غير المحصورة

والمعروف فيها عدم وجوب الاجتناب ، ويدلّ عليه ، وجوه :

الأوّل :

الاجماع الظاهر المصرّح به في الرّوض عن جامع المقاصد ، وادّعاه صريحا المحقق البهبهاني في فوائده ، وزاد عليه : نفي الريب فيه ، وأنّ مدار المسلمين في الاعصار والأمصار عليه ،

______________________________________________________

المحصورة ، بدأ الكلام في (المقام الثاني : في الشبهة غير المحصورة) وهذا اصطلاح اصطلحه الفقهاء على ما كثر اطراف الشبهة فيه ، كما اذا اشتبه النجس الذي علم به بالمكلّف بين كل بقالي المدينة ، فانه يجوز أن يشتري من بعضهم وان كان يعلم بنجاسة احدهم.

هذا (والمعروف فيها) اي : في الشبهة غير المحصورة (: عدم وجوب الاجتناب) فلا تجب الموافقة القطعية باجتناب الجميع ، أمّا المخالفة القطعية بان يشتري من الجميع : فسيأتي الكلام فيه في التنبيهات إن شاء الله تعالى.

(ويدلّ عليه) أي : على عدم وجوب الاجتناب في الشبهة غير المحصورة (وجوه) ذكر المصنّف منها ستة :

(الأوّل : الاجماع الظاهر ، المصرّح به في الرّوض) وهو روض الجنان للشهيد الثاني (عن جامع المقاصد) للمحقق الثاني (وادّعاه صريحا المحقق البهبهاني في فوائده ، وزاد عليه : نفي الرّيب فيه) يعني قال : انّه اجماع بلا ريب (و) قال أيضا : (أنّ مدار المسلمين في الاعصار والأمصار عليه) أي : على عدم وجوب

٤٥

وتبعه في دعوى الاجماع غير واحد ممّن تأخّر عنه ، وزاد بعضهم دعوى الضرورة عليه في الجملة.

وبالجملة : فنقل الاجماع مستفيض ، وهو كاف في المسألة.

الثاني :

ما استدلّ به جماعة من لزوم المشقّة في الاجتناب ، ولعلّ المراد به لزومه في أغلب أفراد هذه الشبهة لأغلب أفراد المكلّفين ،

______________________________________________________

الاجتناب في الشبهة غير المحصورة.

(وتبعه) أي : تبع البهبهاني (في دعوى الاجماع غير واحد ممّن تأخّر عنه ، وزاد بعضهم : دعوى الضرورة عليه في الجملة) والمراد في الضرورة ضرورة الدين ، لانّ كل المسلمين مع علمهم بوجود بعض المحرمات وبعض النجاسات فيما هو محل ابتلائهم نراهم لا يرعوون عن ارتكاب بعض الاطراف.

(وبالجملة : فنقل الاجماع مستفيض ، وهو كاف في المسألة) لانّ هذه الكثرة من الاجماعات توجب الظن الخاص بجواز ارتكاب بعض الاطراف.

(الثاني : ما استدلّ به جماعة) من الفقهاء والاصوليين (من لزوم المشقّة في الاجتناب) فانه اذا اراد الانسان الاجتناب عن جميع اطراف الشبهة غير المحصورة وقع في مشقة عظيمة ، لكثرة علم الانسان بالنجاسة ، والغصبية ، وما اشبه ذلك في بعض ما هو محل ابتلائه ، فانه كثيرا ما يعلم الانسان بعدم التزام جميع الافراد الذين يذهب الى بيوتهم باخراج خمس اموالهم ، أو بعدم التزام جميعهم بالطهارة ، أو ما اشبه ذلك ، فاذا قلنا بانه يجب الاجتناب لزم الحرج ، والحرج منفي في الدين (ولعلّ المراد به) اي : بلزوم المشقة في الاجتناب (لزومه في أغلب أفراد هذه الشبهة لأغلب أفراد المكلّفين) لا أن المراد : ان كل افراد الشبهة يكون

٤٦

فيشمله عموم قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وقوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) بناء على أنّ المراد أنّ ما كان الغالب فيه الحرج على الغالب ، فهو يرتفع عن جميع المكلّفين ، حتّى من لا حرج بالنسبة إليه.

______________________________________________________

في الاجتناب عنها حرج لكل افراد المكلفين ، لوضوح : انه ليس كل افراد الشبهة محلا لابتلاء كل افراد المكلفين.

وحيث يلزم من اغلب افراد هذه الشبهة الحرج لأغلب افراد المكلفين (فيشمله عموم قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (١) وقوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)) (٢) وقد ذكرنا معنى الآيتين فيما سبق ، فلا حاجة الى تكراره ، ثم انه لمّا كان مقتضى هذا الدليل : رفع الاحتياط في الشبهات غير الحصورة التي يشق فيها الاحتياط بالنسبة الى بعض الناس ، لا في كل الشبهات بالنسبة الى كل الناس ، اشكلوا على هذا الدليل : بانه اخص من المدّعى ، فتصدى المصنّف للجواب عنه بقوله : (بناء على أنّ المراد) من ادلة نفي الحرج هو : (أنّ ما كان الغالب فيه) اي في التكليف (الحرج على الغالب) من الناس سواء كان تكليفا وجوبيا أم تحريميا ، واقعيا ام ظاهريا (فهو يرتفع عن جميع المكلّفين حتّى من لا حرج بالنسبة إليه) من المكلفين.

ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك» (٣) مع وضوح :

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ١٨٥.

(٢) ـ سورة الحج : الآية ٧٨.

(٣) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٢٢ ح ١ ، غوالي اللئالي : ج ٢ ص ٢١ ح ٤٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢ ص ١٧ ب ٣ ح ١٣٤٦ وص ١٩ ب ٥ ح ١٣٥٤.

٤٧

وهذا المعنى وإن كان خلاف الظاهر ، إلّا أنّه يتعيّن الحمل عليه ، بمعونة ما ورد من إناطة الأحكام الشرعية وجودا وعدما بالعسر واليسر الغالبين.

______________________________________________________

انّ السواك لا يوجب المشقة على كل المكلفين ، بل على غالب المكلفين ، فالحرج على غالب المكلفين أوجب رفع وجوب السواك عن جميع المكلفين.

(وهذا المعنى وإن كان خلاف الظاهر) حيث ان المستفاد من رفع الحرج هو :

الحرج الشخصي ، لا الحرج النوعي ، بمعنى : ان كل من يشق عليه امتثال تكليف من التكاليف في مورد من الموارد يرتفع عنه ذلك التكليف في ذلك المورد ، لا انّه مرفوع عن عامة المكلفين.

وعليه : فاذا كان في المدينة ـ مثلا ـ مائة انسان وكان الوضوء يشق على خمسة وتسعين منهم ولا يشق على الخمسة الباقين ، وجب على اولئك الخمسة الوضوء ، وهكذا بالنسبة الى الصلاة من قيام ، والصوم ، والغسل ، وغير ذلك ، حتى اشتهر بينهم : ان رفع الحرج شخصي وليس بنوعي ، سوى ما ذكره الشارع بالنص مثل : «لو لا أن أشق على أمّتي» (١) ونحوه ، حيث ان المشقة النوعية فيها أوجبت رفع الشارع بنفسه التكليف عن كل المكلفين.

وعليه : (الّا انّه يتعين الحمل عليه) اي : على النوعي بالاضافة الى الشخصي أيضا (بمعونة ما ورد : من إناطة الأحكام الشرعية وجودا وعدما بالعسر واليسر الغالبين) مثل قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ، وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٢) فانّه

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٢٢ ح ١ ، غوالي اللئالي : ج ٢ ص ٢١ ح ٤٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢ ص ١٧ ب ٣ ح ١٣٤٦ ، وص ١٩ ب ٥ ح ١٣٥٤.

(٢) ـ سورة البقرة : الآية ١٨٥.

٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

لا ريب ان الصوم في السفر وفي المرض مستلزم للعسر غالبا بالنسبة الى غالب الناس ، ولا كلّية له لا من جهة السفر والمرض ولا من جهة الاشخاص.

وقال سبحانه : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) (١) حيث رفع الحكم عن الجميع بواسطة ضعف البعض.

وفي النبوي المتقدّم «لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك» (٢).

وفي صحيحة الفضيل بن يسار : «عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : في الرجل الجنب يغتسل فينتضح من الماء في الاناء؟ فقال : لا بأس (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (٣)) (٤).

وصحيحة ابي بصير : «عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الجنب يجعل الركوة والتور فيدخل اصبعه فيه؟ قال : ان كان يده قذرة فليهرقه وان كان لم يصبها قذر فليغسل منه ، هذا ممّا قال الله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٥)» (٦).

وفي رواية أخرى : «عن ابي عبد الله عليه‌السلام : انّا نسافر ، فربمّا بلينا بالغدير من المطر يكون الى جانب القرية ، فيكون فيه العذرة ويبول فيه الصبي ، وتبول فيه الدابة وتروث؟ فقال عليه‌السلام : ان عرض في قلبك منه شيء فافعل هكذا ـ يعني

__________________

(١) ـ سورة الانفال : الآية ٦٦.

(٢) ـ الكافي ج ٣ ص ٢٢ ح ١ ، غوالي اللئالي : ج ٢ ص ٢١ ح ٤٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢ ص ١٧ ب ٣ ح ١٣٤٦ وص ١٩ ب ٥ ح ١٣٥٤.

(٣) ـ اشارة الى سورة الحج : الآية ٧٨.

(٤) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ١٣ ح ٧ ، وسائل الشيعة : ج ١ ص ٢١٢ ب ٩ ح ٥٤٣.

(٥) ـ سورة الحج : الآية ٧٨.

(٦) ـ تهذيب الاحكام : ج ١ ص ٣٨ ب ٣ ح ٤٢ وص ٢٢٩ ب ١٠ ح ٤٤ ، الاستبصار ج ١ ص ٢٠ ب ١٠ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ١ ص ١٥٤ ب ٨ ح ٣٨٥.

٤٩

وفي هذا الاستدلال نظر ، لأنّ أدلّة نفي العسر والحرج من الآيات والروايات لا تدلّ إلّا على أنّ ما كان فيه ضيق على مكلّف ، فهو مرتفع عنه.

وأمّا ارتفاع ما كان ضيقا على الأكثر عمّن هو عليه في غاية السّهولة ، فليس فيه امتنان على أحد ، بل فيه تفويت مصلحة التّكليف من غير تداركها بالتّسهيل.

______________________________________________________

أفرج الماء بيدك ثم توضّأ ـ فانّ الدين ليس بمضيّق وان الله عزوجل يقول : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (١)» (٢).

مضافا الى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة» (٣) وقول الامام عليه‌السلام : «ان شيعتنا لأوسع ممّا بين ذه وذه ، وأشار بيده الى السماء والأرض» (٤) الى غيرها من الآيات والرّوايات.

(وفي هذا الاستدلال نظر ، لأنّ أدلّة نفي العسر والحرج من الآيات والروايات) وكذا الاجماع والعقل قد وردت في مقام الامتنان ، فهي (لا تدل الّا على انّ ما كان فيه ضيق على مكلّف ، فهو مرتفع عنه) وذلك لانه يتدارك بمصلحة التسهيل.

(وامّا ارتفاع ما كان ضيقا على الأكثر عمّن هو) اي التكليف (عليه في غاية السّهولة ، فليس فيه امتنان على أحد) لانّ رفع التكليف عن الذي لا عسر فيه عليه بلا تدارك ، لا امتنان فيه له ولا لغيره ، فانه ليس منّة على زيد لو رفع التكليف عن عمرو ، ولذلك قال : (بل فيه تفويت مصلحة التّكليف من غير تداركها بالتسهيل)

__________________

(١) ـ سورة الحج : الآية ٧٨.

(٢) ـ تهذيب الاحكام : ج ١ ص ٤١٧ ب ٢١ ح ٣٥ ، الاستبصار : ج ١ ص ٢٢ ب ١٠ ح ١٠ ، وسائل الشيعة : ج ١ ص ١٦٣ ب ٩ ح ٤٠٤.

(٣) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٤٩٤ ح ١ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٥ ص ١٤٤.

(٤) ـ تأويل الآيات : ص ١٧٦ ، بحار الانوار : ج ٦٠ ص ٤٦ ب ٣٠ ح ٢٧ (بالمعنى).

٥٠

وأمّا ما ورد من دوران الأحكام مدار السهولة على الأغلب ، فلا ينفع فيما نحن فيه ،

______________________________________________________

اذ ليس الرفع تسهيلا عليه ، حتى يتدارك مصلحة سقوط التكليف بمصلحة التسهيل.

مثلا : في الوضوء مصالح ؛ فاذا عسر على انسان ، بدّله الشارع بالتيمّم ، امّا اذا لم يكن على انسان عسرا وتيمّم فاتته مصلحة الوضوء ، ولم يكن في رفع الوضوء عنه تسهيلا عليه.

(وأمّا ما ورد : من) الأدلة الدالة على (دوران الأحكام مدار السهولة على الأغلب ، فلا ينفع فيما نحن فيه) وذلك لان المنساق من تلك الادلة هو : بيان كيفية جعل الشارع الأحكام الكلية الواقعية.

وعليه : فانّ الشارع حين جعل الاحكام الواقعية لموضوعاتها الواقعية لاحظ عدم لزوم عسر على اغلب المكلفين في امتثالها ، وشمول هذه الاخبار للشبهة غير المحصورة انّما يتمّ اذا فرض كون عنوان الشبهة غير المحصورة موضوعا بحسب الواقع لوجوب الاجتناب حتى يلاحظ حينئذ في ثبوت هذا الحكم لهذا الموضوع : عدم لزوم عسر على الأغلب في أغلب مواردها ، والحال انّ الأمر ليس كذلك ، بل هذا العنوان انّما هو في كلمات العلماء لموضوعات متعدّدة قد اشتبه كل واحد منها بين أمور غير محصورة.

إذن : فجعل الشبهة غير المحصورة عنوانا في كلمات العلماء لهذه الموضوعات المتعددة ، انّما هو لاجل كونه جامعا لشتات جزئيات هذه الموضوعات ، ليتوصل به الى البحث عن هذه الموضوعات ، الموضوعات المشتبه وليس أكثر.

٥١

لأنّ الشبهة غير المحصورة ليست واقعة واحدة حكم فيها بحكم ، حتى يدّعى انّ الحكم بالاحتياط في أغلب مواردها عسر على أغلب الناس ، فيرتفع حكم الاحتياط فيها مطلقا ، بل هي عنوان

______________________________________________________

وعلى ايّ حال : فليس عنوان : الشبهة غير المحصورة من العناوين الموجودة في الآيات ، أو الروايات : أو الاجماع ، أو العقل ، حتى يقال : بانّه كلّما حصلت شبهة غير محصورة يكون التكليف فيها مرفوعا.

هذا ومن الواضح : انّه لا يلزم من امتثال هذه الاحكام المتعلقة بالموضوعات المتعدّدة عسر وحرج على الأغلب ، والّا لزم ذلك فيما لو فرض فيه العلم التفصيلي بهذه الموضوعات أيضا ، وهذا ممّا لا يقول به القائلون بجواز الارتكاب في اطراف الشبهة غير المحصورة.

والى هذا المعنى الذي ذكرناه في عدم نفع تلك الادلة لما نحن فيه اشار المصنّف : (لأنّ الشبهة غير المحصورة ليست واقعة واحدة حكم فيها بحكم) واحد مثل : ان يقول الشارع : اجتنب في الشبهة غير المحصورة أو يقول : لا تجتنب في الشبهة غير المحصورة (حتى يدّعى : انّ الحكم بالاحتياط في أغلب مواردها عسر على أغلب الناس ، فيرتفع حكم الاحتياط فيها) اي : في كل تلك الموارد (مطلقا) أي : حتى في مورد عدم الحرج وبالنسبة الى من لا حرج عليه.

(بل هي) اي : الشبهة غير المحصورة (عنوان) كلي اصطلح عليه الفقهاء وجعلوه قاعدة مصطادة مثل قاعدة : «من ملك شيئا ملك الاقرار به» ، وقاعدة «الخراج بالضمان» ، وقاعدة : «الفراغ» ، وقاعدة : «التجاوز» ، وغيرها من القواعد الفقهية المصطيدة من الروايات.

٥٢

لموضوعات متعدّدة لأحكام متعدّدة ، والمقتضي للاحتياط في كلّ موضوع هو نفس الدليل الخاصّ التحريمي الموجود في ذلك الموضوع.

والمفروض : انّ ثبوت التحريم لذلك الموضوع مسلّم ،

______________________________________________________

إذن : فالشبهة غير المحصورة عنوان (لموضوعات متعدّدة لاحكام متعدّدة) كالخمر المشتبه بين أواني غير محصورة ، والنجس المشتبه في امور غير محصورة ، والغصب المشتبه في امور غير محصورة ، والغصب المشتبه بين اشياء غير محصورة ، وهكذا الى ما لا يحصى.

(و) عليه : فالشبهة غير المحصورة ليست عنوانا لموضوع واحد يقتضي الاحتياط أو لا يقتضيه ، وإنّما هي عنوان لمواضيع كثيرة ذات احكام متعددة ويكون (المقتضي للاحتياط في كلّ موضوع هو نفس الدليل الخاص التحريمي الموجود في ذلك الموضوع) بشخصه.

مثلا : المقتضي للاحتياط في الخمر المشتبه بين أواني غير محصورة هو نفس دليل تحريم الخمر ، مثل قوله سبحانه : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) (١) والمقتضي للاحتياط في النجس المشتبه بين أمور غير محصورة هو قوله سبحانه : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (٢) والمقتضي للاحتياط في الغصب المشتبه بين امور غير محصورة هو قوله عليه‌السلام : «حرمة ماله كحرمة دمه» (٣) الى غير ذلك من المحرمات التي تشتبه في غير المحصور.

هذا (والمفروض : انّ ثبوت التحريم لذلك الموضوع مسلّم) للتصريح به في

__________________

(١) ـ سورة المائدة : الآية ٩٠.

(٢) ـ سورة المدثر : الآية ٥.

(٣) ـ الكافي (اصول) : ج ٢ ص ٣٥٩ ح ٢ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٥٦٩ ب ٢ ح ٤٩٤٦ وج ٤ ص ٣٧٧ ب ٢ ح ٥٧٨١ وص ٤١٨ ب ٢ ح ٥٩١٣ ، مجموعة ورام : ج ٢ ص ٦٥ ، اعلام الدين : ص ٢٠١ ، تحف العقول : ص ٢١٢ ، تفسير القمّي : ج ١ ص ٢٩١ ، كنز الفوائد : ج ١ ص ٢١٦ ، الاختصاص : ص ٣٤٢.

٥٣

ولا يرد منه حرج على الأغلب ، وأنّ الاجتناب في صورة اشتباهه ايضا في غاية اليسر ، فأيّ مدخل للاخبار الواردة في انّ الحكم الشرعي يتبع الأغلب في اليسر والعسر.

______________________________________________________

الآيات والروايات ونحوهما.

(و) المفروض أيضا : انّه (لا يرد منه) أي : من تحريم ذلك الموضوع (حرج على الأغلب) من الناس حتى يرتفع رأسا.

(و) كذا المفروض (: انّ الاجتناب في صورة اشتباهه ايضا في غاية اليسر).

إذن : فلا عسر في الاجتناب حتى يرتفع التكليف به ، لانّ الغالب انّ الانسان لا يبتلى بالشبهة في اطراف غير محصورة.

نعم ، لو لزم العسر أو الحرج في مورد ، يرتفع وجوب الاجتناب في ذلك المورد الخاص ، سواء علم بالحرام تفصيلا ، كما اذا قطع بأنّ هذا بعينه خمر لكنّه اضطر الى ارتكابه ، أم اشتبه بين امور محصورة ؛ كما اذا كان الخمر بين اناءين اضطر لشرب احدهما ؛ ام غير محصورة بأن كان الخمر مشتبها بين الوف الأواني.

وعليه : (فايّ مدخل) مع ذلك (للاخبار الواردة في انّ الحكم الشرعي يتبع الأغلب في اليسر والعسر) وضعا ورفعا حتى يستدلّ بها لرفع الحكم في الشبهة غير المحصورة؟.

وان شئت قلت : ان ظاهر ادلة نفي العسر والحرج من الآيات والروايات هو : اعتبار العسر الشخصي الملحوظ بالنسبة الى احد المكلفين بالنسبة الى آحاد المسائل المبتلى بها ، فتكون النسبة بينها وبين المدعى عموما من وجه.

وإنّما تكون النسبة بينهما من وجه ، إذ ربّ مورد من موارد العسر لا دخل له في الشبهة غير المحصورة ، وربّ مورد من موارد الشبهة غير المحصورة لا يلزم

٥٤

وكأنّ المستدلّ بذلك جعل الشبهة غير المحصورة واقعة واحدة ، مقتضى الدليل فيها وجوب الاحتياط لو لا العسر ، لكن لمّا تعسّر الاحتياط في أغلب الموارد على أغلب الناس حكم بعدم وجوب الاحتياط كليّة.

______________________________________________________

من الاحتياط فيه عسر على بعض المكلفين ولو بالنسبة الى بعض حالاته ، فجعل احدهما دليلا على الآخر غير تام ، فهو مثل جعل وجود انسان في البيت دليلا على وجود الابيض في البيت.

وعليه : فالدليل يجب ان يكون بقدر المدّعى أو اكبر منه ، بأن يقول ـ مثلا ـ : الانسان في البيت لانّ الناطق في البيت ، أو يقول : الحيوان في البيت بدليل انّ انسان في البيت : امّا المباين فلا يكون دليلا على مباينة ، كما لا يكون احد العامّين من وجه دليلا على الآخر.

هذا (وكأنّ المستدلّ بذلك) اي : كأن الذي استدل لعدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة : بدوران الاحكام مدار اليسر على الأغلب ، وقد (جعل) عنوان (الشبهة غير المحصورة واقعة واحدة) نظير نجاسة الخمر ، وحرمة الغصب ، وما اشبه ذلك ، فيكون (مقتضى الدليل فيها : وجوب الاحتياط لو لا العسر) فكما ان السواك واقعة واحدة أوجب العسر فيه عدم وجوبه ، كذلك الشبهة غير المحصورة واقعة واحدة أوجب العسر عدم وجوب الاحتياط فيها.

إذن : فالاحتياط واجب في الشبهة غير المحصورة اوّلا وبالذات (لكن لمّا تعسّر الاحتياط في اغلب الموارد) من هذه الشبهة (على اغلب الناس حكم) الشارع (بعدم وجوب الاحتياط كليّة) سواء بالنسبة الى من يعسر عليه الاحتياط

٥٥

وفيه : أنّ دليل الاحتياط في كلّ فرد من الشبهة ليس الّا دليل حرمة ذلك الموضوع.

نعم ، لو لزم الحرج من جريان حكم العنوان المحرّم الواقعي في خصوص مشتبهاته غير المحصورة على اغلب المكلفين في اغلب الاوقات كأن يدّعى أنّ الحكم بوجوب الاحتياط عن النجس الواقعي مع اشتباهه في امور غير محصورة يوجب الحرج الغالبي أمكن التزام ارتفاع وجوب الاحتياط في خصوص النجاسة المشتبه.

______________________________________________________

أم بالنسبة الى من لم يعسر الاحتياط عليه.

(و) لكن (فيه : انّ دليل الاحتياط في كلّ فرد من الشبهة) غير المحصورة (ليس الّا دليل حرمة ذلك الموضوع) لما عرفت : من ان الشارع لم يقل احتط في الشبهة غير المحصورة حتى يكون عنوانا خاصا فيلاحظ فيه العسر واليسر الغالبيان ، بل قال الشارع : اجتنب عن الخمر ، اجتنب عن الغصب ، اجتنب عن البول ، وهكذا ، فالشبهة غير المحصورة عنوان كلي لعشرات الاحكام التي يجب فيها الاجتناب بخصوصها.

(نعم ، لو لزم الحرج من جريان حكم العنوان المحرّم الواقعي في خصوص مشتبهاته) اي : مشتبهات ذلك المحرّم الخاص بأن كانت الشبهة ، (غير المحصورة) فيه مما يلزم من اجتنابها الحرج (على اغلب المكلفين في اغلب الاوقات ، كأن يدّعى : انّ الحكم بوجوب الاحتياط عن النجس الواقعي مع اشتباهه في امور غير محصورة يوجب الحرج الغالبي ، امكن) عند ذلك (التزام ارتفاع وجوب الاحتياط في خصوص النجاسة المشتبه) بالبول ـ مثلا ـ دون سائر النجاسات.

٥٦

لكن لا يتوهم من ذلك اطّراد الحكم بارتفاع التحريم في الخمر المشتبه بين مايعات غير محصورة ، والمرأة المحرّمة المشتبه في ناحية مخصوصة ، الى غير ذلك من المحرّمات.

ولعلّ كثيرا ممّن تمسك في هذا المقام بلزوم المشقة أراد المورد الخاص

______________________________________________________

وانّما يكون هذا الحكم مختصا بالنجاسة ، المشتبهة ، دون غيرها ، لان نجاسة البول حكم ، ونجاسة الخمر حكم آخر ، ونجاسة الدم حكم ثالث وهكذا ، فالحرج في بعضها وان كان غالبيا لأغلب الناس الّا انه لا يوجب عدم الاحتياط في سائر النجاسات.

هذا (لكن) اذا قال الشارع ذلك بالنسبة الى النجاسة مطلقا كما هو ظاهر عبارة المصنّف ، أو بالنسبة الى خصوص النجاسة المشتبه بالبول ـ مثلا ـ كما لا يبعد ان يكون مراد المصنّف ذلك ، فيجب ان (لا يتوهم من ذلك) اي : من ارتفاع الاحتياط في باب مطلق النجس أو في باب خصوص المشتبه لاجل العسر الغالب لأغلب الناس (اطّراد الحكم بارتفاع التحريم في الخمر المشتبه بين مايعات غير محصورة ، والمرأة المحرّمة المشتبه في ناحية مخصوصة) من نواحي بلد كبير.

(الى غير ذلك من المحرّمات) التي لا يلزم من الاجتناب عنها حين اشتباهها في امور غير محصورة عسر وحرج على الأغلب فلا يطّرد الحكم اليها حتى يقال : بأنّ كل غير محصور مرفوع حكمه.

(ولعلّ كثيرا ممّن تمسك في هذا المقام) اي : في الشبهة غير المحصورة وقال فيها بعدم الاحتياط متمسكا (بلزوم المشقة أراد المورد الخاص) اي : اراد كل مورد مورد ، فان كل مورد يلزم منه المشقة يرتفع فيه الاحتياط ، وكل مورد لا يلزم

٥٧

كما ذكروا ذلك في الطّهارة والنّجاسة.

هذا كلّه ، مع أنّ لزوم الحرج في الاجتناب عن الشبهة غير المحصورة التي يقتضي الدليل المتقدّم وجوب الاحتياط فيها

______________________________________________________

منه المشقة يكون الاحتياط فيه واجبا ، لا انّ الشبهة اذا صارت غير محصورة يرتفع الاحتياط فيها : مطلقا ولو لم يكن في بعضها عسر وحرج.

(كما) يشهد لما قلناه : من ان ارادة كثير ممّن تمسك في هذا المقام بلزوم المشقة هو المورد الخاص لا مطلقا ، انهم (ذكروا ذلك في) باب (الطّهارة والنّجاسة) فقط دون سائر الابواب الفقهية مما يكشف انهم لا يريدون تعدية العسر من باب الطهارة الى باب الرضاع ؛ ومن باب الرضاع الى ابواب أخر.

(هذا كلّه) هو الاشكال الأوّل على من استدل بالدليل الثاني أعني : العسر والحرج لرفع وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة رفعا مطلقا أو في خصوص المشتبه.

(مع) انّ هناك اشكالا آخر يرد على هذا الاستدلال وهو انه ليس رفع الاحتياط من جهة العسر والحرج كما استدل به المستدلّ ، بل هو : لان جملة من الاطراف على الأغلب خارجة عن محل الابتلاء ، وقد عرفت سابقا : انه اذا كان بعض اطراف العلم الاجمالي حتى في المحصور ، خارجا عن محل الابتلاء جاز ارتكاب بعضها الآخر.

والى هذا المعنى اشار المصنّف بقوله : (انّ لزوم الحرج في الاجتناب عن الشبهة غير المحصورة التي يقتضي الدليل المتقدّم) وهو دليل تحريم الحرام الواقعي المشتبه بينها المقتضي (وجوب الاحتياط فيها) اي : في الشبهة غير

٥٨

ممنوع.

ووجهه : أنّ كثيرا من الشبهات غير المحصورة لا يكون جميع المحتملات مورد ابتلاء المكلّف ، ولا يجب الاحتياط في مثل هذه الشبهة وان كانت محصورة كما أوضحناه سابقا.

وبعد إخراج هذا عن محل الكلام فالانصاف منع غلبة التعسّر في الاجتناب.

______________________________________________________

المحصورة ، فان لزوم الحرج فيها (ممنوع) اذ لا يلزم من الاجتناب عنها حرج.

(ووجهه :) اي : وجه المنع من لزوم الحرج هو : (انّ كثيرا من الشبهات غير المحصورة لا يكون جميع المحتملات) من تلك الشبهة (مورد ابتلاء المكلّف ، و) من المعلوم : انه (لا يجب الاحتياط في مثل هذه الشبهة) التي لا يكون جميع اطرافها محلا لابتلاء المكلّف حتى (وان كانت محصورة) فكيف بما اذا كانت غير محصورة (كما اوضحناه سابقا) حيث اشترطنا تنجز التكليف في المحصورة بكون جميع الاطراف محل الابتلاء.

(وبعد اخراج هذا) الكثير من اطراف الشبهة غير المحصورة الذي لا يكون مورد الابتلاء (عن محل الكلام فالانصاف منع غلبة التعسّر في الاجتناب) عن الباقي ، فلا مجال لملاحظة العسر الغالب لرفع الاحتياط رأسا ، فاذا كانت موارد الشبهة غير المحصورة مائة ـ مثلا ـ وكان خمسة وتسعون منها خارجا عن محل الابتلاء ؛ لم يكن العسر في الخمسة الباقية ، فكيف يمكن الاستدلال بالعسر لاجل رفع الاحتياط في الخمسة الباقية؟.

٥٩

الثالث :

الاخبار الدالّة على حليّة كلّ ما لم يعلم حرمته ، فانّها بظاهرها وإن عمّت الشبهة المحصورة الّا أنّ مقتضى الجمع بينهما وبين ما دلّ على وجوب الاجتناب بقول مطلق هو : حمل أخبار الرخصة على غير المحصورة ، وحمل اخبار المنع على المحصور.

______________________________________________________

(الثالث) من ادلّة عدم وجوب الاجتناب في غير المحصور : (الاخبار الدالّة على حليّة كلّ ما لم يعلم حرمته) مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال ، حتى تعرف انّه حرام بعينه» (١) و «كلّ شيء يكون فيه حرام وحلال ، فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه» (٢) وغيرهما من الاخبار التي مرّت جملة منها ، فانّها تشمل الشبهة البدوية ، والشبهة المحصورة وغير المحصورة كما قال :

(فانّها بظاهرها وان عمّت) حتى (الشبهة المحصورة الّا انّ مقتضى الجمع بينهما وبين ما دلّ على وجوب الاجتناب بقول مطلق) مثل : روايات الاحتياط وما أشبه (هو : حمل أخبار الرخصة على غير المحصورة ، وحمل أخبار المنع على المحصور) لأنّ أخبار الحل تشمل الشبهة المحصورة وغير المحصورة ، وأخبار الاحتياط تشملهما أيضا فيتعارضان ، فيجمع بينهما بحمل كل منهما على القدر المتيقن منه ، فالمحصورة في أخبار الاحتياط ، وغير المحصورة في أخبار الحل.

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ (بالمعنى) وقريب منه ج ٣٩ والمحاسن : ص ٤٩٥ ح ٥٩٦.

(٢) ـ تهذيب الاحكام : ج ٩ ص ٧٩ ب ٤ ح ٧٢ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٣٤١ ب ٢ ح ٤٢٠٨ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٨ ب ٤ ح ٢٢٠٥٠.

٦٠